اذهب إلى المحتوى

يركز هذا الباب على استيعاب العوامل التي تحفزُ الناس، وعلى الأثر الذي يُحدِثُهُ تحفيزُ الموظفين، ورضاهم على الإنتاجية، وأداء المؤسسة، ويمكن للمؤسسات تعزيزُ الأداء عبرَ الاستثمار في الأشخاص، وفي معرض مراجعتنا للطرق التي تختارها الشركات اليوم للاستثمار في مواردها البشرية؛ يمكن تحديد أربعة توجهاتٍ إيجابية، وهي: (1) التعليم، والتدريب. (2) تملُّك الموظفين. (3) مزايا العمل والحياة. (4) رعاية العمال ذوي المهارة المعرفية، وتُدرِكُ الشركات كافة؛ التي تحتل المراتب المئة الأولى على قائمة مجلة فورتشن Fortune السنوية "لأفضل 100 شركة للعمل لديها 100 Best Companies to Work for" أهميةَ معاملة الموظفين معاملةً صحيحةً؛ ولدى جميع الشركات المذكورة برامج تتيح لها الاستثمار في موظفيها، ويواجه عالمُ الأعمال في يومنا هذا تحدّيًا يتمثل في ارتفاع تكاليف تغيُّبِ الموظفين؛ الآخذ في الازدياد، ويناقش هذا المقال كُلًًّا من تلك التوجهات الحديثة في مجال تحفيز الموظفين.

التعليم والتدريب

تجني الشركاتُ التي توفر فُرَصًا تدريبية، وتعليمية، لموظفيها، مزايا تنعكس في قوةٍ عاملة أكثر تَحفُّزًا، ومهارة، ويتّسمُ الموظفون الذين تلقَّوا تدريبًا صحيحًا في مجال التقنيات الحديثة؛ أنهم أكثر إنتاجيةً، وانفتاحًا على التغيير في مجال العمل، كما يوفر التعليمُ، والتدريب مزايا إضافية عبر تعزيز شعور الموظفين بالكفاءة، والقيمة الذاتية، وعندما تنفق الشركاتُ المالَ لتطوير المعرفة، والمهارات لموظفيها، فهي توصِلُ لهمُ الرسالة التالية: "إننا نقدِّركم، ونلتزم بتطويركم".

مثال ناصع على الروح الريادية

الكل مدير مالي

أراد آندرو ليفاين Andrew Levine، رئيسُ شركة دي سي آي DCI؛ وهي شركة علاقات عامة؛ مقرها نيويورك -أراد تطبيق أسلوبِ إدارةٍ مُنفتِح في شركته، فأضاف فقرةً ماليّة إلى الاجتماعات الشهرية لفريق الموظفين لديه، التي كان يُطلِعُهم خلالها على النتائج، والتوجهات الحديثة، وقد تفاجأ كثيرًا؛ لكون موظفيه يشعرون بالملل، فسألهم ذات مرةٍ في أحد اجتماعاته عن كيفية حساب الفائدة، ولكن، لم يعرف الإجابة سوى عامل الاستقبال المدعو سيرجيو باريوس Sergio Barrios، فصُدِمَ آندرو بجهل موظفيه بالمفاهيم الرياضية من جهة، وببراعة سيرجيو؛ موظف الاستقبال في الأرقام؛ فقرر بعدها إلزام موظفيه بعرض التقارير المالية بأنفسهم، وخلال الاجتماع المالي التالي مع موظفيه، عيَّن الرئيسُ آندرو موظفَ الاستقبال سيرجيو باريوس مديرًا ماليًا لذلك اليوم، فشرح لهم المصطلحات بطريقة تفهمها عامَّةُ الناس، ومنذ ذلك الحين، لاحظ الرئيسُ أنَّ موظفيه قد غدوا بارعين فيما يخص الأمور المالية في الشركة، وصارَ كلُّ موظفٍ يُختار مديرًا ماليًا خلال الاجتماعات؛ يلتقي بالمدير المالي الأصلي في الشركة، قبل يومٍ من عقد ذلك الاجتماع، فيراجعان خلاله الدخل، والنفقات، والبياناتِ، والنِّسَبَ المالية، كما كانا يناقشان التوقعات الخاصة بالإيرادات، والتوجهات المالية العامة، وبعدها يعرضُ الموظفُ الذي يُختار مديرًا ماليًا تلك المعلومات في الاجتماع المالي الشهري. وترى ماريا مانتز Maria Mantz؛ وهي موظفة مبتدِئة في الشركة -أنّ التدريب مفيدٌ جدًا، فتقول: "أنا موظفة جديدة، وصغيرة السن، أتلقى تدريبًا ليس -فقط- بصفتي مديرة علاقات عامة، بل، بصفتي مديرة أعمال كذلك"، وعندما حان دورُها في أحد الاجتماعات للحديث عن الأمور المالية في الشركة، وقفت أمام ثلاثين من زملائها، وبدأت بشرح الحسابات، وتفصيلها، وطلبت منهم الإشارة إلى جدول الإيرادات الموجود ضمن الوثائق؛ التي كانوا يحملونها، ثم سألت إن كان أيٌّ منهم يعلم ما المشترك بين الزبائن الخمسة الذين أظهروا زيادة في النشاط، لتمنح مكافأة لزملائها الذين عرفوا الإجابة الصحيحة (كانت جميعُها حساباتٍ قائمةً على الأداء)، وهي بطاقاتُ دعوة إلى متجر سندويشات محلي، وبعدها فتحتِ النقاش بسؤالها: "هل ذلك أمرٌ سيءٌ، أم جيّد؟". لا شك أنَّ برنامج "مدير اليوم المالي CFO of the day" كان خطوة جيدة لشركة دي سي آي؛ التي باتت تحقق الأرباح منذ أن أسس رئيسُها ذلك البرنامج، وأصبح موظفوها يبقون معها لمدة خمس سنوات في المتوسط، في حين لم يكن يتجاوز متوسط بقائهم معها سنتين ونصف قبل إنشاء ذلك البرنامج، كما ازدادت مدة بقاء الزبائن مع تلك الشركة؛ بعدما تضاعفت؛ لتبلغ ما يزيد على خمس سنوات، وقد تبنّى الرئيسُ ليفاين دروس الإدارة المفتوحة، أوِ الإدارية التشاركية، التي يُعدُّ جاك ستاك Jack Stack وشركة سبرينغفيلد لإعادة التصنيع Springfield Remanufacturing Corporation رائِدَين لها، وسواءٌ كانتِ التسميةُ مدير اليوم المالي، أو الإدارة التشاركية، أو إدارة الكتاب المفتوح، أو لعبة الأعمال العظيمة، فالغرض هو تعليم الموظفين العمل التجاري، وبالتالي إدماجُهم فيه، ويعتقد القائمون على الشركات التي تأتي بتلك الممارسات، أنّ الموظفين سيغدون أكثرَ إنتاجيةً في حالِ استيعابهم للأمور المالية، وشعورهم بأنهم مالكون، وفي المثال الذي عرضناه أعلاه عن شركة دي سي آي DCI، لم يَعُدِ الموظفون يشعرون بالملل خلال الجزء المُكرَّس للمراجعة المالية في الاجتماع الشهري.

تملك الموظفين

ثمة توجُّهٌ حديث يبدو أنه يشهد استقرارًا؛ إنّه تملُّكُ الموظفين Employee Ownership، والشكل الأكثر شيوعًا لتطبيقه هو خطة امتلاك الموظفين للأسهم Employee Stock Ownership Plan والمعروفة اختصارًا بـ "ESOP". تختلف تلك الخطة عن خيارات الأسهم Stock Options، فوفقًا لخطة امتلاك الموظفين للأسهم، يتلقى الموظفون التعويضات في شكل أسهم شركة. تَذكَّر أنَّ خيارات الأسهم تعطي الموظفين فرصة شراء سهم الشركة بسعر محدد، حتى لو زاد سعر السهم في السوق عن ذلك السعر المحدد، ولأنه يجري تعويضُ الموظفين المستفيدين من خطة امتلاك الأسهم، عن طريق الأسهم، فيمكنهم أن يتملّكوا الشركةَ بمرور الوقت، وهي استراتيجيةُ خروجٍ جذّابة للمالكين الحاليين ليحققوا انتقالًا سَلِسًا، وثمة اعتقادٌ وراء برامج تملُّكِ الموظفين مفاده أنَّ الموظفين الذين يفكرون كالمالكين، يكونون أكثر تحفُّزًا للاعتناء باحتياجاتِ الزبائن، وتخفيض النفقات غير الضرورية، وجعل العمليات الإنتاجية أكثرَ سلاسةً، والبقاءِ فترةً أطول مع الشركة.

صورة 9.8 فصل 9.jpg

الصورة 9.8: تمنحُ بعضُ الشركاتُ -أحيانًا- مزايا غير اعتيادية لجذب الموظفين الموهوبين، والاحتفاظ بهم لديها، إذ يحصل موظفو شركة تمبرلاند Timberland مثلًا على مبلغ 3000 دولار لشراء سيارة هجينة، أما شركة ورثينغتون إندستريز Worthington Industries، فتوفر لموظفيها حلاقة شعر في مقر عملهم مقابل 4 دولار -فقط- وفي شركة إس سي جونسون SC Johnson، يحصل المتقاعدون على اشتراك لمدى الحياة في مركز اللياقة البدنية التابع للشركة المذكورة.

ولكن، هناك سلبياتٌ تعتري خطط امتلاك الموظفين للأسهم؛ إذ يتمثَّلُ أكبر المخاوف منها، في أنَّ بعض الموظفين يربطون جزءًا كبيرًا من مدخراتهم بتلك الخطط التي تتبناها شركاتُهم، فإذا ما بدأ أداءُ الشركة في التراجع، يقع أولئك الموظفون في خطر خسارة جزءٍ كبير من ثروتهم، وهذا ما حصل لإحدى سلاسل متاجر البقالة في كاليفورنيا بالولايات المتحدة المسماة بيغلي ويغلي كارولينا Piggly Wiggly Carolina التي بدأ نشاطُها التجاري في التراجع، وشاهدَ الموظفون، والمتقاعدون الإدارةَ العليا وهي تتخذ قراراتٍ لرفع الأسعار، لتقررَ بعدها بيع متاجرها، ثم بدأ السهم يفقد قيمته عامًا بعد آخر، حتى وصل إلى نسبة انخفاضٍ بلغت 90%، إلى أن تلقى الموظفون إشعارًا من الشركة يفيد بعدم امتلاكها ما يكفي لتوزيع المال عليهم تلك السنة، كما تضمَّنَ الإشعارُ أنَّ الأُمناءَ خططوا للاستمرار في بيع أصول الشركة، وموجوداتها، على أمل الوفاء بمدفوعاتها المستقبلية، فرفع موظفون سابقون لدى تلك الشركة دعوى قضائية بمواجهتها، مدّعين أن قرارات الإدارة العليا فيها، أدت إلى كسبها المال منهم بدون وجه حق، وذلك على حساب قيمة الشركة.

ومع ذلك، هناك العديد من الشركات التي تطبق خطط امتلاك الموظفين للأسهم بنجاح، فشركة أكسيا هوم لونز Axia Home Loans، وهي شركة إقراض عقاري؛ مقرُّها مدينة سياتل في الولايات المتحدة، حققت مستوى إنتاجٍ قياسيًا، واستطاعتِ اجتذابَ ذوي المهارات العالية خلال السنة الأولى من إنشائها خطة امتلاك الموظفين للأسهم الخاصة بها.

وبعد تلقّي غيليرت دورني Gellert Dornay؛ رئيس شركة أكسيا هوم لونز، ومديرها التنفيذي، أسئلة من قبل مساهمين غير إداريين حول الاستراتيجيات درسَ، وبحث في خطة امتلاك موظفين للأسهم، ورأى أنها ستناسب ثقافة الشركة الابتكارية، والتفكير التقدمي ذاته. ويقول دورني: "تُظهِرُ الدراسات أنَّ تجربة الشركات المملوكة من قبل موظفين، قد زادت من رضا الموظفين، ومن الاحتفاظ بهم لفترة أطول، ومن المكاسب الخاصة بالإنتاجية". ويضيف قائِلًا: "إنَّ من شأن خطة امتلاك الموظفين للأسهم، مكافأةُ الموظفين الذين يسهمون في نجاح الشركة، عبر السماح لهم بالمشاركة في زيادة قيمة الشركة المستقبلي".

إذًا، ما الذي يجعل من شركة ما، لديها خطة امتلاك الموظفين للأسهم، مثل شركة أكسيا هوم لونز، أكثرَ نجاحًا من شركة أخرى مثل بيغلي ويغلي؟ إنَّ للأمر صلةً قوية بالطريقة التي تُعامِلُ فيها الشركات موظفيها؛ فلا يمكنك أن تُطلِق على موظفيك لقبَ مالكين فحسب، ثم تنتظر منهم ردة فعل إيجابية، بل عليك فعلُ شيءٍ لجعلهم يشعرون شعور المالكين، ودمجُهم بعدها بصفتهم مالكين، وتوضِّح شركةُ بيغلي ويغلي أنَّ مُلكية الموظفين ليست عصًا سحرية، حيث يقول دورني، رئيسُ شركة أكسيا هوم لونز، ومديرُها التنفيذي: "عندما يدير الموظفون الشركة، تكون منهجيتنا الخاصة باتخاذ القرارات مختلفة، فكل شيء يكون لمصلحة المساهمين، وأولئك المساهمون همُ الموظفون".

مزايا العمل والحياة

هناك توجُّهٌ حديثٌ متنامٍ، بدأ يُلاحَظ في أماكن العمل، وهو أنَّ الشركات -حاليًا- تُساعد موظفيها لإدارة متطلبات كثيرة، وأحيانًا المتعارضة، في حياتهم، فقد أصبحتِ المؤسساتُ تلعبُ دورًا أكثر فاعلية لمساعدة موظفيها في تحقيق توازنٍ بين مسؤولياتهم في العمل، وبين التزاماتهم الشخصية، وتتمثل النتيجة المرغوب فيها لذلك، في شعور الموظفين بالارتياح النفسي، وتركيزهم على عملهم تركيزًا أفضل، وبالتالي تحقيقهم إنتاجية أكبر، ومن الأدوات التي تستخدمها الشركات، لمساعدة الموظفين في تحقيق التوازن بين حياتهم، وعملهم -إجازات العمل الطويلة Sabbatical، وتعود تلك الإجازات -تاريخيًا- إلى ظهور حاجة لحافزٍ يجذب أعضاء هيئات التدريس المحتملين إلى جامعة هارفارد Harvard أوائل القرن التاسع عشر؛ أما اليوم، فقد تكون تلك الإجازاتُ لمدة شهر، أو أكثر، مدفوعة أو غير مدفوعة. وتحاول الشركاتُ في بيئة الأعمال الحالية، إحداث توازنٍ بين تخفيض النفقات، وجني الأرباح، بالتزامن مع سعيها جاهدةً نحو إبقاء موظفيها متحفزين، وإيجابيين فيما يخص العمل، وقد تُمثِّلُ تلك الإجازاتُ أداةً مهمة بيد المديرين؛ ليحققوا من خلالها ذلك التوازن الذي تحدثنا عنه.

وتتباين التقارير حول ما إذا كان اللجوء إلى منح إجازات طويلة للموظفين، يشهد تزايدًا أم تناقُصًا، ولكنْ، هناك إجماعٌ على أن كافة الأطراف المعنية، تستفيد في حال مُنحَ الموظفون تلك الإجازات، ومن تلك الفوائد أنَّ الموظفين يعودون إلى العمل أكثر نشاطًا؛ فشركة موريس فاينانشال كونسيبتس Morries Financial Concepts، على سبيل المثال؛ وهي شركة تخطيطٍ مالي صغيرة، تمنح موظفيها بدوامٍ كامل إجازة عملٍ مدفوعة لمدة شهر كامل مرةً كلَّ خمس سنوات، وتقول كايرا موريس Kyra Morries، رئيسةُ الشركة ومالكتُها، إنَّ الموظفين كانوا يعملون أثناء عطلتهم، على الرغم من حثِّهم على ألا يفعلوا ذلك، ولذلك عليهم الاسترخاء، والتوقف عن العمل خلال تلك الإجازات، وتتابع كايرا موريس بالقول: إنَّ تلك الإجازات تعد ناجحةٌ بالنسبة لكلٍ من أفراد جيل الألفية، وللموظفين الأكبر منهم سِنًّا، كما تمثل تلك الإجازاتُ أداةً توظيفيةً عظيمة. أما شركة زيلو Zillow، عملاق العقارات عبر الإنترنت، فتمنح موظفيها كافة إجازاتٍ نصف مدفوعة لمدة ستة أسابيع، بعد ست سنوات من بدء توظيفهم لديها، وتقول إيمي بوهيوتينسكي Amy Bohutinsky؛ وهي مديرة العمليات لدى مجموعة زيلو Zillow Group: إنَّ شركتها تريد مكافأةَ الموظفين الذين يبقون معها لفترة طويلة، وتشجيعَهُم على الاستمتاع بحياتهم خارج العمل، وجعلهم يعودون إلى وظائفهم نشطين ومتحفزين، ومن الفوائد الأخرى لإجازات العمل تلك، إتاحة فرصةِ تعلُّمِ مهاراتٍ جديدة، والتي قد تكون بديلًا لتسريح الموظفين، وبالانتقال إلى الحديث عن شركة بافر Buffer؛ وهي إحدى منصات إدارة وسائل التواصل الاجتماعي، فقد تجنَّبَتْ تسريحَ أحد الموظفين لديها، وذلك بمنحه إجازة عملٍ نصف مدفوعة لمدة 12 أسبوعًا يقضيها في المنزل، بهدف إفساح المجال أمامه كي يتعلَّمَ مهاراتٍ جديدة، تحتاج إليها الشركة؛ لينتقل بنجاحٍ إلى قسمٍ وظيفيٍّ آخر لديها. إنَّ إجازات العمل المُكرَّسة للتعلُّم، تناسب قيمة الشركة المتمثلة في التطوير الذاتي.

رعاية العمال ذوي المهارة المعرفية

لدى معظم المؤسسات موظفون متخصصون، حيث تمثِّلُ إدارتهم بشكل فعال تحديًا كبيرًا، وقد تجدُ لدى العديد من الشركات مشرفين على الموظفين من أصحاب المعرفة العلمية، ولكنَّ هؤلاء ليسوا "مرؤوسين"، بل هم "زملاءُ عمل"، ويُطلَب من الموظفين أصحابِ المعرفة العلمية توظيف ما لديهم من مهاراتٍ في سياق تخصصهم المعرفي، ولا يكون أولئك الموظفون متشابهين، أو متجانسين؛ لأنَّ المعرفة لا تكون فاعلةً، ما لم تكُن متخصصة، وخصوصًا المنتمين منهم إلى مجموعة الاختصاصيين التقنيين، سريعة النمو، مثل: اختصاصيي الأنظمة الحاسوبية، والمحامين، والمبرمجين، وسواهم، ونظرًا إلى أنَّ العمل المعرفيَّ متخصص، فهو مُقسَّمٌ تقسيمًا عميقًا.

تختلف قوةُ العمل المعرفية عن تلك الأقلِّ مهارةً من الناحية النوعية، إذ يعتمد نجاحُ أيِّ شركةٍ، أو بقاؤها بالأحرى، على أداء قوتها العاملة ذات المعرفة العلمية، ويتجلى التحدي المتعلق بإدارة الموظفين؛ أصحابِ المهارات العلمية، في إيجاد طُرُقٍ لتحفيزهم على التعاون، ومشاركة الشركة خبرتَهم، بما يضمن توسيع آفاق معارفهم، لما فيه مصلحة المساهمين في الشركة، ومصلحة المجتمع برمّته، ولتحقيق ذلك الهدف الواعِد، أنشأتِ العديدُ من الشركات ما تسمِّيه "جماعات الممارسة Communities of Practice".

صورة 9.9 فصل 9.jpg

الصورة 9.9: تُطوِّرُ الجهاتُ الموظِّفةُ السَّاعيةُ إلى مواجهة ظاهرة تغيُّب الموظفين المتصاعدة، مزايا مُبتَكرةً، ومَرنةً لموظفيها، فشركة إس سي جونسون SC Johnson، مثلًا، توفِّر لموظفيها خدمة رعاية الأطفال طبيبًا، داخل الشركة، وإجازة أبوة، أما شركة برودينتيال Prudential، فتسمح لموظفيها بأخذ إجازة لرعاية أطفالهم المرضى، أو والديهم الكبار في السن، وتتباهى شركة هوليت - باكارد Hewlett-Packard بمجموعة من خيارات العمل المرنة التي تناسب حياة موظفيها المليئة بالمشاغل.

التأقلُم مع تكاليف تغيُّبِ الموظفين المتصاعدة

في ظلِّ سعي الشركات -حاليًا- إلى تحقيق أداءٍ عالٍ بعددِ موظفين أقلَّ، يتعيَّنُ على المديرين التنبُّهُ إلى توجُّهَين حديثين رئيسَين، يؤثران في معنويات الموظفين، وأدائهم، هما: تغيُّبُ الموظفين، واستبدالُهُم؛ فوفقًا لمكتب إحصاءات العمل Bureau Labor of Statistics في الولايات المتحدة، بقيَ مُعدَّلُ تغيُّب الموظفين بدوامٍ كامل مُستقِرًا نسبيًا خلال السنوات الأخيرة، إذ بلغ أقل بنسبةٍ ضئيلة من 3%، وذلك بالنسبة للتغيّب بسبب مرض الموظف، أو تعرُّضه لإصابة، أو مشاكل صحية، أو بسبب مشاكل متعلقة برعاية أطفال الموظفين، أو التزاماتٍ عائلية، أو شخصية أخرى، أو بسببب الخدمة المدنية، أو العسكرية، أو بسبب إجازات الأمومة، أو الإجازات الوالديّة، وفي كل يوم، يتغيّبُ حوالي 3% من الموظفين بدوام كامل، وهذا الوضع يُكلِّفُ الشركات مليارات الدولاراتِ كل عام، ولكن ليست جميعُ الأسباب وراء التغيُّبِ الطارئ حقيقيةً، إذ تكشف تقارير من شركة كارير بيلدر CareerBuilder -وهي شركة حلول رؤوس أموال عالمية شاملة- أنَّ 40% من حالات تغيُّب الموظفين الطارئ في العام 2017 شهدت ادعاءاتٍ من قبل موظفين؛ بأنهم مرضى، وتبيَّن أنهم لم يكونوا صادقين في ادعائاتهم تلك، أما السببان الرئيسان اللذان أعطاهما الموظفون لتبرير تغيٌّبهم، فهما: إما موعد مع طبيب، أو شعورهم بعدم الرغبة في الذهاب إلى العمل، ومن الأسباب الأخرى التي أُدرِجت بصفتها مبرراتٍ لتغيُّبِ الموظفين، الحاجةُ إلى الاسترخاء، والراحة، والرغبة في النوم، وقضاء بعض الحوائج (مثل شراء شيء ما)، والقيام بأعمال منزلية، وتنفيذ خططٍ مع العائلة، والأصدقاء.

ويترتب على تغيُّبِ بعض الموظفين ليوم واحد، اضطرارُ آخرين إلى بذل مزيد من الجهد في العمل، لتغطية ذلك الغياب، وهو ما يؤدي إلى انخفاض إنتاجيتهم، ومعنوياتهم، خصوصًا إذا لم يجرِ التعامُلُ مع مشكلة تغيب الموظفين المستمر بفاعلية، وفي المقابل، يمكن -إلى جانب سياسة الحضور في العمل- تخفيض معدلات تغيُّبِ الموظفين عبر منح حوافز على الحضور، وتوفير برامج ترفيهية، وبرامج مساعدة الموظفين، وغير ذلك من مزايا.

إدارة التغيير

استخدام جماعات الممارسة لتحفيز الموظفين ذوي المهارة المعرفية

لقد أُطلِقَت تسميةُ "جماعات الممارسة Communities of Practice" منذ أوائل تسعينات القرن العشرين، بوصفها طريقة لتحفيز الموظفين من أصحاب المهارة المعرفية، ومن الشركات التي حققت نجاحًا كبيرًا مع جماعات الممارسة؛ شركةُ شلمبرجير المحدودة Schlumberger Limited؛ وهي شركة خدمات نفطية تبلغ عائداتها السنوية حوالي 28 مليار دولار، ومَثَلُها مَثَل باقي جماعات الممارسة، وتتألف الجماعات التي تُسمّيها شركةُ شلمبرجير المحدودة جماعات يوريكا Eureka groups من موظفين احترافيين، متشابهين، ينتمون إلى أقسام المؤسسة كافة، ويشترك الموظفون في واحدة، أو أكثر من جماعات يوريكا؛ التي تتراوح بين الكيمياء، وهندسة آبار البترول، وقبل تأسيس جماعات الممارسة، عمل مهندسو شركة شلمبرجير، وفيزيائيوها، وجيولوجيوها، عملًا جيدًا على المشاريع الفردية، ولكن الشركة كانت غافلةً عن كيفية مساعدة موظفيها على تحسين الجوانب الاحترافية من حيواتهم، وبما أنَّ الشركة تبيع خدماتٍ، وخبرات، فيُعَدُّ تحفيز موظفيها ذوي المهارة المعرفية، وصقلُ خبراتهم، عاملين لا بد منهما للنجاح، وقد شعر الرئيس التنفيذي السابق للشركة، يوان بيرد Euan Baird، أنه فعل كل ما بوسعه لإدارة موظفي الشركة الاحترافيين، وتحفيزهم، ولكنه فشل؛ وهنا قرر تركَهم يديرون أنفسهم، ثمَّ كلَّفَ الموظفَ المُخضرم في شركة شلمبرجير، ويُدعى هنري إدموندسون Henry Edmundson بتطبيق جماعات الممارسة، حيث تُمثِّلُ جماعات يوريكا التابعة لشركة شلمبرجير نجاحًا كبيرًا، وتساعد الشركةَ في زيادة مواردها المعرفية، كما تُنشَر اليوم السِّيَرُ الذاتية، المُنشأة ذاتيًا، على الموقع الداخلي للشركة؛ مما يسمح للموظفين من 85 بلدًا -حيث تنشط تلك الشركة- بطلب استشارة حول السير الذاتية لكل موظف شركةٍ تقريبًا للعثور على أحدٍ ذي معرفة، أو خبرة محددة، ومن الأسباب الأخرى التي تجعل من جماعات يوريكا ناجحةً إلى ذلك الحد الكبير؛ أنها ديمقراطيةٌ بشكل كامل، إذ يُصوَِتُ الموظفون المشاركون لمن سيقود كلَّ جماعة، ويمكن لأي موظفٍ مدعومٍ من قبل مديره، ومن طرف عضو جماعة أخرى واحدٍ على الأقل، أن يتولى المنصب لمدة عام واحد، ويُكلِّف القادةُ المنتخَبون في جماعات يوريكا بشركة شلمبرجير هذه الأخيرةَ حوالي مليون دولار في العام، وفي هذا يقول إدموندسون: "إنها رخيصة مقارنة بالمبادرات المعرفية الأخرى". وقد ترشَّح جون أفيلاكا John Afilaka -وهو مهندس جيولوجي كان يشغل منصب مدير تطوير الأعمال التجارية لشركة شلمبرجير- للانتخابات؛ سعيًا منه لتولّي منصب رئيس جماعة تحديد خصائص الصخور في الشركة؛ وهي مجموعة يزيد قوامها على 1000 شخص من ذوي الخبرةٍ في تحديد ما قد يحتويه مخزونٌ احتياطي تحت الأرض، وقد نجح في هزيمة خصمه، وأمضى من 15 إلى 20% من وقته في تنظيم المؤتمر السنوي للجماعة، وعلى ورشات العمل التي تُعقَد من وقتٍ لآخر، وفي الإشراف على موقع الجماعة الإلكتروني، وتنسيق الجماعات الفرعية، وأمورٍ من هذا القبيل، ويقول الرئيس التنفيذي المتقاعد آندرو غولد Andrew Gould: إنه لا غنى عن ميزة الإدارة الذاتية؛ لنجاح جماعات يوريكا، وإنه -غالبًا- ما يتم تحفيزُ الموظفين التقنيين عبر مراجعة النُّظراء Peer Review واحترامهم Peer Esteem؛ ويُفهَم من كلامه أنّ خيارات الأسهم، والمكاتب الواقعة في زاوية الغرفة، ليستا ميزتين كافيتين، ويتابع بالقول: "إنَّ انتخاب القادة يضمن نزاهة الأحكام التي يصدرها الأقران" كما أنَّ استخدامَ شركة شلمرجير لجماعات الممارسة، معروفٌ على مستوى العالم، وقد ورد اسمُها عشرات المرات في الدراسة المسمّاة يوروبيان ميك European MAKE، وكلمة MAKE هنا هي اختصار لــ: Most Admired Knowledge Enterprises أي: (المشاريع المعرفية الأكثر احترامًا)، كما حازت على لقب الفائز المُطلَق في ثلاث مناسبات، كان آخرُها في العام 2017.

أسئلة التفكير الناقد:

  1. كيف باعتقادك تُساعِدُ جماعاتُ الممارسة شركاتٍ مثل شلمبرجير على الإدارة في بيئاتِ أعمال حيوية (ديناميكية)؟
  2. مع أن أنَّ جماعاتِ الممارسة تُعَدُّ ذات صلةٍ بموظفي المهارة المعرفية، فهل يمكن لها أن تُحفِّز بنجاحٍ موظفين آخرين أيضًا؟ برِّر إجابتك.

أما التوجُّهٌ الحديثٌ الآخر، فذو صلة بتغيُّب الموظفين، ومعنوياتهم، وهو استبدالُ الموظفين، ويشهد عددُ الموظفين الباحثين عن عملٍ ازديادًا ملحوظًا؛ إذ كشفت دراسة استقصائية حديثة أجرتها شركة غالوب (Gallup) أنَّ 51% من الموظفين الحاليين يخططون لترك وظائفهم، ولكنَّ دراسةً أخرى من قبل شركة آي بي إم IBM وجدت أنَّ 16% -فقط- من الموظفين، يَسعَونَ بنشاط للحصول على وظيفة جديدة، وتمثِّلُ كِلتا الدراستين المُشار إليهما أعلاه، سببًا يدعونا إلى القلق؛ فقد يكون ارتفاعُ معدَّلِ استبدال الموظفين مُكلفًا من الناحية المادية، وينتج عنه انخفاض معنويات الموظفين الذين يشاهدون زملاءهم يتركون العمل لدى الشركة، أمّا أهمُّ سببين يدعوان الموظفين إلى ترك العمل فهما: العثور على فُرصِ عملٍ أفضل لدى شركات أخرى، والتخلُّصُ من مديرٍ سييء.

إنَّ من شأن ارتفاع معدل استبدال الموظفين (أو تغيّبهم) على مستوى الإدارة، أن يتسبب للموظفين بحالة من عدم الاستقرار؛ التي تدفعهم إلى تطوير استراتيجياتٍ، للتعامل مع تدفُّقِ رؤساء العمل الجُدُد، ويأتي ارتفاع معدل استبدال الموظفين (أو تغيُّبُهم) على حساب قدرة الشركة على أداء العمل في مستوياتها العليا، فإذا ما أرادتِ الشركاتُ أن تبقى في دائرة المنافسة، يجب أن يكون لديها برامج مُفعَّلة لتحفيز الموظفين على المجيء يوميًا إلى العمل، والبقاء مع الشركة عامًا تِلوَ آخر.

ترجمة -وبتصرف- للفصل Motivating Employees من كتاب introduction to business

إقرأ أيضًا


تفاعل الأعضاء

أفضل التعليقات

لا توجد أية تعليقات بعد



انضم إلى النقاش

يمكنك أن تنشر الآن وتسجل لاحقًا. إذا كان لديك حساب، فسجل الدخول الآن لتنشر باسم حسابك.

زائر
أضف تعليق

×   لقد أضفت محتوى بخط أو تنسيق مختلف.   Restore formatting

  Only 75 emoji are allowed.

×   Your link has been automatically embedded.   Display as a link instead

×   جرى استعادة المحتوى السابق..   امسح المحرر

×   You cannot paste images directly. Upload or insert images from URL.


×
×
  • أضف...