اذهب إلى المحتوى

الذكاء البشري مقابل الذكاء الاصطناعي


أحمد عصام النجار

يصف الدكتور أندرو Andrew N G عالم الحاسوب في جامعة ستانفورد بالولايات المتحدة نماذج تعلُّم الآلة Machine Learning بأنها كهرباء العصر الحديث، وتعلم الآلة هو نوع من خوارزميات الذكاء الاصطناعي المستنبطة من الرياضيات، والتي بدأت بالانتشار والرواج في العقدين الماضيين، ومع أنّ صفة كهرباء العصر الحديث تلك قد يجدها البعض مبالغًا فيها قليلًا كون كثير من تلك الخوارزميات معروفة منذ زمن، إلا أنها تشكِّل بالفعل ثورةً علميةً، في حين يقول بروفيسور علوم الحاسوب الألماني فولفجانج ارتل Wolfgang Ertel في كتابه مقدمة إلى الذكاء الاصطناعي introduction to artificial intelligence: "إنَّ تقنيات الذكاء الاصطناعي لها هدف محدد وهو فهم الذكاء وبناء أنظمة ذكية مماثلة، مع ذلك فإنَّ الطرق والأساليب لهذا الهدف ليست محددةً أو قطعيةً بعد؛ ولذلك أصبح الذكاء الاصطناعي يتكون من عدة تخصصات فرعية اليوم".

يثير مصطلح الذكاء الاصطناعي المشاعر، إذ يُعَدّ الذكاء خاصيةً يتميز بها البشر دونًا عن باقي الكائنات، فما هو الذكاء؟ كيف نستطيع قياس الذكاء؟ وكيف يعمل العقل البشري؟ كل تلك اسئلة ذات معنىً وفائدة لمهندسي الذكاء الاصطناعي وعلماء الحاسوب، لكنها ليست سهلة الإجابة ولا قطعيةً كما قد يظن العوام، كما يصعب إعطاء الذكاء الاصطناعي تعريفًا كاملًا دقيقًا، ومع ذلك أول من وضع تعريف له كان جون مكارثي John McCarthy في عام 1955م، حيث قال أنّ الهدف من الذكاء الاصطناعي هو تطوير آلات تتصرف كما لو كانت ذكيةً، لكن يعتقد بعض العلماء بأنَ ذلك التعريف ليس دقيقًا للغاية، ويوصِّف البعض ذلك المصطلح بأنه ببساطة عبارة عن صنع نماذج حسابية للسلوك البشري، فإننا نؤمن بأنّ البشر أذكياء وبناءً على ذلك نفهم نماذج الذكاء، وما علينا سوى فهم تلك السلوكيات ومحاكاتها باستخدام الرياضيات ثم تطبيقها على الحاسوب.

من الطرق الأخرى للوصول إلى المبتغى نفسه هو صناعة نماذج حسابية لعمليات التفكير البشري وليس السلوك، إذ أنه لا يكفي أن تبرمِج حاسوبًا يحاكي سلوك البشر، وإنما يجب عليك التفكير مثلهم عن طريق البحث في علم الأعصاب الإدراكي Cognitive Neuroscience، وغالبًا ما تكون استراتيجية البحث قائمةً على تجارب تكشف عما يحدث بداخل رؤوس الناس ومن ثم تطبيق نماذج حسابية تعكس تلك العمليات؛ أما الطريقة الأخيرة في هذا العقد فتكون عن طريق محاكاة ما يجري داخل خلية عصبية واحدة أو ما يُدعى بالشبكة العصبية أو العصبون Neuron، ويبدو ذلك منطقيًا لمعرفتنا بأنَ المخ البشري يتكون من خلايا عصبية، ولكن مع ذلك فهل بالفعل محاكاة الخلايا العصبية تعني محاكاة الذكاء البشري؟ وهل يعني ذلك محاكاة العقل البشري؟ أم فقط الدماغ؟ أم كلاهما؟ لا توجد إجابة قطعية عن تلك التساؤلات حاليًا لدى العلماء.

لدى الكثير من العلماء في مختلف الجامعات تعريفهم الخاص بهم عندما يتعلق الأمر بالذكاء الاصطناعي، إذ تتشابه كلها في المعنى وتختلف في الألفاظ، فمثلًا يُعرَّف لغويًا في معجم أوكسفورد للغة الإنجليزية بأنه نظرية وتطوير أنظمة الحاسوب القادرة على أداء المهام التي تتطلب عادةً الذكاء البشري مثل الإدراك البصري والتعرف على الكلام واتخاذ القرار والترجمة بين اللغات، في حين يقول بروفسور أرتل في كتابه Introduction to artificial intelligence (مقدمة إلى الذكاء الاصطناعي) أنَ أفضل تعريف وُضِع حتى الآن للذكاء الاصطناعي هو التعريف الذي ذكرته الدكتورة إيلين ريتش elaine rich بقولها أنَ الذكاء الاصطناعي هو دراسة كيفية جعل أجهزة الحاسوب تقوم بأشياء يكون الإنسان فيها أفضل في الوقت الحالي، وقد شخَّص هذا التعريف ما كان يفعله باحثو الذكاء الاصطناعي خلال الخمسين عامًا الماضية وحتى لسنوات كثيرة قادمة، أي سيبقى هذا التعريف فعالًا كونه واسع النطاق.

تتمثَّل قوة الأنظمة الحاسوبية في نقاط عدة، من ضمنها التفوق على البشر في إمكانية تطبيق آلاف العمليات الحسابية المعقدة في ثوان معدودة، ومع ذلك يتفوق الإنسان على الحاسوب بفارق شاسع في أشياء أخرى، فعند دخول الشخص مثلًا إلى غرفة ما أو مكان ما لم يدخله من قبل، فسيتعرَّف على ما يحيطه من أشياء في أجزاء من الثانية، ثم سيتمكن من اتخاذ القرارات فورًا أو التفكير في خطة ما للقيام بأمور عدة بصورة منظَّمة، فحتى الآن تُعَدّ مثل تلك المهام -وبناءً على تعريف أي لين ريتش- هدفًا لباحثي الذكاء الاصطناعي، وبناءً على هذا التعريف لا يمكن بناء الأنظمة الحاسوبية الذكية بدون الذكاء والمنطق الإنساني، فهي مرهونة بالذكاء البشري، فلذلك يُعَدّ علم الأعصاب ذا أهمية كبيرة للذكاء الاصطناعي، كما تُعَدّ القدرة على التكيف أيضًا من أقوى نقاط القوة في الذكاء البشري، فنحن قادرون على التكيف مع الظروف البيئية المختلفة وتغيير سلوكنا وفقًا لذلك من خلال التعلّم لأنّ قدرتنا على التعلّم المستمر مذهلة، وبالتالي فإنَّ تعلّم الآلة وفقًا لتعريف ريتش هو من أهم المجالات الفرعية للذكاء الاصطناعي كونه يعتمد على محاكاة عملية التعلم البشرية.

تُعَدّ نصف برامج الحاسوب الحالية ذكيةً بشكل أو بآخر عمومًا، ولا تستطيع العامة في بعض الأوقات التمييز بين تطبيقات الذكاء الاصطناعي والتطبيقات الاعتيادية، فالتطبيقات الاعتيادية رغم أننا نصِفها بالذكية، إلا أنها لا تندرج فعليًا تحت تصنيف الذكاء الاصطناعي، إذ يختلف الأمر كثيرًا عند كتابة برنامج محادثة آلية مثلًا لمساعدة العملاء عند استخدام خوارزميات الذكاء الاصطناعي أو استخدام التعليمات البرمجية الشرطية العادية، ففي حال استخدام التعليمات الشرطية العادية، فسيسلك البرنامج طريقًا واضحًا مرسومًا له يتكون من بضعة أسئلة وإجابات محددة، فإذا ذكر المستخدِم كلمة "الدفع" مثلًا، فاعرض صفحة الدفع، وإذا ذكر كلمة "الخروج"، فسجِّل خروج المستخدِم؛ أما إذا ذكر كلمة "المدفوعات" مثلًا، فلن يكون الحاسوب قادرًا على فهم الأمر لأن مطوِّر البرنامج لم يذكر له تلك الكلمة المفتاحية بالتحديد؛ أي يتكون البرنامج الاعتيادي من مجموعة أوامر لا تنتج ذكاءً ولا تستطيع التصرف في خارج حدودها من الناحية الكمية والنوعية، لذلك من أهم سمات الذكاء الاصطناعي هو محاكاة الذكاء البشري في أمور مثل التعلم والاستنتاج ورد الفعل واتخاذ قرارات لم تكن مبرمجة في الآلة بصورة مباشرة، ومع ذلك فإنَّ تلك القرارات في نهاية الأمر لها حدود نوعية وكمية دائمًا.

يحاول الباحثون دائمًا فهم السلوك البشري عمومًا لمحاولة صياغة أو محاكاة ذلك على الحاسوب، إذ كوِّنت بعض من تلك الأفكار والمبادئ في مجال الشبكات العصبية Neural Networks المستمد من علوم المخ والأعصاب، ويُعَدّ هذا نموذجًا واحدًا من نماذج البحث العلمي في الذكاء الاصطناعي، ومن النماذج الأخرى في البحث توجد ما تُسمى بالنظم هدفية التوجه goal-oriented systems، والتي تبدأ بتحديد المشكلة التي نحاول حلها ثم محاولة إيجاد الحل الأمثل لتلك المشكلة عمومًا وبغض النظر عن آلية حل البشر لمثل تلك المشاكل، وبناءً على ذلك كله فإن المهام في الذكاء الاصطناعي متعددة، والحلول والطرق أيضًا متعددة ومختلفة مثل الطب، حيث تملك الأمراض طرق معالجة وخطوات مداواة مختلفة، وكذلك الذكاء الاصطناعي، فهو يقدِّم لوحةً كبيرةً من مختلف الحلول للكثير من التطبيقات مثل صيدلية تحتوي على دواء خاص لكل مرض؛ أما العلوم المعرفية Cognitive Science فهي علوم مكرسة للبحث في تفكير الإنسان، وهي على مستوى أعلى من علوم المخ والأعصاب، أي لا تبحث بالضرورة في تفاعلات الدماغ المادية، كما تُعَدّ من العلوم المهمة أيضًا التي تقدِّم حلولًا ونماذج فعالة للذكاء الاصطناعي.

توجد الكثير من الأسئلة الفلسفية الخاصة بالذكاء الاصطناعي التي تطرأ عندما نحاول محاكاة تفكير الإنسان أو محاكاة دماغه، فيرى بعض الفلاسفة أنَّ الوعي والعقل مرتبطان بالدماغ، وبعضهم يستشكلون ذلك؛ أما البتُّ بتطابق العقل والمخ فهو استكشالي إلى حد كبير، فلم يستطع العلم التجريبي الولوج في أمور عدة حتى الآن مثل النية والضمير والوعي والتفكير في الأخلاق وغير ذلك، وبناءً على ذلك فإننا نستطيع تفهُّم تسخيف المسخِّفين لفكرة الإنسان الآلي المدمِّر للبشرية التي تصر السينما العالمية عليها، ففكرة الإنسان الآلي الواعي فكرة خيالية لا وجود لها سوى في سيناريوهات أفلام هوليوود، وذلك لأننا بعيدون جدًا عن تحقيق ذلك حتى الآن، ومع ذلك فهي أفكار تُطرَح من قِبل الفلاسفة بالفعل لأن فكرة الذكاء دون وعي مشكلة إلى حد مفهوم.

ظاهرة تأثير الذكاء الاصطناعي

ما يُمكن تصنيفه واعتبار كونه ذكاءً اصطناعيًا ليس بالأمر الواضح الجلي في معظم الأوقات، حيث يتغيّر تفسير مصطلح الذكاء الاصطناعي على الأغلب بمرور الوقت والسنوات، فمنذ عدة عقود كان يَعُدّ البشر ما تفعله الآلات في يومنا هذا ذكاءً اصطناعيًا متقدمًا، ولكن عند بلوغنا لما نحن فيه فسنشعر نحن البشر بأنَّ ذلك لم يكن حقًا ذكيّا، حيث يُدعى ذلك بتأثير الذكاء الاصطناعي Artificial Intelligence Effect.

ففي عام 1997م مثلًا عندما فاز الحاسوب Deep Blue الذي صنعته شركة IBM على بطل العالم في الشطرنج جاري كاسباروف Garry Kasparov، كانت هنالك أصوات تصدح بأنَّ ذلك لم يكن حقًا ذكاءً، وإنما كان ما يُدعى بالقوة الغاشمة Brute Force، وهي تقنية لحل المشكلات عبر تجربة كل الاحتمالات، والتحقق من مآلات كل احتمال، كما يظهر ذلك التأثير جليًا عبر تاريخ تطور الذكاء الاصطناعي وتطبيقاته، ولذلك يقول دوجلاس هوفستادتر Douglas Hofstadter -هو عالم أمريكي متخصص في الفيزياء وعلوم الإدراك- أنّ الذكاء الاصطناعي هو ما لم يُحقَّق بعد.

مختصر تاريخ الذكاء الاصطناعي

نسرد في الجدول التالي بعضًا من العناوين المؤرِّخة للذكاء الاصطناعي من بداية القرن العشرين حتى بداية القرن الحالي.

العام الحدث
1937م أظهر الآن تورنج Alan Turing حدود ذكاء الآلات عبر مشكلة التوقف The Halting Problem، وهي مشكلة تحديد ما إذا سينتهي البرنامج الحاسوبي أو سيعمل إلى الأبد، كما أثبت استحالة وجود خوارزمية عامة لحل تلك المشكلة.
1943م صاغ وارن مكولتش Warren MuCulloch وولتر بيتس Walter Pitts نموذج شبكة عصبية صنعية أو عصبون صنعي Artificial Neuron.
1950م وضع الآن تورنج تعريفًا لذكاء الآلة عبر ما عُرِف باختبار تورنج Turing Test، وكتب عن تعلم الآلة والخوارزميات الجينية.
1951م استطاع مارفين مينسكي Marvin Minsky تطوير آلة شبكة عصبية عبر ٣٠٠ أنبوبًا مفرَّغًا حاكى ٤٠ عصبونًا.
1955م بنى آرثر صامويل Arthur Samuel من شركة IBM برنامجًا للعب الشطرنج.
1956م نظَّم جون مكارثي John Mccarthy ندوةً في كلية دارتموث Dartmouth في الولايات المتحدة، وقدَّم لأول مرة مفهوم الذكاء الاصطناعي.
1958م اخترع مكارثي في معهد ماساشوستس للتقنية لغة البرمجة LISP.
1961م اخترع كل من Herbert A. Simon وJ. C. Shaw وAllen Newell أداةً اسمها حل المشكلات العامة General Problem Solver، حيث تستطيع حل بعض المشكلات التي يمكن وصفها رياضيًا على صورة معادلات مثل لعبة أو أحجية برج هانوي، وهي لعبة يمكن وصفها بالرياضيات؛ ومع ذلك فهي أداة لا تستطيع حل أيّ مشكلة من مشكلات العالم الحقيقي.
1963م أسس مكارثي مختبر الذكاء الاصطناعي في جامعة ستانفورد.
1966م أسس جوزيف فايزنباوم Joseph Weizenbaum برنامج Eliza الذي حاور الناس لأول مرة عبر اللغات الطبيعية بعد عمل دام سنتين في معهد ماساشوستس للتقنية.
1969م أظهر مارفين مينسكي Marvin Minsky وسيمور بابرت Seymour Papert في كتابهما Perceptrons شبكةً عصبونيةً بسيطةً جدًا يمكن التعبير عنها بالدوال الخطيّة.
1972م اخترع العالم الفرنسي آلان كولميرور Alain Colmerauer لغة برمجة المنطق PROLOG.
1976م طور شورتليف Shortliffe وبوكانان Buchanan برنامج MYCIN، وهو نظام خبير لتشخيص الأمراض المعدية وقادر على التعامل مع عدم اليقين.
1986م نشر تيرينس سيجنوفسكي Terrence J. Sejnowski وتشارلز روزنبرج Charles R. Rosenberg ورقةً بحثيةً في معهد Salk للدراسات البيولوجية عن نظام Nettalk الذي يستطيع التعلُّم ليقرأ النصوص.
1993م مبادرة RoboCup العالمية لبناء روبوتات مستقلة للعب كرة القدم.
1997م يهزم حاسوب الشطرنج DeepBlue من IBM بطل العالم في الشطرنج غاري كاسباروف Garry Kasparov، وحدوث أول مسابقة RoboCup دولية في اليابان.

هل الذكاء الاصطناعي خطر؟

يكمن خطر الذكاء الاصطناعي في الواقع ومن وجهة نظر الكثيرين في نقطتين أولهما خطر التفرد التكنولوجي، وثانيهما خطر الخصوصية والاقتصاد؛ أما أولهما فهي فكرة غريبة بعض الشيء، وهي أن تُصنَّع خوارزميات قادرة على تطوير نفسها بنفسها إلى ما لا نهاية، وفي الحقيقة فإنَّ الفكرة نفسها فيها إشكالية كبيرة لا مساحة للخوض فيها، ولقب التفرد مأخوذ من تفرد الجاذبية، وهي الظاهرة التي تحدث في مركز الثقوب السوداء، كما هي نقطة أحادية البعد كثيفة بلا حدود، حيث تبدأ قوانين الفيزياء كما نفهمها في الانهيار تمامًا، فليس لدينا رؤية واضحة ولا أية معرفة لما يحدث في أفق الثقوب السوداء، وبالمثل فإنَّ صناعة خوارزمية تطوِّر نفسها بنفسها إلى ما لا نهاية أمر لا نعرف عن حقيقته شيء.

أما بعيدًا عن ذلك الخطر الوجودي، فلا يتوقف الأمر عند هذا الحد، فبرامج الذكاء الاصطناعي عمومًا تمثِّل تحديًا وخطرًا على الخصوصية وخطرًا على الاقتصاد الإنساني والكرامة الإنسانية كما تُوصَف في بعض المقالات، ويتجلى خطر الخصوصية وضوحًا في بعض البرامج التي تستخدِمها الشركات في قراءة الرسائل البريدية للمستخدِمين لفهمها واستنباط أنماط وإحصائيات منها، كما تتمثل أيضًا في برامج التحدث التي تسجِّل الصوتيات وفهم اللغات الطبيعية البشرية، إذ تحاول كافة الشركات الحصول على أكبر قدر من البيانات حتى ولو كان ذلك على حساب خصوصية مستخدِميها.

أما الخطر الاقتصادي فقد بدا واضحًا منذ الثورة الصناعية والثورة التقنية التي بدأ فيها رجال الأعمال باستبدال العامل الآلي بالعامل البشري دون النظر إلى مخاطر هذا الاستبدال على المستقبل البعيد من إضعاف القوة الشرائية للكثير من الناس الذين هم في الأساس المستهلكون الحقيقيون لمنتجات تلك المصانع وخدمات تلك الشركات، فبدأنا نسمع بمطاعم لا تعمل فيها سوى الآلات، ومحلات تجارية ذكية مدعومة ببرامج وأجهزة في كل ركن من أركانها لتحل محل العمال، وفي حقيقة الأمر أنَّ معظم تلك النظم في الشركات والمصانع لا تحتاج أصلًا إلى ذكاء اصطناعي بالمعنى العلمي، فمعظم تلك الحالات عبارة عن آلات مبرمجة خصيصًا لهدف ومهمة محدَّدة.

لمن المُهين من وجهة نظر الكثيرين أن نرى يومًا ما استبدال الآلات والبرامج الذكية منها وغير الذكية بوظائف مرموقة مثل المحاماة التي تبدو من تلك المهن المستهدَف غزوها من قبل مبرمجي الذكاء الاصطناعي، وكذلك من المُهين رؤية طبيب آلي وجراح آلي وقاضي آلي وشُرطي آلي في المستقبل كما تُعَدّ احتمالية استبدال تطبيقات الذكاء الاصطناعي ببعض المهن عاليةً جدًا بحلول عام 2035م بحسب تقرير شبكة الإذاعة البريطانية BBC المُعَد سنة 2015م، فاحتمالية استبدال مهنة النادل 90% والمحاسب القانوني بنسبة 95% وعامل الاستقبال بنسبة 96% وسائق سيارات الأجرة بنسبة 57%.

يحذِّر عدد لا بأس به من رجال الأعمال والمبتكرين مثل أيلون ماسك مرارًا وتكرارًا من الأخطار المحتمَلة للذكاء الاصطناعي مع إدراكهم التام بأنَّ ما توصَّل إليه البشر حتى الآن لا يشكل أي خطر حقيقي ولا حتى في المستقبل القريب، ومع ذلك فإنَّ أيلون ماسك يحذِّر من خطوات العلماء وشغفهم للوصول إلى تلك النقطة التي لا يعتقد هو أنهم يدركون كافة جوانبها، في حين يعتقد البعض مثل ستيفن هوكينج أنه إذا اكتسب الذكاء الاصطناعي المتقدِّم يومًا ما القدرة على إعادة تصميم نفسه بمعدل متزايد، فقد يؤدي ذلك إلى انفجار ذكائي لا يمكن إيقافه حتى الانقراض التام للإنسان، ومع أنّ أيلون ماسك نفسه يصف الذكاء الاصطناعي بأنه أكبر خطر وجودي للبشرية، إلا أنه أسس شركة OpenAI على صورة منظمة غير ربحية مع شركاء آخرين حتى يتمكن من تركيز أبحاث المنظمة على تطوير ذكاء اصطناعي إيجابي لا يمثِّل خطرًا على الإنسان.

إشكالية الوعي في الذكاء الاصطناعي

ما نستفيدهُ من النقاشات الفلسفية والعلمية الأكاديمية هو أنَّ الذكاء البشري الذي يُعَدّ جزءًا ركيزيًا في العقل البشري من الصعب جدًا فهمه فهمًا كاملًا من قِبَل الأكاديميين والعلماء؛ لذلك وبالرغم من بدء المجال البحثي في الذكاء الاصطناعي منذ منتصف القرن الماضي إلا أنَّ التطور يُعَدّ محدودًا، وعمومًا حتى في ذروة تقدُّم المجال البحثي وذروة تقدُّم الذكاء الاصطناعي، فكل الخوارزميات في نهاية الأمر تتعلق بأساليب وظيفية تتمحور حول القيام بمهمة واحدة معينة فقط.

تستطيع طبعًا برمجة تطبيق شامل فيه أكثر من برنامج حاسوبي لأداء العديد من المهام في الوقت نفسه مثل برنامج لقراءة المدخلات الصوتية، بحيث يستطيع الحاسوب فهم ما يتحدث به غيره ليعالج ذلك على أساس مدخلات في برنامجه، وبرنامج آخر لقراءة تلك المدخلات لصياغة نص للرد، وبرنامج آخر لتحويل نص الرد إلى صوت مرةً أخرى لتشغيله، وبذلك نكون قد صنعنا تطبيقًا مناسبًا لإنسان آلي يستطيع سماع بعض الجمل لتحويلها إلى نصوص، لتعالَج رياضيًا لاستخراج وصياغة مخرجات، ولكن مع ذلك فلا يستطيع الإنسان الآلي بأي حال من الأحوال إنتاج ذكاء في مهمات أخرى وبخوارزميات أخرى غير تلك الخوارزميات التي أُدخلت إليه من قِبَل المبرمج لفعل أمر معيّن مثل معالجة نص ما أو معالجة مدخلات مطلوبة لتوقع نتيجة ما، حتى مع أساليب الذكاء الاصطناعي الحالية فإنتاج ذكاء في مهام أخرى يمكن أن يتطلب وعيًا أو نوعًا من الإرادة.

بُرمِجت برامج للإنسان الآلي في مثالنا السابق تحاكي تلك الوظائف الموجودة في جسم الإنسان مثل برنامج لاستقبال الأصوات وبرنامج لترجمة الأصوات إلى لغة الآلة وبرنامج تحليل النصوص …إلخ، لكن في حالة عُطل أي برنامج من تلك المنظومة التي تربط بعضها بعضًا، فهو حكم بالموت على المنظومة بكاملها؛ أما في حالة الإنسان، فعُطل حاسة ما في كل الأحوال لا يمُيت باقي حواسه ولا يؤثر ذلك على وعيه، ومنذ آلاف السنين يتحدث الفلاسفة عن الوعي، ولا يكاد فيلسوف يوافق الآخر على مفهوم فلسفي صحيح للوعي، فما بالك أصلًا بافتراض وجود حس للوعي يستطيع العلماء محاكاتها رياضيًا لإنتاج الوعي حاسوبيًا؟ إذ لم يستطع باحثو الذكاء الاصطناعي حتى تاريخ كتابة هذا الكتاب فهم الوعي البشري بعد تطور مجال الذكاء الاصطناعي وخاصةً تعلّم الآلة وبالأخص أيضًا التعلّم العميق Deep Learning والشبكات العصبية التي تحاكي الخلايا العصبونية في المخ، رغم أننا الآن فعليًا نستطيع محاكاة خلية من الدماغ عبر ما يُدعى ببرمجة الشبكات العصبية، لكن لا يزيد الأمر عن خوارزميات رياضية مستخدَمة لتوقُّع مخرجات في مَهمة معينة في تعلم الآلة ومثلها خوارزميات تحاكي خليةً واحدةً من خلايا المخ.

أحد الفوارق بين النماذج التي أقصدها هنا بالواعية وغير الواعية هو أنَّ غير الواعية لديها حدود كمية ونوعية دائمًا كما هو الأمر في نماذج الذكاء الاصطناعي، فمن أهم النماذج التي سأذكرها في الكتاب مثلًا نماذج التصنيف أو المُصنِّفات التي هي خوارزمية تعلّم آلة تستطيع من خلالها إنتاج تصنيفات فقط حسبما بُرمجَت عليه، فقد يستخدمها الإنسان مثلًا في مهام مثل تصنيف الرسائل البريدية لتكون مزعجةً أم لا، أو تصنيف نوع سرطان خبيث أم حميد، لكن لا تستطيع الخوارزمية بأيّ حال من الأحوال فهم أو معالجة أمر لم تبرمَج عليه، فإذا كان لدينا برنامج يستطيع تحليل صور الأشعة الطبية لتحديد نوع السرطان الموجود فيها، فسيفترض النموذج دائمًا أنَّ مُدخلاته أشعة طبية، فلن يدرك البرنامج إذا أدخلتَ صورتك الشخصية للنموذج أنَّ تلك الصورة دخيلة عليه إذا لم يُبرمَج على ذلك، وبالتالي سيخبرك البرنامج بتوقعه لنوع السرطان بناءً على تلك الصورة غير الصحيحة أصلًا، فهو في النهاية محدود الأهداف والقدرة، حيث بُرمِج وصُنع لهدف ثابت ومحدد وهو توقُّع تصنيف السرطان حسب خوارزمية مستنبَطة من علم الإحصاء والجبر الخطي والتفاضل والتكامل وليس لديه وعي لذاته.

يقول بين جورتزل Ben Goertzel وهو أحد علماء شركة Hanson Robotics المصنعة للروبوت صوفيا الشهير أنَّ الروبوت يضايق المتخصصين لأنه يعطي للعامة إحساسًا بأننا بالفعل توصَّلنا لذكاء اصطناعي مشابه لذكاء الإنسان، وهذا بالطبع ليس صحيحًا أبدًا، فبالرغم من كون جورتزل من المتفائلين باستطاعة البشر يومًا ما خلال العقدين القادمين صناعة ذكاء اصطناعي عام AGI اختصارًا لمصطلح Artificial General Intelligence، إلا أنه يعترف بأنَّ الروبوت صوفيا ما هي إلا برنامج دردشة مدهش.

اقرأ أيضًا


تفاعل الأعضاء

أفضل التعليقات

لا توجد أية تعليقات بعد



انضم إلى النقاش

يمكنك أن تنشر الآن وتسجل لاحقًا. إذا كان لديك حساب، فسجل الدخول الآن لتنشر باسم حسابك.

زائر
أضف تعليق

×   لقد أضفت محتوى بخط أو تنسيق مختلف.   Restore formatting

  Only 75 emoji are allowed.

×   Your link has been automatically embedded.   Display as a link instead

×   جرى استعادة المحتوى السابق..   امسح المحرر

×   You cannot paste images directly. Upload or insert images from URL.


×
×
  • أضف...