اذهب إلى المحتوى

مدخل إلى التعهيد الجماعي


علاء أيمن

إذا كنت من مستخدمي الإنترنت، فلابدّ أنك قد مررت بموقع ويكيبيديا والذي يُعد واحدًا من أفضل الأمثلة على التعهيد الجماعي في الفضاء الإلكتروني.

يمثل موقع ويكيبيديا موسوعةً عالميةً تضم أكثر من 3 ملايين مقال باللغة الإنجليزيّة وحدها، ناهيك عن اللغات الأخرى، ولكن من يتولى إنشاء هذه المقالات وتحريرها هم أشخاص مثلك. يشهد موقع ويكيبيديا إضافة آلاف المقالات أسبوعيًا بواسطة طلاب، وأساتذة جامعات، وخبراء من جميع أنحاء العالم. لا ينتج مجتمع ويكيبيديا المعلومات فحسب، بل يتأكد من دقتها، فقد وجدت دراسة أُجريت في عالم 2005 أن دقة المعلومات في موقع ويكيبيديا لا تقل عن الموسوعة البريطانيّة.

ووفقًا لويكيبيديا، فالتعهيد الجماعي "هو إسناد مهام ينفذها بالعادة موظف أو متعاقد إلى مجموعة من الأشخاص (مجتمع)، وذلك من خلال توجيه دعوة مفتوحة لهم." باختصار، التعهيد الجماعي هو طريقة للإنتاج وحل المشاكل على نحو جماعي.

يُعَد كويركي مثلًا، عبارة عن شركة متخصصة في تطوير المنتجات بطريقة اجتماعيّة، إذ تتيح الشركة لأي شخص يمتلك فكرةً لمنتج ما، أن يقدّمها. بعد ذلك يقيّم المجتمع الأفكار المطروحة ويحسنها، ثم تعمل الشركة على تصنيع الفكرة الأعلى تقييمًا. على سبيل المثال، أنتجت الشركة بالاعتماد على هذه الطريقة نظام كورديز Cordies، وهو نظام يُوضع أمامك على المكتب ويساعدك على تنظيم أسلاك الحاسوب ووصلاته المختلفة، كما يحميها من السقوط عند فصلها.

حتى الشركات الكبيرة باتت تتجه نحو التعهيد الجماعي بدلًا من الاعتماد على البحث والتطوير الداخلي، فعلى سبيل المثال، أصبحت العديد من الشركات تطلب من الجمهور المساعدة في اختيار التصاميم الجديدة لمنتجاتها. مع ذلك، تجدر الإشارة إلى أن استجابة الجمهور تأتي عادةً من خلال الإنترنت. وتعود ملكيّة الحلول في أسلوب التعهيد الجماعي، إلى الشركة صاحبة المشكلة بالعادة. وفي المقابل، يحصل الأفراد على مكافآت نظير الحلول التي يقدّمونها. لقد أضفى التعهيد الجماعي طابعًا ديموقراطيًا على العمل الإبداعي، وأصبح المحترفون والهواة يعملون جنبًا إلى جنب. ففي منصة التعهيد الجماعي المتخصصة في الصور iStockphoto، يزعم 4% فقط من المساهمين أنهم محترفون، وذلك يعني أن 96% المتبقيّة هم من الهواة. علاوةً على ذلك، يمكن للتعهيد الجماعي أن يمثل حلًا للهواة أو المتطوعين الراغبين بالعمل في أوقات الفراغ.

لقد بات التعهيد الجماعي موجودًا في كل مكان، فحتى جوجل تستخدم شكلًا من أشكال التعهيد الجماعي في ترتيب نتائجها، إذ أن المواقع التي تحصل على روابط وزيارات أكثر، ترتفع في نتائج البحث، وهذا يعني أن سلوك مجتمع مستخدمي الإنترنت يساهم في تقييم ترتيب هذه المواقع.

نظرة تاريخية

يُعد جيف هاو Jeff Howe أول من استخدم مصطلح التعهيد الجماعي، وذلك في مقال له في مجلة وايرد Wired في يونيو 2006، لذلك يمكن القول إن المصطلح جديد نسبيًا، ولكن الفكرة بحد ذاتها تعود إلى القرن الثامن عشر، فقد اعتمدت النسخ الأولى من قاموس أكسفورد Oxford English Dictionary على فكرة التعهيد الجماعي، إذ شارك آلاف المتطوعين في تقديم قصاصات ورقيّة تحتوي على كلمات إنجليزيّة، والتي جُمعت لتشكّل القاموس فيما بعد.

ومن الأمثلة المبكرة على التعهيد الجماعي، نجد جائزة خطوط الطول، وهي عبارة عن مسابقة مفتوحة أجرتها الحكومة البريطانيّة في عام 1714 بحثًا عن طريقة بسيطة وعمليّة لتحديد موضع السفن بدقة بالنسبة إلى خطوط الطول، الأمر الذي حيّر الخبراء حتى ذلك الحين، ولكن صانع الساعات جون هاريسون John Harrison قدّم مساهمةُ كبيرةُ في حل هذه المشكلة من خلال عمله على جهاز الكرونوميتر البحري.

مع ظهور الإنترنت، أصبحت مشاريع التعهيد الجماعي أسهل بكثير، فقد سهل الإنترنت الاستعانة بأعداد كبيرة من الأشخاص من جميع أنحاء العالم في سبيل حل المشكلة المحددة.

في عام 1998، وضعت بلديّة مدينة لايدسخيندام الهولنديّة شاشات عرض داخل الأنفاق الرئيسيّة في المدينة، وسمحت للمواطنين بنشر رسائلهم على هذه الشاشات من خلال الدخول إلى موقع إلكتروني محدد وإضافة رسائلهم إليه. يُعد هذه المشروع من أوائل الأمثلة على مشاريع التعهيد الجماعي باستخدام الإنترنت، ولكن البلديّة سرعان ما أوقفت هذا المشروع بسبب ظهور رسائل غير ملائمة على الشاشات. وبعد إعادة ترتيب موقع المشروع، أعادت البلديّة طرح المشروع في عام 2000 وأضافت خاصيّةً جديدةً إليه، وهي عبارة عن فلتر يسمح لزوار الموقع بمنع عرض العبارات غير الملائمة من الظهور على الشاشة، وبذلك أصبح الجمهور هو من يصنع المحتوى ومن يراقب عليه.

منذ ذلك الحين، والتعهيد الجماعي عبر الإنترنت يزداد بوتيرة سريعة للغاية، فقد ظهرت شركتا Treadless وiStockphoto في عام 2000، ثم ظهرت شركة InnoCentive في عام 2001. واليوم بات من الممكن استخدام التعهيد الجماعي في شتى المجالات، بدءًا من صناعة الأفلام وإنتاج الموسيقى، وحتى الاستشارات الطبيّة والهندسيّة.

آلية العمل

ثمة أربعة أنواع من التعهيد الجماعي، وهي:

  1. الاختراع: يُستخدم التعهيد الجماعي لاستكشاف أفكار جديدة من أجل تطوير منتجات جديدة أو موجودة وفي هذه الحالة، يساعد المجتمع على تحسين الأفكار ويشارك في تقييمها. ومن الأمثلة البارزة على استخدام التعهيد الجماعي في الاختراع، نجد كلًا من برنامجي التعهيد الجماعي لشركتي ديل Dell’s Idea Storm وستاربكس My Starbucks Idea، إذ تطلب الأخيرة من الجمهور مشاركة الأفكار وتقييمها ومناقشتها بهدف تحسين منتجات ستاربكس وخدماتها.
  2. الحلول الإبداعيّة: تعتمد هذه الطريقة على الاستعانة بالمبدعين من أجل إنتاج المحتوى وتقديم الحلول الإبداعيّة، وفي هذه الحالة، قد يشارك المساهمون بعمل متكامل أو مجرد فكرة. تُعد ويكيبيديا وThreadless وIdea Bounty من الأمثلة على استخدام التعهيد الجماعي في إنتاج الحلول الإبداعيّة. على سبيل المثال، تعمل مؤسسة Idea Bounty من خلال نظام يتيح للعميل نشر وصف مختصر للمشكلة وتوزيعه على أفراد المجتمع، والذين يستجيبون من خلال طرح الحلول الإبداعيّة، وبعد ذلك يختار العميل الحل الأمثل للمشكلة ويكافئ صاحبه.
  3. التنظيم: يُستخدم التعهيد الجماعي هنا من أجل إنشاء محتوى جديد من خلال تنظيم المحتوى الموجود سابقًا. ومن أهم الأمثلة على هذه الحالة موقع Digg وموقع Stumbleupon الذي كان متاحًا منذ سنوات، إذ يعمل المستخدمون على استكشاف صفحات الإنترنت وتقييمها.
  4. التنبؤ: تهدف هذه الطريقة إلى الاستعانة بالمجتمع من أجل التنبؤ بالتوجهات المستقبليّة، ومن أمثلتها Yahoo! Buzz و Ramussen Markets و Media Predict. إعلاميًا، تُستخدم هذه الطريقة للتنبؤ بمعدلات مشاهدة البرامج التلفزيونيّة ومبيعات الكتب، وتوقع البرامج والكتب التي قد تحقق نجاحًا، وبالتالي مساعدة الشركات الإعلاميّة على فهم ما يريده الجمهور.

أمّا تجاريًا، فثمة ثلاثة طرق أساسيّة لاستخدام التعهيد الجماعي:

  1. تطوير المنتجات: تعتمد هذه الطريقة على الاستفادة من خبرات المجتمع من أجل تحسين المنتجات الموجودة، أو اقتراح منتجات جديدة. إلى جانب ذلك، يساهم تفاعل المستهلكين مع الشركة في تحسين سمعة علامتها التجاريّة، ومن الأمثلة على هذه الطريقة، نجد مثلًأ برنامج أيديا ستورم Idea Storm الخاص بشركة ديل Dell، ومدونة Fast Lane الخاصّة بشركة جنرال موتورز General Motors.
  2. المبادرات والشركات الجديدة: في هذه الحالة، يُستخدم التعهيد الجماعي لإنتاج أفكار تجاريّة رائدة أو مفاهيم لمنتجات جديدة، وربما توفير التمويل أيضًا. وفي هذه الطريقة، يربط التعهيد الجماعي بين أولئك الذين يمتلكون الأفكار التجاريّة وأولئك الذين يملكون التمويل اللازم لها. ومن الأمثلة على هذه الطريقة، نجد المسابقة التي أقامتها شركة إل جي في يونيو 2009 لاختيار تصميم هاتفها القادم، إلى جانب شركة كويركي Quirky التي ذكرناها سابقًا.
  3. الأفكار التسويقيّة: تُستخدم هذه الطريقة في مجال التسويق والإعلان، وتتضمن الاستعانة بالمجتمع من أجل الحصول على أفكار للرسائل التسويقيّة والإعلانية والعروض التجاريّة، ويمكن استخدام هذه الطريقة في تصميم الشعارات، وكتابة نصوص الإعلانات، وصياغة المفاهيم التسويقيّة الجديدة. على سبيل المثال، تستعين شركة دوريتوس Doritos بالتعهيد الجماعي في إعلاناتها التلفزيونيّة منذ عام 2007.

تأتي منصات التعهيد الجماعي في الإنترنت على شكلين:

  1. منصات تخضع لسيطرة مركزيّة: في هذه المنصات، تخضع عمليّة اختيار الأفكار لإدارة المنصة أو العميل، وتُعد مؤسسة Idea Bounty من الأمثلة على هذه المنصات، إذ يساعد فريق الموقع العميل على وصف المشكلة؛ أمّا اختيار الفكرة الفائزة، فهو يقع على عاتق العميل ولا يخضع لتصويت المجتمع.
  2. منصات تخضع لسيطرة المجتمع: تُعد هذه المنصات على النقيض من المنصات السابقة، ففيها يتحكم المجتمع بالعمليّة ويختار الأفكار الناجحة، ويُعد موقع Threadless من الأمثلة على هذه المنصات، إذ يصوّت المستخدمون على تصاميم القمصان، ثم تُطبع القمصان الفائزة وتُباع.

أهمية المجتمع

يُعد المجتمع المترابط مفتاح التعهيد الجماعي الناجح، وأهم الموارد لأي منصة تعمل في هذا المجال. يمثل المجتمع وحدة إنتاجيّة واقتصاديّة، وبدونها لا يمكن تنفيذ أي مشروع للتعهيد الجماعي، فالمنتجات الإبداعيّة التي ينتجها المجتمع هي في الحقيقة محور عمل منصات التعهيد الجماعي، وبدون وجود هذا المجتمع، لن تكون هناك منتجات لبيعها. لذلك، يجب الحفاظ على هذا المجتمع وتحفيزه باستمرار.

للأسف، تغفل العديد من منصات التعهيد الجماعي عن أهميّة المجتمع وأساليب تحفيزه، ومن هذه المنصات منصة كمبريان هاوس Cambrian House والتي كانت تتيح للمجتمع نشر الأفكار الجديدة، ومن ثم العمل معًا على تحسينها واختبارها وبنائها، وبعد ذلك تسمح لصاحب الفكرة الأصليّة ببيعها. لقد كانت المنصة تحمل شعارًا جذابًا على النحو الآتي: "أنت تفكر، المجتمع يختبر، المجتمع يبني، أنت تبيع" وقد كان من الواضح أنها تتجه نحو تحقيق نجاح باهر.

في البداية غرقت المنصة بأفكار المنتجات الجديدة، ولكن سرعان ما اتضح أن المجتمع كان رائعًا في طرح الأفكار وتحسينها، ولكنه لم يكن مهتمًا ببنائها أو تنفيذها، إمّا لأن بناءها صعب جدًا ويستغرق وقتًا طويلًا للغاية، أو لأن المكافأة لم تكن كافيةً مقابل حجم الجهد المبذول. وقد كانت النتيجة أن الموقع لم يحقق أية أرباح وأغلق في في نهاية الأمر. تجدر الإشارة إلى أن مؤسسي المنصة قد أسسوا بعد ذلك منصة جديدة للتعهيد الجماعي تحمل اسم Chaordix.

حوافز المشاركة

يرجع وجود المجتمعات في منصات التعهيد الجماعي إلى أسباب مختلفة، إذ يرجع وجود المجتمعات في برنامجي ديل وستاربكس مثلًا، إلى إعجاب الكثير من الناس بهاتين العلامتين التجاريتين، ورغبتم في التأثير على طبيعة المنتجات والخدمات التي يتلقونها.

تحافظ مؤسسة Idea Bounty على اهتمام مجتمعها وتفاعله من خلال منحه فرصة المشاركة في حل المشاكل التي تطرحها العلامات التجاريّة مقابل جوائز ماليّة تُمنح لصاحب الحل الأمثل. وينطبق ذات الأمر على موقع iStockphoto، والذي يسمح للهواة بتقديم مساهمات جوهريّة، والحصول على مكافآت ماليّة مقابل هذه المساهمات.

علاوةً على ذلك، تؤكد مؤسسة Idea Bounty وبوضوح للمبدعين بأن ملكيّة أفكارهم تعود إليهم، وأنهم يحظون بالحماية القانونيّة، وذلك حتى لا يشعروا بالاستغلال، كما أن الأفكار المقدّمة تبقى سريّة، وهو ما يساعد على إنشاء بيئة آمنة لتقديم الأفكار الإبداعيّة.

أمّا بالنسبة إلى الشركات والعلامات التجاريّة فثمة العديد من الأسباب التي تدفعهم إلى استخدام التعهيد الجماعي، على رأسها إمكانيّة الاستفادة من المجتمع في العثور على حلول متنوّعة للمشاكل التي تواجههم بتكلفة منخفضة للغاية. وفي بعض منصات التعهيد الجماعي مثل Idea Bounty، تدفع الشركات فقط مقابل الفكرة التي تعجبها وتقرر استخدامها، وهو ما يجعل التعهيد الجماعي من أفضل الطرق للعثور على الحلول والأفكار.

الصورة الواسعة

لقد ترك مفهوم التعهيد الجماعي تأثيرًا هائلًا على مجال التسويق والإعلان، رغم أن حجم تأثيره لم يتضح بالكامل حتى الآن.

يمثل الإنترنت الحافز والمحرك الرئيسي للتعهيد الجماعي في الوقت الحالي، ففي الماضي، كان بناء مجتمع من الناس يقتضي تواجدهم في مكان واحد؛ أمّا اليوم وبفضل التكنولوجيا، بات من الممكن إنشاء مجتمع مترابط، رغم كونه متباعدًا جغرافيًا. تستطيع الشركات باستخدام التعهيد الجماعي أن تستفيد من مواهب وقدرات تتجاوز مواردها. وعلى حد وصف جيف هاو في كتابه "التعهيد الجماعي"، فقد أصبح التعهيد الجماعي اليوم "أسرع وأرخص وأذكى وأسهل."

تسمح مجتمعات التعهيد الجماعي للجميع بالمشاركة بغضّ النظر عن مستوى خبراتهم ومهاراتهم، فعلى سبيل المثال، قد يعمل المهندسون وربّات البيوت على حل ذات المشكلة، وجميعهم يمتلك فرصة الخروج بالحل الأمثل.

بالنسبة إلى العملاء، يسمح التعهيد الجماعي باستكشاف حلول للمشكلات التي تواجههم بتكلفة منخفضة نسبيًا، وبسرعة كبيرة في أغلب الأحيان. فعلى خلاف الوكالات التقليديّة التي يتقاضى فيها الأفراد أجورًا بالساعة، يدفع العميل في التعهيد الجماعي تكلفةً واحدةً مقابل عدد لا محدود من الحلول. علاوةً على ذلك، يدفع العميل فقط مقابل الحلول التي يستخدمها؛ أمّا الحلول الأخرى، فتظل ملكيّةً فكريّةً لأصحابها، كما هو الحال في منصة Idea Bounty.

ومن خلال الاستماع إلى المجتمع والاستعانة به، تستطيع الشركات الاطلاع مباشرةً على حاجات زبائنها ورغباتهم، وبناء منتجات وخدمات تلبي تلك الرغبات.

وبفضل مشاركة المجتمع في إنتاج المنتجات والخدمات، يتكون لدى المساهمين شعور بالارتباط مع العلامات التجاريّة التي يعملون معها. وبالمحصلة، يمكن للتعهيد الجماعي أن يساعد الأفراد غير المتمرسين على تحسين مهاراتهم، وأن يمكّن الخبراء من جني المال دون الحاجة إلى أي التزام طويل المدى.

صعود الهواة

في عالم التعهيد الجماعي، أصبح الهواة ينافسون المحترفين في جميع المجالات تقريبًا، وذلك بدءًا من برمجة الحاسوب والتصميم، إلى الصحافة والعلوم. قد لا يمتلك هؤلاء الهواة مؤهلات أكاديميّة، ولكنهم يمتلكون بالتأكيد الموهبة والشغف بالمجال الذي يعملون فيه. وبفضل تطور التكنولوجيا، بات هؤلاء الهواة يمتلكون القدرة على الوصول إلى كم هائل من المعلومات والأدوات من خلال الإنترنت. فقد أصبح تصميم الجرافيك وتحرير الأفلام مثلًا، سهلًا نسبيًا بفضل ظهور برامج مثل فوتوشوب Photoshop وآي موفي iMovie.

اقتصاد الأفكار

لقد بات المستخدمون بفضل الإنترنت قادرين على نشر آرائهم وأفكارهم بسرعة أكبر من أي وقت مضى، وتوصيلها إلى جميع أنحاء العالم؛ أمّا الفكرة بحد ذاتها، فقد اكتسبت قيمة تتجاوز معايير الوقت والمال، فقد يفكّر المرء لعشرة دقائق ويخرج بفكرة أفضل من الأفكار التي تخرج بها الشركات بعد ساعات طويلة من التفكير.

دعوة مفتوحة – الفكرة الجيدة قد تأتي من أي مكان

لقد بات من الممكن بناء مجتمع من خلفيات مهنيّة متنوّعة ومواهب متعددة خلال وقت قصير من الزمن. وتُعرف هذه المواهب والقدرات، برأس المال المعرفي. تسعى منصة InnoCentive للتعهيد الجماعي، والتي تمولها شركة Eli Lilly للصناعات الدوائيّة للوصول إلى العقول الموجودة خارج الشركة، وذلك من خلال منحها إمكانيّة الاطلاع على المشكلات العلميّة التي تواجهها. ويمكن القول إن عمل هذه المنصة يُعَد مثالًا على الدعوة المفتوحة.

لقد استطاعت شركة كولجيت بالموليف Colgate-Palmolive حل مشكلة مستعصيّة لديها من خلال نشرها على منصة InnoCentive، فقد كانت الشركة بحاجة إلى طريقة لحقن بودرة الفلوريد في أنبوب معجون الأسنان دون أن تتناثر هذه البودرة في الهواء المحيط، وقد وقف فريق البحث والتطوير في الشركة محتارًا أمام هذه المشكلة، لذلك قررت الشركة نشرها على منصة Innocentive للتعهيد الجماعي، وبالفعل استطاع أحد أعضاء المنصة وبفضل خبرته في مجال الفيزياء، أن يأتي بالحل (وقد زعم أنه توصل إلى الحل بمجرد أن انتهى من قراءة المشكلة).

يمكن القول إن الحد الفاصل بين المنتج والمستهلك لم يعد واضحًا للغاية بفضل التعهيد الجماعي، وذلك يعني أن حلول المشكلات قد تأتي من أماكن غير متوقعة. علاوة على كل ذلك، يسمح لك التعهيد الجماعي بتوسيع شبكة بحثك عن الحلول، وهو ما يزيد بالتأكيد من فرصة الوصول إلى الحل المناسب.

الفرق بين التعهيد الجماعي وحكمة الجمهور

يمثل التعهيد الجماعي وحكمة الجمهور مفهومين مختلفين، ولكنهما مرتبطان جيدًا، إذ يُشار إلى حكمة الجمهور بأنها عمليّة إنتاج مفتوحة المصدر، فهي عبارة عن نشاط يطلقه أفراد المجتمع وينفذونه بصورة تطوعيّة. ووفقًا لجيمس سوروييكي James Surowiecki مؤلف كتاب "حكمة الجماهير"، فإنه يمكن تعريف هذه الحكمة بأنها "جمع المعلومات بطريقة جماعيّة، وهو الأمر الذي يؤدي إلى اتخاذ قرارات أفضل بالعادة من القرارات التي يتخذها الأفراد."

تُعد التوقعات الإعلاميّة من أفضل الأمثلة على حكمة الجمهور أو الإنتاج مفتوح المصدر، إذ يتوقع المستخدمون مدى نجاح البرامج التلفزيونيّة أو الكتب. وفي هذه الحالة، تكون المجموعة قادرةً على الخروج بتوقعات دقيقة نسبيًا، وهو أمر لا يستطيع أي فرد فعله لوحده. ولكن موازنةً بالتعهيد الجماعي، يمكن القول إن النشاط في التعهيد الجماعي يبدأ من العميل، بينما يأتي الحل من فرد واحد فقط، وتُعَد قصة كولجيت بالموليف مع منصة InnoCentive مثالًا جيدًا على التعهيد الجماعي الخالص.

ينطبق ذات الأمر على منصة Idea Bounty، والتي تتيح لفرد واحد فقط الخروج بالحل دون أن يكون لبقية أفراد المجتمع تأثير على اختيار الحل الأمثل.

تستخدم بعض المنصات مزيجًا من التعهيد الجماعي وحكمة الجمهور، وتُعد Threadless من الأمثلة على هذه المنصات (فهي تتيح للمستخدمين تقديم تصاميم لقمصان، ومن ثم التصويت على قمصانهم المفضلة، ومن ثم تطبع أفضل التصاميم في كل شهر وتجعلها متاحة للشراء)، إذ يٌعَد تقديم الأفراد لتصاميم القمصان، شكلًا من أشكال التعهيد الجماعي، كما يُعَد تصويت المجتمع على هذه التصاميم، شكلًا من أشكال حكمة الجمهور.

نموذج الوكالة الجديد

بدلًا من الاعتماد على وكالة واحدة في عمليّات التسويق، باتت العلامات التجاريّة تتجه نحو نموذج جديد ومبتكر يعتمد على الاستعانة بمنصات التعهيد الجماعي. ووفقًا للنموذج الجديد، تتكون عمليّة توليد الأفكار من خطوتين هما:

  • تنشر العلامة التجاريّة وصفًا لمشكلتها على إحدى منصات التعهيد الجماعي، مثل Idea Bounty، وتعرض مكافأةً (ماليّةً بالعادة) لمن يأتي بالحل الأمثل.
  • تختار العلامة التجاريّة الحل الأمثلة، ومن ثم تستعين بشريك محدد مسبقًا، أو وكالة ملائمة لتنفيذه.

قد يمثل هذا النموذج الجديد المرحلة المقبلة في التسويق، فهو حساس لجميع قوى السوق، ويساوي بين الهواة والمحترفين. وبفضل هذا النموذج، بات الهواة يحظون بفرصة توصيل أفكارهم إلى العلامات التجاريّة العالميّة، وهو أمر لم يكن متاحًا لهم في الماضي. في المقابل، تحصل العلامات التجاريّة على فرصة استكشاف مجموعة واسعة ومتنوّعة من الأفكار والحلول. وعلاوةً على ذلك، تحظى العلامات التجاريّة أيضًا في هذا النموذج بفرصة إقامة حملة إيجابيّة للعلاقات العامة، كما أن التفاعل المباشر مع المستهلكين يمنح العلامات التجاريّة فرصة للاطلاع على رغباتهم وتوجهاتهم. وبالمحصلة، يمكن القول أن التعهيد الجماعي يساعد على توفير حلول إبداعيّة بطريقة سريعة ومنخفضة التكاليف.

لقد بات الجمهور ينافس الشركات، فبفضل الإنترنت والأدوات الرخيصة، أصبح المستهلكون يمتلكون قدرات لم يكن يمتلكها في الماضي سوى الشركات ذات الموارد الماليّة الكبيرة. وعندما يتعلق الأمر بالموارد الفكريّة، فقد باتت الوكالات متأخرةً كثيرًا عن التعهيد الجماعي.

الإيجابيات والسلبيات

يمكن للتعهيد الجماعي أن يحمل فوائد هائلة لأي شركة، سواءً كانت صغيرةً أو كبيرة. حيث كل ما تحتاجه هو مجتمع يتمتع بشغف كافٍ لحل المشاكل. تشمل إيجابيات التعهيد الجماعي:

  • تسليم جزء من ملكيّة علامتك التجاريّة للمستهلكين يشجعهم على المشاركة.
  • يتيح التعهيد الجماعي للأفراد فرصًا لم تكن متاحةً لهم في السابق.
  • يساعد التعهيد الجماعي على استكشاف حلول للمشكلات بسرعة وبتكلفة منخفضة.
  • يدفع العميل مقابل النتائج والأفكار التي يستفيد منها فقط.
  • تستفيد الشركة من مجموعة واسعة من المواهب والقدرات التي قد لا تكون متوفرة لديها ضمن مواردها الداخليّة.
  • تحصل الشركات من خلال التعهيد الجماعي على رؤية قيمة حول رغبات المستهلكين.
  • نتيجة لهذا التعاون، قد يتولد لدى المجتمع شعور بالارتباط مع العلامة التجاريّة.

ولكن الأمور ليست إيجابيّة دائمًا، إذ ثمة بعض المعيقات التي يجب يكون طرفا المعادلة، الشركات والمستهلكين، على دراية بها، وهي كالآتي:

  • إمكانيّة استغلال الأفراد المساهمين.
  • العديد من العملاء يفتقرون إلى توجيه الوكالات المتخصصة، وفي بعض الحالات لا يحظى هؤلاء العملاء بسيطرة فعليّة على عمليّة الإنتاج، وخصوصًا عندما تكون النتيجة النهائيّة للمشروع عبارة عن عمل مكتمل.
  • يتسم معدل المخاطرة بالارتفاع نسبيًا عندما يتعلق الأمر بأعمال المضاربة (والتي لا يتفق فيها الطرفان على رسوم محددة)، فذلك قد يفتح الباب أمام استغلال الشركات لجهود المساهمين، كما قد يدفع المساهمين إلى تقديم أعمال بجودة منخفضة للشركات.
  • تهمل منصات التعهيد الجماعي العديد من المشاكل القانونيّة، وذلك في ظل غياب العقود المكتوبة، واتفاقيات الالتزام بالسريّة، أو حتى الاتفاق على بنود العمل مع المساهمين.
  • قد لا تكون مصداقيّة جمهور الإنترنت مرتفعةً على الدوام. على سبيل المثال، قد تحظى العديد من مقالات ويكيبيديا بجودة مرتفعة، وذلك بسبب مشاركة العديد من الأشخاص في تحريرها، وبالتالي فإنها تستفيد من حكمة الجمهور. في المقابل، قد يتولى تحرير مقالات أخرى شخص واحد فقط يفتقر إلى المصداقيّة المطلوبة، والنتيجة أن الناس قد تنظر إلى هذه المقالات على أنها صحيحة رغم أنها ليست كذلك.
  • قد تحتاج الشركات إلى تكاليف إضافيّة من أجل الوصول بالمشروع إلى نهاية مقبولة.
  • قد يفشل مشروع التعهيد الجماعي بسبب ضعف الحوافز الماديّة، ونتيجةً لذلك، قد يقل عدد المساهمين في المشروع، وقد تنخفض جودة الأعمال المقدّمة. كذلك، قد يفقد المساهمون الاهتمام الشخصي بالمشروع، وبالإضافة إلى ذلك، قد يواجه المشروع عوائق اللغة، وصعوبة إدارة مشروع تعهيد جماعي واسع النطاق.
  • قد تواجه الشركات صعوبة في إدارة علاقات العمل مع المجتمع طوال فترة المشروع.

دراسة حالة: لحوم بيبيرامي Peperami

تُعد Peperami واحدةً من أكبر العلامات التجاريّة في المملكة المتحدة، وهي عبارة عن لحوم تنتجها شركة يونيليفر Unilever في كل من ألمانيا وبريطانيا. اعتَمدت العلامة التجاريّة منذ إنشائها على وكالة Lowe للتسويق والإعلان، ولكنها أعلنت في أغسطس 2009 عزمها على التخلي عن خدمات الوكالة في حملتها الجديدة، وتوجهها نحو الاستعانة بمنصة Idea Bounty للتعهيد الجماعي. في الماضي، اعتمدت الشركة في إعلاناتها على شخصيّة كرتونيّة، وهي عبارة عن قطعة نقانق مجنونة ومستفزة، ولقد مثلت هذه الشخصيّة محور حملات Peperami على مدار 15 عامًا، وأحبها الناس كثيرًا، لكن مع ذلك، شعرت شركة يونيليفر أن علامة Peperami التجاريّة وشخصيتها الكرتونيّة بحاجة إلى أفكار جديدة من أجل الإعلانات التلفزيونيّة والمطبوعة المقبلة، وهنا جاء دور منصة Idea Bounty.

شاركت منصة Idea Bounty منذ بداية المشروع في كتابة وصف المشكلة، وحرصت المنصة على أن يكون الوصف دقيقًا للغاية، وأن تكون المتطلبات محددة، كما نصت على ضرورة أن تشمل الفكرة إمكانيّة كتابة النصوص والقصص المصورة، وذلك حتى تتأكد من الحصول على أفكار عالية الجودة.

تضمن الوصف أيضًا أمثلة على حملات Peperami السابقة، بالإضافة إلى قوالب خاصّة بالنصوص والقصص المصوّرة؛ أمّا المكافأة، فقد بلغت 10,000 دولار، إلى جانب 5,000 دولار أخرى في حالة الإبداع الشديد؛ كما نشر فريق منصة Idea Bounty إعلانًا مطبوعًا حول المشكلة ونشره في مجلة Campaign Magazine البريطانيّة، بالإضافة إلى إعلانات إلكترونيّة في عدد من مواقع التسويق والإعلان في جميع أنحاء العالم.

لقد حظيت علامة Peperami بحملة علاقات عامة كبيرة، وذلك في ظل التغطية الإلكترونيّة وغير الإلكترونيّة المكثفة لهذه الخطوة، فقد كانت الاستعانة بالتعهيد الجماعي أمرًا مثيرًا للجدل في ذلك الحين. كذلك، شارك فريق منصة Idea Bounty في عمليّة الاختيار النهائيّة، وتأكد من تصفية الأفكار بطريقة فعالة. وبالإضافة إلى ذلك، أقامت المنصة ورشة عمل مشتركة مع وكالة يونيليفر لاختيار الفكرة النهائيّة.

لقد أغلقت المنصة وصف المشكلة بعد شهرين من نشره، وقد شهد تقديم 1,185 فكرة، وهو رقم كبير خصوصًا أن جميع الأفكار قد لبت الحد الأدنى من المتطلبات الموضحة في الوصف.

وقد كانت الأفكار المقدّمة على قدر عالٍ من الجودة، وذلك يرجع إلى جملة من الأسباب، منها شهرة علامة Peperami التجاريّة وعرضها لمكافأة ماليّة كبيرة، وهو ما شجع المشاركين على تخصيص الوقت والجهد للخروج بأفضل الأفكار.

وبعد مداولات كثيرة ونظرًا لجودة الأفكار المطروحة، قررت كل من منصة Idea Bounty وشركة يونيليفر اختيار فكرتين للفوز بالجائزة.

ترجمة وبتصرف للفصل Crowdsourcing، من كتاب eMarketing: The Essential Guide to Online Marketing.

اقرأ أيضًا


تفاعل الأعضاء

أفضل التعليقات

لا توجد أية تعليقات بعد



انضم إلى النقاش

يمكنك أن تنشر الآن وتسجل لاحقًا. إذا كان لديك حساب، فسجل الدخول الآن لتنشر باسم حسابك.

زائر
أضف تعليق

×   لقد أضفت محتوى بخط أو تنسيق مختلف.   Restore formatting

  Only 75 emoji are allowed.

×   Your link has been automatically embedded.   Display as a link instead

×   جرى استعادة المحتوى السابق..   امسح المحرر

×   You cannot paste images directly. Upload or insert images from URL.


×
×
  • أضف...