عرّفْنَا في المقال السابق الإبداع، والابتكار، والاختراع، ويمكنك التّفكير في الإبداع على أنّه خام، وأن الابتكار هو تحويله إلى غرض وظيفي، وغالبًا ما يهدف إلى القضاء على نقطة ألم، أو تلبية حاجة؛ أمّا الابتكار فهو خلق شيء جديد؛ ذي تأثير دائم. سنتعرّف في هذا المقال على العمليّات المصمّمة لمساعدتك في تطبيق ما تعلّمته من المقال السّابق.
العملية الإبداعية: مراحل الإبداع الخمسة
قد يكون الإبداع، ودافعيّة التّفكير الجانبيّ أمرين فطريّين، ولكنْ على المبدعين تحسين هذه المهارات؛ ليتسيّدوا مجالات تخصّصهم، إذ لا بدّ من التدرّب، والممارسة، للوصول إلى تطبيق مهاراتهم بسهولة، وثبات، ودمجها مع عواطف، وعمليّات أخرى، كما يمكن لأّيٍّ كان تحسين جهوده الإبداعيّة بالممارسة. ولغرض بحثنا هذا، نعدّ الممارسة نموذجًا للإبداع التّطبيقيّ، المستمدّ من المقاربة الرّياديّة. (الشّكل 11.4)، وهي تتطلّب:
-
التّحضير.
-
الحضانة.
-
الإشراق.
-
التّقييم.
-
التّفصيل.
الشّكل 11.4: مراحل الإبداع وفقا لـ "فنّ الفكرة" لصاحبه جراهام والاس (حفظ الحقوق: جامعة رايس، OpenStax، التّرخيص CC BY 4.0).
التحضير
يتطلّب التّحضير فحص مجال الاهتمام المختار، وعقلًا منفتحًا، والانغماس في الأدوات، والعقليّة، والمعنى، إذا كنت قد جرّبت -سابقًا- الخروج بشيء إبداعيّ من دون التشبّع بالمعلومات الضّروريّة، ولا ملاحظة عمل المتمرّسين في المجال، فأنت تدرك صعوبة ذلك. هذه القاعدة المعلوماتيّة، والخبرة، ممزوجتان بقدرة على دمج الأفكار، والممارسات الجديدة، ويمكنهما مساعدتك على التّدقيق في الأفكار تدقيقًا أسرع، ومع ذلك، فإنّ الاعتماد المفرط على المعرفة السّابقة يمكن أن يحدّ من العمليّة الإبداعيّة حين تنغمس في الممارسة الإبداعيّة، فأنت تستفيد من منتجات، أو أدوات إبداع الآخرين، فعلى سبيل المثال: يلعب مصمّم الألعاب الإلكترونيّة أنواعًا مختلفة منها على منصّات مختلفة؛ وحده أو مع أصدقائه، في مهمّات تعاونيّة أو تنافسيّة. وهذا الاستهلاك يعطيه إحساسا بما هو ممكن، وبالحدود الّتي يمكنه السّعي إلى تحطيمها عبر عمله الإبداعيّ.
ويوسّع التّحضير عقلك، ويمكّنك من دراسة المنتجات، والممارسات، والثّقافة في ميدانك، وهو -كذلك- الوقت المناسب لتحضير الأهداف، سواء كان ميدانك المختار مرتبطا مباشرة بالفنّ، والتّصميم، مثل النّشر، أو متعلّقا بتصميم إنسانيّ المركز، والّذي يشمل كلّ جهود تصميم المنتجات، والبرامج، فأنت في هذه الحالة بحاجة -أيضًا- إلى فترة من انفتاح العقل لتلقّي الأفكار، كما تعدّ الممارسة المتكرّرة جزءًا من مرحلة التّحضير؛ لكي تتمكّن من فهم ميدان الإنتاج الحاليّ، وتفهم الممارسات الأنسب، سواء كنت قادرًا على تطبيقها حاليّا، أم لا، كما يمكنك البدء خلال مرحلة التّحضير برؤية كيف يضمّن الآخرون معنى في منتجاتهم، وبهذا تجهّز تقييمات، توازن بها عملك الإبداعيّ الخاص.
الحضانة
نقصد بمرحلة الحضانة؛ منحك نفسك وقتا لدمج ما تعلّمت، ومارست، خلال المرحلة الأولى، والحضانة تتجنّب الممارسة، حتّى ليحسب الرّائي أنّك في مرحلة راحة، لكنّ عقلك لا يزال يعمل، ومن المهمّ في حضانة الأفكار تغيير المحيط؛ لأنّ المحيط الجديد يسمح لك بتلقّي محفّزات أكثر من تلك المرتبطة مباشرة بالمشكلة الإبداعيّة؛ الّتي تعمل عليها، ويمكن أن يكون ذلك بمجرّد الخروج للمشي، أو زيارة مقهى جديد، حيث تتيح لعقلك الفرصة للسّرحان، ومعالجة المعلومات الّتي جمعتها في مرحلة التّحضير. قال موزارت: "عندما أكون أنا نفسي تماما، مبتهجا، إمّا في عربة، أو سائرا، أو بعد وجبة جيّدة، أو ليلا حين لا أستطيع النّوم، في مثل هذه المناسبات تتدّفق أفكاري تدفّقا أفضل وأكثر وفرة." تسمح فترة الحضانة لعقلك بدمج مشكلتك الإبداعيّة، مع ذكرياتك، وأفكارك، وعواطفك الأخرى، وهذا مستحيل التحقّق إذا كنت دائم التّركيز على المشكلة الإبداعيّة، والممارسات، والمهام المرتبطة بها.
ويمكن أن تأخذ فترة الحضانة وقتًا قصيرًا أو طويلًا، ويمكنك ممارسة نشاطات أخرى، بينما تحصل هذه العمليّة. إحدى نظريّات الحضانة أنّها تجرّد العمليّة الفكريّة من اللّغة، وإذا كنت لا تربط الكلمات بمشاكلك، واهتماماتك الإبداعيّة، فهذا يسمح لعقلك بتأسيس روابط أعمق من اللّغة، وانتظار الحضانة لتعمل، قد يكون صعبًا، لهذا يطوّر كثير من المبدعين، والمبتكرين هوايات تحتوي نشاطات بدنيّة، لشغل عقولهم، بينما يسمحون للأفكار بالحضانة.
الإشراق
التبصّر، أو الإشراق، يعبّران عن لحظة "آها"، أو "يوريكا" بمعنى (وجدتها)، وتأتي هذه اللحظة حين يظهر حلّ مشكلة إبداعيّة فجأة في عقلك الواعي، وقد سُجّلت لحظة "آها" في الأدب، والتّاريخ، والدّراسات العقليّة للإبداع، ويمكن أن يأتي التبصّر دفعة واحدة أو على أجزاء، ولا يمكن فهمه بسهولة، فهو بطبيعته صعب الفصل في الظّروف البحثيّة، والتّجريبيّة، ولكنّه مصدر بهجة لرائد الأعمال المبدع، فهو الوقت العابر الّذي تندمج فيه عمليّات التّحضير، والممارسة، والحضانة، في شيء أشبه بالعبقريّة، وسواء كان هذا الإشراق حلّا لمشكلة شبه مستحيلة، أو الإتيان بشيء إبداعيّ، فإنّ المبدعين يعدّونه -عادة- لحظة مميّزة في حياتهم، وهو لروّاد الأعمال وعد النّجاح، أو احتمال مساعدة كثير من النّاس على تجاوز نقطة ألم، أو مشكلة، وبالطّبع، لن يكون لكلّ إشراقة تأثير عالميّ، لكنّ الخروج بحلّ عمل عليه عقلك لفترة من الوقت سعادة حقيقيّة.
التّقييم
التّقييم هو الفحص الهادف للأفكار، حين تعمَد إلى موازنة حلولك، مع الأفكار، والمنتجات الّتي لاحظتها خلال التّحضير، كما ستحتاج إلى موازنة أفكارك، ونماذج منتجاتك الأوليّة، مع الأهداف الّتي حدّدتها خلال مرحلة التّحضير،كما يعمد المبدعون المحترفون إلى طلب الانتقاد من آخرين خلال هذه المرحلة، وذلك لأنّ التّقييم مرتبط مباشرة بالتوقّعات، والممارسات الجيّدة، والمنتجات الرّائدة الموجودة في كلّ ميدان، فإنّه يأخذ عدّة أشكال، فإنّ عليك البحث عن ضمانات بأنّ تقييمك مناسب، لذا عليك أن تحكم على نفسك بإنصاف، حتّى عندما تطبّق معايير صارمة، انطلاقًا من حسّ الذّوق المكتمل التّطوير الّذي حقّقته خلال مرحلة التّحضير، ويمكنك على سبيل المثال، محاورة بعض العملاء في فئتك المستهدفة لمنتجك، أو خدمتك، إذ الهدف الأساس؛ هو فهم منظور العميل، ومدى تناسب فكرتك مع موقفه.
التفصيل
المرحلة الأخيرة من العمليّة الإبداعيّة هي؛ التّفصيل، بمعنى الإنتاج الفعليّ، وهنا، يمكن أن ينطوي التّفصيل على إطلاق نسخة الحدّ الأدنى من المنتج (minimum viable product تختصر إلى MVP). يمكن ألاّ تكون هذه النّسخة تامّة، ولا مصقولة، ولكنّها ينبغي أن تعمل بكفاءة كافية؛ لتبدأ في تسويقه، مع الاستمرار في تطويره تكراريًّا، كما يمكن أن ينطوي هذا التّفصيل على تطوير، وإطلاق نسخة أوليّة، مثل نسخة بيتا من برنامج، أو تصنيع قطعة، أو عمل فنيّ للبيع، حيث تنشئ كثير من شركات منتجات الاستهلاك سوقا صغيرة للتّجريب، بقصد جمع التّعقيبات، والتّقييمات، لمنتجاتها الجديدة، من عملاء حقيقيّين، هذه الرّؤى يمكنها تزويد الشّركة بمعلومات قيّمة؛ تساعد على جعل الخدمة، أو المنتج أنجح ما يمكن. ما يهمّ رائد الأعمال الإبداعيّ في هذه المرحلة؛ هو توفير المنتج للعامّة، حتّى يتمكّنوا من تبنّيه.
الابتكار أكثر من مجرد حل مشاكل
تنحصر رؤية البعض لروّاد الأعمال الابتكاريّين في أنهم مجرد حلّالي مشاك، ولكنّ مستوى الابتكار هذا، في تحديد نقطة ألم، والعمل على تجاوزها؛ ليس سوى مجموعة واحدة من مجموعات خطوات ابتكاريّة، ويشير لاري مايلر في مقالة له على فوربس إلى أنّ حلّ المشاكل عمليّة ردّ فعل؛ إذ يجب انتظار حدوث مشكلة قبل إدراك الحاجة إلى حلّ لها، وحلّ المشاكل جزء مهمّ من ممارسة الابتكار، ولكنّ تطوير الممارسة، والميدان، يتطلّب من المبتكرين توقّع المشاكل، والسّعي إلى منعها، وفي كثير من الأحيان، يصنعون أنظمة للتّحسين المتواصل، ممّا يعني -كما يشير مايلر- أنّها تنطوي على كسر أنظمة سابقة، لم تكن بها علّة، كما أن السّعي للتّحسين المتواصل، يساعد المبتكرين على استباق تغيّر السّوق؛ ولذا، فإنهم يحضرون منتجات جاهزة للأسواق النّاشئة، بدل تطوير منتجات دائمة التّغيير نتيجة اعتمادها على التقنيات الحديثة، ومن مشاكل صنع نظام للتّحسين الدّائم؛ أنّك في الواقع تخلق مشاكل لتحلّها، ممّا يتعارض، والثّقافة المترسّخة في كثير من الشّركات، هذا ويبحث المبتكرون عن المنظّمات الّتي يمكنها التّعامل مع الابتكار الهادف، أو يحاولون إنشاءها بأنفسهم، بل وبعضهم يهدف إلى الابتكار للمستقبل، متجاوزين الإمكانات الحاليّة، ولتحقيق ذلك؛ يقترح مايلر جمع أشخاص من خلفيات تجريبيّة متباينة، مع خبرات مختلفة، وهذه العلاقات ليست ضمانات لابتكار ناجح، ولكنّ مجموعات كهذه يمكنها توليد أفكار مستقلّة عن الجمود المؤسّساتي؛ وبالتّالي، فإنّ المبتكرين حلاّلو مشاكل، ولكنّهم -أيضًا- قادرون على العمل مع أشكال مختلفة من إنشاء المشكلة، وتخيّلها، حيث يواجهون المشاكل قبل وقوعها ليحلّوها في وقت مبكّر.
ولْنَفْحَصْ نهج ابتكارٍ متعدّد المستوى (الشّكل 12.4). فالقاعدة حلّ المشكلة، وفوقها أعلى الهرم، نجد التّلافي، ثمّ العمل على التحسين المستمرّ، وعلى رأس الهرم يأتي خلق القدرة على توجيه مستقبل صناعتك، أو عدّة صناعات؛ لتتمكّن من مواجهة الاضطراب في حياتك المهنيّة، أو حتّى إنشائه.
الشّكل 12.4: هرم الابتكار، مقاربة متعدّدة المستوى للابتكار (حفظ الحقوق: جامعة رايس، OpenStax، التّرخيص CC BY 4.0)
إن تطوير ممارسات ابتكاريّة مستقبليّة التوجّه فكرة جيّدة، حتّى ولو لم تكن تسعى إلى تغيير مستقبل صناعة ما؛ فهي تساعدك على التّحضير للانقطاع، كما أن وتيرة التغيّر التِّقني المتسارع تضطرّ العمّال -على كلّ المستويات- إلى الاستعداد للابتكار، فقد بنى قادة الابتكار -من أمثال خبير التّسويق جاي كاواساكي- على المبادئ النّفسية لاقتراح طرائق جديدة لمقاربة الابتكار.
وتشمل المنتجات الابتكاريّة -حسب كاواساكي- خمس خصائص أساسيّة: عميق، بذخٌ، متكامل، أنيق، ومعبّر. (Deep, Indulgent, Complete, Elegant, Emotive تختصر إلى DICEE الّشكل 13.4). ويمكنك السّعي إلى تطعيم ابتكارات فرديّة بهذه الخصائص وبطرائق عمليّة.
الشّكل 13.4: المنتجات الابتكاريّة عميقة، بذخة، متكاملة، أنيقة، ومعبّرة. (حفظ الحقوق: جامعة رايس، OpenStax، التّرخيص CC BY 4.0)
العمق
تنشأ المنتجات العميقة حول منطق الابتكار الّذي حدّدناه سلفًا، وتتوقّع احتياجات المستخدمين قبلهم، وتعتمد هذه الابتكارات غالبًا تصاميمَ بارعةً، سهلة الاستخدام للمستخدمين الجدد، وكذا قادرة على تنفيذ مهمات معقّدة، ومثال ذلك: شركة أدوبي Adobe فهي شركة ابتكاريّة، تنشط في مجالات عدة، مثل البرامج، والتّسويق، والذّكاء الاصطناعيّ. وتنشئ أدوبي -عادة- برامج بمهامّ رئيسة سهلة الاستعمال للمستخدمين الجدد، ولكنّها تمكّن المتمرّسين -أيضًا- من الابتكار بأنفسهم. ذلك أن إنشاء منصّة للابتكار علامة مميّزة، تدلّ على الابتكار العميق، والمستقبليّ.
البذخ
يتعامل المبتكرون ذوو التّأثير الطّويل مع مستخدميهم بطرائق تجعل المستخدمين يشعرون بالتميّز عند شرائهم المنتج، أو عثورهم على الخدمة، الغمسُ يشير إلى عمق النّوعيّة الّتي لا تتأتّى من الحلّ الأسرع للمشكلة، بل ويمكن أن يبدو الغمس صفة سلبيّة، وهو في البشر كذلك، ولكنّ الغمس في استخدام منتج ابتكاريّ، يرتبط بغنى التّجربة مع واجهة الاستخدام UI. فهي (User Interface) في المنتج، وخاصّة البرامج، ما يراه المستخدم، ويتعامل معه، فشعور البذخ يغلّف منتجك بالإحساس بالقيمة، والدّيمومة الّذي يُطَمْئِنُ المستخدمين، ويشجّعهم على استعمال منتجك بثقة.
التّكامل
تتضمّن رؤية كاواساكي للمنتج المتكامل الخدمات، المضمّنة فيه، والمؤسِّسة له، بحيث يفهم المستخدمون المنتج بما يكفي لاستخدامه براحة، حيث تتوفّر معلومات حول كيفيّة عمله، وكيفيّة استخدامه، وعليه، ينبغي أن يرافق المنتج الابتكاري تسويق، وجهود تواصل أخرى، وهذا يبني بالنّسبة لكاواساكي "تجربة المستخدم الكليّة"، فإذا حللت مشكلة في السّوق، فإنّ المستخدمين سيفهمون ما المشكلة، وكيف تجيب عنها منتجاتك، وخدماتك.
الأناقة
الأناقة جزء من واجهة استخدام المنتج، فهي تشير إلى البداهة، والتلقائية في تصميمه، ممّا يجعل المستخدمين يفهمونه على الفور، وتوصل الأناقة معلومات أكثر بكلمات أقلّ، فالتّصميم الأنيق لا يتخوّف من المساحة السلبيّة، أو التوقّف العارض، فالابتكارات الأنيقة تحلّ المشاكل دون خلق مشاكل أخرى، كما أن الأناقة -بالنّسبة لكاواساكي- هي الفرق بين منتج عملّي جيّد، وبين شيء رائع.
التّعبير
الابتكارات المعبّرة تستثير المشاعر المقصودة، وتطالب بالإعجاب بها ونشرها، وبعبارة أخرى، تخلق الابتكارات الرّائعة بحقّ مجموعات من المعجبين، وليس قاعدة مستخدمين وحسب، لذا، لا يمكنك فرض محبّة منتجك على النّاس، ولكنْ بإمكانك إعطاءهم تجارب تخلق لديهم حسّ الحماسة، والترقّب لكلّ ما تأتي به لاحقًا.
تطوير اختراع
تنطوي العمليّة العامّة للاختراع على خطوات عمليّة، وأنظمة قد تتطلّب تفكيرًا خطيًّا، وغير خطّيّ، وربّما تفكّر بأن النّاس ذوي المهارات الفنيّة الكامنة وحدهم المبدعون، وأنّ العباقرة وحدهم، من يصبحون مبتكرين، ومخترعين، ولكنّ غالبيّة الإبداع ناتج عن الانغماس في الممارسة، حيث يمكنك بناء، ورعاية إبداعك الخاصّ، وربّما تكون فكرتك حول المخترع شخصًا مثل يوهانس جوتنبرغ الّذي طوّر الطّباعة بالضّغط، وقد أعاد انتشارُ الطّباعةِ رسمَ خريطةِ أوروبا، ونتج عنه تأسيس مراكز تعليم جديدة، حيث كانت شعلة جوتنبرغ في الواقعة طويلة الأثر، لقد كان جوتنبرغ مبدعًا ومبتكرًا، وواحدًا من أشهر المخترعين في التّاريخ، ولكنّ طابعة الضّغط خاصّته، كانت ككلّ الاختراعات، تجميعًا لتقنيّات موجودة، فالابتكار الأهم لدى جوتنبرغ كان استخدام حروف معدنيّة محمولة، قابلة للتّغيير بدل مربّعات كتابة خشبيّة منحوتة بالكامل (الشّكل 14.4). وقد استغرق إتقان جوتنبرغ لطريقته في الطّباعة عقودًا؛ أمّا فكرة عبقريّته اللّحظية؛ فمجرّد أسطورة.
إن الأشخاص الّذين يذكرهم التّاريخ، كانوا يعملون بجدّ كبير لتطوير إبداعهم، كي يألفوا عمليّاتهم، وأدواتهم، التي غدت وجهة، أو قبلة للابتكار في وقتها المناسب، وأوصلتهم أخيرًا لصنع شيء فريد بما فيه الكفاية؛ ليعده المجتمع اختراعًا.
الشّكل 14.4: الحروف القابلة للتّحويل الّتي اخترعها جوتنبرغ كانت ابتكارًا مهمّا في الطّباعة.
(حفظ الحقوق: أ) تعديل على "Printer 1568-ce" بواسطة "Parhamr"/Wikemedia Commons, Public Domain ب) تعديل على "Metal movable type" بواسطة Willy Heidelbach/Wikemedia Commons, CC BY 2.5)
يزعم المثل القديم أن "الضرورة هي أم الاختراع"، لكن المبتكر يحتاج إلى معرفة، وخبرة، وجهد إبداعي، في مجاله؛ ليكون مخترعًا ناجحًا، فريادة الأعمال تعني بذل جهودك، ومعرفتك ،وإيجاد سوق؛ حيث يمكن لاختراعك أن ينجو أوّلا، ثمّ يزدهر.
من نماذج تطوير اختراعٍ مَّا، هذه الخطوات الخمسة المقتبسة من موقع sourcify.com الّذي يختصّ في ربط مطوّري المنتجات بالمصنّعين، وهذه العمليّة مختصرة، وتتضمّن اقتراحات لبناء فريقٍ خلال الطّريق. (الشّكل 15.4)
الشّكل 15.4: خطوات تطوير الاختراع الخمسة، حسب Sourcify. (حفظ الحقوق: جامعة رايس، OpenStax، التّرخيص CC BY 4.0)
الخطوة الأولى: علم نفسك
قبل أن يصارع اختراعك اختراعات أخرى، عليك البدء بتعليم نفسك، ولتحضير نفسك لمواجهة المنافسين، عليك أن تتعلّم أكثر ما يمكنك حول ظروف الاستثمار الحاليّة، وفرص تطوير المنتجات، ومناهج القيادة، حتّى ولو لم تكن مهتمّا بعلم القيادة، فإنّ الاطّلاع على توجّهات القيادة، وتطوير المنتجات الحاليّة أمر مفيد، ونجاحك مخترعًا في سوق واسع، رهن فهمك لقواعد الصّناعة، ومحيط المنافسة؛ المكتوب منها، وغير المكتوب، كما يمكن أن تكون عمليّة تطوير المنتج معقّدة إلى حدّ ما، لكنّها تتغيّر بتغيّر الصّناعة، وتوفّر الموارد.
ومن جوانب تعليم نفسك -أيضًا- التعرف مواطن قوتك، ونقاط ضعفك، وكيف يؤثّران في أسلوبك القياديّ، كما أن مخزونك من أسلوب القيادة، يساهم في مساعدتك على فهم منهجك في قيادة الآخرين، وهذا مجرّد مثال واحد من بين كثير من الأمثلة الّتي تعطيك نقطة انطلاق، إذ بينما تسعى لتحويل فكرة ما إلى واقع ملموس؛ فإنّك ستضطرّ إلى قيادة مجموعة من النّاس، ويمكن أن يتغيّر المحيط -دائمًا- لهذا من المهمّ فهم قواعد الإدارة، والقيادة في جوّ العمل الحيوي والفعال (الدّيناميكيّ).
من الخطوات المهمّة -أيضًا- في تعليم نفسك، اكتشاف نوع المساهمين الّذين ستحتاج إليهم؛ لبناء فريق رياديّ ناجح، فحتّى أولئك الّذين يخترعون بمفردهم، يحتاجون في النّهاية إلى فريق تطوير، وفريق تصنيع، وفريق خدمة، وفريق تسويق، وأفراد آخرين بمهارات مختلفة مثل: المبرمجين، والمصمّمين، ومختبري السّوق، وغيرهم.
الخطوة الثّانية: ابق منظّمًا
تقترح أغلب ملخّصات النّصائح الموجّهة للمخترعين، أن تعثر على طريقة لتنظيم إبداعك، لئلّا يضيع الوقت في محاولة تذكّر أفكار، أو خطط، أو قرارات سابقة، لذا عليك تنظيم المعلومات المرتبطة بفكرة، وخطّة عملك، وأفراد فريقك المحتملين في العمليّة.
لقد انتشرت برامج إدارة جهات الاتّصال منذ عقود، ويمكنك في أيّامنا هذه تجريب كثير من أدوات الإنتاجيّة، وتواصل الفريق. أجر بحوثًا حول طرائق تنظيم المعلومات حول النّاس الّذين تخطّط للعمل معهم، أو تسعى للعمل لديهم، كما أن برنامج محادثة الفريق Slack يمكّنك من إنشاء مواضيع مختلفة على شكل غرف تحادث، ليتمكّن أفراد الفريق من التّعاون عليها، ويوفّر البرنامج، والتّطبيق كثيرًا من المزايا الّتي تساعد على إبقاء الموظّفين على اتّصال؛ أمّا Insightly فهي أداة إدارة العلاقة بالعميل؛ لتبقى على تواصل مع عملائك. وغيرهما Ryver وGli، وFlock وMicrosoft Teams. اختر الأدوات الّتي يمكن أن تساعدك، واشترِ تلك الّتي تقدّم خدمة تواصل الفريق الأنسب لوضعك.
الخطوة الثّالثة: أجر بحث السّوق
يعد بحث السّوق حتميّة بديهيّة، لكنّ كثيرًا من روّاد الأعمال يتقاعسون عن التعمّق كما ينبغي في إجراء بحوث حول منافسيهم، لذا، عليك البقاء على اطّلاع مستمر على منافسيك الحاليّين، والمستقبليّين، لتبقى مستعدًّا للمنافسة في السّوق، وكونك الأفضل على الورق، لن يكون كافيًا عندما تدخل السّوق ببرنامج الحد الأدنى لستة، أو ثمانية أشهر، في منافسة مع منتجات المنافسين الجديدة، وتحديثاتهم.
ولكن، ما الذي يجب أن تأخذه في الحسبان حين تطوير الفريق، من جهة، وحين تراقب المنافسين من جهة أخرى؟ عليك في هذه الحال -وفي حدود ما يسمح به القانون- البحث عن أفراد فريقك المحتملين، من موظّفي الشّركات المنافسة، فالقادة الأفضل يسعون دومًَا وراء الأشخاص الماهرين، فإذا أحسست أنّ أحدهم يمكن أن يكون مناسبًا في فريقك، وأنّ لديهم مجموعة المهارات، والعقليّة الّتي يمكنها المساعدة على وضع اختراعك في السّوق، فلا تخش التّواصل معهم، ولكنّ كيفيّة التّواصل شيء ينبغي عليك البحث عنه لكلّ مجال، ففي بعض الصّناعات؛ عليك أن تكون سريًّا فوق العادة، إن جزءًا من بحث السّوق، هو في الحقيقة فهم من أجل استيعاب المهارات الّتي تحتاجها للعثور على مساهمين يعملون سلفا في تلك الصّناعة، أو في واحدة قريبة منها.
الخطوة الرّابعة: أجر بحث براءة الاختراع
إذا كنت تتوقّع التقدّم بطلب براءة اختراع، فخصّص وقتا لقراءة الإرشادات، ومراحل العمليّة، فعمّال مكاتب براءات الاختراع يحدّدون ما إذا كان الاختراع يستحقّ براءة اختراع، أم لا، وذلك حسب الشّروط الآية: أن يكون جديدا، مفيدا، وغير بديهيّ: أي ينبغي إثبات عمله، وتلك الشّروط الثّلاثة ذاتيّة، وغير موضوعيّة، تماما كما هو الحال بالنّسبة للاختراع، ولكنّ هذا يساعد في رفع سقف التوقّعات لروّاد الأعمال، إذا كانوا حقّا يريدون تحقيق تأثير اجتماعي، فتطوير اختراع قابل لحمل براءة اختراع، يخلق -أيضا- عائقا أمام المنافسة، وهو ما يمكن أن يحدّد الفرق بين النّجاح، والفشل.
هناك نوعان من براءات الاختراع وهما: براءة الفائدة، وتدوم لعشرين سنة، وبراءة التّصميم، ومدّتها في العادة 14 سنة، لذا، إذا حصل المخترع على براءة اختراع، فإنّ أمامه نافذة زمنيّة لتأمين التّمويل الكافي، والعمل على تصنيع المنتج، ومحاولة الحصول على التبنّي العامّ في السّوق، وبعد كلّ شيء، إذًا، تمكّنك من تطبيق إبداعك على ابتكارات اجتماعيّة، وابتكارات منتجات، وابتكارات خدمات، وإذا تمكّنت من جمع ابتكارات كافية، وإضافة إبداعك الخاص عليها، وخلق شيء يتغلّب على فجوة الانتشار؛ فإنّك عندها قد اخترعت شيئا جديدا.
الخطوة الخامسة: إصنع نموذجا أوليا
يمكن أن يكون تطوير نموذج أولي هو الجزء الأكثر متعة، أو مللا في الابتكار، ولكنَّ موقفك تجاه تطوير نموذج أولي، سيعتمد اعتمادًا كبيرًا على الموارد المتاحة، والتقنية، والخبرة، وقد أشرنا إلى مفهوم الشّركة النّاشئة الليّنة من وقت إلى آخر، ففيها يكون النّموذج الأوليّ -عادة- منتجا بالحدّ الأدنى (MVP)، وهو -كما أسلفنا- نسخة من اختراعك، وقد لا تكون مصقولة، أو مكتملة من حيث الطريقة التي تصوّرت، ولكنها تعمل بما يكفي، وتبدو جيدة بما يكفي، بحيث يمكنك البدء في تسويقها مع احتمال أن يجري تبنّيها، وربّما تحتاج في اختراعات أخرى إلى نموذج أوليّ أكثر تطوّرًا، وهذا يتطلّب رأس مالٍ استثماريًّا كبيرا، لكنّه يعود إلى تفاعل المستخدمين مع نسخة المنتج، الّتي تبدو، وتعمل مثل تلك الّتي تخيّلتها خلال مرحلة التّفكير، وأنت كونك مخترعا، مسؤول عن تحديد الحدّ الأدنى من مراقبة الجودة لمنتجك، بل ربّما تضطرّ إلى المساومة في نظرتك، ولكن لا تساوم على الوظائف الأساسيّة، ولا على مستويات الجودة الأساسيّة في المواد المستعملة.
لديك العديد من الخيارات في مرحلة تطوير النموذج الأولي، كما يمكنك بناء النموذج الأولي بنفسك، أو مع فريق صغير، كما يمكنك المشاركة مع شركات التصميم، والاختراع؛ الّتي تتخصّص في مساعدة المخترعين على تطبيق أفكارهم، لكنْ عليك توخي الحذر الشديد، وإطلاع ممثّليك القانونيّين عند التّعامل مع هذه الشّركات، لتضمن الحفاظ على براءات اختراعك، وحقوقك الأخرى، ومن الخيارات الأخرى في الحصول على تمويل لاختراعك، نقترح مواقع التّمويل الجماعي مثل Kickstarter و GoFundMe. والحال هنا، وسابقه سيّان، فالتّعامل مع التّمويل الجماعي؛ يعني عرض فكرتك على العامّة قبل تطبيقها، وعن هذا يقول آميديو فيرارو، محامي الملكيّة الفكرّية: "يراقب المقلّدون منصّات التّمويل الجماهيري، ويتقصّون المنتجات الشّائعة"، حيث تراقب الشّركات المنافسة، خاصّة في الأسواق الغربيّة، منصّات التّمويل الجماعي، للعثور على أفكار جديدة ينفّذونها، ويدخلونها إلى السّوق قبل أن تنتهي فترة تمويلك، ولهذا يتّخذ المخترعون احتياطات قانونيّة لحماية حقوقهم الفكريّة عند العمل مع بعض الشركات الصينية، "ولكن حتى مع هذه الحماية، لا يوجد ضمان يمكنك من منع شخص من تقليد منتجك" حسب محام أمريكيّ للملكيّة الفكريّة. "فالمشكلة لا تكمن في المحاكم الصّينيّة، بل في تطبيق الأحكام، كما أنّ كسب قضيّة ضدّ شركة واحدة أمر سهل، لكنّ مقاضاة كلّ الشّركات المقلّدة، والفوز عليها، أمر يكلّف وقتا ومالا". ولهذا السّبب، يفضّل بعض المخترعين بدء أعمالهم صغِيرةً، ومحليّة، إذا أمكنهم ذلك، فقد يكون من الأفضل لهم البدء بفريق موثوق، يحقّق ربحا صغيرا، ويثبّت موقعه في السّوق، بدل رؤية السّوق غارقا بالمنتجات المقلّدة.
ترجمة -وبتصرف- للفصل (Creativity, Innovation, and Invention) من كتاب Entrepreneurship.
اقرأ أيضًا
- المقال التالي: الفرصة الريادية: كيف يحول رائد الأعمال الفكرة إلى فرصة
- المقال السابق: ما الفرق بين الإبداع والابتكار والاختراع في سير عمل رائد الأعمال؟
أفضل التعليقات
لا توجد أية تعليقات بعد
انضم إلى النقاش
يمكنك أن تنشر الآن وتسجل لاحقًا. إذا كان لديك حساب، فسجل الدخول الآن لتنشر باسم حسابك.