يقول "وولتر بينجامين" في مقالة شهيرة: إن الهدف الأول من الترجمة هو الوصول إلى من لا يستطيع القراءة بلغة أجنبية، وذلك «لتحرير النص من سجن اللغة» التي كُتب بها، وبثّ الحياة فيه بلغات جديدة.[1] ولولا هذه الغاية لصارت الترجمة محض استنساخ قاصر،[2] فهي -بطبيعتها- يكتنفها نقص وعيوب حتمية مهما بذل المترجم جهده وطاقته.[3] فما هي -إذًا- قيمة الترجمة مقارنةً بأصلها؟
الترجمة، أم الأصل؟
لا تكمن غاية الترجمة في نقل الأدب كاملاً ومثاليًّا بين لغتين، وإنما بتيسير الوصول لجوهر هذا الأدب (ولو نقص منه شيء) إلى من لا سبيل له غير ذلك. فلولا الترجمة لما شاهدت في طفولتك أي مسلسلات وأفلام كرتونية تذكر، ولولاها لما كنت لتقرأ كثيرًا من كتب الأطفال المحبوبة (مثل سلسلة "أولادنا" من دار المعارف، وسلسلة "ليدي بيرد" من مكتبة لبنان) بلغتك الأمّ، ولولاها -أيضًا- لما كان ليقرأ إنسان في عصرنا الحاضر قصة ألف ليلة وليلة،[4] ولا ملحمتي: الإلياذة والأوديسة، ولا كتاب "فن الحرب" الشهير، فجميعها ترجمت عن لغات تراثية اندثرت منذ زمن طويل.
وتستمد الترجمة معناها ومصدرها واعتبارها من الأصل، فسبب الاهتمام بأي ترجمة هو أنها نشأت من نص أجنبي، ولو لم تكن رواية "هاري بوتر وحجر الفلاسفة" مترجمةً عن Harry Potter and the Pilosopher's Stone لما اكترث بقراءتها كثير من الناس، لكن العكس غير صحيح؛ فالأصل لا يحتاج للترجمة ولا يتأثر بها. ومع مرور السنين قد تتقادم الترجمة، فتتلاشى قيمتها مع تغير ألسنة الناس وأذواقهم وتفضيلاتهم، وأما الأصل فإنه يظل كنزًا أدبيًّا على مدى الزمان، فالأوديسة لا زالت تقرأ إلى يومنا هذا، لكن معظم ترجماتها[5] صارت أقرب إلى "صيحات"[6] تتبدل كل بضع عشرات من السنين،[7] ويزعم الألمان -مثلاً- أن ترجمة شكسبير بلغتهم أفضل من مسرحيات شكسبير الإنكليزية، بينما يشتكي الفرنسيون دومًا من ركاكتها عندهم.[8] ولكثير الأعمال الأدبية صلاحية شبه أبدية، فالناس يقرؤون في عصرنا أشعار المتنبي والمعري، مع أنها نظمت في زمن لا يمت لزماننا بصلة، وأما الترجمات فهي تتقادم بسرعة، إذ تسعى الترجمة -إجمالاً- لمحاكاة ذوق الناس الحالي وليس ذوقهم وقت كتابة النص الأصلي.[9]
وليس من دليل أقوى من هذا على صعوبة وظيفة المترجم: إذ لا تكفي ترجمة كتاب عن الإنكليزية إلى العربية مرة واحدة، وذلك فالترجمة عمل نسبي، وهي تختلف في كل مرة حسب الشخص الذي يقوم به والجمهور الذي يستهدفه. ومن أمثلة ذلك ترجمة دريني خشبة للإلياذة، وعنوانها: "قصة طروادة"، فهي ترجمة شعرية اختصر فيها الملحمة وأعاد ترتيب فصولها (سعيًا لتيسير قراءتها بالعربية)، وأما سليمان البستاني فقد ترجم نص الإلياذة الكامل شعرًا -بعربية فصيحة- في نهاية القرن التاسع عشر أو بداية القرن العشرين، وتختلف هاتان الترجمتان كل الاختلاف عن ترجمتي عنبرة الخالدي وممدوح عدوان للعربية الفصحى الحداثية. فكل ترجمة مما سلف لها ميزاتها وسيئاتها، بحسب مهارة المترجم وحنكته وهدفه من عمله،[10] وكل منهم خص جوانب من الأصل على حساب أخرى، مثل أن يضحي بجمال النص على حساب الدقة في المعنى.[11]
ونجحت الترجمة -في جميع الأحوال- بأن تنقل إلينا كنوزًا أدبية كثيرة عمرها آلاف السنين، والتي أنتجت في ظروف اجتماعية وإنسانية لا تكاد تمت بصلة لواقعنا الحاضر، ونقلت هذه الكنوز -كذلك- إلى مئات اللغات في كل قطر من أقطار الأرض، وما زال الناس (أو بعض الناس) يستمتعون بقراءتها ويتذوقونها في أيامنا، ولو بنكهة وطريقة مختلفة عما عرفه القراء في زمنها، وربما لا يمكن للترجمة إلا أن تصون جزءًا صغيرًا من روعة الأصل، ومع ذلك فإن هذه اللمحة البسيطة تبقى ثمينةً ومؤثرة بما يكفي لتكرس أجيال كاملة من البشر نفسها لقراءتها ودراستها. فلا شك أن الترجمة -على صعوبتها- تستحق عناءها وتأتي بثمارها،[12] ولو أنها قد تتطلب حكمةً وفطنةً هائلةً لتأتي بوقعها المرغوب، وتتجلى كثير من هذه الحكمة في الاختيارات العديدة التي على المترجم أن يقدم عليها.
جمل، أم إبل؟
نشر الباحث الإيطالي "أمبرتو إيكو" في سنة 2003 كتابًا بعنوان: Mouse or Rat ("جرذ أم فأر؟")، وهو يطرح في كتابه واحدةً من أكبر المعضلات التي تلقى بحثًا في الترجمة، ولا تدور هذه المعضلة حول الفئران والجرذان (مثلما يوحي عنوان الكتاب)، وإنما يستشهد "أمبرتو" بمثال بليغ له علاقة بتينك الكلمتين لإيصال المقصد من كتابه، إذ يطرح مشكلةً واقعية طالما يواجهها المترجمون الإيطاليون في نقل كلمة rat من الإنكليزية. فهل من الأصح ترجمتها إلى topo ("فأر") أم ratto ("جرذ")؟
غلاف كتاب "جرذ أم فأر؟". مقتبسة بترخيص الاستخدام العادل
في مشهد من مسرحية هاملت المشهورة، يقول البطل وهو ينظر إلى ستارة في الغرفة: ?How now? A rat (ومعناها التقريبي: «ما هذا؟ جرذ!»)، والمقصود هنا ليس حيوان الجرذ، بل أن هاملت انتبه لشخص متطفل دخل الغرفة خلسةً واختبأ خلف الستار، واختيار كلمة "جرذ" في هذا السياق اختيار حذق لأن لها دلالتين في اللغة الإنكليزية: فقد يقصد بها حيوان الجرذ (بوصفه كائنًا مزعجًا يرتاع الناس حين رؤيته) أو شخص متطفل (لأن اكتشاف متطفل في الغرفة يثير أحاسيس من الهلع، تشبه تلك التي يثيرها منظر جرذ).
ويقول الكاتب: إن من الأسلم ترجمة الكلمة في هذا السياق إلى topo (ومعناها بالإيطالية: فأر)، فكلمة "فأر" لدى الإيطاليين تعطي إيحاءً بالهلع من كائن غير مرغوب به، وهي أقل دقة من كلمة "جرذ" بمعناها الحرفي، لكنها أقرب للإيحاء المطلوب. ولهذا فإن ترجمة "فأر" مناسبة جدًا في السياق الأدبي، وأما عند الحديث عن الجرذان في سياق علمي (كالقول بأن: «الجرذان نشرت وباء الطاعون في أوروبا») فلا بد من ترجمتها إلى ratto، لأنها المفردة الأكثر دقةً على الصعيد الأحيائي. ويسمى الاختيار بين كلمتي الفأر والجرذ -كما سلف- "المساومة" [13] أو "المفاضلة" في الترجمة، أي المفاضلة بين المعاني بعضها على حساب بعض، وانتقاء الأنسب للسياق؛ فكل ترجمة لها سياق صحيح، وسياق خطأ.
ويصلح -بظنّي- تقريب هذا المثال المحوري في كتاب "أمبرتو إيكو" إلى مثال قريب في اللغة والثقافة العربية، والتي تكثر فيها أسماء حيوان آخر هو الجمل؛ لما له من منزلة كبيرة في التراث العربي، حتى صعب على المعاجم حصر أسمائه، فيقال أن له منها ثلاثمئة. إلا أن أسماء هذا الحيوان (كما نعلم الآن) ليست مترادفة، فكل منها يأتي محملاً بإيحاءات ذهنية مختلفة، مثل ما يرد في هاتين العبارتين:
- تعتبر الجمال العربية أول أنواع الجمال التي انتفع بها الإنسان.[14]
- تعالى النهار حتى أقبلت الإبل من كل فج بما عليها.[15]
ربما يتضح من أسلوب وسياق كلتا الجملتين السابقتين أن: الأولى حديثة، والثانية تراثية، فعندما يسمع العربي كلمة "الجمل" غالبًا ما تتبادر إلى ذهنه صورة جمل ككائن حي (وربما يكون قد رآه بأم عينيه في حديقة للحيوانات، أو في البادية، أو في رحلة ما)، ولو شاهد هذا الحيوان في فيلم وثائقي عن الحياة البرية، فغالبًا ما سيقول عنه: إنه "الجمل"؛ لأن هذا هو الاسم الأكثر شيوعًا في عصرنا، وأما لو كان الفيلم الوثائقي عن تاريخ العرب والمسلمين أو عن قيمة الجمال في الثقافة والتراث العربية؛ فمن المحتمل أكثر أن يأتي بكلمة "الإبل"، لأنها مستساغة في تلك السياقات، وأما لو كان الحديث عن أنثى الجمل في القرآن فقد عبرت كلمة "الناقة" عن ذلك المعنى؛ الذي ارتبط بناقة النبي صالح.
وحتى لو كانت هذه الثلاث الكلمات شبه مترادفة[16] في معناها؛ فإن الانطباع اللغوي الذي تثيره في ذهن المستمع مختلف جدًّا. ويفهم الناطقون بكل لغة هذه الاختلافات الطفيفة في وقع الكلمات، فيستخدمون كلًا منها لغاية وهدف بحسب ما يريدون الحديث عنه، سواءً أكان ذلك بوعي منهم أو بدون وعي، وأنت لا تُحذّر -مثلًا- سائق سيارة في بلد صحراوي قائلًا: انتبه، أمامك ناقة تعبر الشارع! وبالمثل، على المترجم حينما يواجه هذه الكلمة بلغة أجنبية في الترجمة فعليك أن يعي سياقها، وأن يختار بناءً على سبب منطقي أيًّا من مقابلاتها العربية هو الأنسب لسياقه، وهكذا "يساوم" بين المعاني مثلما قال أمبرتو إيكو.
في الترجمة -دائمًا- طرق عدة تصلح للتعبير عن المعنى، غير أن كل طريقة تحفظ جزءًا من معنى الكلام أو إيحائه وتفقد جزءًا، وجوهر الترجمة وإبداعها هو حسن اختيار الترجمة التي تحفظ الجزء الأكبر. وسبيل المترجم للاختيار بين هذه الطرق أن يرجع إلى مقصد الترجمة وغايتها، فكل سياق وكل جمهور يستدعي غاية مختلفة، وتظهر مهارة المترجم في تسخير اللغة للغاية المرجوة،[17] مثلما أن المترجم الإيطالي يختار -بناءً على غايته- بين كلمتي "الجرذ" و"الفأر"، ومثلما أن المترجم العربي قد يختار ذات يوم بين "الجمل" و"الإبل". وهذا الاستناد الدائم للحكم الشخصي؛ هو ما يجعل الترجمة ضربًا من الفنون.[18]
الترجمة فن
لا يسمع المرء باسم العم "دهب" إلا ويتخيل مسبحًا مليئًا بالنّقود في قصره الفارهِ بمدينة البط، والذي لا يكاد يتبرع العم "دهب" بقرش واحد مما فيه، ولو كان ذلك لأقربائه اللطفاء (سوسو ولولو وتوتو) ولا ابن أخته "بطوط". لكن اسم عم "دهب" المحبوب بين القراء العرب؛ هو في الحقيقة "سكروج ماك دك"، وابن أخته "بطوط" هو "دونالد دك"، وأقربائه الصغار هم "هُوِي ودُوِي ولُوِي". ولولا أن دار الهلال استحوذت على حقوق نشر القصص عربيًّا في سنة 1959؛ لربما بقي عم "دهب" العم "سكروج" إلى الأبد،[19] مثلما أن مستر "سلطع" (من مسلسل سبونج بوب) ربما كان ليبقى "مستر كرابز"، وأن "بظ يطير" (من فلم "حكاية لعبة") كان سيبقى "بز لايتيير"،[20] وهذه محض شخصيات قليلة من أيقونات كثيرة نشأت عليها أجيال من الشباب والكهول، والتي ندين بها لإبداعات في الترجمة العربية.
يقول نعوم تشومسكي: «اللغة إبداع حر، فقوانينها وأسسها ثابتة، لكن في اتباع هذه المبادئ تساهل ينجم عنه تنوع لانهائي».[21] ولأن الترجمة من فروع اللغة فإن لها -كذلك- مبادئ عامة؛ وهي التقيد بمعنى النص الأصلي، وفيها باب كبير للإبداع بإعادة خلق جماليات النص بلغة جديدة، ولهذا فعلى كل مترجم أن يضيف إلى النص شيئًا من ملكته الشخصية، والتي لا غنى عنها للتعويض عن بعض مما فقده النص أثناء نقله.[22]
بذل الباحثون محاولات كبيرةً في الماضي للتغاضي عن إبداع المترجم، وذلك بأنهم حاولوا جعل الترجمة نشاطًا علميًّا أملًا بأن تتبع درب العلوم الطبيعية من الرياضيات وأقاربها، إلا أن ثمة اتفاقًا عامًّا بين الباحثين الآن على أن الترجمة عمل إبداعي (أو مزيج بين الإبداع والعلم، أو بين الأدب واللغة[23])، ولذا، لا يجوز تقييدها بقواعد صارمة. فلا بد أن يتحلى المترجم بحرية اختيار الكلمات والتعابير المناسبة في ترجمته؛ بناءً على خبرته وقدراته اللغوية، ولا يمكن إغفال دوره الشخصي في اتخاذ عدد لانهائي من القرارات الصغيرة والكبيرة بالترجمة، والتي قد تغير من وقع هذه الترجمة في نفس القارئ جذريًّا. وتزداد الحاجة إلى موهبة المترجم هذه كلما كان للنص قيمة أدبية وبلاغية أكثر،[24] فنقل جمال الكلام أصعب من مضمونه (كما سوف يأتي في أقسام لاحقة).[25]
بسبب الترادف السطحي بين اللغات الذي رأيناه سابقًا، يجب على المترجم أن يحتكم إلى خبرته -أولًا وأخيرًا- ليقرب فحوى الكلام وجماله من الأصل،[26] وهذا يجعله أديبًا وفنانًا أكثر منه عالمًا، فهو يستند إلى ملكة الخيال واللغة؛ لا أنه يبحث عن المعاني الصحيحة والدقيقة[27] (حتى ولو أن تفنّنه يبقى محصورًا ضمن ما يمليه النصّ الأصلي).[28] ولهذا فإن ما يسعى إليه هذا الكتاب ليس إلا أن يعطي المترجم مقدمة ينطلق منها، وأن يعين المترجم على وضع أساس منهجي يحتكم إليه في ترجمته ليتمها على أكمل وجه، وأما اختيار هذا المنهج فهو قرار يرجع إلى المترجم وحده. ولكنْ وقبل الخوض في مناهج الترجمة، لا بد من الإلمام بأنواع الترجمة وفئاتها المتعدّدة.
أنواع الترجمة
الكتابة أنواع، والترجمة كذلك، فليس كل من يكتب سبقًا صحفيًا قادرًا على تأليف كتاب، وليس الأديب بمؤهل لكتابة إعلانات دعائية لمطعم أو محل تجاري. فالمهمة الأولى تحتاج صحفيًا، أما الثانية فتحتاج مؤلفًا، وأما الثالثة فتحتاج مسوقًا، وجميعهم كتاب، لكن لكتاباتهم أسس وقواعد متباعدة: وكذلك المترجمون، إذ ليست ترجمة رواية لـ"دستويفسكي" كترجمة مقالة علمية في ميكانيكا الكم، لا من حيث المحتوى ولا من حيث جمهور القراء.
الترجمة المهنية
تعنى الترجمة المهنية بكل نقل بين اللغات له هدف مهني أو وظيفي، ومن أمثلتها المعتادة: ترجمة الوثائق التجارية، وعقود العمل، والأوراق القانونية والحكومية، وأدلة (كتالوغات) استخدام الأجهزة الإلكترونية، وما إلى ذلك. وأهم سمات الترجمة المهنية أنها تتطلب الدقة الشديدة، وعدم الخروج عن معنى النص الأصلي بزيادة الكلام أو نقصانه، وفي الالتزام بالمصطلحات المعروفة والواضحة.
والترجمة المهنية ضرورية في الحياة اليومية للناس، خارج إطار الكتب والأدب، ولكنها تتكون -في الغالب- من نصوص يقرؤها المرء في العمل، أو حينما يبتاع شيئًا من متجر، أو حينما يشاهد إعلانًا على شاشة التلفاز. وقد يكون هذا النوع من الترجمة أكثر ما يُطلب في سوق العمل؛ وذلك لفائدته التجارية والعملية، وقد يبدو مضجرًا للمترجمين الشغوفين باللغة والأدب، لكنه -عادةً- مجزٍ أكثر من الناحية المادية.
الترجمة العلمية
تندرج الترجمة العلمية -عادةً- كفئة ضمن الترجمة الأدبية، وذلك لكون معظم الكتب، والمقالات العلمية، ضربًا من ضروب "الأدب الواقعي"،[29] ولكن بين هاتين الفئتين اختلاف شاسع بالنسبة للمترجم، وذلك لأن الترجمة الأدبية تتطلب منه حسًّا لغويًّا مرهفًا ومبدعًا، أما الترجمة العلمية فالغرض الأساس منها هو نقل المعنى والمضمون الأكاديمي.
ومن سمات الأدبيات العلمية وحدة أسلوبها -تقريبًا- في جميع اللغات، فهي لا تتضمن -مثلًا- إحالات ثقافية وليس فيها تلاعب بالألفاظ أو قواف شعرية، لذا من شروط ترجمتها حسن استيعاب الموضوع وفهمه أكثر من الإبداعي اللغوي. ورغم ذلك، من المشكلات الشائعة في الترجمات العلمية الاقتصار على تسليمها لأساتذة العلوم الطبيعية، كونهم الأدرى بها والأقدر على فهم مضامينها المعقدة، ولكن الإشكال يأتي من أن معظم هؤلاء المتخصصين ليسوا على دراية عميقة بعلوم اللغة، وبالتالي قد يقعون -أحيانًا- في أخطاء كثيرة في الكتابة والأسلوب، كما أنهم ليسوا دومًا متمكنين من اللغة التي ينقلون منها.[30]
ويندرج ضمن هذه الفئة كثير من أنواع الترجمة المنتشرة حديثًا، و منها ترجمة المجلات العلمية والمقالات الأكاديمية إلى العربية، التي تمارسها كثير من المجموعات التطوعية في الإنترنت والمواقع الرقمية.
الترجمة الأدبية
تغطي الترجمة الأدبية نقل أي عمل فني أو إبداعي من لغةٍ إلى أخرى، وبالتالي، فهي تتضمن: ترجمة الكتب، والروايات، والمسرحيات، والشعر، والقصص المصورة، والمانغا، والأفلام، والمسلسلات التلفزيونية، والكرتونية. والسمة الأساس لجميع هذه الأعمال أنها مقترنة -إلى أبعد الحدود- بثقافة أجنبية، ولهذا فإن ترجمتها تستلزم خبرة ودراية هائلة باللغتين (المنقول منها وإليها)، وإلى اطلاع كبير على الثقافات الأجنبية، بل وعلى نظرية الترجمة. ولعل الترجمة الأدبية هي أصعب أنواع الترجمة وأكثرها استنزافًا للوقت والجهد.[31]
فمن المتوقع من المترجم الأدبي الجيد أن يكون قادرًا على فهم الإشارات الثقافية والحيل اللغوية في الأصل، وعلى ترجمتها أو تعويضها ببديل عنها، إذ لا يكفي أن يترجم المعاني الحرفية. فعلى سبيل المثال: قد تحتوي كثير من الأفلام الأجنبية على إشارات إلى الثقافة الأمريكية يصعب على المشاهد العربي فهمها، وقد تتضمن كثير من الروايات أشعارًا بلغات وأوزان مختلفة عن الشعر العربي، وفي مثل هذه الأمور امتحانٌ لا يستهان به لقدرات المترجم الأدبي وسعة حيلته وخبرته باللغات.
في الترجمة الأدبية -خصوصًا- موضوع كبير يستغرق نقاشًا بين المترجمين؛ وهو ترجمة الكلام حرفيًّا، أم التصرّف فيه. والمعضلة هنا هي أن لكل أديب صبغةً متفردة جدًّا تختص بها كتاباته، ولا سبيل لحفظ هذه الصبغة (أو شيء منها) إلا بالترجمة الحرفية، وأسلوب المؤلف ليس مشكلةً في أنواع الترجمة التي سبقت؛ لأن تركيزها على المحتوى، وأما تركيز الترجمة الأدبية فهو على الجمال والأسلوب. وسنعود إلى الحديث عن هذه المشكلة مرات عدة.
أساليب حداثية
للترجمة أنواع حسب النصوص التي تأتي بها -كما سلف- وكذلك حسب الأسلوب المعتمدة في الترجمة. والطريقة الأبسط وربما الأجود للترجمة هي الترجمة اليدوية، مع الاستعانة بالمعاجم والمراجع، وبها تترجم معظم الكتب والمؤلفات والمطبوعات المنشورة، وتكون مسؤولية المترجم في هذه الطريقة هي قراءة نص بلغة يتقنها وترجمته كاملًا إلى لغة أخرى. على أن في الترجمة -أيضًا- طرقًا حداثية شاعت بعض الشيء، فأصبح بعضها شرطًا ضروريًّا وملزمًا في العمل المهني، ومن أهمها ما يسمى خطأً "الترجمة الآلية".
الاستعانة بالآلة
نشأ في مدينة الكوفة أيام العباسيين عالم اسمه "يعقوب بن يوسف"، وكان ابنًا لشيخ من شيوخ قبيلة كندة العربية، فلُقب بـ"الكندي". ولمع اسم الكندي في الفلسفة والعلوم، ولفتَ انتباه الخليفة المأمون فجعله رئيسًا لبيت الحكمة -آنذاك- وما فيه من ترجمة حثيثة للعلوم والفلسفة اليونانية إلى العربية، وينسب إلى "الكندي" الفضل في نقل الأرقام الهندية إلى اللغة العربية (ومنها إلى أوروبا فيما بعد)، ولعله استمد من عمله هذا اهتمامًا بالأرقام والشفرات؛ التي سميت دراستها وقتئذ "علم التعمية"، فطوَّر الكندي في هذا العلم أساليب إحصائية تستنبط اللغات التي كتب بها النص وتهيئ لترجمتها أو فك شفرتها. وبعد وفاته بأحد عشر قرنًا، وظف عالم رياضيات أمريكي اسمه "وارين ويفر"[32] أبحاث الكندي[33] في اختراع "الترجمة الآلية"، فنجح في ذلك عام 1949.
أولت الحكومة الأمريكية هذه التقنية اهتمامًا شديدًا؛ أملًا بأن توظفها في ترجمة النصوص الروسية إلى الإنكليزية آليًّا لتحقيق مصالحها في الحرب الباردة، ولكن برامج الترجمة البدائية آنذاك اعتمدت على استبدال كل كلمة من اللغة الروسية بكلمة إنكليزية تقابلها في المعنى، وهو خطأ منهجي أعطى الترجمة الآلية سمعة رديئة لحقت بها[34] لنصف قرن، أو أكثر.
لكن الزمن تغير، وأصبحت الاستفادة من الترجمة الآلية مهارة مرغوبة ومطلوبة في مجالات العمل الحديثة بالترجمة، وخصوصًا لدى الشركات والمؤسسات الأجنبية، والسبب في هذا ليس نابعًا من جودتها، وإنما من سرعتها وقلة تكلفتها. على أنه ينبغي التفريق هنا بين "الترجمة الآلية" (Machine translation) و"الاستعانة بالآلة" (Computer-assisted translation)، ففي الحالة الأولى تبقى مهمة الترجمة بيد الآلة من الألف إلى الياء، وفي الثانية يستعين المترجم بالآلة كأساس يعمل على تحريره وتنقيحه.[35]
والفكرة الأساس التي تقوم عليها الترجمة الآلية هي أن معظم الجمل المستخدمة في اللغة، وخصوصًا في المنشورات المهنية، تتسم بتكرار كبير لتراكيب نحوية ومعجمية مقاربة، وبالتالي لا يحتاج المترجم لإضاعة وقته بإعادة ترجمتها مرة تلو الأخرى.[36] فأهم ميزة لهذه البرامج -على الأرجح- هي أنها تحفظ قاعدة بيانات شاملة لجميع المفردات والجمل الأجنبية وترجماتها التي اختارها المترجم سابقًا، وتسمى هذه البيانات "ذاكرة الترجمة" (Translation memory)،[37] وكلامنا في نهاية المطاف هو تكرار لعدد محدود من المفردات والتراكيب اللغوية، ولذا فإن ذاكرة الترجمة تسمح للمترجم -نسبيًّا- بالاكتفاء بعمله السابق، وكذلك بتوحيد المفردات والصيغ التي يكتب بها.[38] وقد تخفِّض البرامج التي فيها هذه الميزة وقت الترجمة إلى النصف تقريبًا، فتزيد من ربح المترجم -في كل ساعة عمل- إلى الضعف أو نحوه.
وتتضمن بعض من هذه البرامج ميزات جيدة أخرى، منها: تقييم جودة الترجمة، واكتشاف الأخطاء اللغوية، والوصول الفوري إلى المعاجم والقواميس (لمراجعة معاني المفردات)، والوصول إلى قاعدة بيانات عملاقة من ذواكر الترجمة التي استخدمها مئات أو الآلاف منهم قبلك. على أن الاعتمادية المفرطة على برامج الترجمة لها مشكلاتها، فهي تحصر اختيارات المترجم في الصياغات السهلة والركيكة، بدلًا من تشجيعه على تطوير أسلوبه البلاغي وملكته اللغوية؛ مما قد يكون مضرًّا بمن يهتم بإتقان الترجمة جماليًّا وفنيًّا.
من أشهر برامج الترجمة الآلية المستخدمة في الشركات الاحترافية (لو أردت الاطلاع عليها أكثر) ما يأتي:
- OmegaT: برنامج مجاني مفتوح المصدر، وهو متخصص ببناء ذاكرة للترجمة، وموجه نحو المترجمين المحترفين في قطاع العمل.
- SDL Trados Studio: أكثر البرامج استخدامًا وانتشارًا في سوق العمل الاحترافي، يتضمن جميع الميزات والإضافات التي يحتاجها المترجم، وتكلفته ليست أقل ثمنًا من فوائده.
- Wordfast: إضافة يمكن إلحاقها ببرنامج مايكروسوفت وورد لتحويل أي مستند إلى تنسيق مناسب للترجمة، وهو موجه للمترجم الحر وكذلك للشركات الكبرى.
واجهة برنامج OmegaT للترجمة المحوسبة، وهو برنامج مجاني ومفتوح المصدر، واوجهة استخدامه معربة كاملة. منشورة تحت ترخيص المشاع الإبداعي CC-BY
الترجمة التلخيصية
بالنظر لصعوبة الترجمة الأدبية؛ فقد ابتدع الشغوفون بها من الأدباء طرقًا مبتكرة لتجديدها وتيسيرها، ومن أهم ما تطرَّق إليه المترجمون العرب فيها الترجمة التلخيصية. ومبدأ الترجمة التلخيصية هو؛ أن الأدب لا يأتي عفويًّا وطبيعيًّا إلا لو صاغهُ الكاتب من بنات أفكاره ومن وحي ذهنه، إذ إن البراعة في الترجمة العربية هي أن "يشعر القارئ أنها كُتبت أصلًا باللغة العربية"،[39] والحلّ لهذا هو أن يعتزل المترجم مسؤولية الناقل الأمين وأن يتوجه للتلخيص، فيقرأ كتابًا كاملًا ومن ثم "يعيد تأليفه" بأسلوبه الشخصي، حسب فهمه واستيعابه، فتأتي ترجمته وكأنها كتاب عربي أصيل.
ومن أشهر من جروا على هذا المنهج الأديب المصري دريني خشبة، الذي ترجم العديد من الملاحم الشعرية الإغريقية (وأهمها الإلياذة والأوديسة) بإعادة ترتيب أحداثها وفصولها، وباختصار أحداثها بحسب ما رآه مناسبًا للقارئ العربي، حتى انتهت نسخته من الإلياذة بمئتي صفحة، وصفحاتها لدى غيره من المترجمين تتجاوز السبعمئة. وقال دريني خشبة يصفُ رأيه في منهجه بالترجمة:
اقتباس«أنا لا أزال عند رأيي من وجوب تحبيب الأدب اليوناني الخالد إلى قراء العربية وإزالة ما عسى أن يصرفهم عن ورده، والاستمتاع بروائعه، و[لكن] الأدب اليوناني مثقل بمئات من أسماء الآلهة والإشارات الأسطورية التي تصرف القارئ عن لب الموضوع، بل ربما صرفته عن الموضوع نفسه وزهّدتهُ فيه، فلا يعود إليه أبدًا، ولهذا آثرت التلخيص على الترجمة».
وجرى الأديب المشهور مصطفى لطفي المنفلوطي على هذا النهج كذلك، فلخص من خلاله كثيرًا من الروايات الأوروبية وأخرجها وكأنها عربية أصيلة، فعدَّل تفاصيلها وعناوينها، بل إنه لم يذكر دومًا أصول هذه الترجمات أو مؤلفيها الأجانب، ومن أشهر ترجماته: "الفضيلة" و"تحت ظلال الزيزفون" و"بول وفرجيني" و"الشاعر".[40]
وقد تلقت الترجمة التلخيصية نصيبها من الانتقادات بين الأدباء العرب، ممن وجدوا في التلخيص تحويرًا للأدب الأصلي وعبثًا به، ومن أهم هؤلاء: سليمان البستاني، وهو مترجم آخر اعتكف على نقل ملحمتي الإلياذة والأوديسة إلى اللغة العربية شعرًا (وهو عمل شاق وعسير جدًا)، وبالتالي كانت له أسباب قوية للتوجس مما لحق بهاتين الملحمتين بعده من ترجمة تلخيصية، فيقول في نقد أصحاب منهج التلخيص:
اقتباس«فأجروا أقلامهم -بل هي جرت بهم- مطلقة العنان، يجدُون ما يريدون دون ما أراد الواضع.[41] فمن متصرف بالمعنى يزيد وينقص على هواه، فيفسد النقل ويضيع الأصل، ومن متسرع يضن بدقائق من وقته للتثبت من مراد المؤلف، فيلتبس عليه فهم العبارة، فينقلها على ما تصورت له لأول وهلة، فتنعكس عليه المعاني عن كره منه، ومن ماسخ يُلبِس الترجمة ثوبًا يرتضيه لنفسه، فينقلب بالمعاني على ما يطابق بغيته ويوافق خطته، حتى لا يبقي للأصل أثرًا، ومن عاجز يجهد النفس ما استطاع، وهو إن أجهدها ما شاء؛ غير كفءٍ لخوض هذا العباب.[42] ثم يقوم هؤلاء الكتاب ويسمون ما كتبوا تعريبًا، وأولى بهم أن يسموه تضمينًا أو اختصارًا، أو معارضةً، أو مسخًا».
خطوات الترجمة
لا تنحصر وظيفة المترجم في فهم اللغة التي يترجم عنها (SL)،[43] بل عليه -أيضًا- إتقان الكتابة باللغة التي يترجم إليها (TL)[44] إتقانًا احترافيًّا بل وأدبيًّا، إذ يمكننا القول -من زاوية ما- أن المترجم ليس إلا كاتبًا يتقن لغات عدة، والتغاضي عن مهارة الكتابة سببٌ لانتشار الترجمات الرخيصة الركيكة، فمن المحتمل أن من كتبوها كانوا بارعين جدًّا في اللغة التي يترجمون عنها؛ إلا أنهم قد لا يجيدون الكتابة بلغتهم الأم، وبهذا أتقنوا خطوةً واحدةً من الترجمة فحسب.
ويرى الباحثون أن الترجمة تسير دومًا بترتيب من ثلاث خطوات متوالية تتكامل معًا:[45]
- القراءة: وهي أن يقرأ المترجم النص الأصلي لاستيعاب معناه وفهم دلالته بعمق يتجاوز القارئ العادي. ويعمد المترجم هنا إلى المعاجم ليفهم المعاني الظاهرة للنص، فضلًا عن العودة إلى المراجع الأخرى لفهم معانيه الخفية ودلالاته الثقافية.[46] وتحتاج هذه الخطوة إلى إلمام لغوي واطلاع عام لن نتطرق إليه بعمق في سياق هذا الكتاب، ولكننا سنتطرق إلى بعض جوانبه بخصوص الأقلمة الثقافية في الفصل الأخير.
- السَّبْك: وهي مرحلة وسطى، يتمعن فيها المترجم بما قرأه ويفكر بصياغته الأنسب في لغة أخرى، وهذه هي المرحلة التي يجب أن يستغلها في تفكيك المعاني الحرفية للكلمات، وتكييفها بما يتناسب مع قواعد اللغة التي ينقل إليها. وأما الإسراع إلى المرحلة الثالثة دون تفكير؛ فهو السبب المباشر للترجمة الحرفية.[47] وهذه الخطوة موضوع جوهري يناقشه الكتاب كاملًا.
- الكتابة: وهي كتابة الجملة الجديدة باللغة المنقول إليها[48] وتعديلها وتحريرها، وسيأتي ذكرُ ذلك في بعض فصول التعريب.
خطوات الترجمة الثلاث. منشورة تحت ترخيص المشاع الإبداعي CC-BY
المعضلة العصية
على المترجم في هذه الخطوات أن يتقمص دور الكاتب، ومثل كل كاتب؛ فهو مضطر إلى الاختيار بين آلاف الألفاظ والمفردات التي قد يعبر فيها عما يريد، ومهمته هنا أسهل من الكاتب؛ لأنه يسترشد بالمعاني الواردة في النص الأصلي، لكن هذه المعاني لن تكفي للاحتكام إليها في قراراته، لأن على المترجم أن يصطدم مرة تلو الأخرى بمعضلة كبيرة حيرت المترجمين منذ نحو ألفي عام، فتضعه أمام خيارين:
- إما أن يفضل حِفْظ روح النص البلاغية، والمعنوية، فيترجمه حرفيًّا؛ لحفظ معناه، وإيحائه، مثل: نقل كلمتي "Our savior" إلى "مُخلِّصنا".
- أو أن يفضِّلَ الكتابة بلغة عربية طبيعية، وكأن النص جاء عربيًّا، فيقول: "الرّب" أو "الله" لكنهما المصطلحين المتعارف عليهما في هذا السياق.
ولكل من هاتين الطريقتين مدرسة تؤيدها، وتدعمها منذ مئات او آلاف السنين، مثلما سوف يأتي فيما بعد.[49] وعلى كل مترجم -في وقت ما- أن يختار موقفًا يعبر عنه من هذا الخلاف، على إحدى النهايتين المتطرفتين: إما الترجمة الحرفية الحريصة على التقيد بالأسلوب الأصلي، أو الترجمة الحرة التي تفضل بالمعنى. ولهاتين المدرستين هدفان مختلفان، هما: الهدف الجمالي (صون جمال النص، واللغة، وتدفقه، وسلاسته، وسلامته من الأخطاء)، والهدف الدلالي (الدقة، والأمانة في الالتزام بالمعنى الأصلي، وبمزاياه الأدبية، كما أرادها المؤلف).
تفضيل الأسلوب
يشعر كثير من المترجمين بأهمية صون روح النص الأصلي للقارئ بدافع الأمانة، وهذا الأمر مستحيل في الواقع، لأن أسلوب الكاتب الأصلي يأتي -طبعًا- ضمن حدود لغته الأم، إلا أن أساليب التعبير والبلاغة وبناء الجمل والأفكار؛ تختلف اختلافًا جمًّا بين اللغات، ولهذا فإن محاولة تقمص أسلوب النص الأصلي تعني -إلزامًا- التطرف نحو الترجمة الحرفية، واستيراد صيغ وتراكيب غير مرغوبة من لغة أجنبية.
وكثير من المترجمين والباحثين من يدعمون الترجمة بشيء من الحَرْفية، فهم يرون أن الترجمات يجب أن تأتي بلغة غريبة وغير سلسة؛ وذلك لكي تحفظ روح الغربة في الترجمة. فهؤلاء يرون -مثلاً- أن مسرحيات شكسبير المترجمة إلى الفرنسية لا يجب أن تظهر وكأن كاتبها فرنسي، بل من المطلوب أن يشعر القارئ بأنها نقلت عن لغة أجنبية.
تفضيل المعنى
ويميل مترجمون آخرون (وكذلك يميل الرأي الذي يقدمه هذا الكتاب) إلى ضرورة إشعار القارئ بأنه يقرأ نصًّا بلغته الأم وكأنه كُتبَ فيها؛ ولم يترجم عن لغة أخرى، وهذه الطريقة تعطي الأولوية للمعنى على الأسلوب والتعابير الدخيلة التي استخدمها المؤلف الأصلي. وتتلخص وجهة النظر هذه بما قالهُ "مارتن لوثر" عن ترجمته للإنجيل لأول مرة إلى اللغة الألمانية: فقد أراد أن يفهم عامة الناس من فلاحين وحرفيين كلام الإنجيل، كما لو أنهُ يقال باللغة نفسها التي يتحدثون بها في بيوتهم وبين أهاليهم.
ووفقًا لهذه الطريقة تكون للمترجم حرية التصرف بالترجمة، وتغيير الجمل والتراكيب اللغوية التي يراها عصية على الفهم على أبناء لغته،[50] فهو ليس مجبرًا على الالتزام بمواضع علامات الترقيم أو مواضع الكلمات نفسها التي اختارها مؤلف الكتاب الأجنبي (على سبيل المثال)، بل له كامل الحق في تغييرها لتتناسب أكثر مع اللغة التي يترجم إليها. وهذا لا يعني أن للمترجم حقًّا بتعديل النص على هواه، فلابد من أن يحفظ جوهره وتسلسل أفكاره الأصلي، أما الكلمات والجمل فله إعادة صياغتها بحسب ما هو أنسب وأقوم.
وسنتناول هذا الخلاف الكبير في الترجمة بشيءٍ من التفصيل، وسوف نبدأ بنبذةٍ عمَّا قاله فيه العرب والمسلمون. إذ إنهم أولوا هذا الخلاف الطويل نصيبه من الاهتمام؛ حينما شرعوا بواحدة من أكبر حملات الترجمة في التاريخ.
_____
اقتباسملاحظة: إذا أردت مراجعة المراجع والمصادر المشار إليها فيمكنك ذلك من خلال قراءة هذا الفصل من كتاب فن الترجمة والتعريب والرجوع إلى فصل المصادر فيه.
اقرأ أيضًا
- المقال التالي: النسبية اللغوية والترجمة: هل تؤثر اللغة على أفكارنا؟
- المقال السابق: كتب تزن ذهبا: تراث العرب والترجمة
أفضل التعليقات
لا توجد أية تعليقات بعد
انضم إلى النقاش
يمكنك أن تنشر الآن وتسجل لاحقًا. إذا كان لديك حساب، فسجل الدخول الآن لتنشر باسم حسابك.