شهِدَت بيئةُ الأعمال عَقِبَ دخول قانون ساربينز أوكسلي Sarbanes-Oxley Act حيزَ النفاذ، تغييراتٍ عديدةً في مهنة المحاسبة، فعندما لم يَعُد قطاعُ المحاسبة العامة قادرًا على تنظيم نفسه، مثلما كان يفعل خلال فترة أواخر تسعينات القرن العشرين وأوائل القرن الحادي والعشرين، بات خاضعًا لتنظيمٍ رسميّ للمرة الأولى في تاريخه، وقد أرسَت هذه البيئةُ التنظيميةُ معاييرَ أعلى لإجراءاتِ التدقيق، ساعدت الشركاتِ العامة فعليًا على ضبط إجراءاتِ إعداد التقارير المالية، وذلك على الرغم من التكاليف الإضافية، وساعات العمل الزائدة، التي ظهرتِ الحاجةُ إليها التزامًا بقانون ساربينز أوكسلي، وقد أصبح قطاعُ التدقيق الجوهريُّ -وليس قطاع خدمات الاستشارة المالية أو الإدارية- محطَّ الاهتمام الرئيس لشركات المحاسبة العامة، كما تغيرتِ العلاقةُ بين المحاسبين وزبائنهم، وبَرزَ دورُ كبير موظفي التدقيق Chief Audit Executive في العديد من المؤسسات الكبرى، وإلى جانب ذلك، فقد حقَّقَ مجلسُ معايير المحاسبة المالية FASB تقدُّمًا بطيئًا، ولكنه ثابت، في إجراء التغييرات المتعلقة بمبادئ المحاسبة المقبولة عمومًا GAAP، بما في ذلك إطارُ عملٍ منفصلٌ خاصٌ باتخاذ القرارات لمستخدمي بيانات الشركة الخاصة المالية Private Company Finincial Statements، ولمُعِدّي تلك البيانات، وهناك العديد من التوجهات الحديثة المهمة الأخرى التي قد تؤثر في قطاع المحاسبة، على مدى السنوات العديدة القادمة، بما في ذلك خدماتُ الحوسبة السحابية، والأتمتة، وتحدياتُ إنشاء فِرَق الموظفين.
خدمات الحوسبة السحابية
يستمر الإنترنت والتقنية السحابية في تغيير معالم العديد من القطاعات التجارية، ومن بينها المحاسبة، ويتوقع الزبائن من المحاسبين أن يفعلوا ما من شأنه تسريعُ طريقة إدخال البيانات المالية، وسواها من المعلومات المحاسبية، وتسريع الوصول إليها ومناقشتها، وذلك خلال وقت قصير جدًا، وعلى العموم فقد ولَّتِ الأيامُ التي كان يُمضي خلالها المحاسبون، وفريق الموظفين الذي يقدم لهم الدعم، ساعاتٍ في إدخال البيانات إدخالًا يدويًٍّا -التي كان يُعادُ إدراجها ضمن بيانات محاسبية ومالية نموذجية- والتي كانوا يستخدمون في أثنائها رُزَمًا من الورق لإعداد تقارير الشركة الأسبوعية، والشهرية، والسنوية.
ووفقًا لدراسةٍ حديثة، فإن شركات الحوسبة السحابية تحظى بزبائن بمعدلٍ يفوق ما تحظى به الشركاتُ التقليدية بخمس مرات، لأنّ الشركاتِ تتوقع من المحاسبين الذين تختارهم أن يكونوا قادرين على استخدام التقنية لإنجاز المهام المحاسبية إنجازًا آنيًّا، وذلك بالتوازي مع مساعدة تلك الشركات في اتخاذِ القرار حول الخطوة التالية فيما يخص الربحية، والمبيعات، والتوسُّع…إلخ. بالإضافة إلى ذلك، تشير التقديراتُ إلى أنَّ أكثر من 90% من الشركات الصغيرة ومتوسطة الحجم، تستخدم برمجياتٍ محاسبية قائمةً على تقنية الحوسبة السحابية التي تساعدها في تجميع المعلومات، التي تحصل عليها تلك الشركات لغرض إعداد البيانات المالية المهمة، حيث يوفر استخدامُ برامج المحاسبة المحوسبة العديدَ من الفرص للمحاسبين؛ لتحويل تركيزهم نحو جذب الزبائن والحفاظ عليهم.
الأتمتة
بالإضافة إلى خدمات الحوسبة السحابية، ستستمر الأتمتةُ في لَعِب دور مهم في قطاع المحاسبة -خصوصًا فيما يتعلق بخدمات التدقيق- الذي قد يُمثَّلُ جمعُ المعلومات فيه، وإدخالُها يدويًا، عمليةً تفتقر إلى الكفاءة، وغيرَ دقيقة أحيانًا. إنَّ التَمَكُّنَ من أتمتةِ هذه العملية سيساعد في توليد مجموعاتٍ كاملة من البيانات، من شأنها تطوير التفاصيل الكُلّية لعملية التدقيق، بالإضافة إلى ذلك، فالمحاسبون الذين بوسعهمُ استخدامُ ملفّات البيانات الخاصة بأحد زبائنهم- المأخوذة من العمليات التجارية لذلك الزبون (الشركة)- واستيرادُ تلك المعلومات إلى حزمةِ برمجيةٍ مُحاسبيةٍ أو ضريبية، سينجحون في تبسيط عملية المحاسبة الكلية، وفي تسهيل عمل إدخال البيانات المُضني والمُمِلّ.
تحديات إنشاء فرق موظفين
بالتزامن مع التغيير الذي أحدثتهُ هذه التقنياتُ وغيرها في العمل المُحاسَبي، تفاقمتِ التحدياتُ المتعلقة بتوظيف فريق العمل المناسب لغرض استخدام تلك الأدوات الجديدة، فمع تحوُّلِ العملياتِ المحاسبية إلى عملياتٍ مؤتمتة، لم تعد تحتاجُ وقتًا طويلًًا لإنجازها، وباتت بعضُ شركات المحاسبة أكثرَ اتصالًا بزبائنها، كما أصبحت تزيدُ من خدماتها الاستشارية فيما يتعلق بالعمليات التجارية اليومية، ومن المحتمل أن يكون لهذا التغيير في النهج تأثيرٌ على نوعية الموظفين ذوي الخبرة، الذين يوظفهمُ المحاسبون مُستقبَلًا، بالإضافة إلى ما سبق، ولأنّ معظم الخدمات باتتِ الآنَ قائمة على خدماتِ الحوسبةِ السحابية، والبياناتِ المالية قد أصبحت متوفرة بصورة أسرع - فقد يزدادُ احتمالُ أن تُغيِّرَ الشركاتُ التجارية الجهاتِ المحاسبية التي تتعامل معها تعاملًا أسرع مما مضى، في حال لم ترضَ بالخدماتِ التي تتلقاها منها، وأمامَ المحاسبين فرصة كبيرة لتوسيع محفظة الأعمال الخاصة بهم، وكسب مزيد من الزبائن عبر استغلال التقنية بوصفها جزءًا من الاستراتيجيات المؤسسية الكلية الخاصة بهم.
إدارة التغيير
جذبُ المحاسبين العامّين المعتَمَدين المنتمين لجيل الألفية
لقد جادتِ الأقلامُ بالكثير حول أفراد جيل الألفية Millennials، وهم الفئة السكانية المولودُ أفرادُها بين عامَي 1980 و 2000. فبالتوازي مع استمرار وصول أفراد جيل طفرة المواليد Baby Boomers إلى التقاعُد، بات أفرادُ جيل الألفية يمثلون الآن المجموعةَ الأكبر في قوة العمل داخل الولايات المتحدة، وستستمر هذه المجموعة في تشكيل قوام العمل على مدى العقود القليلة القادمة.
لا يمكن للشركات وغيرها من المنظمات تجاهُل هذه المجموعة السكانية، ولا توقعاتِ أفرادها المتعلقةَ بالتوظيف، فلكي تُحقِّقَ النجاح، تحتاجُ شركاتُ المحاسبة الحالية -سواءٌ شركاتُ المحاسبة العامة الأربع الكِبار Big Four، أو الشركات الصغيرة، أو متوسطة الحجم- إلى استيعاب ما يوجِّهُ تصرفاتِ أفراد جيل الألفية ويؤثر في شخصياتهم، وما يُعَدُّ مهمًا بالنسبة لهم، ويجعلهم يبحثون عن فرصٍ جديدة داخل المؤسسة وخارجها، إضافة إلى أنَّ على تلك الشركاتِ اليوم فهمُ كيفية الحفاظ على أولئك الأفراد.
وقد دخلت شركةُ خدماتِ المحاسبة العالميةُ برايس ووتر هاوس كوبرز PricewaterhouseCoopers، اختصارً: Pwc مؤخرًا في شراكاتٍ مع العديد من المؤسسات الأخرى، لإجراء دراسةٍ بين الأجيال تستمر سنتين حول مواقف الموظَّفِينَ، أفرادِ جيل الألفية واتجاهاتهم، وتُظهِرُ النتائجُ الرئيسة لتلك الدراسة، أنَّ أفراد جيل الألفية يريدون مرونةً في عملهم تُفضي بدورها إلى توازنٍ مرغوب بين حياتهم الخاصة وعملهم، وتقديرًا للعمل الذي يُنجِزون، وتحدياتٍ تصقُل خبراتِهم وتجاربَهم خلال مسيرتهمُ المهنية، ودعمًا مستمرًا من قبل الجهات الموظِّفة التي يعملون لديها، ونتيجة لتلك الدراسة، أجرت شركةُ برايس ووتر هاوس كوبرز Pwc تغييراتٍ عديدة طالت بيئةَ العمل الخاصة بها لجذب أفراد جيل الألفية، والحفاظ على الموظفين منهم، ومن تلك التغييرات: وضعُ جداول عمل مَرِنة، وقواعدَ زيٍّ رسمي مُتساهِلة ومُريحة، وتواصلٌ أكبر على مستويات الشركة كافة، والتزامٌ متجدد بالشفافية داخل المؤسسة.
ليست شركةُ برايس ووتر هاوس كوبرز Pwc الوحيدةَ التي حوَّلَتْ ثقافتها المؤسسية للتعامل مع بعض المسائل، التي يقول أفرادُ جيل الألفية إنها تُمثِّلُ عواملَ مهمة بالنسبة لهم ضمن بيئة العمل. فعلى سبيل المثال، تعترف شركةُ بيكر تيلي Baker Tilly- وهي إحدى شركات المحاسبة الرائدة الأخرى -بأنَّ أكثر من نصف القوة العاملة لديها مؤلَّف من أفراد جيل الألفية الذين ساعدوا في صياغة نهجها المتعلق بالعمل، إذ تسودُ شعاراتُ المرونة والثقة ثقافةَ تلك الشركة، وهو ما من شأنه تعزيزُ تحفيز العمال؛ للاندماج في العمل الهادف، والمُرضي، الذي يساعدهم في تطوير أنفسهم على المستوى الفردي. وفيما يأتي بعضُ الاستراتيجيات التي يمكن لشركاتِ المحاسبة تطبيقها؛ لإبعاد فكرة ترك الشركة عن أذهان الموظفين بين سِنَّي الثلاثين والأربعين:
- إطلاقُ أنشطةٍ تهدف إلى دمجٍ سريع للموظفين في العمل: فعلى الرغم من أنَّ تدريب موظفي المحاسبة ليصبحوا محترفين يحتاجُ إلى وقت؛ فإن على الشركات إدماجُ الموظفين الجدد وتدريبهم بسرعة ليستوعبوا ثقافة الشركة، ولإسناد أعمالٍ إليهم يرونها هادفةً.
- تعيينُ موجِّهين منذ البداية: يريدُ أفرادُ جيل الألفية معرفةَ أنَّ عملهم يصنعُ فرقًا، ويتمثلُ السبيل الأفضل لتحقيق ذلك في إدماجهم منذ البداية، عبر ضمان تواصلهم مع موجِّهين يمكنهم إرشادُهم أثناء عملهم وعبر مسيرتهمُ المهنية.
- دعمُ منهجِ عملٍ مَرِن: ما يزالُ بعضُ أفراد جيل الألفية في بداية مسيرتهمُ المهنية، والعديد منهم لديه حياةٌ عائلية تتطلب كثيرًا من وقتهم، لذا فعلى الشركات إداركُ أنَّ أولئك الأفراد يحبون أن يكونوا منتجين، على الرغم من أنهم قد لا يعتقدون أنَّ طولَ يوم العمل يعني إنتاجيةً بالضرورة. إنَّ استخدامَ تقنية الحوسبة السحابية يشجعُ الموظفين على أداءٍ عملهم في جوٍّ تسوده الإنتاجية، والذي يمكن إنجازه خارج المكتب.
إنَّ إدراك خصائص أفراد جيل الألفية لا يُظهر التزامًا من طرف الشركة فقط، بل يساعد -أيضًا- في إبقاء أولئك الموظفين مندمجين في عملهم.
ترجمة -وبتصرف- للمقال Trends in Accounting من كتاب introduction to business.
أفضل التعليقات
لا توجد أية تعليقات بعد
انضم إلى النقاش
يمكنك أن تنشر الآن وتسجل لاحقًا. إذا كان لديك حساب، فسجل الدخول الآن لتنشر باسم حسابك.