اذهب إلى المحتوى

إنّ من أكثر ما يجعل العمل مُمتعا هو أن تكون مُتحمسا له، ولكنه قد يصبح أكثر ما يضرنا إذا أصبح هذا الحماس بديلا عن المعرفة وأصبح طريقنا مليئًا بالفرضيات غير المختبرة والرؤية غير الواضحة، ماذا لو كانت أيضا بيئة العمل تؤمن بنظرية العبقري المبدع الذي يعلم كل شيء وتطلب من مصمميها ومطوريها بأن يكونوا هذا العبقري المثالي الذي يستطيع لوحده أن يؤدي وظائفهُ ويتقنها بأكمل وجه، مما يجعلها بيئة عمل غير واقعية تجعل من قول كلمة "لا أعرف" شيئا مستحيلًا.

إن النتيجة النهائية لمثل هذه البيئات هو منتجات منفصلة عن الواقع ولا تُلبّي احتياجات ورغبات المستخدمين الحقيقية وبالتالي تصبح منتجات فاشلة لا يُوجد لها أيّ حصة من السوق.

إداراك الحاجات والرغبات الحقيقية للناس هو الشّرط الأساسي للتصميم وكما يقول خبراء هذا المجال أن التصميم المتمحور على المستخدم ­User-Centered Design هو جوهر هذا العلم وأساسه. لذلك يجب ألا ننحاز لأنفسنا أو لعملنا أو مهما كانت انحيازاتنا في بناء منتجاتنا ونجعل تركيزنا هو المستخدم النّهائي. هذا وكيف إن كانت المشكلة الرئيسية عند المصممين والمطورين أثناء عملهم هو أنهم يبنون الأشياء لأنفسهم، حيث أنهم متعلقون في الأمور التقنية أكثر من غيرهم من الناس كما قال ذلك الكاتب الأمريكي Michael E. Gerber في كتابه أسطورة الريادي  The E-Myth.

هنا تظهر الحاجة الأساسية في فهم حاجات المستخدمين ورغباتهم، وحتى نحقّق ذلك لا بد لنا من عملية بحث مُمَنهجة لنتوصّل إلى نتائج يتم معالجتها، ونبني في ما بعد على أساسها منتجاتنا وبرامجنا.

ما هو البحث

في البداية أرجو ألا تفزع من كلمة "بحث" وتنظر إليها على أنها تحتاج إلى وقت ودراسة وأموال حتى يكتمل البحث، فالبحث ببساطة هو تحقيق منظم للوصول إلى المعلومة. أنت تريد أن تعرف أكثر في موضوع معين لذلك أنت تتبع منهجاً معين لزيادة معرفتك في هذا الموضوع، هذا المنهج الذي ستتبعه لزيادة معرفتك يعتمد على من أنت وظيفيًا ومالذي تريد أن تعرفه. واطمئّن، فنوعية البحث المستخدمة هنا ليست بحث أساسي Pure Research معقّدة بمعنى أنه لن تكون مهمتك أن تعرف كيف تتم عملية التذكر في أعصاب الدماغ.

في مجالنا هذا يتم الاستعانة بنوعين من الأبحاث للحصول إلى المعلومات هما: البحث الكمّي والبحث النّوعي، كما أن هذان البحثان أيضا هما البحثان اللذان يتم استعمالهما في إنشاء الشركات الناشئة، وهذا لاشتراك هذين المجالين في أنّهما يريدان بناء منتج يريده الناس ويحتاجونه.

البحث الكمّي والنّوعي

البحث الكمّي Quantitative Research بحث منهجي للظواهر الاجتماعية من خلال الأساليب الإحصائية، الرياضية أو الحسابية، ويتم الاعتماد على البيانات بشكل رئيسي حتى يتم قياسها رقميا وبالتالي عند بداية فكرة جديدة لا نلجأ إليه لعدم وجود بيانات متعلقة بالمستخدمين وإنما يتم الاستعانة به بعد إصدار النسخة الأولية أو الحد الأدنى من المنتج القاعدي (Minimum Viable Product).

البحث النّوعي Qualitative Research بحث يهدف إلى التعمق في فهم سلو الإنسان والأسباب التي دفعته للقيام بهذا السلوك وتكون عينته قليلة وطبيعة أسئلته بكيف، لماذا، وبأي طريقة. توجد طرق كثيرة لجمع البيانات منها المقابلات الفردية والجماعية، الملاحظة ومجموعات التركيز. يعتمد على فهم الناس بتعمق ولعدم وجود أي بيانات تتعلق بالمستخدمين عند بداية المشروع فعادة ما يتم البدء به. تكون نتائجه عبارة عن فرضيات يتم التحقق منها فيما بعد عن طريق البحث الكمي،  كما يتم استخدامه أيضا عند بناء خصائص جديدة للمنتج أو عند وجود غموض في نتائج البحث الكمي.

ماذا أريد من البحث

البحث هو أداة بمثابة ميكروسكوب تستطيع من خلالها النظر إلى الصورة كاملة مما تسهل عملية تخطيطنا وإدارتنا. وعند بناء المنتجات يتعين علينا القيام بأربعة بحوث.

بحث المنظمة وأصحاب المَصلحة

في هذا البحث تكون الفئة المستهدفة في البحث هم أصحاب المصلحة وفريق العمل المُشترِك معك في بناء المنتج، ويكون هدفه الإجابة عن الأسئلة التالية:

  • مالذي يريد تحقيقه صاحب المنتج وأصحاب العمل، من هم، وما هي أهدافهم؟
  • ماهي التنكولوجيا المستخدمة في بناء المنتج، وما إمكانياتنا وقدراتنا؟

بحث المستخدم

هو البحث المتعلق بفهم المستخدمين وسلوكهم، ويكون هدفه الإجابه عن هذه الأسئلة:

  • من سيستخدم المنتج، ما مميزاتهم، أعمارهم، جنسهم، هواياتهم، وما سلوكهم الحالي في استخدامهم للمنتج أو لحلول مشابهة؟
  • مالذي يريد تحقيقه المستخدم من استخدامه للمنتج؟

وفي حال كان المنتج تطويرًا لنسخة سابقة:

  • ما هي الخصائص والوظائف الحالية أو التعقيدات التي تواجه المستخدم؟
  • ما هي الخصائص والوظائف التي سوف يجدها المستخدم جيدة لو تم إضافتها؟

البحث التقييّمي

إذا قمت ببناء منتجك أو برنامجك بناء على حاجات المستخدم فلا بد لك من التأكد من ذلك والتأكد ما إذا كان منتجك جاهزاً لإصداره للسوق أم لا، هل هو سهل الاستخدام وما هي عيوبه؟ هنا الهدف الرئيسي من البحث التقييمي.

بحث المنافسين

من هم منافسيك؟ يجب عليك أن تعرفهم وتقيمهم وتعرف ما هي مُميزّاتهم، خصائصهم وما هو الجديد الذي ستضيفه في منتجك بعد معرفتك لمنافسينك. مع العلم  بأن أصعب منتج منافس لك هو الذي يستخدمه الآن زبائنك المحتملين في المستقبل كما أن الناس كسولون بطبعهم ويكرهون تغيير عاداتهم فلذلك يجب عليك إضافة شيء مميز ورائع في منتجك يحبونه أكثر من كرهم لتغيير هذه العادة.

التكلم بتفصيل عن كل هذه البحوث هو خارج نطاقنا هنا لكن سنكتفي بأهمهم وهو بحث المستخدم.

بحث المستخدم

إذا استطعنا أن نحدد إجابة للسؤال العملي المتعلق بالمنظمة أو الشركة وهو "ما الذي نريده من بناء هذا المنتج" نبدأ بعدها بالطرف الآخر من المعادلة وهو المستخدم وهدفنا كما قلنا أن نعرف ما الذي يريده المستخدمون من هذا المنتج. قد يبدو هذا السؤال بسيطاً وبديهيا لكن أكثر الأسئلة عمقا هي الأسئلة البديهيه.

الإثنُوجرَافِي Ethnography

البعض يسمي البحث النّوعي بالإثنوجرافي وهدفه فهم وتوثيق نشاطات، عقليات وسلوكيات مجموعة من الناس بعد أن يراها الملاحظ أو المراقب ويتم بطرق كثيرة أهمها المقابلة والاستفسار السياقي.

المقابلة Interview

لقد ابتدأ العمل، استعد لمقابلة الناس المستهدفة ورتب لذلك وتذكر بأننا نريد أن نفهم السلوك فمثلا إذا كان كان منتجك هو بناء موقع إلكتروني لبيع تذاكر السينما فسنقوم باستهداف رواد السينما وليس محبي الأفلام.

الدليل

حضر دليل المقابلات بحيث يكون هو المرجع لجميع المقابلات، ومن أهم ما يجب أن يحتويه هذا المرجع هو:

  1. مختصر يوضح هدف الدراسة.
  2. الديموغرافيا (Demographics) وهي تختلف على اختلاف الدراسة وأهم ما تحتويه الاسم، العمر، الجنس، البلد، الوظيفة والتعليم.
  3. مجموعة من الأسئلة لتكسير الحواجز الجليدية في المقابلة، أنت لا تريد فقط أن تنتهي من مقابلتك أنت تريد أن تحصل على أصدق المعلومات لذلك لا بد من أن يخلو الجو من التوتر وتسود الراحة في المكان.
  4. الأسئلة الرئيسية في المقابلة وهي الأسئلة المتعلقة بموضوع الدراسة. تجنب أن تسأل أسئلة مثل "ما هو الحل برأيك" وذلك لأن المستخدم ليس مُصمما وغايته ببساطة أن يستخدم المنتج النهائي بسهولة ومتعة.

بنية المقابلة (مع مثال توضيحي)

المقدمة

ابدأ بتعريف نفسك مع ابتسامة وعبر عن امتنانك وشكرك له وقدر أنه يعطيك من وقته من أجل هذه المقابلة، خذ معلوماته الشخصية بطريقة مرنة وابدأ بتلطيف الجو في المقابلة واسأله أسئلة في خارج إطار الموضوع، عن تجربته وماذا يحب وما رأيه في موضوع معين بناء على سياق المقابلة وذلك لتكسير الحواجز قبل أن تبدأ في الأسئلة الأساسية في المرحلة التي بعدها.

الرئيسية

هنا جوهر المقابلة، ستبدأ بالأسئلة الرئيسية، مثل:

  • أخبرني عن أسبوعك بشكل عام؟
  • ما مدى اهتمامك بالسينما؟
  • هل تذهب للسينما في العطل الأسبوعية، أم لا يوجد وقت محدد؟
  • كيف تتابع آخر الأفلام، وما نوعية الأفلام التي تحبها؟
  • كيف تشتري تذاكرك، هل لديك مشكلة في الدفع عبر الإنترنت؟
  • كم تقضي من الوقت متصلا بالإنترنت، وما هي وسيلة اتصالك به؟
  • كيف تذهب للسينما، مع زوجتك وأولادك أو لوحدك؟
  • ما هي المواقع التي تزورها في العادة؟

وكما قلنا ركز على أن تكون الإجابات واقعية وأعر انتباهك لأي إجابة غريبة واستفهم عنها، حاول أن تكون مستمعا جيداً وتجنب التحدث عن نفسك كثيراً. كما أفضل أن تقوم بتدوين الإجابات بعد المقابلة مباشرة وذلك لتجنب تأثير هورثون (وهو أن سلوك الشخص قد يتغير إذا علم أنه مراقب وسُيقدم  السلوك المتوقع تقديمه).

الخاتمة

اعمل نقلة لطيفة لإنهاء المقابلة واختم مثلا بقولك "انتهيت من الأسئلة، ألديك أي شيء لتضيفه أو أي تعليق بخصوص ما ناقشناه؟".

الاستفسار السياقي Contextual Inquiry

هي طريقة أخرى من طرق بحث الإثنوجرافي وهو شبيه بالمقابلة إلا أنه يأخذ شكلا أعمق ويختلف عنها بأنه يتطلب الذهاب إلى مكان الحدث مباشرة وأن تراقب المستخدم أثناء قيامه بعمله وتقوم بملاحظته لفهم الموضوع بدقة أكثر ولمعرفة حقيقة الموضوع. ذلك، لأنه في أحسن الظروف في المقابلة النظرية لن تستطيع أن تتذكر كل شيء كمُقابل ولن تدرك حقيقة الشيء إلا إذا قمت بمعاينته وتجربته. لعل أقرب مثال لهذا النوع من البحوث هي قصة إنتاج سيارة Toyota sienna minivan سنة 2004، تم توكيل إنتاج هذه السيارة وتصميمها لـ "يوجي يوكوفا" وكان السوق المستهدف لها هو أمريكا الشمالية التي لم يكون "يوجي" يسكنها أو عنده أي خبرة حقيقة فيها. هنا قام "يوجي" بالذهاب بنفسه إلى أمريكا الشمالية قاطعا بنفس السيارة ولكن بموديل السنة السابقة 2003 ولايات أمريكا الخمسون، أراضي كندا والمكسيك. كان  هدف "يوجي" هو التحدث مع الناس مباشرة  ومراقبتهم أثناء سياقتهم للسيارة ليقوم ببحثه في أرض الحدث مباشرة. بعد أن انتهى من جولته البحثية أنتج الموديل الجديد للسيارة وكانت النتيجة أن مبيعات السيارة لموديل 2004 زادت بنسبة أكثر60% عن السنة السابقة.

الجانب العاطفي أثناء البحث

العواطف موضوع خصوصي جداً، كما يبدو أنه من وجهة النظر البسيطة أن هناك فجوة بينه وبين التكنولوجيا. لذا فمن الخطأ أن يتم طرحه بصورة مباشرة في المقابلة، هذا قد يسبب الإحراج للجميع والخطأ في النتائج. هنا يكمن دورك في أن تكون يقظا في أن تفهم الخبايا وأن تقرأ ما بين السطور. راقب أثناء قيامك بالاستفسار السياقي بتأثير الجمال والمتعة على المستخدمين وابحث أيضا في فرص زيادة تأثيرهما. اهتم بالهدف العاطفي من وراء استخدام المنتج، مثلا أنا سأقوم بشراء تذكرتين إلكترونيتين لي ولزوجتي في السينما لقضاء وقت رائع معها، هنا يكون الهدف هو السرور مع الزوجة أكثر من الاستمتاع بالفيلم، ماذا لو كان الهدف هو قضاء وقت الفراغ ليس إلا؟ هنا يكون الدافع هو الملل وليس الشغف في السينما.

فهمك لهذه العواطف سيساعدك على تصنيف المستخدمين كما سيجعل من منتجك أكثر عمقاً وبساطة.

لمزيد من القراءة


تفاعل الأعضاء

أفضل التعليقات



انضم إلى النقاش

يمكنك أن تنشر الآن وتسجل لاحقًا. إذا كان لديك حساب، فسجل الدخول الآن لتنشر باسم حسابك.

زائر
أضف تعليق

×   لقد أضفت محتوى بخط أو تنسيق مختلف.   Restore formatting

  Only 75 emoji are allowed.

×   Your link has been automatically embedded.   Display as a link instead

×   جرى استعادة المحتوى السابق..   امسح المحرر

×   You cannot paste images directly. Upload or insert images from URL.


×
×
  • أضف...