إن الوصول إلى إلى جوهر إدارة الأعمال ومرور عبر مراحلها وخصائصها المختلفة لا بد أن يمر أولًا عبر خندق تاريخ إدارة الأعمال ومعرفة ماهيّة وكيفية نشأتها وتطوّرها عبر التاريخ ومراحل النضوج التي مرّت بها والعقبات التي تجاوزتها لتصل إلى ما هي عليها اليوم.
في مقالنا هذا سنبيّن كيف كانت الإدارة قديمًا ونستعرض أثر عصر النهضة الإيطالية على تطور نظرية الإدارة، كما وسنتطرّق إلى كلٍّ من تأثير وتداعيات الثورة الصناعية على تطور نظرية الإدارة وكيف كانت الإدارة البيروقراطية والتنظيمية مكمّلة للإدارة العلمية، وأخيرًا سنذكر مُقتطفاتٍ عن كيفية ظهور المدرسة الموقفية ومدرسة النظم في الإدارة.
استكشاف المهن الإدارية
مايكل بورتر
مايكل بورتر هو بروفيسور في كلية هارفارد للأعمال ومن أوائل الباحثين والاستشاريين في مجال استراتيجيات الأعمال وأحد مؤسسي شركة The Monitor Group، وهو أول من أُطلق عليه «أبو الاستراتيجية» وأحد المفكِّرين الإداريين الأكثر تأثيرًا على مر العصور. إنَّ الإسهام الأساسي لبورتر هو في مجال المنافسة، وخصوصًا فيما يتعلَّق بالأسباب التي تؤدَّي إلى ربح بعض الشركات وعدم ربح شركات أخرى. كان اهتمام بورتر بالمنافسة نابعًا عن حماسه الكبير للمنافسة في الرياضة أيّام طفولته (كرة القاعدة، وكرة القدم، وكرة السلة).
وُلد بورتر في عام 1947 وتخرَّج من جامعة برنستون في عام 1969 بتخصص هندسة الفضاء والميكانيك، وقد أكمل دراسته ليحصل على درجة الماجستير في إدارة الأعمال من كلية هارفارد للأعمال في عام 1971 ودرجة الدكتوراه في اقتصاديات الأعمال من جامعة هارفارد في عام 1973، وقد كان أعضاء أكاديمية الإدارة (AOM Fellows) يعدُّون كتابه الاستراتيجية التنافسية: أساليب تحليل الصناعات والمنافسين الذي نُشر في عام 1980 تاسع الأعمال الأكثر تأثيرًا في القرن العشرين. استطاع بورتر –الذي ألّف كتابه خلال فترة كانت تسودها منافسة اقتصادية شديدة بين الولايات المتحدة واليابان- أن يكسب قاعدةً كبيرةً من المعجبين والمهتمّين لمؤلّفاته.
عرض بورتر في مقالته كيف تشكِّل القوى التنافسية الاستراتيجيات التي نُشرت في مجلة هارفارد بزنس ريفيو عام 1979، عرض فكرته الإدارية التي تقول بأنَّ هناك خمس قوى تنافسية تساهم في تحديد مستوى الربح وهي: حدة المنافسة في السوق، وتهديد دخول منافسين جدد، وقوة المورِّدين، وقوة العملاء، وتهديد المنتجات البديلة. الإنتاج التنافسي غير الجاذب هو ذلك الانتاج الذي تجتمع فيه القوى الخمسة السابقة لتشكِّل إنتاجًا تنافسيًا بحتًا، وتكون مستويات الربح العادية في هذا السوق هي أعلى ما يمكن أن تتوقع الشركة الحصول عليه، وهذا يعني أنَّ الشركة تستطيع تغطية نفقاتها وتحقيق مقدار مُرضٍ من الربح لمالكيها ولكن لا يمكنها تحقيق أرباح طائلة إضافيّة لتطوير الإنتاج. تستطيع الشركة بعد أن تحدِّد القوى التنافسية المرتبطة بإنتاجها أن تُركّز على أحد الاستراتيجيات الثلاثة العامة وهي إمّا التركيز على النجاح والارتقاء بالمُنتج، أو التميّز والاختلاف، أو ريادة التكاليف (أي طرح المُنتج بأسعار مُنافسة). ستتحدَّد الاستراتيجية التي ستتبعها الشركة بناءً على موقعها في السوق. تبيِّن القوى التنافسية الخمسة والاستراتيجيات الثلاثة كيف يمكن لشركات مثل ماكدونالدز ومورتون ستيك هاوس وصب واي وغيرها أن تستهدف السوق نفسه ومع ذلك تحقِّق جميعها أرباحًا. تقدِّم هذه الشركات أنواعًا مختلفة من المنتجات لأصناف مختلفة من العملاء، وتتنافس هذه المنتجات إمّا على التكلفة أو التنوّع أو الجودة أو مزيجٍ منها. إضافةً إلى نموذج القوى التنافسية الخمسة، قام بورتر بتطوير نموذج السلسلة القِيَميّة الذي يصف الأنشطة الفريدة التي تؤدِّيها الشركة لكي تجعل منتجاتها ذات قيمة لعملائها، كما كان لبورتر أيضًا إسهامات في إدارة الرعاية الصحية والقواعد التنظيمية البيئية والمنافسة الدولية والأرباح على مستوى الإنتاج.
إنَّ نموذج القوى التنافسية الخمسة الذي وضعه بورتر بديهي وقد زوَّد المديرين بطريقة لتطوير استراتيجيات فعلية. لقد انتشرت أفكار بورتر لأنَّ روّاد الأعمال التجارية أرادوا أن يعلموا كيف يمكن لشركاتهم دخول حيّز المُنافسة. وقد نوّه الباحثون الإدارييون، قبل ظهور أفكار بورتر، إلى الطبيعة الخاصَّة والمُميّزة لمجال الأعمال وإلى اختلاف طبيعة المواقف التي تعترض مجالات الأعمال المُختلفة. اقترح باحثون آخرون نماذج أخرى لاستراتيجيات الأعمال، ولكنَّها لم تكن على القدر ذاته من الفائدة والمرونة في التطبيق التي قدّمها نموذج بورتر. قام بورتر بسد الفجوة التي كانت بين الأُطر النظرية والواقع التنافسي لعالم الأعمال من خلال استغلاله للاقتصاد الصناعي وتدريبه المتعلِّق بدراسة الحالة، وهذا ما جعله أحد أهم المفكِّرين في مجال الأعمال في العالم.
قد تظنُّ أنَّ مجال إدارة الأعمال مجالٌ جديد نوعًا ما، إلّا أن جذور هذا المجال تمتد إلى عصور قديمةٍ مضت، فحيثما وأينما وُجدت التجارة، كانت هناك إدارة وكان هناك أفراد يفكِّرون بشأن كيفية القيام بها بطريقة أفضل. على سبيل المثال، لا يمكن أن تكون عجائب الدنيا السبع -ومن ضمنها تمثال رودس وحدائق بابل المعلَّقة والهرم الأكبر- قد شُيِّدت إلا من خلال عمل عدد كبير من الناس. يدلُّ حجم هذه الأبنية وتعقيدها على حتميّة وجود أشخاص (مديرون) نسَّقوا العمل والموارد اللازمة لتنفيذ خطط البناء لتِلك المعالم. على نحو مماثل، لا يمكن أن يكون الرومان والصينيون القدماء قد تمكَّنوا من إدارة إمبراطورياتهم الكبيرة دون إدارة، كما لا يمكن أن يكون الفينيقيون والإغريق قد هيمنوا على التجارة البحرية دون إدارة.
من المنطقي أن تكون دراسة الإدارة قديمة لأنَّها كانت موجودة منذ فترة طويلة من الزمن، ويدعم هذه الفكرة العديد من الرؤى الإدارية التي يمكن أن نجدها في التاريخ السياسي والدبلوماسي والعسكري وفي الفلسفة والشعر والعلوم الاقتصادية والأدب. يمكن لأي شخص يعرف مسرحية الملك لير التي كتبها شكسبير إدراك أن المشكلة الإدارية الشائعة في وقتنا الحاضر والتي تتعلّق بتأمين البديل الكفؤ لأي منصب إداري، أنّها مُشكلة إداريّة واجهتها البشريّة منذ القدم! لقد تأثَّر المديرون المعاصرون بأعمال الفيلسوف والاستراتيجي العسكري الصيني سون تزو، والجنرال والسياسي الروماني يوليوس قيصر، وحتى الحاكم المنغولي جنكيز خان. إنَّ مارك زوكربيرج مؤسِّس فيسبوك هو أحد المعجبين المعاصرين بالقياصرة وقد قال أنَّ جزءًا من أسلوبه في الإدارة يستند إلى تعليمه الكلاسيكي.
على الرغم من الجذور القديمة للإدارة، إلا أنَّ عمر الإدارة المعاصرة أقل من 150 عامًا، وتشير مقارنة بين مفاهيم الإدارة قبل الثورة الصناعية وبعدها إلى أنَّ أساسيّات الإدارة القديمة كانت ضحلةً وضبابيّة إذا ما قورنت بالمفاهيم الحديثة للإدارة اليوم، إذ كان معظم العمل في الفترة السابقة للثورة الصناعية يؤدَّى في البيوت أو المزارع من قِبل العاملين بالسُّخرَة (العبيد أو الخدم) أو أفراد الأسرة، وكان ما ينتجونه غالبًا لصالح استهلاك صاحب العمل أو الأسرة ذاتها أو للاستهلاك المحلي. تغيَّر الاقتصاد والمبادئ الأخلاقية على مر القرون، وأصبح العمَّال قادرين على اختيار أماكن عملهم والأشخاص الذين سيعملون لصالحهم، وقد نتج عن هذه التغييرات العديد من التَّبِعات التي بدّلت من طُرق توظيف القوى العاملة والموارد الأخرى وكيفيّة توظيفها في عملية الإنتاج.
كان الحدثان اللذان غيَّرا وجه الإدارة هما التغيُّرات في طريقة بيع البضائع وأماكن بيعها، والثورة الصناعية. هذان الحدثان أدَّيا إلى بيع تشكيلة أوسع من البضائع لأصنافٍ مُختلفة من الزبائن وفي مناطق أبعد، كما أدَّيا إلى ظهور الشركات الكُبرى، إذ تطلَّبت المنافسة زيادة حجم الإنتاج وتقليل التكلفة، كما تطلَّبت تنسيق استخدام الموارد والتخصُّص في مجالات معينة، وقد أدَّت المشكلات المرتبطة بالتنسيق والتخصُّص إلى تطوُّر علم الإدارة كمجال قائم بذاته.
سنتتبَّع في هذا المقال مراحل تطوُّر الإدارة من الأصول الأولى لنشأتها في العالم القديم إلى أن صارت مهنة حديثة ومجالًا مُستقلًّا بذاته. سيساعد فهم كيف أصبحت الإدارة على ما هي عليه في وقتنا الحالي على فهم مبادئها بطريقة أعمق وأشمل وعلى فهم كيف أنَّ كل مفهوم نناقشه في هذا السلسلة الفريد قد بُنيَ على دلائل أوجدتها مجموعة واسعة من العلماء والباحثين على مدى سنوات عديدة في مجالات الهندسة وعلوم الاقتصاد وعلم النفس وعلم الاجتماع وعلم الإنسان.
الأصول الأولى للإدارة
إن وصف كيف كانت الإدارة في العصور القديمة أمرٌ غايةٌ في الاهمية. يوضِّح الجدول التالي مراحل تطوُّر الفكر الإداري منذ العصور القديمة وحتى الثورة الصناعية التي حدثت في القرن التاسع عشر.
المُسهم | الإسهامات |
---|---|
السومريون | الكتابة والتجارة |
حمورابي | الأوامر والقوانين المكتوبة |
نبوخذ نصر | نظام الحوافز |
المصريون القدماء | تقسيم العمل، التنسيق، والإشراف |
سون تزو | تقسيم العمل، التواصل، والتنسيق |
سلالة هان الحاكمة (205 ق.م – 220م) | تطوُّر البيروقراطية |
اليونانيون القدماء | تقسيم العمل |
الرومان | التوحيد القياسي |
الإيطاليون | المحاسبة، الشركات، الشركات المتعددة الجنسيات |
جون فلوريو | نقل الإدارة إلى اللغة الإنجليزية |
(حقوق النشر محفوظة لجامعة رايس، OpenStax، مستخدمة تحت رخصة المشاع الإبداعي (CC-BY 4.0))
تعود جذور الإدارة الأولى إلى حضارة سومر –أقدم الحضارات في العالم وكانت تقع في ما يُعرف اليوم بجنوب العراق- إذ ازدهرت فيها ثقافة التجارة المرتبطة ببيع البضائع مثل الحبوب والمواشي والعطور والأواني الفخارية. استخدم السومريون نقودًا قديمة مصنوعة من الطين للدفع مقابل البضائع أو الخدمات بدلًا من المقايضة (مقايضة الخدمات أو المواد بخدمات أو مواد أخرى مُكافئة لها بالقيمة)، وكانت أحجام النقود وأشكالها تدلُّ على قيمتها الماديّة وتشير إلى أنواع البضائع التي يمكن استبدالها بها.
ما الذي جعل هذا المستوى من التجارة والاقتصاد ممكنًا؟ ظهور الكتابة مكَّن التجار من تتبُّع سير معاملاتهم التجاريّة، كما أنَّ ظهور النقود الطينيّة البدائيّة ساهم في زيادة المعاملات التجارية لأنَّ الشخص الذي يرغب في الحصول على بضاعة أو خدمة معينة لم يعد مضطرًا إلى العثور على شخص آخر يرغب في أن يحصل منه على البضاعة أو الخدمة التي ينتجها. غالبًا ما كان هناك حاجة إلى التنسيق بين الأشخاص الذين يوفِّرون البضائع والأشخاص الذين يرغبون في شرائها، ويعدُّ التنسيق من المهام الرئيسية للمدير.
يعود منشأ إسهامين مهمَّين آخرَين لبدايات تطوُّر الإدارة إلى منطقة الشرق الأوسط، إذ أنَّ فكرة القوانين والأوامر المكتوبة جاء بها الملك البابلي حمورابي (1810 ق.م- 1750 ق.م). كانت شريعة حمورابي عبارة عن قائمة مكوَّنة من 282 قانونًا نظَّمت مجموعة كبيرة من السلوكيات ومن ضمنها التعاملات التجارية والتصرُّفات الشخصية والعلاقات بين الأشخاص وحتى العقوبات. كان القانون رقم 104 من أوائل القوانين المتعلِّقة بالمحاسبة ونابع من الحاجة إلى وجود قواعد رسمية للمديرين والمالكين. حدَّدت شريعة حمورابي أيضًا أجور الأطباء والبنَّائين والحجَّارين والبحَّارين ورعاة الماشية وغيرهم من العمَّال، ولكنَّها لم تتضمن مفهوم الحوافز لأنَّ الأجور كانت ثابتة. جاء بفكرة الحوافز ملك بابلي لاحق يُدعى نبوخذ نصر (605 ق.م- 562 ق.م) الذي منح حوافز للذين ينسجون القماش مقابل إنتاجهم. كان النسَّاجون يتلقون أجرهم على هيئة طعام، وكلَّما زاد إنتاجهم للقماش، حصلوا على طعام أكثر.
لقد خطا المصريون القدماء خطوات واسعة في بناء الأهرامات الكبيرة، كان المصريين القدماء بنَّاؤون استثنائيون أنشؤوا القنوات ومشاريع الري والأهرامات والأضرحة الملكية التي فاقت تلك التي بناها اليونانيون والرومان خلال قرونٍ لاحقة في حجمها وتعقيدها. على الرغم من أنَّنا ما زلنا غير متأكدِّين تمامًا من الطريقة التي بُنيت بها الأهرامات، إلا أنّنا نعلم بأنَّ عملية بنائها تطلَّبت عددًا كبيرًا من العمَّال العبيد. كان لكل عامل مهمة مختلفة، إذ كان بعض العمَّال يقطعون الحجارة، يف حين كانت مهمّة آخرين دفع كتل ضخمة من الحجارة وجرِّها بينما كان المطلوب من غيرهم دهن الحجارة بالزيت أو الشحم لتزليقها على بعضها وتقليل الاحتكاك. يمكننا أن نرى في هذه العملية مبادئ الإدارة المتعلِّقة بتقسيم العمل والتنسيق والتخصُّص. كان يُشرف على مجموعات العمَّال فرد واحد، وكان المصريون القدماء أول من وضع مفهوم نطاق الإشراف (يُقصد به عدد العاملين الذين يشرف عليهم المدير مباشرة) عندما حاولوا اكتشاف الطريقة الأفضل للتعامل مع العدد الكبير من العاملين المشاركين في بناء الأهرامات، وقد وجد المصريون أنَّ العدد المثالي هو عشرة عاملين لكل مشرف. بالإضافة إلى ذلك، كان هناك مراقبين مهمّتهم إجبار العاملين على العمل والإنتاج.
أمَّا في قارة آسيا، فقد بدأ الصينيون بتطوير فكرة البيروقراطية. على الرغم من أن جذور البيروقراطية تمتدُّ إلى السلالات الحاكمة الأولى، إلّا أنّه لم تظهر بشكل كامل إلَّا أثناء فترة حكم سلالة هان (206 ق.م- 220م)، إذ كان صُلب مفهوم البيروقراطيّة آنذاك هي تدريب العلماء على التعاليم الكونفوشيوسية واستخدام هذه التعاليم في اتخاذ القرارات، ولم يكن هذا النظام رسميًا –بخلاف الأنظمة البيروقراطية الحديثة- ولكنَّه اعتمد على اجتهادات العلماء أنفسهم. تعدُّ فكرة الحكم بالجدارة (أو الميريتوقراطية) من التطوُّرات المهمة الأخرى لأنَّ الاختيار والترقية في البيروقراطية كانا قائمين على اختبار في التعاليم الكونفوشيوسية.
كان لليونانيين (800 ق.م- 400 ق.م) والرومان (500 ق.م- 476م) إسهامات مهمة في تطوُّر الإدارة، وعلى الرغم من أنَّ توجُّهاتهم لم تكن تجارية، فقد أنجز اليونانيون والرومان مجموعة كبيرة من المشاريع الصناعية مثل إنشاء الطرق والقنوات بالإضافة إلى العديد من الروابط العمالية والمجتمعات التي شجَّعت التجارة. استمرَّ اليونانيون في تطوير فكرة تقسيم العمل بناءً على تصور أفلاطون عن التنوع الإنساني، وقد أكَّد الفيلسوف سقراط على أهمية تطوير المهارات الإدارية مثل خلق جو يسوده تبادل المعلومات وتحليلها. كان إسهام الرومان الأساسي في الإدارة هو التوحيد القياسي (standardization)، إذ احتاج الرومان إلى توحيد القياسات والأوزان والعملات لأنَّهم كانوا بحاجة إلى إدارة إمبراطوريّتهم الواسعة، وقد شهد الرومان بداية ظهور الشركات المُساهمة، إذ قامت العديد من الشركات الرومانية ببيع الأسهم لعامة الناس.
لقد شهد اليونانيون والرومان استمرار آفة العبودية، ولكنَّ العاملين حصلوا على درجة من الحرية نتيجة التغيُّرات الاقتصادية التي جعلت العبودية غير مجدية من الناحية المالية، مع ذلك استمرّ وجود أرباب العمل الذين كانوا يحددون الأعمال التي سيقوم العاملون بها وطريقة القيام بتلك الأعمال. تراجعت التجارة الأوروبية بعد انهيار الإمبراطورية الرومانية، وقد أُطلق على هذه الفترة اسم العصور المظلمة أو العصور الوسطى (500م- 1000م) بسبب تواجدها بين الحقبة القديمة لليونانيين والرومان وحقبة عصر النهضة. على الرغم من أنَّ التطوُّرات التجارية و الاقتصادية كانت قليلة في أوروبا خلال هذه الفترة، إلَّا أنَّ التجارة كانت مزدهرة في العالم الإسلامي وفي الصين، وقد زوَّد العديد من الرحَّالة مثل ماركو بولو- المكتشف والتاجر الإيطالي الذي عاش في القرن الثالث عشر- القرَّاء بحكايات وبضائع من هذه المجتمعات المزدهرة.
عصر النهضة الإيطالية
قد تتساءل كيف أثَّر عصر النهضة الإيطالية على تطور نظرية الإدارة؟ في الواقع شنَّت أوروبا خلال القرن الحادي عشر والقرن الثاني عشر والقرن الثالث عشر حملات عسكرية على الدولة الإسلامية دُعيت بالغزوالصليبي، وقد نقلت الثروة والتقدم التكنولوجي من العالم الإسلامي إلى أوروبا.
ظهرت في القرن الرابع عشر حركة تغيير ثقافي وإنجازات مدهشة في جميع مجالات الحياة في شمال إيطاليا، وقد شهد عصر النهضة الإيطالية عودة المعرفة القديمة ونشوء معرفة جديدة ترتَّب على معظمها آثار اقتصادية وتجارية، كما أتاح ظهور آلة الطباعة الأولية للعلوم والمعارف بالانتشار في جميع أنحاء أوروبا، وقد أدَّى اجتماع هذين العاملين معًا إلى بناء ثروة جديدة نتيجة ظهور وتطوّر الأعمال التجارية. ظهرت في إيطاليا شركات حديثة الأمر الذي فرض الحاجة إلى وجود أشخاص لإدارة هذه الشركات، وقد كتب مولدون ومارين:
اقتباسكان المواطنون الكادحون يطوِّرون من عمليات استخراج المعادن ونقل البضائع والعمليات المصرفية، وهذا قد هيَّأ الظروف لانتقال الثقافة التجارية والفكرية المرتبطة بعصر النهضة الإيطالية من منبتها الإيطالي (هاينز، 1991). إنَّ تزايد نطاق هذه الأنشطة التجارية وتعقُّدها قد يكون ساهم في ظهور ابتكارات مثل القيد المزدوج ودفع الشركات إلى توظيف مديرين لتنسيق العمليات التجارية وإدارتها (ويتزل، 2002).
استُحدِثت مؤسسات تُسمَّى الشركات المساهمة لتنفيذ هذه الأنشطة التجارية ليس على نطاق دولة واحدة فقط بل عبر العديد من الدول والبلدان الأخرى، وكان مقر أُولى الشركات المساهمة المتعددة الجنسيات في إيطاليا، و كانت فروعها تمتدُّ إلى العديد من البلدان في أوروبا، ومن الأمثلة على هذه الشركات الشركة التي كانت تمتلكها عائلة برادي وهي عبارة عن بنك متعدد الجنسيات قدَّم القروض لعدة ملوك، من ضمنهم إدوارد الثالث ملك إنجلترا. نظرًا لازدهار الشركات التجارية في إيطاليا، قدَّم الإيطاليون كتيبات إرشادية للتجار الذين نقلوا عبرها الأفكار التجارية إلى جميع أنحاء أوروبا.
ترجمة -وبتصرف- للفصلين The Early Origins of Management وThe Italian Renaissance من كتاب Principles of Management
اقرأ أيضًا
- المقال التالي: الثورة الصناعية في عالم الإدارة
- المقال السابق: عملية اتخاذ القرارات الجماعية
أفضل التعليقات
انضم إلى النقاش
يمكنك أن تنشر الآن وتسجل لاحقًا. إذا كان لديك حساب، فسجل الدخول الآن لتنشر باسم حسابك.