وصفتُ هذه السلسلة في مقدّمتها بأنها "متقدّمة في كثير من مواضعها"، وما قصدتهُ بذلك هو أن نفعها ليس كبيرًا لمن ليس له باع بالترجمة ولمن لا يستطيع مقاربة ما يقرأه بشيءٍ من الخبرة التي اكتسبها بنفسه، لكن هذا لا يعني أنه يجب على قارئ السلسلة امتلاك خبرة واسعة طويلة، ولا أن يكون مترجمًا متمرسًا في مهنة مدفوعة. وقد أجلت هذه السلسلة الحديث عن المسائل العملية والمهنية التي يقتضيها العمل المهني حتى مقالها الأخير هذا، ذلك لأني كتبتهُ شغفًا بنفع الترجمة العلمي والثقافي وبمعضلاتها الأكاديمية، لكن لن تكتمل فائدة السلسلة دون دليلٍ إلى كيفية دخول سوق العمل والانتفاع منه وتعلم كيفية استلام المشاريع والعمل عليها وتسليمها. وسوف تجد أن ما سنناقشه -في هذا المقال الأخير- لا يدور في فلك مختلف عمَّا تناولناه فيما مضى من فصول، بل إن العمل في الترجمة ودخول سوق العمل يتطلب الإلمام بجلّ ما ورد في الفصول الماضية من علوم الترجمة النظرية منها والتطبيقية.
الخبرة تسبق العمل
تذكر مقدّمة هذه السلسلة أن إحدى الأفكار الساذجة عن الترجمة هي أن "كلّ ما يلزمها هو إتقان لغة أجنبية"، لأن هذه المهنة (كما يتضح من الفصول الماضية) لا تقتصر على إتقان اللغة ولا على حب العلم، وإنما على الخبرة والممارسة، لكن هنالك معضلة كبرى قد يصطدم بها المترجم في موضوع الخبرة تشبه معضلة "البيضة والدجاجة" الشهيرة: فكيف لك أن تكسب عملًا دون خبرة؟ وكيف تكسب خبرة دون عمل؟
ولهذه المعضلة حلّ بسيط نسبيًا، يعد أحد مبادئ الحياة العامة وهو: "من لم يُعْطِ لا يأخذ"، أو -ببساطة- أن الخبرة يجب أن تسبق العمل، إذ قد لا يكون هذا الحل هو ما يأمله المترجم المستجد ويطمح إليه، لكنه حلٌ واقعيٌ. فقبل أن تنهال عليك عروض وظيفية بمئات الدولارات، عليك أن ترضى بالتبرع بجهدك ووقتك بدون مقابل لفترة من الزمن حتى تدخل سوق العمل وتحصل على أول عمل في الترجمة، ولا تظن أن هذا التطوع هو خسارة أو تضحية منك، بل هو فرصة للتدريب والتعلم.
لا مهرب من أن يبدأ المترجم مهنته بالتطوع، فمن شبه المستحيل (بل ومن غير السليم، برأيي) أن يبدأ أي أحد عمله في الترجمة بمقابل مادي، حتى ولو استطاع إلى ذلك سبيلًا، إذ المترجم المبتدئ ليس مكسبًا رخيصًا أو مجانيًا، بل هو في العادة عبء قد يُكلِّف إصلاح عمله أكثر من أدائه عنه. وقد يظن بعض المستجدين أن في بدء عملهم بالتطوع غُبنًا أو استغلالًا لهم، لكن هذا خطأ يتضح له خلال سنين معدودة لاحقة في العمل، ولاشك أن الدهشة تملأ وجه كل مترجم أعاد النظر في أولى أعماله -بعد كسب الخبرة والممارسة- لما قد يجد فيها من ركاكة وأخطاء وزلات.
لهذا السبب يمضي الطلاب سنواتٍ طوالٍ في الجامعات يدفعون لقاءها ثروات لاكتساب العلم والمعرفة قبل دخول سوق العمل، إلا أن من حظ المترجمين الحَسَن أن اكتساب هذا العلم لا يكلِّفهم قرشًا واحدًا، بل يستلزم منهم وقتًا فحسب. وليس من الضروري أن يتطوع هؤلاء المترجمون المستجدون بكامل وقتهم لصالح شركة تنتفع على حسابهم، بل أمامهم مئات الفرص في شتى القطاعات لخدمة المحتوى العربي واللغة العربية وكسب الخبرة في الوقت نفسه، والتي يمكن الالتحاق بها بسهولة عبر الإنترنت ومن أمثلتها:
- مواقع الويكي التعاونية: وأشهرها موسوعة ويكيبيديا الحرة وموسوعة حسوب وغيرها من الموسوعات العربية.
- مبادرات المحتوى العربي التطوعية: هذه المبادرات كثيرة، ومن أمثلتها المعروفة: الباحثون السوريون والسعودي العلمي وناسا بالعربي ومؤسسة بالعربي وغيرها.
- المواقع التعليمية: منها كثير من المواقع العربية والعالمية التي تعتمد على المترجمين مثل أكاديمية حسوب ومحاضرات تيد Ted وغيرها.
- المجلات الإلكترونية المترجمة: تقبل كثير من المجلات ومواقع الأخبار الإلكترونية المساهمات التطوعية، والتي يمكن إرسالها بالبريد الإلكتروني.
ليست كل الترجمة سواء
انتبه، عليك أن تفهم سوق الترجمة وما هي فرصه الوظيفية وأيها هي التي تلبي طموحاتك قبل أن تبدأ البحث عن وظيفة بالترجمة، وحتى قبل أن تختار الأماكن التي ترغب بالتطوع فيها ونشر ترجماتك الأولى، فشرح المقال الثاني من هذه السلسلة نوعين أساسيَّين من أنواع الترجمة: هما الترجمة المهنية والترجمة الأدبية،[1] لكن ذلك المقال لم يتطرق إلى الاختلافات الوظيفية والعملية بينهما ولا إلى المهن التي يُفْضِيَان إليها، وهي مهنٌ لا تكاد تربط بينها صلة. كما أنه لم يتطرق إلى ما تحتاج إليه لأن تكون مترجمًا.
المؤهلات
استشهدت هذه السلسلة سابقًا بقاعدة معروفة في الترجمة، وهي قاعدة تقتضي أن المترجم يترجم إلى لغته الأم حصرًا، فمن نشأ بلسان عربي لا يترجم إلا إلى العربية، حتى ولو تعلَّم عشر لغات أخرى وأتقنها "إتقانًا تامًا"، ولعل هذه السلسلة نجحت في تبرير هذه القاعدة وتوضيح أن بالغ الأهمية تعطى للغة التي يكتب فيها المترجم موازنةً مع اللغة الأم، لكن لم تتطرّق السلسلة آنذاك قط للمؤهلات الأكاديمية والمهنية التي تُخوِّل شخصًا للعمل في الترجمة.
يُقَال أن المترجمين نوعان: منهم مختصّون باللغة، أي درسوا علم اللسانيات أو لغة أجنبية أو آدابًا أو ترجمة، ومنهم مختصون بعلوم مختلفة، مثل الأطباء أو المهندسين أو المبرمجين الذين امتهنوا مهنة الترجمة؛ ولكل حالة من هاتين الحالتين مزاياها ومشكلاتها،[2] فالمترجم المختصّ باللغة يتقن أصول الكتابة والإملاء والصياغة السليمة أو الإبداعية، لكنه قد يجابه مصاعب عديدة في ترجمة نص اختصاصي (في علم الرياضيات مثلًا)، وأما المختص فيستطيع ترجمة نصوص في مجال اختصاصه -والموضوعات القريبة منه- بكفاءة تامة، إلا أن لغته قد تكون ركيكة ضعيفة الصياغة.
ليست الترجمة حكرًا على هذا ولا ذاك: فكل منهما له مكانه ويستطيع تعويض المهارات التي تنقصه بالتعلم والتدريب، لكن معرفة اختصاصك قد تساعدك على تحديد مهنتك.[3] فمهن الترجمة ليست سواء، واختصاص المترجم قد يؤهله للنجاح في مهن محدّدة أكثر من سواها.
التوجه والهدف
إذا كان هدف المترجم هو أن يكسب دخلًا وأن يستقر على وظيفة ثابتة فخياره الأفضل هو الترجمة المهنية أو التجارية، فلو سمعت عن وظيفة بدوامٍ كامل في شركة للترجمة فمن شبه الأكيد أن موضوعها مهني وتجاري، أي أنها تختصّ بنصوصٍ مثل الوثائق الرسمية والتقارير والبرامج الإلكترونية وأوصاف المنتجات وكتيبات التعليمات، وهلم جرًا. وتحتاج بعض أنواع الترجمة المهنية إلى خبرة في اختصاصات معيّنة قد لا تُغْنِي عنها المعرفة اللغوية،[4] فترجمة الوثائق القانونية -مثلًا- قد تحتاج إلى محامٍ.[5] ووظائف الترجمة التجارية قليلة،[6] لكن مردودها المادي عالٍ نسبيًا، فقد يصل إلى آلاف الدولارات شهريًا خلال بضع سنين، ولها شركات ضخمة وعابرة للقارات.
أود الإشارة إلى نقطة مهمة وهي أن هدف الترجمة المهنية الأساسي هو الربح والمادة وقد لا يكون ذلك هدفًا لبعض المترجمين، فكما ذكرنا في بداية هذه السلسلة، الترجمة "ليست منجم ذهبٍ"؛ ويكثر أو يغلب على المترجمين أن يختاروا مهنتهم شغفًا منهم باللغة أو العلم وليس بالربح، ولذلك قد لا يجدون شغفًا ولا متعة في وظيفة تجارية حتى لو كانت تدر عليهم المال؛ وليس السبب المُنفِّر من الترجمة التجارية موضوعها فقط، فمن عُشَّاق اللغة من يستمتع بترجمة النص مهما كان موضوعه، لكن المشكلة الأكبر هي طريقة العمل في هذه الشركات: إذ إن أساس تقييم عمل المترجم في هذه الشركات هو سرعة الإنجاز بعيدًا عن النظر لجودة العمل، وغالبًا ما يُتغاضَى عن مسائل الركاكة والحرفية التي انتقدناها في هذه السلسلة، ولن يلقى تقديرًا ولا ترحيبًا بإبداعه اللغوي، فنسبة وظائف الترجمة التي تطلب مهارات الترجمة الآلية أو الاستعانة بالبرامج الحاسوبية تصل إلى 95%، ونسبة الوظائف التي تعتبر فيها هذه مهارات إجبارية حوالي 66%،[7] وذلك لأنها أدوات تساعد على زيادة سرعة العمل ورفع الأرباح.[8]
قد يكون ذلك مناسبًا لبعض المترجمين أو من يريدون امتهان الترجمة لكسب المال وتأمين متطلبات الحياة المالية، ولكن لو لم يرغب المترجم بمثل هذه الأمور، فعليه أن يبني مهنته في قطاعات الترجمة الأخرى، ولا نقلل هنا من أهمية الهدف المالي ولكن قد يمتهن البعض مهنة الترجمة كمهنة ثانوية وليست أساسية. عمومًا، للمترجمين فرص كثيرة للعمل بوظائف غير ثابتة، بل إن العدد الأكبر منهم يعمل في وظائف حرّة أو بدوام جزئي؛[9] وهذه الفرص في ارتفاع سريع جدًا يفوق وظائف الترجمة بدوامٍ كامل،[10] وهذه الزيادة كبيرة جدًا في العالم العربي لأسباب عدّة، منها ازدياد الثقة والاعتمادية على الإنترنت في التوظيف وقلة تكاليف العمل مع المترجمين عن بعد وتسارع الاستثمار بالمحتوى العربي على الإنترنت. وكثير من العاملين في الترجمة الحرة (أو معظمهم) يستفيدون منها كوظيفة إضافية لزيادة دخلهم،[11] إلا أن من الممكن الاعتماد عليها بالكامل كمصدرٍ للدخل إن كان للمترجم عدد كافٍ من العملاء؛[12] انظر مثلًا قسم الترجمة واللغات في منصة مستقل للعمل الحر أكبر منصة عمل حر في العالم العربي تعرف حجم السوق والطلب على أعمال الترجمة.
ولهذه الفرص مجالات شتى قد يجد فيها المترجم ما يشبع أي اهتمام عنده، فمنها العمل مع مواقع الإنترنت والمجلات والصحف بموضوعاتها المتنوعة، من علوم طبيعية واجتماعية ورياضة وصحة وسياسة وأخبار وغير ذلك، كما أن هذه هي طريقة العمل المعتادة في واحدٍ من أهم قطاعات الترجمة، وهو الترجمة الأدبية للكتب والروايات والأشعار وغيرها؛ وتتضمن فرص الترجمة الحرة كذلك ترجمة الأفلام والمسلسلات وغيرها من أنواع الفيديو التي يُرْفَق معها نص مترجم، وهذه فئة جديدة نسبيًا وعليها طلب كبير تسمى "الترجمة المرئية"،[13] وقد تطرّقت إليها هذه السلسلة عرضيًا فقط.
للترجمة الحرة ميزات عدة، من أهمها الحرية والاستقلالية الكبيرة للمترجم،[14] ولها صعوباتها كذلك، فقد يكون العثور على أول عميل مضنيًا، والبحث عن العملاء يبقى -دومًا- عبئًا مستمرًا[15] يستهلك وقت المترجم وساعات عمله؛[16] ولن يستطيع المترجم الحر الاعتماد على عمله إن لم يحصل على فرص عملٍ كافية، فهو يحتاج إلى كمية كبيرة من العمل للحصول على دخل مستمر، بغض النظر عن أسعاره،[17] والطريقة الأفضل لضمان هذا الأمر هي أن يقيم المترجم الحر علاقة عمل مستمرّة مع عددٍ من العملاء الذين لديهم عملًا منتظمًا.[18]
تحظى الترجمة الأدبية بمكانة استثنائية في أسواق الترجمة العالمية، فهي أصعب أنواع الترجمة وأكثرها حاجة للإبداع وتتطلب امتلاك سعة في اللغة والمفردات والاطلاع والتفنن الأدبي، ولهذا فمن المعتاد أن يقتصر العمل فيها على المؤلِّفين الذين لديهم خبرة مسبقة في فنون الكتابة الأدبية،[19] لكن سوق الترجمة العربي ليس مثل العالمي، والواقع -المرير- هو أن ترجمة الأدب فيه لا تحظى بتقدير جدير بالذكر إلا من دور نشر معدودة، وفرص العمل فيها لا تعتمد على الخبرة والإتقان الأدبي بقدر ما هي رهنٌ للمعرفة الشخصية والأسعار الرخيصة؛ ورغم أن الترجمة الأدبية قد تكون حلم كثير من المترجمين الشغوفين إلا أن فرص العمل فيها قليلة ومتباعدة، ويصعب أن توفّر مصدرًا للدخل دون فرص عمل إضافية.[20]
التخصص
كثيرًا ما ينصح المترجم الحر باختيار مجال أو مجموعة من المجالات للتخصّص بالترجمة فيها، فكل موضوع له تفاصيله الدقيقة ومصطلحاته المُخصَّصة، ولذلك لا يستطيع المترجم الجيّد الاقتصار على سعة مهاراته اللغوية، وإنما عليه أن يعرف المجالات التي يترجم إليها كذلك، وهذا أمرٌ يتطلَّب صبرًا وخبرة،[21] إلا أن هذه فكرة أجنبية وما زالت غير منتشرة كفاية في سوق الترجمة العربية الذي تعد فيه كل الترجمة سواء وكل المترجمين قادرين على ترجمة أي شيء، من الترجمة الفورية أو الشفهية إلى ترجمة أبحاث الفيزياء النووية.
لا يتخصَّص جميع المترجمين بمجال في الترجمة دون غيره ولا بنوع واحد من الوظائف، فكثيرٌ منهم يقبلون شتى الفرص المتاحة لهم بأنواعها العديدة، خصوصًا في سوق تنافسي مثل السوق العربي؛ ولا عيب في هذا الأمر، لكن على المترجم المحترف الذي يحرص على مستقبله أن يُخطِّط مسبقًا لفرص الترجمة التي يحرص عليه وأن يُطوِّر خبرته ومهاراته فيها، وذلك ليكون أداؤه متميزًا حينما ينال الوظيفة التي يتمنَّاها، وتذكر دومًا أن أجر المترجم المتخصص لا يتساوى مع أجر المترجم العام الذي يترجم أي شيء.
البحث عن وظيفة
طرق البحث عن العملاء كثيرة، وفيها كثير من الخبرة والمهارات التي لا تنحصر في الترجمة وحدها، والتي تُفصِّلها مراجع عديدة أفضل من هذه السلسلة. وأما لو كان المترجم بحاجة إلى نصيحة خاصة بمهنته فأنصحه ببناء سمعة جيدة وتأسيس شبكة علاقات قوية في مجاله، وليس هذا لأن السمعة والعلاقات هي مزية تخص مجال الترجمة دون سواه، وإنما لأنهما أفضل وسيلة للحصول على عمل وتأمين دخل كافٍ من الترجمة، إذ من العسير على المترجم الحر أن يكسب ما يكفيه دون سمعة طيبة وشبكة علاقات واسعة تأتيه بوظائف مستمرة بدلاً من قضاء يومه كاملًا بالتقديم لمئات الوظائف وترجمة عشرات العينات.
طرق بناء العلاقات كثيرة، وهي ليست -كذلك- أمرًا تتفرَّد به الترجمة ولا موضوعًا تختصّ به هذه السلسلة، لكن قد ينفع المترجم في هذا السياق أن يأخذ بنصيحة وردت في كثير من الصفحات السابقة بخصوص الترجمة، وهي أن يأخذ الأمور في سياقها، فمعظم المراجع المختصَّة بموضوع بناء العلاقات أجنبية، وبالتالي فإنها تُقدِّم نصائح قد تكون مُجرَّدة من سياقها وقيمتها؛ ومن أمثلة ذلك أن كثيرًا من الكتب الأجنبية تنصح المترجم بالبحث عن عملاء في "معارض التجارة"[22] أو في "الفعاليات الاجتماعية" و"لقاءات العلاقات العامة" للمترجمين المحترفين،[23] وهذه أوصافٌ خيالية لأشياء لا أثر لها في الوطن العربي ولا تنفع المترجم العربي شيئًا؛ وفي سياق بناء العلاقات والحفاظ عليها، أحيلك إلى مرجع عربي مهم يناقش هذا الأمر عبر مقالات متنوعة وهو قسم "التعامل مع العملاء" في قسم العمل الحر في أكاديمية حسوب ففيه مراجع ومقالات قيمة مثل مقال "كيفية إنشاء علاقات قوية مع العملاء والحفاظ عليها" ومقال "كيف تحافظ على علاقات إيجابية مع عملائك السابقين".
يستطيع المترجم أن يبني شبكة علاقاته بوسيلتين مختلفتين عادة، وخصوصًا في السياق العربي، وهما العلاقات الواقعية والعلاقات الإلكترونية؛ فالبلاد العربية مترامية الأطراف ولا يمكن بناء علاقات عبرها إلا بالاستعانة بالإنترنت، إلا أن الإنترنت لا يصل المترجم إلا بفئة محدّدة من العملاء الذين عندهم استعداد لتوظيف شخص لم يقابلوه وجهًا لوجه وقد لا يعرفونه شخصيًا، والحقيقة أن هذا أمرٌ آخذٌ بالانتشار في المنطقة العربية ولا يجب أن نفعله.
عمومًا، للعلاقات الواقعية والافتراضية مزاياها ومساوئها، إلا أن طرق العمل فيها مختلفة جدًا، فقد يكون بناء العلاقات الواقعية في مجال الترجمة -حصرًا- شديد الصعوبة عربيًا، وذلك بسبب ندرة أو انعدام المجتمعات المخصّصة للمترجمين رغم أنك تجد في كثير من البلدان العربية جمعيات للمترجمين، بل إن هناك جمعية للمترجمين العرب فيها آلاف الأعضاء من شتى أنحاء الوطن العربي[24] وقد يكون الالتحاق بمثل هذه الجمعيات مفيدًا، لكن مشكلة معظمها أو جميعها أنها لا تُنظِّم فعاليات وظيفية (مثل التي تصفها الكتب الأجنبية) لمساعدة المترجمين والعملاء على اللقاء معًا، وبالتالي فإن هذه الجمعيات تبقى كيانات افتراضية وأقرب لنقابات من مجتمعات للعمل.
لذلك فإن المترجم العربي الذي يحتاج علاقات عمل مضطرٌّ للبحث في المجتمع المهني بعمومه وليس في مجتمع خاص بالمترجمين فقط، وهذا أمرٌ صعب ومضنٍ وقد لا يأتي بنتيجة إلا لمن لديهم شبكة واسعة من العلاقات مسبقًا. رغم ذلك، لا شك بأن بعض المراكز والمؤسسات الثقافية بالمدن العربية الكبرى تقيم محاضراتٍ -بين الفينة والأخرى- لها علاقة بالترجمة والنشر والمحتوى العربي، وقد لا يجد المترجم عملاء في هذه الفعاليات بحد ذاتها، لكنها فرصة ثمينة جدًا في التعرف إلى مجتمع المترجمين والكتاب والمدونين، وقد تعود بفرصٍ كثيرةٍ على الأمد البعيد.
ذلك بالنسبة للعلاقات الوجاهية، إلا أن الإنترنت هو الوسيلة الأقوى والأسرع حاليًا للوصول إلى العملاء وتكوين سمعة في سوق العمل الحالي، فإحدى أقدم الطرق في العمل عبر الإنترنت هي إطلاق موقع أو مدونة، والغالب أن هذه الطريقة فقدت جل نفعها بسبب زيادة "المركزية" في الإنترنت، أي أن معظم الناس يستخدمون عددًا قليلًا من المواقع عوضًا عن تصفح الإنترنت بعمومه، كما أن المواقع الشخصية قد لا تظهر في نتائج محركات البحث الآن بسبب فيضان المحتوى الرقمي. لكن الموظف الحر ما يزال قادرًا على استغلال الموقع الشخصي للتعريف بنفسه، أي أنه يستطيع استخدامه كبطاقة شخصية يرسلها للعملاء بدلًا من بطاقات العمل الورقية، كما أن نشر محتوى ومقالات عن الترجمة في هذه المواقع قد يزيد فرص ظهورها للعملاء والمترجمين في الإنترنت وتعرفهم على صاحبها.
وأما الميزة الأهم للإنترنت فهي أنه يزخر بمجتمعات ومنصات عمل مثل منصة مستقل ومنصة خمسات ومجتمع خمسات ومنصات نشر عربية مثل أكاديمية حسوب، وهو أمر لا وجود له في سوق العمل العربي الواقعي. لابد أن أشير أيضًا إلى أنَّ أماكن المجتمعات الإلكترونية، خصوصًا الصغيرة والفردية منها، في تغير دائم، فقد ملأت المنتديات الإنترنت العربي قديمًا وأما الآن فكثيرٌ منها أو أغلبها انتقلت إلى مواقع التواصل الاجتماعي ولم تعد موجودة؛ فمنصات العمل العربية كثيرة حاليًا، وهي وسيلة مباشرة لطلب موظف حر في أي مجال، وكثيرًا ما تكون الترجمة من أكثر هذه الوظائف طلبًا، رغم كثرة المنافسة عليها كذلك.
أضف إلى ذلك، يزدهر الإنترنت العربي بعدد هائل من منصات المحتوى والمقالات والتدوين التي يستطيع المترجم نشر ترجمته أو مقالات عن الترجمة فيها، انظر مثلًا صفحة "اكتب معنا" لأكاديمية حسوب، فكثير من هذه المنصات (خصوصًا الصغرى) تُرحِّب بمساهمة أي كاتب طالما أن أسلوبه سليم وأن عمله تطوعي، وهذا "التطوع" هو استثمار له عائدٌ كبير في السمعة وفي بناء علاقات مع أصحاب المواقع ومجتمع المحتوى العربي.
لا توجد أي وسيلة سحرية بين هذه الوسائل، فهي كلها بدايات لبناء السمعة أو التعرف إلى بعض الأشخاص أو البحث عن عمل، لكنها كلها تُقدِّم خطوات تدريجية للالتقاء ببعض العملاء والمترجمين وبناء علاقات تتطور بالتدريج، والتي سوف يحصل منها المترجم -عاجلًا أو آجلًا- على مشروع يعمل فيه.
الاتفاق يسبق العمل
اطلعت مرة على أحد الكتب المتخصّصة عن كيفية الاتفاق على مشروع للترجمة وتنفيذه والذي يعرض قائمة فيها 156 خطوة مُطوَّلة لذلك،[25] وليس من الضروري أن تكون كل اتفاقات الترجمة بهذا التعقيد، ولكن الترجمة ليست مسألة سهلة وتنطوي على عددٍ هائل من القرارات المتوالية التي يتخذها المترجم (وقد وردت أمثلتها) في اختيار المصطلحات والتعابير والأسلوب، وقد لا يدرك معظم العملاء هذه الصعوبة أو ربما يستخفّون بها؛ لهذا ومثل أي عمل، يجب أن يبدأ مشروع الترجمة باتفاق، ويسير المترجمون المحترفون في هذا الاتفاق حسب خطواتٍ محدَّدة تضمن تفاهمًا تامًا على تفاصيل العمل التقنية والمالية قبل الشروع فيه، وتساعد -كذلك- في إثبات احترافية المترجم وإلمامه بمهنته.
الهدف يدل على الطريق
تناول مقال تعريب المفردة والمصطلح من هذه السلسلة أهم نظريات الترجمة الأكاديمية المتداولة حاليًا، وفصَّل في كيفية تطبيق بعضها في عمل المترجم، وتتميز في هذا السياق نظرية "الترجمة الوظيفية" في أنها تؤهِّل المترجم لعقد اتفاق واضحٍ واحترافي مع العميل بأن يطرح عليه سؤالين: ما الذي تريد ترجمته؟ ولماذا؟
كل من يريد ترجمة نص له هدفٌ واضح وجمهور محدّد من القراء، حتى ولو لم يعرف كيف يصف أهدافه وجمهوره؛ فهناك من يريد ترجمة دعاية إعلانية في شركته لجذب الزبائن، أو ترجمة تقرير لمجلس إدارة الشركة لإطلاعهم على نتائج العام المنصرم، أو ترجمة رواية لدار نشر ليشتريها القراء، ويستطيع المترجم بناءً على ذلك أن يُقرِّر منهج الترجمة وأسلوبها وأتعابها بناءً على معرفة الهدف والجمهور، وأن يُوضِّح أسلوبه باحترافية لصاحب العمل.
يُوضِّح مقال تعريب المفردة والمصطلح المشار إليه أعلاه أن المنهجين الأساسيَّين والمتناقضين في الترجمة هما الترجمة الحرفية والترجمة بتصرّف، واختيار المنهج المناسب يعتمد حصرًا على هدف صاحب العمل وجمهوره. فمن يريد ترجمة دعاية إعلانية يحتاج إلى أن يؤثِّر على جمهور واسع من القراء، وبالتالي يجب أن تكون الترجمة بتصرف وربما أن تتضمن كلمات من اللهجات العربية العامية للتأثير بالجمهور؛ وأما ترجمة التقرير فيجب أن تكون متوازنة لتصف الفكرة المطلوبة لمجلس الإدارة ولتلتزم -كذلك- بالتعابير المدروسة التي اختارها المدير التنفيذي أثناء كتابة التقرير؛ وأما ترجمة الرواية فيجب أن تكون شبه حرفية لتلتزم بأسلوب المؤلف المشهور الذي يتطلَّع معجبوه لشراء الرواية المترجمة.
اختلاف التوقعات
يساعد الاتفاق على الهدف من الترجمة وجمهورها وأسلوبها في التخطيط لعمل المترجم لكن هذا الاتفاق غير كافٍ، فالترجمة غنية بالتفاصيل، ومن السهل أن تختلف التوقعات حيال هذه التفاصيل، خصوصًا من العملاء المستجدّين؛ إذ على المترجم أن يفترض -دومًا- أن عميله لا يعرف شيئًا عن الترجمة ولا شروطها ولا متطلباتها حتى يثبت العكس، مما يعني أن المترجم قد يضطر لتلقين العميل أصول عمله قبل عقداتفاق سليم.[26] من ذلك، يجب توضيح ما يأتي:
- أولًا، يجب الاتفاق على منصة العمل وآليته، فلو كان موضوع الترجمة برنامجًا حاسوبيًا أو موقع إنترنت أو مقطع فيديو، فيجب أن يتفق المترجم مع صاحب العمل مسبقًا فيما إن كان عليه ترجمة النص خارجيًا (أي على ملف "مايكروسوفت وُرد")، أم أن عليه استعمال منصة جديدة يُدْخِلُ النص فيها.[27]
- ثانيًا، يجب الاتفاق على نوع النص وطبيعته، إذ إن البديهي والطبيعي هو أن يُقدِّم صاحب العمل للمترجم نصًا مُرَاجعًا وخاليًا من الأخطاء، وإلا فلا بد من أن تنتقل هذه الأخطاء إلى الترجمة.[28]
- ثالثًا، يجب على المترجم أن يراجع النص المطلوب وأن يناقش ويُوضِّح مسبقًا أي أبعادٍ للنص قد يستعصي تعريبها لأسباب ثقافية أو لغوية.[29]
- رابعًا، يجب الاتفاق على رغبة صاحب العمل بالتدخُّل في دقائق الترجمة أو في تفويضها للمترجم مثل طريقة تعريب المصطلحات[30] والأسلوب وغير ذلك، فلو كان صاحب العمل مهتمًا، فيجب توضيح درجة اهتمامه وكيفية الاتفاق معه على خصوصيات النص هذه، وتزداد ضرورة هذا الاتفاق إن كان النص متخصصًا (مثل مقال علمي) أو ذا خصوصية ثقافية (مثل الأفلام وألعاب الفيديو).[31]
- خامسًا، لو كان صاحب العمل على اتصال مباشر بمؤلّف النص (مثلاً لو كان تقريرًا)، فعلى المترجم التأكد من استعدادية صاحب العمل لتفسير وتوضيح مواضع الغموض في النص أو الأمور التي لا يفهمها، فهذا الطلب ليس علامة على قلة دراية المترجم (كما قد يظن العميل المستجد)، بل على احترافيته وحرصه.[32]
- سادسًا، يجب الاتفاق دومًا على المسؤول عن مهمة المراجعة والتحرير والتدقيق اللغوي، وهو جزء ضروري من الترجمة؛ والبديهي هو أن يتولى صاحب العمل ترتيب المراجعة، إذ إن المترجم لا يستطيع مراجعة عمله بنفسه، إلا لو اتفق مع مدقّق لغوي يعرفه.[33]
التجربة ليست استغلالا
السيرة الذاتية ليست دليلًا كافيًا على المترجم المتقن لما في مهنة الترجمة من فن، وهذا من سوء حظ المترجمين، إذ لا يكفي أنهم يبدؤون مهنتهم بالتطوع أغلب الأحيان، بل عليهم أن يتطوعوا -أيضًا- بترجمة عينة قبل الحصول على أي عمل؛ وهذا الأمر ليس استغلالًا، فكل العملاء ذوي الخبرة يطلبون عينة قبل الشروع في العمل، وهذه العينة لا يفترض أن تفيدهم بشيء، إذ إن صاحب العمل الجاد يُقدِّم عينة موحَّدة لجميع المترجمين المحتمَلين ليستطيع تقييمهم على أساسٍ واحد، ولا يُقسِّم النص بين المترجمين المتقدمين لتوفير المال.
من الأفضل للمترجم أن يتطوَّع لتقديم عينة من عمله سواء أطلبها صاحب العمل أم لم يطلبها، إذ إن في ذلك بادرة ثقةٍ، وفيه أكبر ضمانة على توافق المترجم وصاحب العمل في أسلوب ترجمة النص وتوقعاتهما منه، مما قد يُجنِّب المترجم عملًا كثيرًا في التنقيح والتعديل إن لم يرضَ صاحب العمل عن النتيجة،[34] كما أن العينة تساعد المترجم نفسه في التعرّف إلى النص وتقدير العبء المطلوب لإنجازه.
الوقت والمال
اقتباس"لن يستغرق المترجم إلا يومين في ترجمة كتيب اختصاصي طوله 100 صفحة استغرقت كتابته أربعة شهور من ثلاثة مؤلّفين"
– من "التصوّرات الخاطئة" عن الترجمة.[35]
يصف هذا المثال الساخر كيفية استخفاف أصحاب العمل قليلي الخبرة بأعباء الترجمة وأتعابها؛ فصحيحٌ أن الترجمة أسرع بكثير من التأليف، لكن عبء الترجمة والجهد والوقت والتكلفة لها تتوافق طرديًا مع الجهد الذي وضعه الكاتب في تأليف النص الأصلي المراد ترجمته، ولهذا فإن العمل على ترجمة بحث أكاديمي استغرق شهورًا لتأليفه ليس مثل ترجمة مستند أمضى أحد الموظفين ساعة في كتابته.
يتراوح الوقت الذي تستغرقه الترجمة (حسب خبرة المترجم والنص الذي يعمل معه) بين 250 إلى 1,000 كلمة في الساعة، علمًا بأن هذا الحد الأعلى نادر وقد يصعب بلوغه دون الاستعانة ببرامج حاسوبية (مثل برامج الترجمة بمعونة الحاسوب CAT)؛[36] ومن الطبيعي أن صعوبة النص لها أثر كبير، فقد يمضي المترجم نصف وقته أو أكثر في مراجعة الكلمات أحيانًا، ورغم ذلك فمن الصعب أن تتدنى سرعته عن هذا الحد إلا في حالات قليلة جدًا. ويظهر استبيان لجمعية المترجمين الأمريكيين أن متوسط سرعة المترجم هو نحو 500 كلمة في الساعة،[37] ويستطيع المترجم أن يقيس سرعته أثناء ترجمة العينة الأولى، وبها يُقدِّر الوقت الذي يلزمه لترجمة النص كاملًا، وبذلك يعرف عبء العمل وسعره، وهذا من فوائد ترجمة عينة من النص المراد العمل عليه كما أشرت.
إذًا، يُقَاس سعر الترجمة حسب الحالة والسياق، كما أن الأسعار تتغير مع الوقت، ولذلك فإن الطريقة الأفضل لمعرفة السعر الصحيح في حالة من الحالات هي بسؤال أحد أصحاب الخبرة مع توضيح العوامل والظروف التي تخصّ المشروع والمترجم، وأهم العوامل التي تؤثر على السعر هي:
- خبرة المترجم: لا شك أن السعر يتناسب طردًا مع الخبرة
- صعوبة النص: النصوص الاختصاصية والأدبية أغلى
- طول النص: قد يقل سعر الكلمة إن كان النص طويلًا
- بلد المترجم: حسب مستوى الدخل في ذلك البلد
- بلد صاحب العمل: قد يرتفع السعر لو كان مع عميل من بلدٍ معيشته مرتفعة ومتوسط دخل الفرد فيه مرتفع
يُقَاس سعر الترجمة بطرقٍ عدة، أشهرها في السوق العربي هي عدد الكلمات وعدد الصفحات، والأخيرة هنا ليس إلا وحدة قياس، إذ يجب أن تعادل "الصفحة" الواحدة دائمًا 250 كلمة/صفحة، وأما قياسها وكأنها صفحات فعلية فهو غير دقيقٍ ولا يجب أن يتّبع آنذاك؛ وقد تستخدم وحدات أخرى للقياس في حالات خاصة، أهمها هو عدد الدقائق في حالة ترجمة الفيديو،[38] وسعر الساعة في حالات نادرة (ربما تقتصر معظمها على الموظفين).
وقد يُستخدَم عدد الكلمات والصفحات في طريقتين لاحتساب سعر الترجمة: إما بناءً على عددها في النص الأصلي أو في النص المترجَم، إذ إن هذه المسألة ترجع إلى الاتفاق بين المترجم وصاحب العمل؛[39] وقد يكون الاتفاق على طول النص الأصلي أفضل، لأنه يساعد على تحديد السعر مُقدَّمًا ويجنب أي خلاف يزعم فيه العميل أن المترجم حاول إطالة النص لزيادة أجرته.[40]
كتابة الاتفاق وتوثيقه
من المسلَّم به أنه يجب الاتفاق كتابةً على كل الأمور الواردة في مشروع الترجمة، وأهمها -بالطبع- السعر حسب الوحدة المتبعة (أي حسب الكلمة أو الصفحة مثلًا)، وسعر ترجمة النص كاملًا (يجب فصله عن سعر الوحدة، خصوصًا في النصوص التي يحتمل أن تتغير)، والفترة اللازمة للتسليم، ويجب أن يتوافق عليها الطرفان بوضوح تامّ قبل البدء بالمشروع.
ومن المعتاد العمل على الترجمة في العالم العربي بدون أي عقود ولا وثائق مكتوبة أو موقَّعة، ولا يُنْصَح أبدًا بهذا السلوك إلا إن كان العمل عبر منصة رقمية مثل مستقل لأن هذه المنصات فيها عقودٌ إلكترونية وحتى الاتفاق عليها يعد بمثابة عقد وتوثيق وفيها فريق دعم فني يعمل على حل الخلافات إن حصلت، فعقد العمل غالبًا ما يُجنِّب الطرفين نزاعات لا حاجة لها فيما بعد خصوصًا إن كان العمل لشخص تربطك فيه علاقة قوية، فكما يقال في المثل الشامي: أوله شرط آخره سلامة، أي إن وجد اتفاق وشروط واضحة في العمل، انتهى برضى الطرفين وحصل التفاهم ونُبذَ الخلاف.
الترجمة
الترجمة هي الموضوع الذي تناولته هذه السلسلة كاملةًا بفصولها وصفحاتها كافةً، ولن تكفي السلسلة كلها (ولا هذا القسم الصغير بالتأكيد) للإسهاب في كل دقائقها وحيثياتها، على أن السلسلة بأكملها لم تتطرَّق -إلا عرضًا- للجانب الوظيفي من عملية الترجمة، أي كيفية ترجمة النص وتسليمه إلى العميل في سياق مشروع فعلي، وهي الخطوة الأخيرة التي تأتي بعد الاتفاق على كل ما سبق.
على المترجم الحريص أن يقرأ النص ولو سريعًا إن أمكنه (من حيث سعر العمل ووقته) قبل الشروع بترجمته، وعليه أن يرجع لصاحب العمل بأي استفسارات أو ملاحظات لديه؛[41] ففي كثير من الحالات، مثل ترجمة نص اختصاصي أو بحث علمي، قد يضطر المترجم للاطلاع على موضوع النص والقراءة عنه أو مشاهدة فيديوهات تعليمية أو شروحات مبسّطة، إذ إنه لن يستطيع ترجمة المعنى بدقة دون أن يتحقَّق أولًا من فهمه هو لهذا المعنى.[42]
يؤدي المترجم عمله بأن يقرأ النص الأجنبي جملة جملة، ويراجع أي كلمات لا يعرفها أو يشك بمعناها في سياقها، حتى ولو شكًا بسيطًا، ثم يصيغ معناها بلغة عربية سليمة،[43] وعلى المترجم في هذه الخطوة أن يُوثِّق مسألتين فائقتي الأهمية: الأولى هي الجمل التي يستعصي عليه فهمها أو يشك في معانيها ليراجعها لاحقًا ويستفسر من صاحب العمل عن الإجراء الأنسب نحوها،[44] والثانية هي تسجيل الكلمات التي يجب النظر في تعريبها وهذه تحتاج لمراجعة وتوثيق.
فُصِّلَت طرق تعريب المصطلحات في مقال آفات الترجمة على اللغة من السلسلة، والجانب المهم إجرائيًا عند تعريب مصطلحٍ ما هو استخدام مسرد ذاتي يُوثِّق فيه المترجم التعريب الذي اختاره،[45] فالتعريبات الواردة في المعاجم تتعدّد للمصطلح الواحد ولا مفرَّ من التَخيُّر بينها، ويجب ألا يتبدل هذا الاختيار ضمن النص نفسه، وقد لا يحتاج المترجم لتسجيل التعريب في مسرد إن كان يترجم نصًا قصيرًا، لكن هذه الحاجة قد تصبح ماسة في حالة ترجمة سلسلة من المقالات والنصوص في الموضوع نفسه، وهذه بالضبط هي الوظيفة التي تخدمها برامج الترجمة المحوسبة، فهي تحفظ هذا المسرد تلقائيًا في كل نص يعمل عليه المترجم ضمن ما يسمى "ذاكرة الترجمة".
بعد تعريب المصطلحات الناقصة وتصحيح الجمل المبهمة يستطيع المترجم أن يُسلِّم مسوَّدة لصاحب العمل مع ملاحظات حول أي أجزاء من النص قد تجب مناقشتها أو التدقيق فيها (إن رغب العميل بذلك)، وعلى المترجم أن يتوقع بعد التسليم مراجعةً وطلبات إضافية من صاحب العمل، مثل تصحيحات في الترجمة أو تعديل أمور معينة قبل اعتماد النص النهائي.[46]
لا بأس بأن يتواصل المترجم مع صاحب العمل بعد انتهاء المشروع للحصول على تقييمه وملاحظاته الإيجابية والسلبية، وذلك لتحسين أدائه مستقبلًا، كما أن هذا النوع من التواصل يحفظ علاقته مع صاحب المشروع ويزيد من إمكانية حصوله على فرص عمل أخرى مستقبلًا.[47] ومن الأسلم أن يؤرشف المترجم ملفاته النصية ويحتفظ بها بعد انتهاء كل مشروع، فقد يحتاج للرجوع إليها أو الاستشهاد بها في مهنته ومشاريعه القادمة وعرضها في معرض أعماله إن سمح صاحب العمل بذلك.[48]
اقتباسملاحظة: إذا أردت مراجعة المراجع والمصادر المشار إليها فيمكنك ذلك من خلال قراءة هذا المقال من كتاب فن الترجمة والتعريب والرجوع إلى فصل المصادر فيه.
أفضل التعليقات
لا توجد أية تعليقات بعد
انضم إلى النقاش
يمكنك أن تنشر الآن وتسجل لاحقًا. إذا كان لديك حساب، فسجل الدخول الآن لتنشر باسم حسابك.