كيف تنظِّم المؤسسة بيئتها الداخلية لكي تستطيع مواجهة تهديدات السوق الخارجية واقتناص الفرص؟ سنتعرَّف إلى نظرية الأنظمة المفتوحة التي وضعها دانيال كاتز وروبرت خان ولودفيج فون بيرتالانفي كمرحلة أولية لفهم كيف تتفاعل التنظيمات الداخلية للمؤسسات مع بيئات العمل الخارجية.
يوضِّح الشكل التالي كيف أنَّ هذه النظرية تنظر إلى المؤسسات باعتبارها أنظمة مفتوحة تستقبل خلال «مرحلة المدخلات» الموارد من البيئة بعدة أشكال بناءً على طبيعة المؤسسة ومجال عملها. من الأمثلة على هذه الموارد والمدخلات: المعلومات والمواد الخام وحتى الطلاب الملتحقين بالجامعة. تعالج الأنظمة الداخلية للمؤسسة المدخلات وتحوّلها إلى صورة أخرى خلال «مرحلة العمليات» ثمَّ تنقلها إلى البيئة الخارجية خلال «مرحلة المخرجات» على هيئة منتجات أو خدمات أو خريجِّين أو غيرها.
إنَّ نموذج الأنظمة المفتوحة بمثابة حلقة مفرغة، تستقبل الموارد من البيئة وتعالجها وتحوّلها إلى مخرجات تعود إلى البيئة، ويفسِّر هذا النموذج بقاء وازدهار المؤسسات التي تركِّز على الأهداف بعيدة المدى.
تصنِّف هذه النظرية المؤسسات إلى أنظمة مفتوحة وأنظمة مغلقة تبعًا إلى طبيعة استجابة المؤسسة للبيئة المحيطة بها. الأنظمة المغلقة أقل استجابة لإمكانيات وموارد البيئة، في حين أنَّ الأنظمة المفتوحة أكثر استجابةً وتكيُّفًا مع التغيُّرات البيئية. على سبيل المثال، كانت كبرى الشركات الأمريكية لتصنيع السيارات (فورد، وجنرال موتورز، وكرايسلر) أثناء الثمانينيات من القرن العشرين واقعة تحت ضغوط بسبب المبيعات التي حقَّقتها شركات تصنيع السيارات اليابانية الناجحة، إذ شهدت الشركات الأمريكية تراجعًا في المبيعات وإغلاقًا للمصانع وتسريحًا للموظفين نتيجة المنافسة اليابانية الشرسة. يبدو أنَّ شركات تصنيع السيارات الأمريكية في وقتها قد غدت مغلقة أو أقل استجابةً للتغيُّرات الرائجة في مجال صناعة السيارات أثناء تلك الفترة وغير مستعدة لتغيير عمليات التصنيع الخاصة بها. على نحو مماثل، كان نموذج عمل شركة أمازون وما زال يدفع تجَّار التجزئة إلى الابتكار وتغيير عملياتهم وممارساتهم لكي يتمكَّنوا من المنافسة في هذا العصر الرقمي.
لا تستجيب المؤسسات للبيئات الخارجية من خلال هياكلها التنظيمية فحسب، ولكن تستجيب أيضًا من خلال المجالات والأبعاد والإمكانات الداخلية التي تختارها. إنَّ المؤسسات تُعرِّف نفسها وتخصُّصها عن طريق تحديد مجالها في البيئة (أي تحديد القطاع أو الميدان الذي سوف تستخدم فيه التقنيات والمنتجات والخدمات لكي تنافس). من أهم هذه المجالات: التسويق والتكنولوجيا والإدارة الحكومية والموارد المالية والموارد البشرية.
أصبحت العديد من المجالات التي كانت تُعدُّ ثابتة فيما مضى أكثر تعقيدًا وتغيُّرًا مثل: مجالات الألعاب والمرافق العامة والتعليم العالي. على سبيل المثال، أصبح مجال التعليم العالي الذي كان ثابتًا إلى حدٍ ما في الماضي أكثر تعقيدًا نتيجة ظهور المؤسسات التعليمية الربحية والدورات والكورسات الهائلة المفتوحة عبر الإنترنت (MOOCs) وغيرها من برامج الحصول على شهادات أو درجات علمية خارج نطاق المؤسسات التقليدية الخاصة. بالإضافة إلى ذلك، أحدثت الشركات التي تتبنَّى النظام الاقتصاد التشاركي مثل شركة أوبر وشركة Airbnb تغييرات في مجالات المواصلات والفندقة. كما أدى ظهور نماذج العمل التي تستخدم الهواتف المحمولة وتكنولوجيا المعلومات والاتصالات وتطبيقاتها إلى إزالة طبقة الإدارة الوسطى من الهياكل التنظيمية التقليدية.
يجب على أصحاب العمل والقادة تنظيم الأبعاد الداخلية للمجال الذي يعملون فيه لكي يستطيعوا المنافسة في الأسواق التي يستهدفونها. على سبيل المثال، يستخدم أصحاب العمل والقيادة العليا التسلسل الهرمي للسلطة لوضع قرارات استراتيجية ومؤسسية، كما يتوجَّب على المديرين توفير ما يلزم من تقنيات وتدريب ومحاسبة وقانون ومصادر البنية التحتية الأخرى. بالإضافة إلى أنَّ ثقافات المؤسسات هي التي تحدِّد المبادئ والعلاقات والممارسات القانونية والأخلاقية وسمعتها.
يبيِّن الشكل السابق الأبعاد الداخلية للمؤسسة، وتتضمن هذه الأبعاد والأنظمة كلًّا من القيادة والاستراتيجية والثقافة والإدارة والأهداف والتسويق والعمليات والهيكل، كما أنَّ التنظيمات غير الرسمية تتضمن العلاقات والمبادئ والسياسات. هناك أبعاد داخلية أخرى غير مذكورة في الشكل مثل البحث والتطوير، والمحاسبة والتمويل، والإنتاج، والموارد البشرية. من التصوُّرات الشائعة أيضًا للأبعاد الداخلية للمؤسسة نموذج ماكينزي (McKinsey 7-S model) الموضَّح في الشكل التالي. ويمكننا أن نرى من الشكل أنَّ الاستراتيجية والهيكل والأنظمة والمهارات وفريق العمل ونمط الإدارة تدور حول القيم المشتركة (أو الثقافة) في المؤسسة وترتبط بها ارتباطًا وثيقًا.
هناك نموذج موحَّد وضعه آري لوين وكارول ستيفنز يبيِّن تكامل الأبعاد الداخلية للمؤسسة وكيف تعمل هذه الأبعاد لكي تتلاءم مع بيئة العمل الخارجية، وهذا النموذج موضَّح في الشكل التالي. تجدر الإشارة إلى أنَّ الرؤساء التنفيذيين وذوي المناصب العليا في المؤسسة هم الذين يقيّمون ويدرسون بيئة العمل الخارجية لتحديد الموارد والمُتغيّرات الحسّاسة قبل استخدام تحليل SWOT (تحديد نقاط القوة ونقاط الضعف والفرص والتهديدات) ليتحقَّقوا من مجال وتوجّه المؤسسة أو يعدِّلوا عليه ثمَّ يحدِّدوا الرؤية والرسالة والأهداف والاستراتيجيات لها. بعد وضع أهداف المؤسسة واستراتيجياتها يمكن تحديد ثقافتها وهيكلها وأنظمتها وسياساتها (الموارد البشرية، والتقنيات، والمحاسبة والتمويل، وغيرها).
بعد أن يحدِّد الرؤساء التنفيذيون وقادة المستوى الأعلى الفرص والتهديدات الموجودة في بيئة العمل الخارجية، فإنَّهم يحدِّدون مجال المؤسسة وغايتها، إلى جانب الاستراتيجيات والإمكانيات التنظيمية والموارد وأنظمة الإدارة التي ستدعم وتُهيّئ وصول المؤسسة إلى تلك الغاية. على سبيل المثال، نجحت شركة ماكدونالدز في تكييف ومطاوعة الشركة وأهدافها مع بيئات لعمل العالمية التي تقدم الشركة خدماتها فيها، ويبلغ حجم زبائنها 1% من تعداد سكان العالم –أكثر من 70 مليون زبون- وتقدِّم خدماتها لهم يوميًا في جميع بلدان العالم تقريبًا. إنَّ الهدف الجوهري والرئيسي الذي ساهم في هذا الاتساق والتوازن الداخلي المميّز في بنية وهيلكية شركة ماكدونالدز هو «الاهتمام الشديد بتصميم وإدارة العمليات القابلة للتطوير والإجراءات وثقافة العمل التي تؤدِّي إلى بيع منتجات بسيطة ومتميِّزة وقياسية على مستوى العالم بأحجام وكميات وأسعار معقولة ومدروسة ومُتوقّعة.» سوف نتحدث عن المزيد من التفاصيل المتعلِّقة بتحليل SWOT في مقالات لاحقة في سلسلتنا.
في الواقع، لا يكون الحفاظ على الانسجام الكامل بين التنظيم الداخلي للمؤسسة وبيئة العمل الخارجية بصورةٍ دائمة؛ بل إنَّ الشركات والمؤسسات تغيِّر قيادتها واستراتيجياتها وهيكليتها وأنظمتها باستمرار لكي تستطيع مواكبة المنافسة وتقلّبات السوق وتلبية احتياجات ومتطلَّبات الزبائن والمستهلكين. شركة أمازون خير مثال على ذلك فهي أيضًا تستمر في التغيُّر والتطوُّر والتوسُّع، إذ تدلُّ رسالتها الواضحة المنشورة على موقعها الإلكتروني على أنَّ التغيير مطلبٌ مستمر: «رؤيتنا هي أن نكون أكثر شركة على سطح الأرض تهتم بالزبائن وأن نبني مكانًا يستطيع الناس المجيء إليه ليروا ويكتشفوا أي شيء قد يرغبون في شرائه عبر الإنترنت.»
لشركة أمازون هيكل تنظيمي وظيفي يركِّز على الوظائف والمهام في العمل لكي يحدِّد التفاعلات بين أجزاء الشركة المختلفة. إنَّ أفضل وصف لهيكل شركة أمازون هو أنَّه عبارة عن مجموعات عالميّة وظيفية (وهي الصفة الأبرز في الشركة)، ذو تسلسل هرمي عالمي وقطاعات جغرافية، كما هو موضَّح في الشكل التالي. يبدو أنَّ هذا الهيكل يلائم حجم شركة أمازون، ويتكوَّن من سبع أقسام من ضمنها تكنولوجيا المعلومات والموارد البشرية والعمليات القانونية، بالإضافة إلى رؤساء الأقسام، جميعها تحت إدارة الرئيس التنفيذي لشركة أمازون مباشرة. يتكوَّن فريق الإدارة العليا من رئيسين تنفيذيين وثلاث نواب للرئيس ومراقب عالمي مسؤول عن العديد من الجوانب الحسّاسة والتقارير العالمية التي تصل إلى المدير التنفيذي لأمازون، جيف بيزوس. الهدف الاستراتيجي الكامن وراء هذا الهيكل التنظيمي هو تسهيل عمل الموقع الإلكتروني لشركة أمازون وتسهيل إدارة عمليات التجارة الإلكترونية في الشركة بأكملها>
هناك جانب سلبي لمثل هذا النوع من الهياكل التنظيمية التي تستخدمها شركة أمازون وغيرها من الشركات وهي أنَّ مرونتها واستجابتها محدودة على الرغم من النمو المطَّرد لها، إذ أنَّ سيادة التنظيم المتمثّل بالمجموعات العالميّة الوظيفية وبالتسلسل الإداري الهرمي العالمي يقلِّل من قدرة شركة أمازون على الاستجابة السريعة للقضايا والمشكلات الجديدة التي تواجهها التجارة الإلكترونية. لكن يبقى عامل النجاح الأبرز لشركة أمازون هو رئيسها التنفيذي جيف بيزوس، ببراعته ورؤيته وبصيرته وقدرته على الحفاظ على المزايا التنافسية للشركة وتوسيع نطاقها. يثمِّن زبائن شركة أمازون العوامل والمعايير التي تدفعهم إلى الشراء، والتي تتضمن السعر المناسب والتوصيل السريع والخدمة الموثوقة. يختار المستهلكون شركة أمازون لأنَّها أفضل من منافسيها في تحقيقها لتلك المعايير.
ترجمة -وبتصرف- للفصل The Internal Organization and External Environments من كتاب Principles of Management
اقرأ أيضًا
- المقال التالي: ثقافة المؤسسة
- المقال السابق: أنواع الهياكل التنظيمية
أفضل التعليقات
انضم إلى النقاش
يمكنك أن تنشر الآن وتسجل لاحقًا. إذا كان لديك حساب، فسجل الدخول الآن لتنشر باسم حسابك.