اذهب إلى المحتوى

التحفيز بالأشياء الحديثة وتأثير ذلك على تحسين التعلم الذاتي


زياد اليوسف

تثير الأشياء الجديدة إعجابنا بطريقة أو بأخرى، وفي الحقيقة، يبدو أن دماغنا ينجذب تجاه الحداثة والجِدَّة، وتبيّن كذلك أن تلك الأشياء الجديدة قادرة على تحسين ذاكرتنا وقدرتنا على التعلّم.

لنفترض أنك انتقلت إلى بلد جديد، فأصبحت محاطًا بمناظر وأصوات وتجارب جديدة. جميع تلك الأشياء تُعَد حملًا زائدًا من الجِدَّة وفق ما يراه دماغنا، لكن بعد قضاء أسبوع في هذا البلد الجديد، ستندهش من مدى اعتيادك على البيت والشارع الجديدين، وبعد أن تسير في الطريق المؤدي إلى موقف الحافلات 3 أو 4 مرات، ستملّ سريعًا من هذا المشهد.

سيختفي بريق تلك الأشياء الحديثة على الفور حالما يصبح محيطنا مألوفًا، بينما ستصيبنا إثارة كبيرة عندما نكتشف تجربةً جديدةً بالكامل، أو نشاهد منظرًا لم نعهده مسبقًا، فقد تبيّن أن دماغنا يعمل بهذه الطريقة ويصوّر لنا هذا الإحساس، مما يدفعنا إلى الإعجاب بالأشياء الجديدة والسعي وراءها.

كيف نبحث عما هو جديد

من المؤكد أن أي شيء جديد أو مختلف أو غير عادي سيلفت انتباهنا، ربما هاتفٌ جديد أو بيئة عمل جديدة أو صديق جديد، وليس الأشياء فقط، بل النشاطات كذلك، مثل تغيير لون الشعر أو ارتداء ملابس جديدة أو زيارة مكان جديد؛ وفي الحقيقة، قد ننجذب إلى أشياء جديدة لاشعوريًا أو بدون قصد، وهذا الكلام منطقي، إذ لن نتقدّم في حياتنا إن كانت الأشياء الاعتيادية والمألوفة تجذبنا باستمرار. والمثير للاهتمام هنا، هو وجود رابط معقدٍ بين الأشياء الحديثة والتعلّم، مما يعني إمكانية استخدام تلك المعرفة لصالحنا بهدف تعلّم أشياء جديدة وتحسين ذاكرتنا.

كيف يتعامل دماغنا مع الأشياء الجديدة

هناك منطقة في الدماغ المتوسط تُدعى المنطقة السقيفية البطنية أو المادة السوداء substantia nigra/ventral segmental area، وتُعَد هذه المنطقة مركز الجِدَّة في دماغنا، وهي التي تستجيب للمنبهات أو المحفزات الجديدة.

لتلك المنطقة روابط وثيقة مع مناطق أخرى في الدماغ، هي الحُصين (قرن آمون) واللوزة الدماغية، وتؤدي الأخيرتان دورًا كبيرًا في الذاكرة والتعليم، حيث يوازن الحصين بين المحفِّزات والذكريات الموجودة سابقًا، بينما تستجيب اللوزة الدماغية للمحفِّزات العاطفية، وتعزز الذاكرة طويلة الأمد المرتبطة بتلك الذكريات.

في السابق، اعتُقد أن دماغنا يصوّر الأشياء الجديدة على أنها مكافأة بحد ذاتها، لكن تبيّن أن تلك الأشياء الجديدة مرتبطة بالتحفيز، وهذا ما ينطبق على الدوبامين كذلك.

أجرى الباحثان بونزيك ودوزيل اختبارًا على مجموعة من الأفراد في تجربةً غير تقليدية، وذلك باستخدام التصوير بالرنين المغناطيسي الوظيفي لمراقبة كيفية تفاعل الدماغ مع الأشياء الجديدة، حيث عرض الباحثان على الأفراد صورًا مختلفةً تُظهِر أوجه أشخاصٍ أو مشاهد من داخل وخارج المنزل، لكنهما أضافا إلى تلك المجموعة صورًا جديدةً عرَضيّةً تظهر بين الحين والآخر.

لاحظ الباحثان نشاط المنطقة السقيفية البطنية/المادة السوداء عند رؤية صور جديدة، صورًا لم يسبق للمشاركين في الاختبار رؤيتها، وتبيّن أن الصور التي تختلف قليلًا عن الصور المألوفة لا تؤثر بالشكل ذاته، إلى جانب الصور ذات السياق العاطفي السلبي جدًا، مثل صور حوادث السيارات أو صور وجوه غاضبة.

تبدو مسارات الدوبامين، الذي ينشط بعد التعرض إلى أشياء جديدة، مشابهةً لهذه الصورة (المسارات معلّمة بالأزرق):

01.png

صُمم القسم الثاني من التجربة لمعرفة ما إذا كانت الصور الجديدة نسبيًا كفيلةً بتنشيط المنطقة السقيفية البطنية/المادة السوداء، أم أن نشاط الأخيرة ناتج عن الصور الجديدة كليًا، حيث اختبر الباحثان تأثير الصور الجديدة نسبيًا على الأفراد الخاضعين للتجربة (الجِدَّة النسبية)، ووازنا تأثير الصور الجديدة كليًا مع تأثير الصور السابقة (الجِدَّة المطلقة).

تبيّن أن المنطقة السقيفية البطنية/المادة السوداء تنشط عندما يُعرض على الأفراد محفزات جديدة كليًا فقط أي صور لم يسبق لهم رؤيتها في السابق، كما تفاعلت مناطق أخرى من الدماغ مرتبطة بهذه العملية، عندما عُرضت الصور على الأفراد، لكن تضاءلت تلك التفاعلات نسبيًا تزامنًا مع الاستمرار بعرض الصور على الأفراد، فأصبحت تلك الصور مألوفةً أكثر. يشرح الدكتور دروزيل الموضوع كالتالي:

اقتباس

"اعتقدنا أن المعلومات الأقل ألفةً تبرز بوضوح عندما تُمزج مع معلومات أخرى مألوفة ومعلومة مسبقًا، وتسهم في تنشيط منطقة الدماغ المتوسط، وبنفس مقدار تأثير المعلومات الجديدة كليًا؛ لكننا وجدنا أن الأمر مختلف، فالأشياء الجديدة كليًا هي الوحيدة القادرة على إحداث نشاط قوي في منطقة الدماغ المتوسط".

الأمر مشابه لما يحصل في دماغنا عندما نكرر المعلومات عبر بطاقات العرض السريع مثلًا أو إعادة قراءة المعلومات، فالأمور الجديدة هي التي تبرز فقط وسط مجموعة من الأغراض أو الصور المألوفة بشدة.

كيف تحفزنا الأشياء الجديدة

لربما سمعت عن الدوبامين وتأثيراته على الدماغ في السابق، وغالبًا ما يُعَد الدوبامين مكافأةً كيميائيةً أو جزءًا من مركز المكافأة في الدماغ، لكن تظهر الأبحاث الأخيرة أن الدوبامين، مثل الأشياء الجديدة كذلك، فهو أكثر ارتباطًا بـسعينا نحو المكافأة بدلًا من كونه مكافأةً بحد ذاته.

تشير الدراسات المتعلقة بتفاعل الدماغ مع الأشياء الجديدة لدى الحيوانات إلى ارتفاع مستويات الدوبامين عند رؤية أشياء جديدة، حيث يتفاعل الدماغ مع تلك الجِدَّة عبر إطلاق وتحرير الدوبامين، وهو مما يدفعنا نحو استكشاف تلك المكافآت الجديدة والبحث عنها؛ ففي ألعاب الفيديو مثلًا، تحفّزك المراحل الجديدة أو العوالم الجديدة على اللعب مدةً أطول بهدف الحصول على المكافأة، وتتمثل هذه المكافأة بالحصول على إنجاز جديد أو كسب المزيد من النقاط.

يمنحك كل محفز جديد دفعةً لا بأس بها من الإثارة والتحفيز كي تكتشف المزيد، والسبب هو أن تلك المحفزات تدفعك إلى توقع الحصول على مكافأة، وإليك مخططًا يظهر النشاط في منطقة الدماغ إثر تعرضه للمحفزات الجديدة:

02.png

تحدث الدكتور دوزيل عن الطريقة التي تحفزنا بها الأشياء الجديدة قائلًا:

اقتباس

"عندما نشاهد شيئًا جديدًا، فإننا نأمل باحتمال أن يحقق لنا هذا الشيء مكافأةً معينةً بطريقة ما، حيث يحفزنا احتمال حصولنا على المكافأة من الأشياء الجديدة كي نكتشف محيطنا بحثًا عن تلك المكافآت، لكن يدرك الدماغ أن المحفز بعدما أصبح مألوفًا، لا يرتبط بمكافأة ما، فيفقد المحفز قدرته على تحفيزنا؛ لذا تسهم الأشياء الجديدة كليًا فقط في تحفيز منطقة الدماغ المتوسط، مما يزيد من مستويات الدوبامين.

ما علاقة الفكرة السابقة بالتعليم

مع أن الفكرة السابقة مثيرة للاهتمام، لكنها لن تكون مفيدةً إلا إذا استقينا منها بعض المعلومات وطبّقناها على حياتنا العملية، فللأسف، الدراسات البشرية حول هذا الموضوع، مثل الدراسة المذكورة سابقًا، فهي قليلة ونادرة الحدوث، وقد أُجريت دراسات أكثر على الحيوانات، لكن لا تزال الأبحاث في مراحلها الأولى.

لا يعني ذلك أن الدراسة السابقة لن تفيدنا بشيء، وإليكم الفائدة التي نستخلصها من المعلومات السابقة بهدف تحسين سبل تعلّمنا وتذكر المعلومات.

أوضحنا سابقًا أن الحصين مرتبط بالمنطقة السقيفية البطينية/المادة السوداء إلى حد كبير، وتظهر الدراسات التي أُجريت على الحيوانات زيادة اللدونة العصبية في الحصين (واللدونة العصبية هي القدرة على خلق روابط بين العصبونات) تحت تأثير الجِدَّة، وذلك تزامنًا مع استكشاف بيئة جديدة أو محفز جديد، إلى ما بعد مرور ما يتراوح من 15 إلى 30 دقيقةً على التعرّض إلى المحفز الجديد.

لا يقتصر تأثير الأشياء الجديدة على زيادة اللدونة العصبية، وبالتالي إمكانية تعلّم حقائق وأفكار جديدة، بل يتجاوز هذا التأثير ليعمل على تعزيز ذاكرة الحيوانات التي أُجريت عليها التجربة.

اقتباس

"أُجريت تجارب سلوكية منفصلة بدون استخدام ماسحة، وذلك لاختبار ذاكرة الأفراد الخاضعين للتجربة، حيث اختُبرت ذاكرة الأفراد بعد 20 دقيقةً من عرض معلومات حديثة وأخرى مألوفة، ومعلومات مألوفة جدًا درسها الأفراد سابقًا، بعد ذلك أُجري الاختبار مجددًا في اليوم التالي، فحقق الأفراد أفضل أداء في التجربة عند دمج معلومات جديدة مع معلومات مألوفة تلقوها سابقًا خلال مراحل دراستهم، وبعد فاصل زمني مدته 20 دقيقةً، تبيّن أن ذاكرة الأفراد المتعلقة بالمعلومات المألوفة قليلًا تتحسن بنسبة تصل إلى 19% عند مزج تلك المعلومات مع حقائق جديدة تلقاها الأفراد خلال جلسات التعليم".

بناءً على هذه المعلومة، يمكننا تعزيز أداء الطلاب، سواءً خلال فترات الدراسة أو الامتحانات، بالإضافة إلى مساعدة الطلاب الذين يعانون من فقدان الذاكرة.

يشير الدكتور دوزيل إلى الفوائد الطبية التي من الممكن استغلالها وفق ما جاء في ذلك البحث:

اقتباس

"نأمل أن يكون لهذه النتائج تأثيرٌ على العلاجات السلوكية لمرضى ضعف الذاكرة، حيث يهدف مسار العلاج السلوكي الحالي، الذي يمارسه الأطباء النفسيون، إلى تحسين الذاكرة عبر التعرّض المتكرر للمعلومات، تمامًا مثلما نفعل عندما نراجع تحضيرًا للامتحان. وتظهر هذه الدراسة أن المراجعة تصبح أكثر فعاليةً وتأثيرًا عندما تمزج الحقائق الجديدة مع القديمة، فالتعلّم أفضل وفق هذه الطريقة، حتى لو ربطت دماغك بمعلومات جديدة".

كيف تتعلم المزيد وتحسن ذاكرتك

إذا أردت تطبيق تلك النتائج على حياتك، فبإمكانك تحسين قدرتك على التعلّم وترسيخ الأفكار والمبادئ الجديدة عبر استغلال مفهوم الجِدَّة في عملية التعليم، وإليك بعض النصائح في هذا الشأن:

1. أضف أمرا جديدا إلى المعلومات التي تريد حفظها

أضف عددًا قليلًا من المعلومات الجديدة في كلّ مرة تراجع خلالها المعلومات أو الحقائق التي تعلمتها سابقًا، حيث سيدفع هذا دماغك إلى ملاحظة المعلومات المألوفة قليلًا والتعرّف عليها بسهولة أكبر، بينما تجذب المعلومات الجديدة انتباه دماغك وتزيح تلك القديمة جانبًا.

2. غير محيطك

يوفر المكان المحيط بنا كميةً ضخمةً من التحفيز الجديد للدماغ، لذا حاول التخلّص من محيطك الاعتيادي أثناء دراسة أو تعلّم مادةً ما عبر مراجعتها في ظروف وأماكن جديدة، وبإمكانك مثلًا تغيير درجة حرارة الغرفة أو شدة الإضاءة، وتلك أمور صغيرة لكن تأثيرها كبير.

3. استمر بالتعلم بعد اكتشاف الجديد

بإمكانك استغلال اللدونة العصبية في دماغك بحكمة عبر تخصيص جزءٍ من الوقت للتعلّم والتفكّر بعد التعرض لمحفز جديد، فلو قابلت شخصًا جديدًا، والتقيتما لاحتساء فنجان من القهوة أو زيارة مكان جديد، فسيكون دماغك أكثر انفتاحًا تجاه خلق روابط جديدة خلال تلك الفترة أو بعدها مباشرةً، لذا بإمكانك استغلال هذا الأمر لصالحك.

في النهاية، لا بد للمستقل أن يبحث عن مكافأة نفسه بأمور جديدة باستمرار مهما كانت ليشعر بالسعادة ويحسّن من نفسيته ومزاجه، وسيؤدي هذا حتمًا لزيادة إنتاجيته وتجاوزه للانتكاسات المختلفة التي سيمر بها خلال مسيرته المهنية.

ترجمة -وبتصرف- لمقالة Why Getting New Things Makes Us Feel So Good: Novelty and the Brain لصاحبتها Belle Beth Cooper.

اقرأ أيضًا


تفاعل الأعضاء

أفضل التعليقات

لا توجد أية تعليقات بعد



انضم إلى النقاش

يمكنك أن تنشر الآن وتسجل لاحقًا. إذا كان لديك حساب، فسجل الدخول الآن لتنشر باسم حسابك.

زائر
أضف تعليق

×   لقد أضفت محتوى بخط أو تنسيق مختلف.   Restore formatting

  Only 75 emoji are allowed.

×   Your link has been automatically embedded.   Display as a link instead

×   جرى استعادة المحتوى السابق..   امسح المحرر

×   You cannot paste images directly. Upload or insert images from URL.


×
×
  • أضف...