اذهب إلى المحتوى

يتضمن هذا الباب من هذه السلسلة تفاصيل تاريخية، ومعاصرة حول النظرية التحفيزية، ويُطبِّقُها على عالم الأعمال الذي يُعَدُّ التحفيزُ مفتاحَ النجاح فيه، سواءٌ أتى في صورة فرقة موسيقية، أو بأي تجلٍّ آخر.

وفي الوقت الذي قد يُمثِّلُ الأشخاصُ الموردَ الأهم للشركة، فيُحتَمَلُ أن يكونوا كذلك الموردَ الأصعب إدارةً على نحوٍ جيد. فالمتحفزون منهم، الذين يعملون بجدٍّ لتحقيق أهدافهم الشخصية، وأهداف مؤسستهم، قد يمثّلون ميزةً تنافسية حاسمةً بالنسبة لتلك المؤسسة، وبذلك يكون المفتاحُ لتحقيق ما سبق هو فهمُ عملية التحفيز، وما الذي يحفِّزُ الأشخاص، وكيف يمكن لمؤسسةٍ ما تهيئةُ مكانِ عملٍ يتيح لهم توظيفَ أفضل ما لديهم من إمكانات.

في هذا المقال تحديدًا؛ سنتحدث عن التحفيز، ومفهومه، ومبادئ إحدى نظرياته المتمثلة في نظرية تايلور، حول الإدارة العلمية للعمل، إلى جانب التعرف على بعض الأمثلة الواقعية لمفهوم التحفيز.

أمثلة على التحفيز

تشاك كابلان Chuck Kaplan وشركة سينا Ciena.

يحب تشاك كابلان الموسيقى، والعزف ضمن فرقة، ولكنه لا يعمل في مجال الموسيقى؛ فهو يعمل لدى شركة سينا Ciena؛ إحدى الشركات العالمية المورِّدة لتجهيزات الربط الشبكي، والبرمجيات، والخدمات، الخاصة بوسائل الاتصال، ويقضي تشاك وقته قائدًا لفريق من الموظفين؛ الذين يساعدون الزبائن في حل مشكلاتهم التجارية عبر التحديث، وتحقيق الإيراداتِ من خلال الشبكات التي لديهم، وهي عملية تحديث الشبكات، وتحقيق الدخل منها، كما أنه يعزف الموسيقى مع فرقة أو تي إن سبيد واغن الموسيقية OTN Speed Wagon، التي تضمّ كافة موظفي شركة سينا، وقد تأسست فرقة أو تي إن سبيد واغن الموسيقية بعدما رأى كابلان أنَّ استخدامَ وسائل تسلية ضمن وظيفة مؤسسية؛ يبدو فكرة غير جيدة، ثم اقترحَ، وثلاثة من رفاقه على رئيسهم في العمل؛ فكرةِ إنشاء فرقةٍ موسيقية قوامُها موظفون في الشركة، وقد كانت تلك بداية الفرقة، وقدِ اشتُقَّ اسمُها من تطبيقات تقنية الربط الشبكي لشركة سينا، وهي شبكة النقل البصري Optical Transport Network، ومن فرقة موسيقى الروك المعروفة بــ ريو سبيد واغن REO Speed wagon؛ ولدى فرقة أو تي إن سبيد واغن OTN Speed Wagon أعضاء من جميع أنحاء العالم، حيث تتكوَّن الفرقةُ من موظفين يتبعون لأقسام، ومناطق زمنية، ودول، متعددة، وتضمُّ في عضويتها مساعدَ مديرٍ تنفيذي في لندن بإنجلترا، وكبير الموظفين التقنيين في دالاس؛ بولاية تكساس الأمريكية، ومهندسي مبيعات، في دالاس، وكذلك سانت لويس؛ بولاية ميسوري الأمريكية، ومديرَ حساباتٍ، في دنفر؛ عاصمة ولاية كولورادو الأمريكية، ومديرين رفيعي المستوى في بالتيمور بولاية ميريلاند، وفي مدينة نيويورك بولاية نيويورك، ومستشار مبيعات في أتلانتا؛ بولاية جورجيا، كما تضمّ نوَّاب رئيسٍ في كل من أتلانتا؛ بولاية جورجيا، ودالاس؛ بولاية تكساس، ومديرَ إدارة الموارد في أوتاوا؛ عاصمة كندا، وعندما يعزف أعضاءُ تلك الفرقة، الموسيقى، يضعون مسمياتهم الوظيفية جانبًا، ويركّزون جهودهم على تقديم موسيقى تحصد الجوائز. وتؤدّي فرقةُ أو تي إن سبيد وان أغانيَ في مختلف الأنماط، ويستمتع أفرادُها بالعزف في أي مكان، وزمان، تسمح بهما الظروف، ومن المميَّز في هذا السياق، وجودُ فرصة للتنافًس في مسابقة فورتشن باتل أوف كوربوريت باند Fortune Battle of Corporate Band، وهي مسابقة للفرق الموسيقية المكوَّنة من موظفين، وقد فازت فرقة أو تي إن سبيد واغن بتلك المسابقة في إحدى المرات، عندما هزمت سبعَ فرقٍ موسيقية أخرى مكوّنة من موظفين، كما حصل عضوان فيها على جائزتين فرديتين هما: جائزة أفضل عازف جيتار، وأفضل عازف بوق، وليس سهلًا عزفُ موسيقى جميلة ضمن فرقة؛ إذ لا يخفى على أحد أنّ خروج أحد عازفيها عن الإيقاع، أو اللحن، كفيلٌ بإفساد الأغنية التي تعزفها الفرقة، ونادرًا ما يكون أعضاء الفرقة مجتمعين معًا، لأن لكلٍّ منهم مسؤولياتٌ وظيفية مختلفة، ويعيش في بلد منفصل، ويمثّل التخطيطُ لتدريبٍ حيٍّ، ومباشر تحدّيًا كبيرًا لأعضاء تلك الفرقة، ولا يُكتب لذلك النجاحُ -عادةً - إلا في اليوم ذاته؛ الذي يشهد حدثًا موسيقيًا تشارك فيه الفرقة، أو قبله بيوم، ولكنها على قدر التحدي، حيث تطوِّع التقنية لحل ما يعترضها من مشاكل، كما يناقش أعضاء الفرقة الأغانيَ التي سيؤدّون (بما يكفي لعرضٍ موسيقي من عدة ساعات) وينتقون المفتاح الموسيقي لكل أغنية؛ والذي يناسب المغنّيَ الأساس، ويتولّى أحدُ الأعضاء إعدادَ مسارٍ صوتي بصيغة إم بي ثري MP3 لكل أغنية، ويشاركه إلى جانب كلمات الأغنية، مع باقي أعضاء الفرقة عبر نظام نقل ملفات آمن، كما يقضي كل عضوٍ ساعاتٍ في التدرُّب وحيدًا على المسار الصوتي للأغنية، فهو جهدٌ يؤتي ثماره في النهاية، وعندما يكونُ أعضاء الفرقة مجتمعين، يكفي أن يعزفوا الأغنية كاملة مرة واحدة للخروج بأداءٍ مثاليّ. إن المزايا، والفرص -التي يوفّرها كَونُ موظفٍ ما جزءًا من تلك الفرقة- تعود بمكاسب لشركة سينا، المشهود لها بأنها "مكان عظيم للعمل"، ويقول أعضاء الفرقة: إنَّ ثقتهم ببعضهم فيما يخص أداءَ كلِّ واحدٍ منهم لعمله؛ هو ما يحقق لشركة سينا النجاح، وضمن الفرقة، يعرف كلُّ عضوٍ من أعضائها ما عليه عمله، فيعمله، حيث ينعكسُ هذا المستوى من الثقة على بيئة العمل؛ فقد بنى أعضاءُ الفرقة ثقةً مع زملاء العمل، وأزالوا الحواجز التي تفصلُ بينهم، وباتوا أكثر تعاونًا، فقد جمعت تلك التجربةُ بين الموظفين، والتقى بعضُهم بآخرين، خلال التدريب للمرة الأولى، كما جعلتِ الشركةَ تبدو أشبه بعائلة صغيرة، وهل أزيدكَ من الشِّعر بيتًا؟ لقد باتتِ المناسباتُ، والفعالياتُ في الشركة أكثرَ إمتاعًا.

باكورة نظريات التحفيز

ما هي المبادئ الرئيسة لمفهوم الإدارة العلمية الذي جاء به فريدريك تايلور؟

التحفيز هو مجموعة من القوى التي تحثُّ الموظف على تحرير طاقته في اتجاهٍ ما، إذ يمثّلُ ذلك عمليةَ إشباعِ حاجةٍ، ورغبة، إشباعًا حقيقيًّا، وأفضلُ تعريفٍ للحاجة هو أنها الفجوةُ بينَ ما هوَ موجود، وما هو مطلوب، أما الرغبة فهيَ الفجوة بين ما هو موجود، وما هو مرغوب، وتؤدي الرغباتُ، والاحتياجاتُ غير المُلبّاة، أو غير المُشبَعة إلى حالة من التوتر، تدفع الأشخاصَ (أي تحفزهم) إلى القيام بتصرُّفٍ يؤدي إلى إشباع تلك الرغبات، وتلبية تلك الاحتياجات، وبذلك يكون التحفيز هو ما يدفعنا إلى الانتقال من المكان الذي نقف فيه، نحو الذي نرغب بأن نصل إليه، لأن توسيع ذلك الجهد كفيلٌ بمنحنا نوعًا من المكافأة.

ويمكن تقسيم المكافآت إلى فئتين رئيستين، هما: مكافآت داخلية؛ أو ذاتية المنشأ، وأخرى خارجية؛ فالداخلية منها تأتي من داخل الشخص، مثل الشعور بالرضا، والقناعة، والإنجاز، والثقة، والفخر، وبالمقابل، تأتي المكافآت الخارجية من مصادر خارجية مثل: زيادة الأجر، والترقية، والعلاوة، والتكليف بمهام فخرية…إلخ. وتوضّح الصورة 9.3 عملية التحفيز.

ويمكن للمديرين الناجحين تجميعُ القوى؛ لتحفيز الموظفين نحو تحقيق الأهداف المؤسسية، ومثلما يوجد العديد من أشكال الفجوات بين الوضع الذي عليه المؤسسةُ، وبين الذي تريد أن تكون فيه، فثمّة العديد من النظريات التحفيزية التي يمكن للمديرين الاستنادُ إليها لإلهام الموظفين، كي يملؤوا تلك الفجوات، ويصلوا إلى حيث تقودهم أهداف المؤسسة.

سندرس في هذا الفصل بدايةً؛ النظرياتِ التحفيزيةَ التي تمخضت عن الثورة الصناعية، وباكورة أفكار علم النفس التنظيمي، ثم سندرس النظريات القائمة على الاحتياجات، والأفكار الأكثر حداثة حول تحفيز الموظفين، ومنها نظرية المساواة، والتوقُّع، والأهداف، والتعزيز، وأخيرًا سنُريك كيف يطبق المديرون تلك النظريات في المواقف العملية.

كيف يمكن للمديرين، والمؤسسات تطوير الأداء الحماسي في العمل، والإنتاجية العالية، والرضا الوظيفي؟ لقد ساهم العديدُ من الدراسات في مجال السلوك الإنساني في المنظمات، في بلورة فهمِنا الحالي لتلك المسائل، وبالاطلاع على مسيرة تطوُّر نظرية الإدارة، والأبحاث ذات الصلة بها، نكتشف كيف توصل المديرون إلى ممارساتٍ تُستخدَم اليوم لإدارة السلوك الإنساني في مكان العمل، وسنناقشُ في هذا القسم عيّنةً من أكثر أصحاب النظريات، والدراسات البحثية تأثيرًا في مجال تحفيز الموظفين.

صورة 9.3 فصل 9.png

الإدارة العلمية لفريدريك تايلور

فريدريك تايلور Frederick Taylor، هو مهندس ميكانيكي يُلقَّب بـ "أبو الإدارة العلمية"، وهو أحدُ أكثر الشخصيات تأثيرًا خلال الحقبة الكلاسيكية Classical Era للإدارة التي امتدت من عام 1900 حتى الثلاثينات من ذلك القرن، ويقوم نهج تايلور للأداء المطوَّر على الحوافز الاقتصادية، وعلى افتراضٍ مفاده: أنَّ هناكَ "طريقة واحدة هي الأفضل" لأداءِ أيّ عمل، وخلال عمله مديرًا في شركتي صناعة الصلب مدفال Midvale  وبيت لحم Bethlehem، أحبَطَهُ مستوى كفاءة عمال المصانع المنخفِض.

ومدفوعًا باقتناعه بقابلية الإنتاجية للتطوير؛ درس تايلور الوظائف الفردية ضمن المصنع، وأعادَ تصميم المعدّات، والوسائل التي كان يستخدمها العمال، ثم حدَّد وقتًا لكل عملٍ باستخدام مُؤقِّتِ ساعة، وقَسَّمَ كلَّ مهمةٍ إلى مساراتٍ منفصلة عن بعضها، وبعدها استخدمَ ورقةَ تعليماتٍ يشرح فيها كيف يجب أداءُ كلِّ عملٍ بدقة، وكم من الوقت يُفترَضُ أن يستغرق ذلك العمل، وما هي الحركاتُ، والأدوات؛ التي ينبغي استخدامُها، وفي النهاية أدّت أفكارُ تايلور تلك، إلى زيادات مثيرة ومذهلة (دراماتيكية) في الإنتاجية ضمن معامل الصُّلب، ونتجَ عنها تطوير المبادئ الأربعة للإدارة العلمية، وهي:

  1. تطويرُ نهجٍ علمي لكل عنصر من عناصر عمل الموظف.
  2. اختيارُ العمال، وتدريبهم، وتعليمهم، وتطويرهم على أساسٍ علميّ.
  3. تشجيع التعاون بين العمال، والمديرين، بما يُمَكِّنُ من أداءِ كلِّ عملٍ بطريقة نموجية، وعلمية.
  4. تقسيم العمل، والمسؤولية، بين الإدارة، والعمال، بحسب الأنسب لكل مهمة.

نشرَ تايلور أفكاره في كتابه مبادئ الإدارة العلمية Principles of Scientific Management، وأدّى عملُه الرائد إلى زيادة الكفاءة الإنتاجية على نحوٍ واسع، كما أسهمَ في تخصيص العمل، وتكريسِ أسلوبِ خطوط التجميع الإنتاجية، وما يزال نهجُ تايلور متَّبَعًا بعد مضيّ نحو قرنٍ من قبل شركاتٍ مثل: شركة خدمة الطرود يو بي إس UPS، إذ يحققُ مهندسوها أقصى مستوىً من الكفاءة عبر دراسةٍ متأنية لكل خطوة من عملية التوصيل؛ غايتُها العثور على أسرع الطرق لإيصال الطرود إلى الزبائن. ومع أنَّ ما قدَّمه تايلور من عملٍ، وأفكار، كان خطوةً كبيرة نحو الأمام في مسيرة تطوُّر الإدارة، إلا أنَّ عمله لم يخلُ من ثغرةٍ تمثَّلت في افتراضه المسبق؛ أنَّ جميع الأشخاص متحفزون بفعل الموارد الاقتصادية، فقد وجدَ من أتى بعده، أنَّ التحفيزَ أعقدُ بكثير مما كان يعقتد.

ترجمة -وبتصرف- للفصل Motivating Employees من كتاب introduction to business.

اقرأ أيضًا


تفاعل الأعضاء

أفضل التعليقات

لا توجد أية تعليقات بعد



انضم إلى النقاش

يمكنك أن تنشر الآن وتسجل لاحقًا. إذا كان لديك حساب، فسجل الدخول الآن لتنشر باسم حسابك.

زائر
أضف تعليق

×   لقد أضفت محتوى بخط أو تنسيق مختلف.   Restore formatting

  Only 75 emoji are allowed.

×   Your link has been automatically embedded.   Display as a link instead

×   جرى استعادة المحتوى السابق..   امسح المحرر

×   You cannot paste images directly. Upload or insert images from URL.


×
×
  • أضف...