بعد استعراضنا لمفهوم السوق وكيفية التعامل معه وطريقة إجراء البحوث التسويقية في مقالاتنا السابقة سنكمل سلسلة مقالاتنا الفريدة عن أسس ومبادئ التسويق في بابها الرابع، والذي سنسلّط الضوء فيه على مبادئ فهم سلوك المستهلكين ونمط سلوكياتهم الشرائية. سنخوض جولتنا في مقالاتنا القادمة في آليات وطُرق فهم سلوك الأفراد والمستهلكين في السوق، وسنستعرض العوامل التي تؤثر في سلوك المستهلكين، كما سنتطرّق إلى مبادئ علم النفس والاجتماع وعلم النفس الاجتماعي التي تفسّر سلوك العميل، وسنوضّح أيضًا أوجه الاختلاف بين سلوك الزبائن في كلٍّ من الأسواق الصناعية وأسواق المستهلكين، وسنتعرّف في النهاية على كيفية اتخاذ الشركات للقرارات الشرائية.
الاستثمار المبكر للتسويق
من المهد إلى اللحد
في تمام الساعة 13:58 من يوم الأربعاء الخامس من مايو شهد مستشفى سانت لوك بمدينة هيوستن الأمريكية ولادة مستهلك جديد، أو بالأحرى مستهلكة اسمها أليسا نيديل. وما إن توجهت أليسا الصغيرة إلى منزلها بعد ثلاثة أيام من ولادتها، حتى بدأت كبرى الشركات الأمريكية بملاحقتها بقسائم الخصومات، وعينات المنتجات المجانية.
فقد سعت شركة بروكتر وغامبل ومن خلال حفائض بامبرز الشهيرة إلى الفوز بالمعركة على الصغيرة أليسا، أما شركة جونسون آند جونسون فقد عرضت عينة صغيرة من صابونها المخصص للأطفال، فيما بادرت شركة بريستول-مايرز سكويب إلى إرسال القليل من حليب الأطفال إنفاميل.
تعيش أليسا وأقرانها تحت وطأة ثقافةٍ استهلاكيةٍ قويّة أكثر من أي جيل مضى، فهم محاطون بالعلامات والملصقات التجارية من لحظة ولادتهم تقريبًا. قد ترتدي أليسا في فترة رضاعتها حفاضات بامبرز، لكن بمجرد أن تبلغ 20 شهرًا فسوف تبدأ بالتعرّف على آلاف العلامات التجارية التي تلوح أمامها في كل يوم.
وبعمر السابعة، سوف تشاهد أليسا حوالي 20,000 إعلان تلفزيوني سنويًا. وبحلول سن الثانية عشر سوف تدخل أليسا إلى قواعد البيانات لدى العديد من المسوقين. إن أليسا ليست سوى مثال لأكثر من 30 مليون مولود في الولايات المتحدة منذ عام 1990، وهو أكبر عدد من المواليد منذ طفرة المواليد في الولايات المتحدة بين عاميّ 1946 و1964.
أضف إلى هذا العدد الهائل القوة الشرائية المتزايدة لدى هؤلاء الأطفال، فقد باتوا يتخذون قرارات شرائية كانت في الماضي من تخصص الأمهات. وبفضل المصروف، والهدايا، من المتوقع أن ينفق الأطفال بسن الرابعة عشر أو أقل حوالي 20 مليار دولار هذا العام، كما أنهم سوف يمتلكون تأثيرًا مباشرًا على مُستهلكات أخرى بقيمة 200 مليار دولار إضافية. ولذلك لا عجب أنهم أصبحوا هدفًا تسويقيًا للعديد من الشركات.
لطالما تجاهل المسوقون الأطفال، ولكنهم باتوا الآن يسعون وراءهم بصورة ممنهجة حتى لو كانوا بحاجة إلى سنوات عديدة قبل أن يتمكنوا من شراء المنتجات بأنفسهم. وتقول جولي هالبين المدير العام لقسم الأطفال في شركة ( Saatchi & Saatchi Advertising) المتخصصة في الإعلانات "قبل عشر سنوات كان الأمر يتعلق بالحبوب، والحلويات، والألعاب فقط، أما اليوم فالاستهلاك يشمل أيضًا الحواسيب، وخطوط الطيران، والفنادق، والبنوك. لقد باتت العديد من الشركات تستهدف هذه الشريحة التسويقية المهمة، في حين أنهم لم يكونوا يعيرونها اهتمامًا يُذكر في الماضي."
أما الشركات التي كانت تستهدف الأطفال بالفعل، مثل مطاعم الوجبات السريعة وشركات الألعاب، فقد ضاعفت جهودها للوصول إلى الأطفال في سن أقل، وذلك لتعزيز ارتباطهم بالعلامة التجارية. وتمثل الأفلام، والقمصان، والدمى جزءًا من حملة ترويجية مكثفة تهدف إلى إقناع الأطفال بإنفاق أموالهم، ولكن الآثار المتراكمة لتعرّض الأطفال للثقافة الاستهلاكية في سن مبكرة قد تكون عميقة للغاية.
لقد أصبحت العديد من مصادر الثقافة لدى الأطفال، مثل الكتب والأفلام والتلفاز، مجرد قنوات للترويج للمبيعات، وحتى الفصول الدراسية أصبحت تعجّ بالعلامات التجارية. وتعليقًا على ذلك، تقول الأخصائية النفسيّة ماري بايفر "بدلًا من تعليم الأطفال أن احترام الذات ينبع من هويتنا وما نؤمن به، تغرِس الثقافة التسويقية السائدة اليوم في نفوسهم شعورًا بأن احترام الذات هو شيء يمكن شراؤه من المتجر."
ويتساءل البعض إن كان استهداف المسوقين لفئة الأطفال في حملاتهم مبكرًا للغاية، وإن كانت مبررات المسوقين أخلاقية أم لا.
المستهلك…معيار النجاح الأهم
كما أشرنا سابقًا، العديد من الآباء اليوم هم في الحقيقة من جيل طفرة المواليد الذي عمل المسوقون على تتبعه لأكثر من 40 عامًا. إن أهمية هذه الفئة لا تقتصر على حجمها الكبير، ولكنها ترجع إلى وجود العديد من القواسم المشتركة فيما بينها، مثل الفئة العمرية، والدخل، والصحة، وكذلك بعض المخاوف المشتركة، مثل إدخال الأبناء إلى الجامعة، والتقاعد، والمشاكل الصحية، أضف إلى كل ذلك السلوكيات المتشابهة، مثل التصويت للجمهوريين، وتناول الطعام في الخارج، وشراء أحذية المشي باهظة الثمن. مع ذلك، ما زال الأفراد في هذه الفئة يتمتعون بالاستقلالية في التفكير والسلوك. لذلك فإن التحدي الأكبر أمام المسوقين هو فهم الزبون بصفته شخصًا مستقلًا، وكذلك بصفته جزءًا من المجتمع. لذلك سنناقش في مقالاتنا القادمة العديد من سلوكيات الزبائن التي تهم المسوقين.
التبادل وسلوك الزبائن
لقد أشرنا في مقالات سابقة إلى أن العلاقة بين الزبون والبائع هي في الحقيقة علاقة تبادل تسمح للطرفين بتقدير الفوائد التي يرغبون بالحصول عليها لإشباع حاجاتهم ورغباتهم. ويستند تحليل هذه الفوائد بالنسبة للمسوّق إلى سياسات الشركة وأهدافها.
على سبيل المثال، قد تمتنع الشركة عن إجراء أي تبادل يقل فيه هامش الربح عن 10%. في المقابل، يمتلك الزبائن سياسات وأهداف توجه سلوكهم، ولكنهم لا يكتبونها على الورق، بل إنهم حتى لا يفهمون في كثير من الأحيان الأسباب التي تدفعهم للتصرف بهذه الطريقة أو تلك. وهذا اللغز هو ما يجعل المسوقين عاجزين عن توقع عمليات التبادل أو فهم حاجات الزبائن بشكل دقيق.
يُعد الزبائن جزءًا أساسيًا من عملية التبادل، وبدونهم لا وجود لها، فحاجاتهم ورغباتهم هي محور نجاح التسويق. وبدون فهم سلوك الزبائن لا يمكن أبدًا تخصيص العروض التسويقية لتلبي رغباتهم. وعندما لا يشعر الزبائن بالرضا، فسوف تنهار عملية التبادل برمّتها، ويعجز المسوّق عن تحقيق أهدافه. في الحقيقة، طالما أن الزبائن يمتلكون حرية الاختيار بين العروض التنافسية، فهم من يسيطر على السوق فعليًا.
يُعرّف السوق بأنه مجموعة من المستهلكين المحتملين الذين يحملون حاجات ورغبات معيّنة، ويمتلكون القوة الشرائية لإشباعها. إن الزبائن المحتملين "يصوتون" (بأموالهم) للعرض التسويقي الذي يشعرون أنه يلبي حاجاتهم، وبالتالي يجب على المسوّق أن يفهم كيف يتخذ الزبائن قراراتهم حتى يكون قادرًا على بناء عرض تسويقي ناجح. وفي سبيل ذلك، يجب على المسوّق أن يجيب عن سؤالين مرتبطين بسلوك الزبائن وهما:
- كيف يتخذ الزبائن المحتملون قرارات الشراء؟
- ما هي العوامل التي تؤثر على آلية اتخاذ القرار وكيف؟
إن الإجابة على هذين السؤالين تمثل حجر الأساس في اختيار الشريحة التسويقية المستهدفة، وكذلك تصميم العرض التسويقي المُناسب لها.
عندما نستعمل مصطلح "زبون" فإننا نشير إلى فرد أو مجموعة أو شركة تُجري عمليات تبادل في السوق، ولكن هؤلاء الثلاثة يحملون سمات متباينة، ويجرون عمليات التبادل بطرق مختلفة. وبالتالي، يُصنف الأفراد والمجموعات عادةً تحت فئة المستهلكين، بينما تُوضع الشركات في تصنيف آخر، لذلك دعنا نبدأ بمناقشة اتخاذ القرار لدى فئة المستهلكين.
سلوك الزبائن وحل المشكلات
عندما نتحدث عن سلوك المستهلكين، فإننا نشير إلى الزبائن الذين يشترون المنتجات لاستخدامها بصفة شخصية، أو عائلية، أو جماعية. ويرتبط سلوك المستهلكين عادةً بحل مشكلة ناتجة عن وجود حاجة غير مشبعة، مثل نفاد الحليب من البيت، أو تآكل إطارات السيارة، أو التخطيط لنزهة.
كل هذه الأمور تضع المستهلك أمام مشكلة يجب عليه حلها. وتنقسم الحاجات المسببة للمشكلات إلى: حاجات مادية (مثل الحاجة إلى الطعام) وحاجات نفسية (مثل الحاجة إلى التقدير والاحترام).
ورغم أن الفارق قد يكون دقيقًا، لكن يجب علينا في بعض الأحيان التمييز بين الحاجات والرغبات، فالحاجة تتعلق عادةً بأمر أساسي، مثل الطعام، والماء، والهواء، والأمن، ونحو ذلك، أما الرغبة فهي تتعلق بالمعايير الشخصية حول كيفية إشباع الحاجة.
على سبيل المثال، عندما نجوع تصبح لدينا رغبة لتناول نوع معيّن من الطعام، وبالتالي قد يقف فتىً مراهق أمام ثلاجة مليئة بأنواع الطعام، ولكنه يتذمر أمام والديه من عدم وجود شيء يتناوله! إن معظم التسويق يرتبط بإشباع الرغبات، وليس الحاجات، فشركة (Timex) لا تريدك أن تشتري أي ساعة، وإنما ساعة من نوع (Timex) حصرًا.
وبالمثل، فإن شركة رالف لورين لا تريدك أن تشتري أي قميص، بل قميصًا من ماركة بولو. في المقابل، رابطة الحماية من مرض السرطان تريد منك إجراء فحص دوري، ولكنها لا تهتم بالطبيب الذي سوف تذهب إليه. باختصار، يتركز معظم التسويق على توليد وإشباع الرغبات.
آلية اتخاذ القرار
يوضح الشكل 10 آلية اتخاذ القرار لدى المستهلك، وستتناول سلسلة مقالاتنا في مقالات لاحقة كل خطوة من هذه الخطوات بشيء من التفصيل، علمًا أن الزبون المحتمل يستطيع أن ينسحب في أي مرحلة من هذه المراحل دون إكمال عملية الشراء. إن مرور المستهلك بالمراحل الستة الموضحة في الشكل أدناه يقتصر فقط على بعض الحالات، مثل شراء منتج لأول مرة، أو شراء منتجات مرتفعة الثمن وطويلة الأمد على فترات متباعدة، وهو ما يُعرف باتخاذ القرار المعقّد.
ولكن بالنسبة إلى العديد من المنتجات، تُعد عملية الشراء أمرًا روتينيًا، إذ يشبع المستهلك حاجاته من خلال شراء ذات العلامة التجارية مرارًا وتكرارًا، أي أن التجارب السابقة تدفع المستهلك إلى الشراء مباشرةً، وتجاوز المرحلتين الثانية الثالثة، وهو ما يُعرف باتخاذ القرار البسيط. مع ذلك، إذا طرأ تغيّر جوهري على السعر أو المنتج أو توّفر المنتجات أو جودة الخدمات، فقد يُعيد الزبون عملية اتخاذ القرار من جديد ويدرس البدائل الأخرى. وسواءً كان القرار بسيطًا أم معقدًا، فالخطوة الأولى دومًا هي التعرّف على الحاجة.
الشكل 10: عملية اتخاذ القرار.
التعرف على الحاجة
يعتمد توجهنا لحل مشكلة معيّنة على عاملين أساسيين وهما:
-
حجم الهوّة بين ما لدينا وما نحتاجه.
-
وأهمية المشكلة.
قد يرغب زبون بشراء سيارة كاديلاك جديدة ولكنه يمتلك سيارة شيفروليت منذ خمس سنوات. قد يكون حجم الهوّة بين كلا السيارتين كبيرًا إلى حد ما، ولكن هذه المشكلة (هذا الفارق في الأداء) ليست مهمة بالنسبة إلى الزبون في مقابل المشاكل الأخرى التي تواجهه.
في المقابل، قد يمتلك شخص آخر سيارة عمرها عامان فقط، وتعمل بصورة جيّدة، ولكنه لأسباب متعددة قد يقرر شراء سيارة جديدة في العام الحالي. ويجب على الزبائن إيجاد حل لهذه التناقضات قبل المضي قدمًا في عملية الشراء، وإلا فإنها سوف تتوقف عند هذه المرحلة.
ويجب على الزبون تعريف المشكلة بمجرد ظهورها على نحو يتيح تقديم حلٍ ملائم لها. وتجدر الإشارة إلى أن ظهور المشكلة وتعريفها يحصلان بصورةٍ متزامنة في العديد من الحالات، كما هو الحال في مشكلة نفاد معجون الأسنان مثلًا، ولكن المشكلات قد تكون أكثر تعقيدًا، فقد تشعر مثلًا بعدم الرضا عن مظهرك الخارجي، ولكنك عاجز عن تقديم تعريف أكثر دقة للمشكلة، ولا تعرّف من أين تبدأ الحل، لذلك يجب تعريف المشكلة تعريفًا دقيقًا في البداية.
يستطيع المسوقون التدخل في مرحلة التعرّف على الحاجة بثلاثة أساليب. أولًا، يستطيع المسوقون التعرّف على المشكلات التي تواجه الزبائن بهدف تطوير مزيج تسويقي يساعد المُستهلك على حلها. إن فتح المتاجر أمام المتسوقين في نهاية الأسبوع وساعات الليل يمثل حلًا لمشكلة عجز الزبائن عن التسوّق خلال ساعات النهار، وخصوصًا عندما يكون الزوجان عاملين.
ثانيًا، يمكن للمسوقين أن يساهموا أحيانًا في توعية الزبائن بوجود المشكلة أو الحاجة، كما هو الحال في الإعلانات غير الربحية التي تتحدث عن مخاطر التدخين. أخيرًا، قد يساهم المسوقون في تعريف الحاجة أو المشكلة.
على سبيل المثال، قد يرغب زبون بشراء معطف جديد، ولكن كيف يعرّف المشكلة؟ هل هو بحاجة إلى قطعة ملابس رخيصة لتغطي جسده فقط؟ أم أنه يحتاج إلى معطف يبقيه دافئًا في أيام البرد؟ أم يحتاج إلى معطف يدوم لسنوات طويلة؟ أم يحتاج إلى معطف ليس غريب المظهر؟ أم إلى معطف يعبّر عن شخصيته؟ جميع هذه الأسئلة قد يساهم إعلان ترويجي أو رجل المبيعات في توفير إجابات لها.
البحث عن المعلومات واستيعابها
بعد التعرّف على المشكلة، قد يبحث الزبون المحتمل عن معلومات لمساعدته على تقييم المنتجات والخدمات البديلة التي قد تشبع رغباته، وقد تأتي هذه المعلومات من العائلة أو الأصدقاء أو الملاحظة الشخصية، أو حتى مصادر أخرى، مثل تقييمات المستهلكين، ورجال المبيعات، ووسائل الإعلام.
إن المكوّن الترويجي في العروض التسويقية يستهدف أصلًا تزويد الزبائن بالمعلومات التي قد تساعدهم على حل المشكلات التي تواجههم. وفي بعض الحالات، قد يمتلك المستهلك المعلومات التي يحتاج إليها بالفعل، وذلك استنادًا إلى تجارب الشراء السابقة، ولكن التجارب السيئة وعجز المنتج عن إشباع رغبات المستهلك قد يمنعه من تكرار شرائه.
على سبيل المثال، إذا كان المستهلك بحاجة إلى إطارات لسيارته، فقد يبحث عن المعلومات اللازمة في الصحيفة المحلية، أو قد يطلب نصيحة من أصدقائه، أما إذا كان قد اشترى إطارات في وقت سابق وشعر بالرضا عنها، فقد يعود إلى شراء ذات المنتج من ذات التاجر.
وقد يقود البحث عن المعلومات إلى التعرّف على حاجات جديدة، فقد يبحث الزبون عن معلومات لشراء إطارات للسيارة، ولكنه قد يقرر في أثناء بحثه أن الإطارات ليست المشكلة الحقيقية، وأنه بحاجة إلى سيارة جديدة. في هذه المرحلة، قد تقود الحاجة الجديدة إلى عملية بحث جديدة عن المعلومات.
يتضمن البحث عن المعلومات إجراء أنشطة ذهنية وبدنية قبل اتخاذ القرارات، وذلك بهدف تحقيق الأهداف المرجوة من عملية الشراء. إن البحث عن المعلومات قد يتطلب وقتًا وجهدًا ومالًا، لكن فوائده تطغى على أي تكاليف أخرى. على سبيل المثال، قد يساهم البحث الجيّد عن المعلومات في توفير المال، وتحسين جودة الاختيار، وتقليل المخاطر.
تحليل واستيعاب المعلومات
ماذا يفعل الزبائن بالمعلومات عند البحث عنها؟ كيف يعثرون عليها، ويفهمونها، ويطبقونها؟ بمعنى آخر، كيف يعالجون هذه المعلومات؟ يُعد هذا الموضوع مهمًا لفهم سلوك الزبائن بصفة عامة، وكذلك كيفية التواصل الفعّال معهم بصفة خاصة، ولذلك حظي بقدر كبير من الاهتمام والدراسة.
ولكن محاولة التعرف على آليات استيعاب المعلومات لدى الآخرين ليس أمرًا سهلًا، وفي الغالب تُستعمل الملاحظة لتحقيق هذه الغاية. ورغم أن هناك العديد من النظريات حول كيفية تحليل الزبائن للمعلومات، تفترض النظرية الأكثر قَبولًا أن عملية تحليل المعلومات واستيعابها تتكون من خمس خطوات:
-
التحفيز: تبدأ عملية استيعاب المعلومات بتعرّض المستهلكين لبعض المحفزات، مثل مشاهدة التلفاز، أو زيارة السوبر ماركت، أو استلام إعلانات بالبريد. وحتى تبدأ عملية تحليل المعلومات لدى الزبائن، يجب على المسوّقين أن يجذبوا الزبائن إلى المحفزات، أو أن يضعوها في طريقهم.
-
الانتباه: إن تعرّض المستهلكين للمحفزات لا يكفي، ما لم يكونوا منتبهين إليها. ففي الوقت الحالي، يتعرض المستهلكون لجميع أنواع المحفزات، ولكنهم لا يمتلكون سوى قدرة محدودة على استيعاب هذا القدر من المعلومات، لذلك يجب أن يركزوا في المحفزات حتى يستوعبوها. ويستطيع المسوقون أن يجذبوا انتباه الزبائن من خلال تقديم معلومات مثيرة ترتبط باهتماماتهم.
-
الإدراك: يتضمن الإدراك تصنيف الإشارات الواردة، وربطها بأسماء أو صور معيّنة. ويمكن القول إن الإدراك هو عملية ربط المعاني بالمحفزات التي يتلقاها الزبون من خلال الحواس. (سوف نناقش جُزئيّة الإدراك بمزيد من التفاصيل في وقت لاحق.)
-
التخزين: يُعد تخزين المعلومات للعودة إليها في وقت لاحق رابع الخطوات في عملية استيعاب المعلومات. وتلعب الذاكرة في هذه الخطوة دورًا مزدوجًا، فهي تخزن المعلومات من أجل استيعابها، وكذلك تُساعد على استعمالها في المستقبل. ويعتمد المسوقون على التكرار والموسيقى لتحسين قدرة الزبائن على تخزين المعلومات.
-
الاسترجاع والتطبيق: يُطلق على عملية استعادة المعلومات من الذاكرة مصطلح الاسترجاع، بينما يُطلق على عملية وضع المعلومات في سياقها الصحيح مصطلح التطبيق. وإذا استطاع الزبون استرجاع المعلومات المتعلقة بمنتج أو علامة تجارية أو متجر، فسوف يكون قادرًا على استغلال هذه المعلومات لحل مشكلة أو إشباع رغبة.
مع ذلك، قد تحدث بعض الاختلافات في آلية تنفيذ كل خطوة، وخصوصًا فيما يتعلق بمدى الخوض في التفاصيل، إذ يتضمن الاستيعاب المُفصّل، والذي يسمى أيضًا بالاستيعاب المركزي، التعاطي مع المعلومات بفعالية، وفي هذه الحالة، يُبدي الزبون انتباهًا شديدًا للرسالة التي يتلقاها ويفكّر فيها جيدًا، ثم يخرج باستنتاجات مؤيدة أو معارضة لها.
في المقابل، يتضمن الاستيعاب غير المفصل، أو الاستيعاب الطرفي، التعاطي مع المعلومات بسلبية، ومن أمثلته تعاطي معظم المسافرين بشيءٍ من الاستهتار مع تعليمات السلامة الروتينية التي تقرأها مضيفات الطيران قبل الإقلاع.
التسويق المتكامل
حتى أصغر الأطفال هذه الأيام يجيد استخدام التكنولوجيا، ولا عجب في ذلك، فالحواسيب باتت منتشرة في المدارس الابتدائية، والجميع يلعبون ألعاب الحاسوب، ناهيك عن استعمال البرامج التعليمية.
يقضي الأطفال الكثير من الوقت على الإنترنت، ليس في المدرسة فحسب، بل في منازلهم أيضًا، إذ يدخلون إلى الإنترنت بهدف الترفيه والتواصل فيما بينهم. طبقًا لإحصائيات جمعية (Pew Internet Project) فإن ما يُقرب من 93% من شريحة المُراهقين اللذين تتراوح أعمارهم بين 12-29 سنة يستخدمون الإنترنت في قضاء معظم حوائجهم، وخلال العقد الماضي كانت شريحة المراهقين والبالغين الصغار هي الشريحتين المسيطرين على معظم عمليات البحث عبر الإنترنت، على الرغم من تزايد شعبية الإنترنت بشكل كبير في كافة الأعمار خلال السنين الماضية.
تقييم البدائل
بعد العثور على المعلومات واستيعابها، يبدأ الزبون بدراسة المنتجات والخدمات والمتاجر البديلة الأخرى، ثم يتخذ القرار بناءً على استعداده النفسي والمالي. وتختلف معايير التقييم من مستهلك إلى آخر، وذلك باختلاف الحاجات ومصادر المعلومات، فقد يكون السعر هو العامل الأهم في التقييم لدى بعض المستهلكين، في المقابل، قد يركز مستهلكون آخرون على معيار الجودة.
يتأثر البحث عن البدائل بعدد من العوامل، مثل: الوقت والتكلفة وحجم المعلومات المتوفرة لدى المستهلك، وحجم المخاطرة المحتملة عند اتخاذ القرار الخطأ، بالإضافة إلى ميول المستهلك المسبقة نحو اختيارات معيّنة.
في الحقيقة، يجد بعض المستهلكين عملية الاختيار أمرًا صعبًا ومزعجًا، ولذلك يميلون إلى تقليل البدائل إلى الحد الأدنى، حتى دون البحث عن المعلومات الكافية للعثور على أفضل البدائل. في المقابل، يشعر آخرون بضرورة جمع قائمة طويلة من البدائل، ولكن ذلك من شأنه أن يُبطئ عملية اتخاذ القرار بدرجة كبيرة.
اختيار المنتج/ الخدمة/ المتجر
بعد اختيار أحد البدائل، يُضطر الزبون في كثير من الأحيان إلى إجراء المزيد من التقييم. على سبيل المثال، قد يختار المستهلك علامته التجارية المفضلة ويتوجه إلى المتجر لشرائها، ليُفاجأ عند الوصول بنفاد الكمية. في هذه المرحلة، يحتاج الزبون إلى إجراء المزيد من التقييم ليقرر إن كان سوف ينتظر إلى حين توفر المنتج الذي يرغب به، أم يقبل بمنتج بديل، أم يتوجه إلى متجر آخر. وتتسم مرحلتا التقييم والاختيار بالارتباط الوثيق، فقد يؤثر اختيار المتجر على تقييم المنتج، وقد يؤثر اختيار المنتج على تقييم المتجر.
قرار الشراء
بعد البحث والتقييم يصل المستهلكون إلى مرحلة اتخاذ القرار. إن أي خطوة يتخذها المسوقون لتبسيط عملية الشراء سوف تكون جذابة للزبائن بالتأكيد، فقد يقترح المسوقون في إعلاناتهم أفضل حجم، أو أفضل استخدام للمنتج، على سبيل المثال، قد يُرشد المسوقون الزبائن إلى أفضل عصير يمكن تناوله مع طعام معيّن. وأحيانًا، يلجأ المسوقون إلى دمج عدد من القرارات الشرائية وتسويقها حزمةً واحدة، كما تفعل وكالات السفر.
في هذه المرحلة من عملية الشراء، يجب على البائع معرفة إجابة العديد من الأسئلة المتعلقة بسلوك المستهلكين. مثلًا، كم حجم الجهد الذي قد يبذله المستهلك لشراء المنتج؟ ما هي العوامل التي تؤثر على قرار الشراء؟ هل هناك أي معيقات تحول دون الشراء أو تؤخره؟
إن توفير المعلومات الأساسية حول المنتج، وسعره، وموقعه، من خلال الملصقات والإعلانات والعلاقات العامة يُعد نقطة انطلاق جيّدة، وبإمكان البائع أيضًا توفير حوافز إضافية، مثل تقديم عيّنات من المنتج، وقسائم شرائية، وخصومات.
في الحقيقة، إن التعرّف على سلوك المستهلكين في عملية اتخاذ القرار يُعد أمرًا صعبًا، ويتطلب الكثير من البحث، ولذلك ظهرت أساليب بحثية جديدة لتقييم سلوك المستهلكين، كما هو موضح في اللمحة التالية.
لمحة مفيدة…تابع المستهلك وشاهد ما يحدث
من الواضح أن بحوث السوق التقليدية لم تعد تجدي نفعًا مع قاعدة المستهلكين التي تزداد تنوعًا في كل يوم. لقد استند المسوقون لعقود طويلة على استطلاعات الرأي المكتوبة، والاتصالات الهاتفية، ولكن هذه الاستطلاعات تتسم بالسطحية، ويقول لاري كيلي، رئيس شركة دوبلن جروب (Doblin Group) للتصميم والاستشارات "إن الاستطلاعات ليست سوى دراسات لقياس إن كان رضا الزبائن قد ازداد أو تراجع عن العام الماضي."
وبالتالي كان لابدّ من وجود طريقة أفضل. لقد بدأ خبراء التسويق بالحديث عن مفهوم جديد يُطلقون عليه اسم "السرد القصصي". ويقوم هذا المفهوم على إجراء أبحاث تسويقية مكثّفة، وذلك بهدف الحصول على قصص واقعية من حياة الزبائن حول سلوكهم ومشاعرهم.
قد يبدو هذا المفهوم الجديد قفزة إلى المجهول، ولكن بعض الشركات اكتشفت نجاعته بالفعل، واستطاعت الوصول إلى خدمات ومنتجات مميزة. فقد نجحت شركة كمبرلي-كلارك بفضل الأبحاث المعمقة حول سلوك المستهلكين في بناء سوق بقيمة 500 مليون دولار لحفاضات الأطفال.
أما في شركة (Intuit) فقد استطاع المبرمجون بفضل قصص المستهلكين أن يُحدثوا ثورة في طريقة تعامل الناس مع أموالهم في جميع أنحاء الولايات المتحدة. وأما الإداريون في شركة Patagonia المتخصصة في صناعة الملابس فقد استطاعوا الحفاظ على منتجاتهم في الصدارة، وذلك بفضل القصص الحقيقية التي يرويها الزبائن عن حياتهم.
ولا يقتصر هذا المفهوم الجديد على الحكايات المحملة بالعواطف، وإنما يبحث عن الدوافع الخفية في السلوك البشري. فكّر على سبيل المثال في آخر مرة التقت فيها عيناك بعيني فتاة جذابة. لابدّ أن سيلًا من من المشاعر المختلفة قد اعتراك، ولكن لا يستطيع أحد أن ينكر أن 80% من التواصل البشري في هذه اللحظة هو تواصل غير شفهي.
يقضي مؤسس شركة Patagonia السيّد يون تشونيارد ستّة أشهر على الأقل من السنة وهو يختبر معدّات الشركة بنفسه في أقاصي الأرض، ولكنه لم يكتفِ بذلك، فقد وظّف عددًا من الزبائن حتى يخبروا الشركة بقصصهم. ويُطلق تشونيارد على هؤلاء الزبائن مصطلح "أكياس القذارة" وذلك لأنهم يقضون الكثير من الوقت في الخارج إلى درجة أن ذلك يظهر أسفل أظافرهم.
تجمع Patagonia القصص من زبائنها وتستعملها أداةً للتسويق، إذ أن الشركة تصدر كل عامين كتالوجًا فريدًا من نوعه يضم منتجاتها، ولكن بدلًا من إنفاق ملايين الدولارات على تصوير عارضات وعارضي الأزياء، تعتمد الشركة على زبائنها الذين يلتقطون الصور وهم يرتدون ملابس الشركة في أغرب الأماكن حول العالم.
إن قراءة هذه القصص المصورة حول مغامرات الزبائن يُعد أمرًا ممتعًا حقًا، ولكن دور هذه القصص لا يقتصر على ذلك، إذ إن تسليط الضوء على قصص الزبائن يثبت اهتمام الشركة بآرائهم وتجاربهم، ولذلك تراهم يراسلون الشركة باهتمام وحماس. بدوره يشير مدير الجودة في الشركة راندي هوارد "لقد استطعنا أن نثبت للزبائن أننا نتعامل مع ردودهم بجديّة، وأننا نستعملها لتحسين جودة منتجاتنا."
سلوك ما بعد الشراء
إن جميع العوامل السلوكية وخطوات الشراء حتى الآن تسبق الشراء أو ترافقه، ولكن مشاعر المستهلك وتقييمه للمنتج بعد الشراء تُعد أمرًا مهمًا أيضًا بالنسبة إلى المسوقين، فهي ترتبط بعودة المستهلك لشراء المنتج مرةً أخرى، وكذلك بما يخبره المستهلك للآخرين عن المنتج أو العلامة التجارية.
إن التسويق بأكمله يدور حول سعادة الزبون، ولكن الزبائن يشعرون عادةً بالتوتر بعد جميع عمليات الشراء، ما عدا عمليات الشراء الروتينية غير المكلفة. وينتج هذا التوتر عن ظاهرة تُسمى التنافر المعرفي. ووفقًا لهذه النظرية، يسعى الأفراد للوصول إلى حالة من الاتساق بين المُدركات المختلفة، وهذه المدركات هي المعرفة، والاتجاهات والمعتقدات والقيم.
في بعض الحالات، يتخذ الزبون قرار شراء مُنتج من علامة تجارية معيّنة وهو يعي بالفعل وجود تنافر بين هذه العناصر المختلفة. وفي حالات أخرى، يظهر التنافر بسبب اطلاع الزبون على معلومات مقلقة بعد الشراء. مع ذلك، يستطيع المسوّق اتخاذ بعض الخطوات للحد من قلق الزبون بعد الشراء، مثل الإعلانات التي تبرز المزايا الإيجابية للمنتج أو تؤكد شهرته وشيوعه.
ولقد أثبتت الطمأنة الشخصية للعميل نجاعتها أيضًا، وخصوصًا مع المنتجات الكبيرة، مثل السيارات والأجهزة الكهربائية، إذ يلجأ رجال المبيعات إلى تقديم بطاقاتهم الشخصية، أو الاتصال بالزبون لطمأنته حول قرار الشراء.
ترجمة -وبتصرف- للفصل (Understanding buyer behavior) من كتاب Core Concepts of Marketing
اقرأ أيضًا
- المقال التالي: العوامل المؤثرة في سلوك المستهلكين
- المقال السابق: تنفيذ خطة البحث التسويقي
- النسخة العربيةمن كتاب مدخل إلى التسويق
أفضل التعليقات
لا توجد أية تعليقات بعد
انضم إلى النقاش
يمكنك أن تنشر الآن وتسجل لاحقًا. إذا كان لديك حساب، فسجل الدخول الآن لتنشر باسم حسابك.