اذهب إلى المحتوى
اقتباس

"والأدب العربي قاصر في بيانه، لأنه مقطوع الصلة بحضارة العصر، فلا يستطيع أَقدر كتّابنا أن يتحدث عما يستعمل من ماعون وأثاث، ولا أن يصف ما يركب من باخرة أو طائرة، ومجمعنا اللغوي -على ما نرى من نشاطه- لن يقدم إلى الناس معجمه المنتظر إلا بعد جيل أو جيلين،[1] حين يكون كلّ شيء في العالم قد تغير أو تطور، فيصبح معجمه في الجدَّة يومئذ كمعجم «لسان العرب» اليوم! والزمان يسرع، والعالم كله يَجِدّ، والساري على مركب العجز لا يلحق، والبيان القاصر نصف الخَرَس، واللغة الناقصة ثلاثة أرباع الجهل". — محمد هيثم الخياط في كتابه: "في سبيل العربيّة"[2]

رجع حنين بن إسحاق من القسطنطينية إلى بغداد في القرن التاسع الميلادي؛ حاملًا معه عشرات الكتب اليونانية[3] ليتولى -هو وتلامذته- نقلها إلى العربية في بيت الحكمة. وكان ما دفعه لهم الخليفة العباسي من رواتب مجزية (وهي "وزن كتبهم ذهبًا"؛ كما يقال)[4] مبررًا إلى حد ما، إذ حفّت وظيفة حنين ورفاقه المشقّات: فقد كانوا أول من عرّب علومًا لم يعرفها العرب قبل زمانهم ولم يعرفوا من فحواها ومفرداتها شيئًا يذكَر، فوقع على عاتقهم الاجتهاد والإبداع بنقل تلك الكلمات إلى اللسان العربي؛ كي يتوارثها فلاسفة المسلمين وعلماؤهم لمئات السنين من بعدهم.[5]

وكان الحل الأسهل لهذه المشكلة نقحرة الكلمات اليونانية؛[6] ثم تكييف لفظها ليتناسب مع اللغة العربية،[7] وهكذا عُرّبت أسماء يونانية كثيرة نألفها، منها: "أفلاطون" و"أرسطو" و"المجسطي". على أن هذا العمل ليس هيِّنًا، فمن أول المشكلات التي تقف في وجه المترجم العربي، وتعيقه عن المضي في عمله؛ المصطلحات التي ينقصها تعريب، وهي مسألة تتفاقم مرات كثيرة جدًا عند الخوض في غمار أي تخصص أكاديمي، وخصوصًا المجالات التقنية والعلمية المعقّدة والمطلوبة في عصرنا.

7.1.jpg

اسما الشخصيتين الرئيستين في "كليلة ودمنة" هما تعريب للاسمين الهنديين الأصليين: "كاراتاكا" و"داماناكا". - منشورة ضمن الملكية العامة. المصدر: ويكيميديا كومنز

المصطلحات الصعبة

إحدى أهم وأولى المعضلات التي تواجه المترجم مع المصطلحات الصعبة هي أن يقرر طريقة التصرف بها؛ سواء أكان ذلك بترجمتها أم بتعريبها أم بنقحرتها. فهل الصحيح أن نقول "ترانزيستور" أم "مقاوم النقل"؟ وهل نقول "بيجنغ" أم "بكين"؟ وهل الأنسب هو "اليونسكو" أم "منظمة الأمم المتحدة للتربية والعلم والثقافة"؟ وهذه الأسئلة كلها فيها معضلات مطولة على المترجم أن يقرر كيف يتعامل معها بناءً على علمه وخبرته، لكن، لخبراء اللغة فيها قول مفيد لا غنى عنه.

بسبب خواص اللغة العربية وبُعدها عن اللغات الأوروبية؛[8] فليس من اليسير إدخال كلمات من هذه اللغات عليها إلا لو عُدّلت وكُيّفت لتتناسب مع اللفظ العربي، ولذا فإن نقل المصطلحات اللاتينية إليها صعب جدًا إن قورن باليابانية مثلًا[9] (والتي تكثر فيها استعارة الكلمات الإنكليزية في الإنتاجات الحديثة، مثلما قد يلاحظ من يتابع الأنمي وغيره من المرئيات اليابانية). ويميل كثير من المترجمين -إن لم يكن معظمهم- للجوء إلى الخيار الأسهل؛ حينما يقع بين أيديهم مصطلح صعب: وهو اقتباسه من لغته الأجنبية مباشرة، إما بصورته الأصلية ("Transistor") أو بنقحرته لحروف عربية ("ترانزيستور")، ولعل حجتهم هي الهرب من الاجتهاد في التعريب، أو توفيرًا لعناء البحث في المعاجم. ولكن لهذا القرار نتائج تُخلّ بوظيفة المترجم كلها.

فمهمة المترجم النموذجية هي إيصال المعنى للقارئ من لغة لا يفهمها، وإذا خرج مترجم فذ بعد عمله الشاق والطويل بنص "عربي" محشو بكلمات مثل "(chain-growth polymerization)" و"(Number average molecular weight)"؛ وإذا لم يتعب نفسه بأكثر من أن يربط بين هذه الكلمات الرنانة بحروف جر عربية، فعمله لا يرقى إلى أن يكون نصًا عربيًا، وذلك لأن محاولة استخراج معاني النص الخفيّة -إن وُجدت- تمسي أصعب على القارئ من حل لغز كلمات متقاطعة.

هل يعني هذا الانتقاد أن الاستشهاد بالكلمات الأجنبية ممنوع بتاتًا في الترجمة؟ قد تختلف الإجابة حسب السياق، ويدخل فيها -مرة أخرى- حكم المترجم، لكنه حكم يصدره حسب الحقائق المعلومة. فلنقل أننا صادفنا كلمة تقنية معروفة مثل: Computer، فمعناها يبقى واضحا للقارئ سواء أقرر المترجم نقحرتها إلى "كمبيوتر" أم ترجمتها إلى "حاسوب" أو "حاسب" أو "مِحْساب"، والسبب في ذلك أن كل هذه المفردات دارجة في اللغة العربية الحديثة، مما يعني أنها كلها صحيحة[10] بالنتيجة، وأن للمترجم حرية الاختيار بينها كما يشاء.

ومثلما يمكننا التسامح مع نقحرة كلمة "كمبيوتر" من الإنكليزية؛ بناءً على شهرتها، فيمكننا أن نتغاضى عن النقحرة في حالات أخرى، منها: "الواي فاي" و"البلوتوث" و"السيلفي" و"النانو" و"التوربين"، والسبب أن هذه المفردات كلها مفهومة عند عموم الناس دون الحاجة لتكييف لفظها ولا لترجمتها، وبالتالي فهي لا تفسد عمل المترجم في إخراج نصّ يفهمه الناس. لكن الأمر يختلف جذريًّا في الكلمات غير المعروفة، فلو كتبت في مقال مترجم كلمة مثل: "موليكيولار غاسترونومي"، ثم فسرتها باقتباس بأصلها بين قوسين (وهي عادة مترجمين كثر) على شاكلة: "موليكيولار غاسترونومي (Molecular gastronomy)"، فهذا التصرف ليسَ دليلًا على أمانة المترجم ولا على حرصه الأكاديمي؛ وإنما على فشله الذريع بنقل أي معنى مفيد للقارئ العربي، فهو لم يقدم فيما سبق أي إضافة جديدة للقارئ تختلف عن قراءة الكتاب أو المقال بلغته الأصلية. والمثال الوارد هنا ليس بحالة متطرفة، فكتب علوم الطب والأحياء والتقنية العربية تغص بمفردات أجنبية مقتبسة بهذا الأسلوب. ويعدّ بعض الباحثين في الترجمة هذه النقحرة (مثلها مثل الترجمة الحرفية) علامةً من علامات إهمال القارئ؛[11] في سبيل راحة المترجم وتيسير وظيفته.

وتوثيق الأصل الأجنبي للمصطلحات المعربة ليس مذمومًا من حيث المبدأ، بل هو إجراء ضروري ويساعد القارئ على الرجوع إلى المصطلح والتوثق منه؛ أو التوسع فيه، لكن مكان هذه الاستشهادات -في معظم المواضع- يُفضل أن يكون في حواشي الكتاب، أو مَسرَد بخاتمته وليس في متن النص. والسبب في هذا؛ هو أن القارئ الطبيعي لا يرغب -عادةً- بتشتيت انتباهه بمئات من الكلمات الأجنبية التي لم يسمع بها قط، فلو كان يعرف معاني هذه الكلمات لذهب وقرأ النص بلغته الأصلية، ولكن ما دفعه للتوجه نحو الترجمة هو أن يقرأ معنى مفهومًا بلغته الأم. ولهذا يجب للمترجم أن يعرف أن النقحرة ليست نقلًا للمعنى، بل للفظ صوتي ليست له أي دلالة في اللغة العربية ولا للقارئ العربي إن لم يكن على اطلاع مسبق بالموضوع الذي يقرأ فيه.

وقد يصعب -في بعض الحالات- حصر المصطلحات الأجنبية بالهوامش وحدها، وذلك بسبب كثرة هذه المصطلحات وكثافة ورودها في النص، ومن أمثلة ذلك الموضوعات التقنية والبرمجية، التي قد يَلزم فيها إقران المصطلح الأجنبي بتعريبه؛ إذ إن البرمجة بأساسها تكون باللغة الإنكليزية. ويمكن في هذه الحالة جمع المصطلحات الأجنبية (التي من الضرروي معرفتها للمبرمج، رغم صعوبة فهمها)، مع تعريب يُفسر معناها أو يربطه بأصل عربي. على سبيل المثال، قد يبدو مصطلح "Salt" في تقنيات التشفير عسيرًا جدًا على الترجمة، إذ الترجمة الحرفية له "ملح" ولكن استعماله في سياق التشفير والتعمية يشير في الحقيقة إلى قيمة عشوائية تضاف إلى الكلمات السرية للمستخدمين أثناء التشفير (إذ تجرى عملية التعمية على عدة مراحل بهدف تعمية كلمات المرور قبل تخزينها)، على أن الرجوع إلى مصادر عربية تراثية في هذا المجال، مثل كتاب "علم التعمية واستخراج المعمى عند العرب"، يثبت وجود مصطلح عربي أصيل لها باسم "الغُفْل".[12] وهذه طريقة في التعريب تطبق في "أكاديمية حسوب" و"موسوعة حسوب"، حتى كونت مع الوقت معجمًا كاملًا من نحو ألف كلمة.

ونقل جوهر معنى الكلمة (أو "تعريبها") ليس مسعى سهلًا، إذ طال اشتغال أساتذة اللغة ومجامعها به؛ ولم يتفقوا إلا على قليل، لكنه يبقى -للأسف- ضرورةً لا مفرّ منها إن أراد المترجم نقل المعنى للقارئ. ويخشى كثيرون تعريب أي مفردة تقابله دون الرجوع إلى مصدر أو دون استشارة أستاذ متخصص، بل قد يظنون أن أي محاولة أو اجتهاد بهذا الصدد فاحشة مرعبة، لكن الواقع هو أن المترجم يجد نفسه مضطرًا لترجمة كل (أو جُل) ما يقابله من مصطلحات في النص الأجنبي؛ مهما كانت صعبة، وحينما يُكلَّف المترجم بنقل مقال متخصص قد يصطدم بعشراتٍ من هذه المفردات في كل صفحة، وإن لم يسعفه في تعريبها أي قاموس بين يديه، فقد يصبح ملزمًا بالاستعانة بقدراته اللغوية (وأساليب التعريب المتعارف عليها) في تعريبها بوسيلة أو بأخرى، حتى ولو خشي من إفساد السليقة العربية أو تجاوز أحكام مجامع اللغة.

سبل التعريب السبعة

ولد المترجم أحمد عيسى بك في مدينة رشيد (وهي موقع اكتشاف "حجر رشيد" المشهور) على ضفاف النيل؛ قبل نحو مئة وخمسين عامًا، ودرس الطب في "المدرسة الخديوية" المرموقة، وتخصص بأمراض النساء والطب الباطني، على أن شغفه الحقيقي كان باللغة والأدب، فتعلم لغات سامية ولاتينية شتى[13] والتحق بـ"مجمع اللغة العربية بدمشق" و"الأكاديمية الدولية لتاريخ العلوم" في باريس، واشتُهرَ بشغفه في الترجمة؛ فكان من أهم آثاره فيها كتاب "التهذيب في أصول التعريب"،[14] الذي ترك بصمته على كثير من المترجمين في زمن النهضة العربية، وعلى التعريب خصوصًا.

يقترح أحمد عيسى بك في هذا الكتاب خمس سبل لنقل المصطلحات الأعجمية الجديدة إلى اللغة العربية، والتي اقتبسها عنه كثير من الكتاب والمترجمين العرب من بعده. وقد رتب عيسى بك هذه الطرق بحسب أولويتها في لجوء المترجم إليها، فإذا لم تصلح الأولى ينتقل المترجم إلى الثانية فالثالثة؛ حتى ينتهي إلى آخرها.[15]

وسوف أقتبس هنا قائمته نفسها مع شرح كل بند فيها وبعض سياقاته، على أني زدت عليها طريقتين في آخرها لتصير سبعة، واجتهدت بأني أدخلت تعديلًا واحدًا في ترتيبها فنقلت "التعريب" من المركز الخامس إلى الثاني في أولويته، وذلك لأني أظن أن التعريب[16] أصبح ضرورة في عصرنا أكثر مما كان حين نشر الكتاب المذكور، والذي قد مضى عليه نحو مئة عام أو أكثر، فتغير الزمن والأحوال.

الترجمة

الترجمة هي أسهل طريقة في تعريب الكلمات الأجنبية، فالمقصود بها -ببساطة- هو ترجمة معنى المصطلح الأجنبي إلى معنى قريب في العربية. والمصطلحات التقنية التي تغيب من القواميس العربية كثيرة، ولا تحتاج كلها لاختصاصي لترجمتها، فعلى سبيل المثال: من الواضح أن عبارة "Cognitive Revolution" معناها التقريبي هو "الثورة الإدراكية" أو "الثورة المعرفية"، وللمترجم أن يجتهد في نقلها هكذا لو لم يجدها في قاموس أو مرجع لغوي معتمد، وينطبق المثل على كثير من الكلمات التي ليس لها تعريب معتمد.

وللترجمة المباشرة خطر؛ هو أنها قد تبدو سهلة في عين المبتدئ، ولكنها تتأثر -في الواقع- بتفكير المترجم وميوله، ولهذا قد تؤدي إلى ظهور ترجمات عربية عديدة لما كان مصطلحًا واحدًا في اللغة الأجنبية. فكلمات "حاسب" و"حاسوب" و"محساب" و"حاسبة" جاءت وليدة ترجمات عديدة؛ توافق كل منها ميولًا شخصية أو مجتمعية لمترجم أو لمؤسسة لغوية، ومعظم القراء يفهمون أن هذه الكلمات مترادفة لأنها كلها مشهورة، لكن من يقرأ كلمة "الحَاضُوْن" لأول مرة قد لا يعرف أن المقصود بها هو "الحاسوب المحمول" أو "اللابتوب"، وقد يضيع القارئ بسهولة بين هذه الترجمات المتفرّقة، التي قد يضيف إليها كل مترجم إضافةً جديدةً حسب هواه.

ولا تخرجُ أي من وسائل التعريب التي سوف نأتي عليها خارج نطاق التأثير الشخصي للمترجم، لكن الترجمة تبقى وسيلةً محدودة، وقد لا تكفي دومًا (على سرعتها، وبساطتها) لتلبية الحاجة، فينتقل المترجم منها إلى الوسيلة التالية أدناه -على الترتيب- حتى يجد الطريقة الأنسب.

التعريب

لكلمة "التعريب" عدة معان دارجة ربما يختلط بعضها ببعض، فمنها الترجمة والنقل إلى اللغة العربية عامة، ومن معانيها -كذلك- ترجمة الكلمة المنفردة من لغة أجنبية إلى العربية (وهو موضوع هذا المقال بعمومه)، ومنها (وهو المقصود هنا) نقحرة المفردة الأجنبية باللسان العربي مع تكييفها و«[صبغها] بصبغة عربية».[17] ومعنى "المُعرَّبُ" هو ما استعمله العرب من ألفاظ لمعان من غير لغتهم،[18] وتعريبها من أنفع الوسائل في نقل الألفاظ بين اللغات؛ ومن أقدمها كذلك.

يقول أبو هلال العسكري،[19] وهو أديب ولغوي من الأهواز عاش في عصر الدولة العباسية: «والكلمة الأعجمية إذا عُرّبَت فهي عربية، لأن العربي إذا تكلم بها مُعرّبة لم يُقَل إنه يتكلم بالعجميّة». فالتعريب -إذًا- هو استعارة مفردة من لغة أجنبية مع تعديل في لفظها وشكلها؛ ليتّفق مع الصوت والصرف العربي، فتلحق بكلام العرب وتعامل بأحكامه، وأحيانًا تترك على أصلها فتعامل مثل اللفظ الأجنبي (كما سيأتي في بند "النقحرة").[20]

ويقول في المعربات الأمير مصطفى الشهابي،[21] وهو رئيس "مجمع اللغة العربية في دمشق" -سابقًا- وأحد روّاد الترجمة في النهضة العربية: «ولا ضير في التعريب كلما مسّت الحاجة إليه، وكلما تعذر العثور على كلمة عربية تقابل الكلمة الأجنبية، أو تعذّر إيجاد كلمة عربية تفيد معناها بوسائل الاشتقاق المعروفة». ويضيف لكلامه رائد مشروع المعجم الطبيّ الموحد محمد هيثم الخياط: «وكذلك حين تكون الكلمة العربية المقترحة أشد عُجمةً من الكلمة الدخيلة».[22]

والتعريب أو "الإدخال" موجود منذ القدم في اللغة العربية، وفي شتّى لغات العالم، فهو لا يكون مقصودًا بالضرورة بل قد يقع عفوًا؛ حينما تدخل لفظة أجنبية إلى اللغة ثم تتغير -مع الزمن- حتى تتماشى مع ألسنة الناس. ومن المعرّبات المألوفة: "التقنية" (technology) و"الموسيقى" (music) و"الديمقراطية" (democracy) و"الأكسدة" (oxidation) و"المغناطيس" (magnet).

وقد شاع التعريب في اللغة العربية منذ بداية تاريخها، فدخلت عليها آلاف الكلمات المعرّبة قبل الإسلام، بل وفي القرآن من لغات الفرس والروم والحبشة والسريان،[23] كما دخلت عليها كلمات في العصر العباسي من اللاتينية واليونانية،[24] وفي العصر العثماني والاستعماري من التركية والفرنسية والإيطالية والإنكليزية. ومن الأمثلة الحديثة المنتشرة على التعريب "تلفاز" الناتجة عن تحوير اللفظة الإنكليزية Television و"أكاديمية" المُحوّرة عن Academy، وقد يحدث التعريب في اللهجات (أيضًا)، مثل كلمة "أصنصير" في بعض اللهجات العربية، وهي تعريب الكلمة الفرنسية ascenseur (ولفظها الأصلي: آسينسوغ، أي مصعد كهربائي).

والتعريب مفيد جدًا لأنه سهل بالنسبة لعموم الناس وقريب لأذهانهم، لكنه يبقى غير مُحبّذ في بعض السياقات؛ لأنه يخلق ألفاظًا جديدةً قد لا يألفها القارئ دون تكرارها وانتشارها، وفيه اجتهاد باللغة ربما لا يحق للمترجم الإقدام عليه.[25] فالتعريب يكسب قوته من انتشاره العفوي على ألسنة الناس، كالأمثلة أعلاه ولكنه يخسر هذه المنفعة إن أتى مبتدعًا ومقصودًا.

ولعل إحدى اكبر فوائد التعريب هي في ترجمة الأدب، إذ تعج كثير من الروايات والأشعار بمصطلحات مختلقة أو نادرة تصعب ترجمتها، وليست لها مكافئات بالعربية، فقد تكون من اختراع المؤلف أو الأديب نفسه (كما في الروايات الفانتازية التي تكثر فيها المدن والشعوب واللغات المصطنعة)، وفي هذه الحالة قد يحظى المترجم بحرية التلاعب باللغة، لأنه لا يعرب لفظة دارجة في لغة حقيقية، وإنّما كلمة مختلقة ينحصر استخدامها في كتاب أو سلسلة من الكتب.

الاشتقاق

يعد الاشتقاق من أكثر ما يُشاد به من مزايا اللغة العربية، فهي تتميز بقدرتها على اشتقاق الألفاظ وتنويعها وتسهيلها. وللغة العربية قياس؛ حيث يشتق كلامها من بعضه، وذلك بأن يؤخذ عن الأصل فرع يوافقه في حروفه ويدل عليه، ومنها أن يشتق من الفعل اسم وصفة وغير ذلك. فمن "سَرَعَ" يقال: "السرعة" و"التسارع" و"الإسراع" "و"المُسَارَعَة" و"المُسْرِع" و"السَّريع".[26]

تكثر المشتقات في اللغة العربية، ومن أهمها سبع فئات من المشتقات (هي: اسم الفاعل، واسم المفعول، والصفة المُشبّهة، وأفعل التفضيل، واسم الزمان، واسم المكان، واسم الآلة). وتظهر فائدة طرق الاشتقاق هذه بسياقات كثيرة في التعريب نُقلت بها كلمات مألوفة لنا،[27] مثل: أسماء المكان (ومنها: "محطة" من حطّ، و"مُختَبر" من "اخْتَبَرَ"، و"مَوْقِف" من "وَقَفَ")، وأسماء المفعول ("مُنْطَاد" من "انطاد" أي: "صعد في الهواء)، وأسماء الآلة ("مِصْعَد" من "صَعَدَ"، و"غوَّاصة" من "غَوَصَ")، وهذه كلها مسميات لأماكن أو أشياء حديثة اشتقّت من جذور عربية.

وبعض الأسماء المعرّبة عن اللغات الأخرى تقبل الاشتقاق،[28] مثل: "مَغْنَط" و"مِغْنَاطيسيَّة" (وأصلها مَاچنِتْ)[29] و"التقنيين" و"التقانة" من تقنية (وأصلها تكنولوجي)، وهذه من أفضل الوسائل في إثراء اللغة بمصطلحات جديدة وتنويعها ممّا عُرّب واقتبس عن لغات أخرى من الكلمات الحديثة.[30]

المجاز

وهو تقريب المعنى أو النقل المجازي من وسائل الترجمة الشائعة، وخصوصًا منذ بدء النهضة العربية في القرن العشرين: وهذا ليس بالأمر المستغرب، فمتى ما تعوّد القارئ العربي على المجاز؛ قد يصبح أيسر المعرّبات وأجملها ربما. وأساس هذه الطريقة هو أخذ مفردة عربية في أصلها، وإضفاء معنى جديد عليها -إما عمدًا أو عفوًا- يتسق مع معناها الأول و"يجوز مجازه"، إما لأن بينهما شبهًا؛ أو لاتصال العام للبعض؛ أو بالإضافة؛ أو بغير ذلك،[31] ويقال في تعريف المجاز أنه: "كل كلمة أُريدَ بها ما وقعت له في وضع واضعٍ وقوعًا لا يستند فيه إلى غيره".[32]

وللمجاز أمثلة مألوفة كثيرة منها كلمة "قطار"، ومعناها التراثي "قافلة الإبل" ثم وُسِّع بالمجاز ليشمل القطارات الحديثة، ومثلها "السيارة" التي كانت تصف جماعات المسافرين، فأمست لفظة للمركبات الحديثة، وكذلك الطائرة والدبابة والشاحنة والغواصة والهاتف والجوال والخلاط والغسالة والثلاجة وغيرها من أسماء الاختراعات والآلات.[33]

والفرق بين النقل المجازي، والترجمة المألوفة؛ أن المجاز لا يبتدعُ لفظًا جديدًا، بل "يعيدُ تدوير" ألفاظ عربية أصلًا وقريبة في معناها السابق من معناها الجديد. فالقطار والسيارة مفردتان متداولتان منذ القدم؛ إذ كانت تعني الأولى صفًا متواليًا من الإبل والثانية قافلة، ولمعنيَيْهما القديمين صلة وشبه واضحان بالمعنَيين المستحدثين. وليست كل أسماء الاختراعات العربية مجازًا، فكلمة "المُحرِّك" جديدة لم يستخدمها العرب بمثل هذا السياق -أو ما يشبهه- قبل اختراع المركبات؛ وقبل استحداث كلمة Motor في اللغات اللاتينية، ولكن بعد ظهور هذا الاختراع اشتُقت لها ترجمة من فعل "حَرَكَ" (وذلك اهتداءً بأصل الكلمة اللاتينية moto ومعناه "تحريك")، وهذا يعني أنها ليست مجازًا حتى ولو بدت عربية الأصل.

ولا بد للمُعرِّب (إن أراد اتباع طريقة المجاز) من إحاطة هائلة باللغة العربية ومفرداتها الواسعة، فدون ذلك لن يعثر على الكلمات المناسبة في معناها وسياقها التاريخي. وللمجاز مشكلة أخرى؛ وهي أنه يختلق معاني جديدة للكلمات، ولذا قد لا يختلف كثيرًا عن اختلاق مفردة جديدة من العدم، ويبقى دون فائدة تذكر إن لم يتعوّد عموم الناس على المجاز، وإن لم يدوّروه على ألسنتهم. فعلى سبيل المثال: لم يكن لقرار أحد مجامع اللغة بتعريب كلمة "الحاسوب المحمول" (Laptop) إلى "الحاضون" أي قيمة تذكر، لأن هذا قرار لم يكترث به عدد ذا قيمة من الناطقين باللغة العربية، ومن المستبعد أن يكترثوا باتباعه لأنه لا يتفق في شيء مع الاستعمال المألوف والجاري للغة حاليًّا.

النحت والتركيب

النَّحْتُ أو "التركيب المزجي" في اللغة هو مزج كلمتين أو أكثر في كلمة واحدة اختصارًا وتسهيلًا، مثلما «ينحت النجار خشبتين يجعلهما خشبة واحدة». ومن أمثلة النحت "الحَوْقَلَة" (وأصلها "لا حول ولا قوّة إلا بالله")،[34] وشبيه بها اللفظ المركب؛ وهو إلحاقُ كلمتين معًا (أصلهما مضاف ومضاف إليه) بحيث تدلاّن على معنى جديد واحد، مثل: "لاإرادي"، فهي تدل على معنى يمكن إيجازه بلفظ واحد؛ ولكنه رُكّب بكلمتين متداولتين في اللغة.

كان مشروع "المعجم الطبي الموحد" من أهم المساهمات في نشر النحت والترويج له في تعويض النقص بالمصطلح العربي، ويساعد النحت على اختصار الألفاظ المركبة وتسهيل اشتقاقها واستعمالها في اللغة، ويعامل اللفظ المنحوت على أنه مفردة واحدة، فيقال "الاثناعشري" لعضو في جسم الإنسان، ولا تستبدل الألف فيها ياءً عند جرّها (على عكس الحال عند جرّ رقم "الاثني عشر" مثلًا). كما أن النحت يقع بصورة طبيعية غير مقصودة، فكثير من اللهجات العامية نحتت الكلمات بمرور الوقت، مثل: كلمة "إيش" أو "ليش" من "لـ/أي شيء هو"،[35] و"هسَّع" أو "لسَّة" من "لـ/هذه الساعة"،[36] و"فذلكة" من "فذلك العدد كذا"، وهلمّ جرا.[37]

النحت طريقة لها أنصارها وخصومها، ويدعو كثير من اللغويين العرب إلى عدم الإكثار منه لغرابته على اللغة، بينما يعتقد آخرون أنه قد يكون الوسيلة المناسبة للتعويض عن القصور الكبير في المصطلحات التقنية والعلمية في العربية الحديثة. ويولِّد النحت ألفاظًا غير مألوفة وربما تبدو منفّرة لذوق القارئ؛ مثل "الركمجة"،[38] ولذا يستعاض عنه كثيرًا باللفظ المركّب؛ فيقال: "ركوب الأمواج". والتركيب -من ناحية أخرى- من أسهل وسائل التعريب، ولكنه قد يفسد بلاغة اللغة، ويلجئ لاستخدام كلمات كثيرة في التعبير عن معنى واحد.

التأثيل

لو كُلّفتَ بالترجمة في علم الفلك ذات يوم، فقد تصادف أسماء أعلام تصعب ترجمتها مثل Betelgeuse، وهو اسم نجم مشهور، ومن المحتمل أن ينحو المترجم العربي -إن لم يرَ سبيلاً آخر- إلى نقحرة هذه الكلمة كما صنع مترجم مقالة لموقع "سي إن إن" عنوانه: «لغز فلكي جديد: نجم "بيتيلجوس" العملاق يتقلص».[39] وربّما تظهر هذه ترجمة مقبولة لمن لا يعرف أصل الكلمة، على أن البحث عنها في أي معجم سوف يبعث في نفس القارئ مشاعر لا يستهان بها من الحزن والأسى، لأن كلمة Betelgeuse العجيبة ليست إلا تحريفًا لاتينيًّا لاسم "يد الجوزاء[40] وهو مأخوذ في اللغات اللاتينية عن العربيّة مثله في ذلك مثل معظم أسماء النجوم المشهورة، وكان على مترجم المقال أن يكتشف هذه المعلومة لو أمضى بضع دقائق في تقصّيها.

7.2.jpg

خريطة للنجوم من كتاب "صور الكواكب الثمانية والأربعين" لعبد الرحمن الصوفي، ويظهر فيها نجم "يد الجوزاء" باسمه العربي الأصيل. - منشورة تحت ترخيص الملكية العامة. المصدر: ويكيميديا كومنز

لهذا السبب أضيف التأثيل إلى سُبل التعريب الخمسة التي اقترحها أحمد عيسى بك. ومعنى التأثيل هو تقصي أصل الكلمة التاريخي، فجُلّ مفردات اللغات -كافة- هي عبارة عن اقتباس وتحريف واشتقاق واستحداث للمفردات من أصول ما، وتحفظ لنا المعاجم تاريخ هذه الأصول، وحينما نرجع لها قد نفهم معاني كثير من الكلمات العلمية والأكاديمية؛ التي يستعصي تعريبها بأي وسيلة أخرى، مثل كثير من أسماء الحيوانات والنباتات والأمراض وأعضاء جسم الإنسان؛ المأخوذة أصلًا عن اللاتينية.

على سبيل المثال، كلمة "Acanthopterygii" هي اسم لمجموعة من الأسماك، ولعله يبدو اسمًا عجيبًا أو دون معنى للوهلة الأولى، لكن، وبالرجوع إلى معجم ميريام ويبستر المعروف يتضح أنه مزج بين كلمتين من اللغة الإغريقية القديمة: وهما "acanth" (أي "شوك") و"pterygii" (أي "زعنفة" أو "جناح"، وبما أن ما يشار إليه في هذا السياق هو نوع من الأسماك، فمن الواضح أن المعنى المقصود الزعنفة وليس الجناح). وعند مراجعة بعض المعلومات عن هذه الفصيلة في موسوعة مثل "ويكيبيديا"، يتبين أنها تمتاز بأن زعانفها تتخللها عظام رفعية أقرب إلى الأشواك، ومن هنا يكتمل تعريب الاسم معنى وسياقًا وهو: طائفة "شوكيّات الزعانف"، أي الأسماك ذات الزعانف الشوكيَّة.

ولنا أن نسير على النهج ذاته في تفسير آلاف المصطلحات الغريبة والمستعصية التي تواجه المترجم، والتي قد يكون من الصعب -بل المستحيل- الاستعانة بالمصادر العربية لترجمتها. وهذا حل فيه قدر كبير من الاجتهاد، لكنه يبقى ملجأ عظيم النّفع في التعريب إن لم يصلح ما سلف.

النقحرة[41]

من أكثر الأخطاء التي يرتكبها المترجمون الجدد (والكُتّاب إجمالًا)؛ هي ابتداع تهجئات جديدة للكلمات المستعارة من لغات أجنبية حين "نقلها حرفيًا". فمن السهل حين ترجمة كتاب أو مقال طويل فيه أسماء صعبة، أن يخترع الكاتب ثلاث أو أربع تهجئات لاسم واحد بسبب السّهو والنسيان، وتعود هذه المشكلة إلى الغموض الكبير في تهجئة الألفاظ اللاتينية بالعربية، وتسمى هذه "النقحرة"[42] (وهي كلمة معرّبة بطريقة النحت التي تناولناها أعلاه من: "النقل الحرفي")، وتعني نقل صوت غير عربي إلى اللغة العربية مع الحفاظ على شكله الأصلي، وهو -للأسف- أمر غير سهل أبدًا.

تفتقر اللغة العربية الحديثة إلى قواعد قياسية للنقحرة، ولذلك لا بد لنا -في كثير من الأحيان- من الاعتماد على شيوع الكلمة أو اتفاق مجامع اللغة عليها، وليس على "صحتها". على سبيل المثال، من أكبر المعضلات في النقحرة العربية صوت الـG اللاتيني (والمعروف -أيضًا- بالـ"الجيم المصرية" أو "القاف الحجازية")، فيجوز نقله إلى اللغة العربية بما لا يقل عن ست أو سبع صور نراها في التهجئات الشائعة لاسم شركة Google، ومنها "جوجل" و"غوغل" و"قوقل" و"گوگل"،[43] ولا بد هنا أن نعد جميع صور الكتابة المتعارف عليها صحيحة لأنها جميعًا أو معظمها تحظى بتأييد أساتذة ضليعين باللغة العربية، وبالتالي فلا أفضلية لواحدة منها على سواها إلا بذوق الجمهور المستهدف أو ذوق المترجم.

يجدر بالمترجم المتقن أن يبحث عن تهجئة معروفة للكلمة المعنية؛ إن كانت معروفة، فاختراع النقحرة الجديدة غير محبذ إلا حين الضرورة، ومن السهل أن ينقحر المترجم اسمًا مثل Samuel إلى "سامويل" أو "صَمويل" أو "صاموِل" أو "سموِيل" أو غير ذلك. ولا وسيلة -مرة أخرى- للاحتكام إلى واحدة من هذه النقحرات بناءً على "صحتها"، إذ لا توجد قواعد واضحة أو ثابتة بهذا الخصوص، لكن من الأفضل الاعتماد على نقحرة مستخدمة -مسبقًا- في مصادر معتبرة باللغة العربية، وذلك اهتداءً بالسائد والمعروف في كتابة الاسم.

7.3.jpg

نقحرة لاسم محل McDonald's من الإنكليزية للعربية. - منشورة تحت ترخيص CC-BY. المصدر: ويكيميديا كومنز

والقاعدة السائدة في أسماء الأعلام هي أنها لا تترجم أبدًا؛ وإنما تجب نقحرتها في كل سياق، ولكننا ربما نغير لفظها لتكييفه وتعريبه. ومن الأعلام جميع أسماء الأشخاص والأماكن والبلدان والشركات والعوالم التخيلية وكثير غير ذلك، فاسم شركة Caterpillar لصناعة الأحذية لا يُترجَم بل يُنَقحَر إلى "كاتَربيلار"، واسم Wikipedia هو "ويكيبيديا" (وليس "موسوعة الويكي").

وبعض أسماء الأعلام معربة؛ فهي لا تكتب بنقحرة كاملة، بل بلفظ حوّره اللسان العربي بمرور الوقت، فيقال: "النرويج" بدلًا من "نُورْواي"، و"بكين" بدلًا من "بيجنغ"، وفي هذه الحالات يُرجع إلى التهجئة المعربة. وبعض أسماء الأعلام لها مقابلات عربية تختلف في اللفظ (وربما في المعنى) عن أسمائها الأجنبية، وفي هذه الحالة يُرجَع للتسمية الأكثر شيوعًا بين الاثنين، مثل: دولة "مونتينجيرو" في شرق أوروبا التي يقال لها -بالعربية-: "الجبل الأسود"، ودولة "كُوْتْ دِيْفْوَار" التي قد يقال لها "ساحل العاج" (حسب جمهور الترجمة[44])، وهلم جرا.

أسماء الأعلام

إحدى الحالات الأكثر تعقيدًا في التعريب؛ هي أسماء الإنتاجات الفنية والأدبية (الحديثة منها والقديمة)، مثل: عناوين القصص والروايات والمسرحيات والأفلام والمسلسلات التلفزيونية وألعاب الفيديو، وهذه تحتاج إلى تأمل ومناقشة لأن أسماءها طويلة ومعقدة؛ إذ تمسي قراءتها صعبة عند تهجئتها بحروف عربية، كما أن أسماءها غالبًا ما تهدف لإيصال معان ودلالات واضحة تضيع عند نقحرتها.

ومن الشائع في لغات العالم تعريب أسماء الأعمال الأدبية (مثل: الكتب والروايات) بالترجمة، فنقول "الجريمة والعقاب" و"كبرياء وهوى"، على أن الأمر يصبح عسيرًا جدًا في الإنتاجات الحديثة، (مثل: ألعاب الفيديو والأفلام)، والسبب هو أن أسماء هذه الإنتاجات كثيرًا ما تستمد أصلها من مصطلحات ثقافية يصعب نقلها بين اللغات، ولأن لكثير منها مجتمعات كبيرة من المعجبين والمتابعين، الذين يعرفونها بأسمائها الأصلية؛ ولكنهم لا يتقبلون تغيير اسمها ولا ترجمته. ومن أمثلة الأسماء ذات الخصوصية الثقافية عنوان رواية "Hickory Dickory Dock" -الحديثة نسبيًا- لأغاثا كريستي، وفلم "Eternal Sunshine of the Spotless Mind" (إنتاج 2004)، ولعبة "Counter-Strike: Global Offensive": فضلًا عن أسماء جميع ألعاب الفيديو تقريبًا. فلو عرّبنا اسم اللعبة الأخيرة -مثلًا- إلى: "الضربة المضادة: الهجوم العالمي"، فهل سوف يتقبّل أي من اللاعبين العرب الحديث عنها بهذا الاسم؟

وأما أسماء الناس، سواء كانوا حيقيقيّين أم شخصيات خيالية تظهر في رواية أو لعبة أو فلم، فليس من المقبول -إجمالًا- أن يعبث بها المترجم ولا يغيرها.[45] وتستثنى حالة واحدة عامة من هذا: هي ترجمة أدب وإنتاجات الأطفال، لأن الأسماء الأجنبية قد تبدو غريبة على مسامعهم وصعبة اللفظ والفهم لديهم، ومن أمثلة ذلك تعريب الأسماء في دبلجات قناة "سبيستون" للأطفال (مثل: "سابق" بدلًا: من "Seiba Go"، و"لاحق" بدلًا من: "Seiba Retsu"). وربما تضاف إلى ذلك حالات قليلة، منها: أن يكون للاسم أصل أو مكافئ عربي، كأسماء الأنبياء، فيجوز أن نترجم اسم David إلى "داوُد" إن ورد في سياق ديني.

توحيد المفردات

إحدى أهم المسائل في الترجمة الأدبية؛ هي الحرص على توحيد المصطلح الواحد في كل موضع يرد فيه ذكره بالمقال أو الكتاب الواحد. وقد أمست في اللغة العربية كثير من المصطلحات المتضاربة التي استحدثت لتعريب العلوم والآداب، ومنها أسماء الأجهزة الإلكترونية الحديثة والمفردات العلمية الاختصاصية، ومثل هذه التعريبات لم يأتِ بصورة طبيعية على ألسنة الناس؛ بل ابتدعها كل مؤلف ومترجم وهيئة حسب الحاجة فضلّلت القراء. ومنها أن يقال: "التقنية" و"التقانة" و"التكنولوجيا" و"التقنولوجية"، وهي كلها تعريبات لأصل واحد.

ولا شك بأن المترجم لا يستطيع توحيد أي من هذه المصطلحات في البلاد العربية جمعاء (فمجامع اللغة لم تستطع)، ولكنه قادر على توحيدها في ما يترجمه. فلدى تعريب بعض من هذه الكلمات في مقال أو كتاب، فلا بد من تسجيل أي تعريب يجتهد المترجم فيه ضمن قائمة أو مسرد يعود إليه فيما بعد، وتساعد هذه القائمة على تثبيت المصطلحات في ذهن المترجم وإيجاد تصاريف واشتقاقات عربية مناسبةٍ لها في بعض الأحيان، كما تجبره على التفكير بتعمق قبل تعريب أي مصطلح.

هاري بوتر مثالا

سلسلة هاري بوتر هي أكثر سلاسل الكتب مبيعًا في التاريخ، فقد بيع منها أكثر من 500 مليون نسخة منذ نشرها، ولهذه الروايات جانبان جعلاها محط اهتمام باحثي الترجمة: الأول هو أنها ترْجمت إلى نحو ثمانين لغة؛ فأصبحت من أكثر الكتب ترجمة ونقلًا بين اللغات، والثاني هو أنها رواية خياليّة تعج بأسماء شخصيات وأماكن ومخلوقات ترهق المترجم وتستلزم إبداعًا وخيالًا خلّاقًا؛ فأصبحت موضوعًا للمقارنة والدراسة بين الترجمات الكثيرة.

في روايات هاري بوتر رمزيّة كبيرة لكل المسميات، فهي تستشهد بأماكن معروفة كثيرة لقرّاء اللغة الإنكليزية (مثل محطة "كينغز كروس" بمدينة لندن)، كما تأتي بأسماء مخلوقات أسطورية من ثقافات أوروبية (كالتنين و"الترول") وبأسماء كثيرة لها معانٍ رمزية (كاسم "ألبوس دمبلدور"؛ ومعنى اسمه الأول "البياض" باللاتينية، فيرمز اسمه إلى خصاله الخيّرة، وبعكسه "دراكو مالفوي" فمعنى اسمه الأول التنّين)،[46] بل واسم صحيفة "Daily Prophet"؛ وهي محاكاة لصحيفة "Daily Mail" البريطانية المعروفة.

ومن اللغات التي تُرجمت إليها هذه الروايات: الإسبانية والإيطالية، وكلاهما تألفان التكييف والتعديل في الترجمة ليتناسب مع ثقافتيهما. وتحتفظ هاتان الترجمتان بمعظم أسماء الشخصيات والأماكن في الرواية على حالها، ولكنهما تتلاعبان ببعض الألفاظ الهامشية أملًا في نقل بعض من إيحائها الثقافي، ومن أمثلة ذلك: أسماء الكتب التي يدرسها طلاب المدرسة ومنها كتاب "Magical Theory by Adalbert Wafflin"، وعدلت النسخة الإيطالية اسم المؤلف إلى "Adalbert Incant" أي "أدالبرت المشعوذ".[47]

ومن غير المناسب في هذه الحالة ترجمة أسماء الشخصيات الرئيسة في القصة (مثل "هاري بوتر" و"دمبلدور") على الرغم من رمزيّتها الثقافية، وذلك لأنها مألوفة لقارئ القصّة العربي، ولن يكون من المفيد ولا الممتع له أن يرى أسماء شخصياته المفضلة وقد عُدّلت وأفسدت في الترجمة (إلا لو كانت أسماءً ألفها القارئ العربي بترجمتها قبل أن يعرف أصلها الأجنبي، كحال شخصيات بعض من القصص المصورة المترجمة التي سوف نتحدث عنها لاحقًا).

وقد يختلف الأمر مع عنصر هامشي بالقصة، مثل: أسماء الكتب، فالقارئ لن ينزعج من تغيير أسمائها غالبًا، وبالعودة للمثال أعلاه، فما من بأسٍ بتعريب عنوان الكتاب إلى ما يشبه الكتب العربيّة التراثية (وهي نظيرة التراث اللاتيني الذي تغص به القصة) فنقول: "فن الأسحار لأدالبرت المِغوار" أو ما شابه. وتلتزم الترجمة العربيّة لهاري بوتر -عمومًا- بتعريب متزن، لكن فيها أخطاءً منهجيّة مما ذكرناه أعلاه، مثل: كونها تعدد في ترجمات الأسماء نفسها ، فتعريب "Prefect" يأتي تارةً "رئيس التلاميذ" وتارةً "رائد الفصل"، و"Poltergeist" يصبح حينًا "الشبح الشرير" وحينًا "الشبح المشاغب"، وفيها أمثلة أخرى تناولها الباحثون.[48]

إجمالًا، على المترجم أن يحاول أن يكون مبدعًا وخلاّقًا، باستغلال جمال العربية وإمكاناتها في تجديدها بما ينقصها. ولكن مهما كانت الوسيلة التي تلجأ إليها حينما تنخرط بنفسك في التعريب، فعليك أن تتذكر أن اللغة ظاهرة اجتماعية، وأن كل كلمة ومصطلح يُضاف إليها باجتهاد شخصي، لن يكون له معنى يُذكر ما لم يندرج على ألسنة الناس في حديثهم اليومي، وهذه -دومًا- هي العقبة الأولى والكبرى للمعرّب.

_____

اقتباس

ملاحظة: إذا أردت مراجعة المراجع والمصادر المشار إليها فيمكنك ذلك من خلال قراءة هذا الفصل من كتاب فن الترجمة والتعريب والرجوع إلى فصل المصادر فيه.

اقرأ أيضًا


تفاعل الأعضاء

أفضل التعليقات

لا توجد أية تعليقات بعد



انضم إلى النقاش

يمكنك أن تنشر الآن وتسجل لاحقًا. إذا كان لديك حساب، فسجل الدخول الآن لتنشر باسم حسابك.

زائر
أضف تعليق

×   لقد أضفت محتوى بخط أو تنسيق مختلف.   Restore formatting

  Only 75 emoji are allowed.

×   Your link has been automatically embedded.   Display as a link instead

×   جرى استعادة المحتوى السابق..   امسح المحرر

×   You cannot paste images directly. Upload or insert images from URL.


×
×
  • أضف...