اذهب إلى المحتوى

كتب تزن ذهبا: تراث العرب والترجمة


عباد ديرانية

دخل أبو العبَّاس "المأمون" مدينة بغداد منتصرًا في سنة 198 للهجرة (812م) بعد حصار ضربه عليها خمسة عشر شهرًا، وكان دخوله المدينة نهايةً لحرب مع أخيه "الأمين" أُزهق فيها كثير من الأرواح وخلفت خرابًا لا ينسى في مدينة السلام، ولكن ذلك الخراب كان -أيضًا- بدايةً لعصر ذهبي للعلوم والمعرفة لم تشهد الحضارة الإسلامية مثيلًا له. دامت خلافة المأمون عشرين عامًا اتسمت بالهدوء والرخاء، أُسسَت خلالها مكتبة "بيت الحكمة" في بغداد وانطلقت منها واحدة من أكبر حركات الترجمة في التاريخ، ومن أهم شخصياتها: حُنَين بن إسحاق، وهو طبيب سرياني من مدينة الحيرة جنوب العراق،[1] ومن أهم مؤسسي المنهج الإسلامي في الترجمة.

قصة "حنين"

كان "حُنَيْن بن إسحاق" مسيحيًّا عارفًا باللغة السريانية، وقد عاش حياةً هانئةً في ظل الدولة العباسية في أوج ازدهارها، وهم بالسفر في شبابه قاصدًا القسطنطينية (أو ربما الإسكندرية، فليس لنا من علم في ذلك إلا من أقوال المؤرخين) ليتلقن فيها أصول اللغة اليونانية، وعاد منها إلى بغداد حيث اشتغل بالترجمة في "بيت الحكمة" وهو شاب دون الثلاثين،[2] وسرعان ما ارتقى في سلمه الوظيفي، حيث عينه الخليفة "المتوكل" طبيبًا له، وكلّفه بأن يرأس جماعة من المترجمين.[3]

3.1.jpg

رسم لحنين بن إسحاق، من مخطوطة لكتاب: "الإيساغوجي". - منشورة تحت ترخيص المشاع الإبداعي CC-BY. المصدر: ويكيميديا كومنز

ومن سوء حظ "حنين" أن الحسد والغيرة طارداه لِما خُصّ به من كرم، فقد كان يتقاضى من الخليفة "وزن كتبه ذهبًا" كما يقال، ويبدو أن في هذا القول مبالغةً ما، فالأرجح أنه كان يتقاضى مثل وزنها دراهم من فضة[4] (وكان -بالحالتين- يُطوِّل كتبه وويزيد عدد صفحاتها قدر ما استطاع ليزيد أجره).[5] وقد حيكت لـ"حنين" الدسائس من حاسديه فزج به في سجون العباسيين،[6] لكنه ترك خلفه تراثًا ومدرسة في نهج الترجمة وطريقتها لم يسبقها مثيل في تاريخ العرب.

ترأَّس "حنين بن إسحاق" مدرسة "بيت الحكمة" بعد أستاذه "يوحنا بن ماسويه"، وتنسب إليه ترجمة نحو مئة كتاب إلى السريانية ونحو أربعين كتابًا إلى العربية، ومن دلائل نجاح "حنين" الكبير[7] أنه اكتسب من القدرة والكفاءة ما خوله أن يؤسس منهجًا ومدرسةً في الترجمة، ووصلنا عن هذا المنهج مصدر ثمين هو رسالة كتبها "حنين" إلى أمير يدعى "علي بن يحيى"، عنوانها: "ذكر ما تُرجِم من كتب جالينوس"،[8] ويروي فيها شيئًا من تجربته في الترجمة العربية والسريانية.[9][10]

ومما يلفت النظر في هذه الرسالة أن أسلوب الترجمة العربي التراثي لم يكن قائمًا -بالضرورة- على النقل الكامل، على عكس ما نألفه في الترجمة الحديثة، وإنما تخلله قسط كبير من الاختصار في النصوص وتحجيمها، إذ لم يكن حنين وأصحابه مضطرين إلى ترجمة كتاب بجملة ما فيه، واستساغ كثير منهم اختصار هذه الكتب تارة، وشرحها أو تفسيرها تارة أخرى.[11]

بل وكان المعرّبون -آنذاك- يتساهلون في تحريف النص ليناسب جمهورهم من القراء، مثل إضافة اسم "الله تعالى" في مواضع لم يذكر الله فيها بمؤلفات فلاسفة اليونان،[12] كما كثرت عندهم الترجمة بين ثلاث لغات لا لغتين (مثلًا: إلى السريانية ثم إلى العربية) مما يدل على قلة اهتمامهم بصون اللغة والأسلوب عن الأصل.[13][14]

كما تخبرنا الرسالة (كذلك) بأن "حنينًا" -ضمن إنجازاته الأخرى- أسس مدرسة في علم الترجمة نهجها هو نقل معنى الكلام ومقصده، وبذلك اختلفت مع تيار كبير للترجمة الحرفية في زمنه[15] والذي كان يدعو لحفظ الكلمات والأسلوب مثلما جاء باللغة الأعجمية.[16] وهاتان مدرستان متناقضتان كل التناقض، ومحور اختلافهما هو الخلاف القديم نفسه الذي يَفرُق كل طلبة الترجمة وأساتذتها إلى فريقين أزليين.

3.2.jpg

مخطوطة عن تشريح العين لحنُين بن إسحق، من كتابه: "المسائل في العين". المخطوطة محفوظة في المكتبة الوطنية في القاهرة، ومؤرخة لنهاية القرن السادس الهجري (بداية القرن الثالث عشر الميلادي). - منشورة تحت ترخيص المشاع الإبداعي CC-BY. المصدر: ويكيميديا كومنز

بيت الحكمة

عاش "حنين بن إسحاق" في ذروة عصر الترجمة الإسلامي ونال من خيرات ذلك العصر كثيرًا، فقد قيل -فيما قيل- أنه كان يقبض ذهبًا وينعم بحياة فارهة ويستيقظ صباحًا ليأخذ حمامًا برائحة البخور ويحتسي نبيذًا[17] ربحه من مهنته الراقية،[18] على أن جذور الترجمة العربية بدأت بداية متواضعة -مقارنة بهذه النعَم- قبله بأكثر من مئة عام.[19]

ترجع الترجمات العربية الأولى إلى عصر الجاهلية والنقوش الصفوية، إلا أنها كانت ترجمات لسطور أو قصائد أو رسائل، وأما ترجمة الكتب وأمهات الأدب فالرائد فيها هو "خالد بن يزيد بن معاوية"، نجل الخليفة الأموي الثاني؛ الذي أرسى أسسًا لحركة ترجمة هائلة، ولو أن ما نُقلَ من الكتب في أيامه وفي عصر الدولة الأموية بعمومها كان قليلًا.[20][21]

وما تفرد به "خالد بن يزيد" عن غيره أنه أول من صبّ اهتمامه على ترجمة العلوم، إذ يقول ابن النديم أنه أول من نقل مؤلفات الطب والكيمياء والفلك إلى العربية[22] عن كتب اليونان والهند،[23] وأمضى معظم وقته على كتب الكيمياء والخيمياء خصوصًا،[24] مخدوعًا في ذلك بخرافات اليونانيين، إذ ظن هؤلاء أنهم قادرون على تحويل المعادن الخسيسة ذهبًا فطمع بأن يتعلم السر منهم.

3.3.jpg

رسم تخيلي للحياة في "بيت الحكمة". - منشورة تحت ترخيص المشاع الإبداعي CC-BY. المصدر: ويكيبيديا.

ووقعت في عصره نقلة تاريخية في تاريخ الترجمة العربية، وهي أن الخليفة "مروان بن الحكم" أمر بتعريب الدولة ومؤسساتها، وترتب على هذا ترجمة كل الدواوين وما لحق بها من سجلات ووثائق حكومية.[25] وكان تعريب الدواوين حدثًا محوريًّا لأنه جعل العربية اللغة الرسمية السائدة في سائر أرجاء دولة الإسلام، ومن ثم عمت اللغة العربية في كتب وعلوم بلاد المسلمين على اتساع رقعتها.[26]

عاد الاستقرار إثر انتهاء الحرب بين الأمويين والعباسيين وانتهاء الحرب بين الأمين والمأمون بعدها، وهكذا دخلت دولة الخلافة -في بداية القرن الثالث الهجري- عهد الرخاء وعصرها الذهبي، وانطلقت معه واحدة من أكبر حركات الترجمة في العالم على مر العصور، إذ لم تسبق حركة الترجمة العربية (بحسب منى بيكر) أي حملة بهذا الاتساع والتنظيم على مر التاريخ لنقل العلوم والمعرفة من لسان إلى لسان، فقد شملت لغات شتى منها: اليونانية والسنسكريتية والفارسية والسريانية،[27] ونُظمت في مدارس ومكتبات بين بخارى وبغداد ودمشق والقاهرة والقيروان والأندلس (كأمثلة فحسب).[28]

وكانت أول وأهم مدرسة للترجمة في التاريخ الإسلامي هي "بيت الحكمة" التي أسسها المأمون في نحو سنة 215 هجرية (830 ميلادية). والواقع أن "بيت الحكمة" لم تكن دارًا عربية للعلوم كما قد يُظَن، بل كانت ملتقى للثقافات[29] ومن أهمّها -بعد العربية- السريانية والفارسية، واعتمد الخلفاء غالبًا على المترجمين السريان لأنهم أتقنوا اللغة اليونانية،[30] وكانت تسبق ترجمتهم العربية ترجمة سريانية[31] أو فارسية،[32] بل إن "بيت الحكمة" في أصله ترجمة للاسم نفسه الذي حظت به -سابقًا- مكتبة الإمبراطورية الساسانية، وقد قلد تصميمها المعماري مكتبات الفرس.[33]

3.4.jpg

مخطوطة عربية لكتاب كليلة ودمنة نحو عام 617 هـ (الموافق 1220م)، وهو من أشهر ما تُرجِم من كتب الهند في "بيت الحكمة"، وترجمه: "عبد الله بن المقفع". - منشورة تحت ترخيص المشاع الإبداعي CC-BY. المصدر: ويكيميديا كومنز.

كرس المترجمون العباسيون (والمسلمون بعمومهم) اهتمامًا عظيمًا بأمهات الكتب الأعجمية في العلوم والفلسفة، لكنهم لم يلقوا بالًا لآداب هذه الأمم من شعر ومسرحيات وملاحم،[34] ولعل هذا ينبع من حرص العرب على العلم النافع وعلى الابتعاد عن "الأساطير والخرافات"،[35] أو من شعورهم بتفوق شعرهم وأدبهم على شعر وأدب غيرهم.[36] إلا أن غض الطرف عن آداب الأمم مأخذ كبير، وربما هو المأخذ الأكبر على حركة الترجمة العباسية، فالآداب تختزن جزءًا كبيرًا من حكمة الأمم، وفيها غنى وتنوع ثقافي افتقد العرب شيئًا منه في تراثهم.

لم تُترَك ترجمات بيت الحكمة طيًّا للنسيان على رفوف المكتبات، بل تهافت العلماء العباسيون على قراءتها،[37] ولهذا كثرت في زمنهم المناظرات الفلسفية والعقائدية وتعددت المذاهب لتأثرهم بأفكار الأمم الأخرى.[38][39] وبلغ التعريب والنشاط الفكري أوج ازدهاره بين نهاية القرن الثاني إلى نهاية القرن الرابع الهجري (أو بين عامي 800 و1000 للميلاد)،[40] وظل "بيت الحكمة" فاعلًا في نقل معارف الأمم حتى دخول المغول إلى بغداد سنة 656 هـ (الموافق 1258م)، فاندثرت مكتبته ومدرسته مع ما اندثر، حسب ما يخبرنا القلقشندي.[41] ودخلت -بذلك- بلاد العرب عصرًا طويلًا من الجمود الفكري والذهني قارب الستمئة عام.[42]

3.5.jpg

حصار المغول لبغداد، كما صورته مخطوطة من نحو عام 833 هـ (الموافق 1430م). - منشورة تحت ترخيص المشاع الإبداعي CC-BY. المصدر: ويكيميديا كومنز.

النهضة

ركدت حركة الترجمة والفكر في العالم الإسلامي بعد سقوط بغداد لنحو ستة قرون، وخلت تلك الفترة[43] من أي نشاط يذكر في الترجمة إلى اللغة العربية، بل وقعت فيها حركة تعجيم[44] هائلة في مدرسة طليطلة بالأندلس بعد أن أخذها الإسبان، فنقلوا كتب المسلمين من العربية إلى لغات أوروبا قاطبة.[45] ولم تتجدد حركة الترجمة من بعدئذ حتى عهد "محمد عليّ".

كان "محمد علي" والي العثمانيين على مصر، ودامت دولته المستقلة -عمليًّا- في بلاد الشام ووادي النيل لقرابة نصف قرن، وكان له طموح كبير شجع بسببه حركة جديدة للترجمة والاهتمام بالعلوم والمعارف، وأوفد طلابًا إلى أوروبا فكان لأحدهم الفضل بتأسيس حركة الترجمة العربية الحديثة، وهو: "رفاعة الطهطاوي".

أقام "رفاعة" في باريس مدة خمس سنوات، تعلم خلالها اللغة الفرنسية وأتقنها، ثم عاد ليؤسس مدرسة للمترجمين في القاهرة سنة 1835، وهي مدرسة أنتج مئة وخمسون من طلابها ترجمات رائدة لأمهات الكتب الأوروبية التي اختارها وأشرف على نقلها "الطهطاوي" بحرص ودقة،[46] غير أن نشر هذه الكتب قد اقتصر على جمهور ضيق من المثقفين.[47] وقد قرر خليفة "محمد علي" (وهو "عباس حلمي الأول") في سنة 1849 إغلاق المدرسة ونفي "رفاعة الطهطاوي" إلى السودان،[48] وذلك كجزء من توجهات رجعية عديدة فرضها وقتذاك.

3.6.jpg

تمثال "رفاعة الطهطاوي" قرب جامعة سوهاج، في المحافظة التي ترعرع فيها. - منشورة تحت ترخيص المشاع الإبداعي CC-BY. المصدر: ويكيميديا كومنز.

كان رفاعة الطهطاوي يرى أن في الترجمة سبيلًا لنهضة مصر، لذلك انتقى أعمدة الكتب في العلوم والهندسة والعسكرية لترجمتها، وبدأ -بعد وفاته- عصر النهضة العربية، فولَّى فيه جيل جديد من المترجمين وجوههم نحو الآداب والفنون التي افتقدوها في لغتهم، ونقلوا كثيرًا من الملاحم والمسرحيات والقصص التي ترفَّع العباسيون عن ترجمتها قبلهم بمئات السنين،[49] بينما غضوا الطرف عن نقل العلوم الإنسانية والاجتماعية.[50]

وكما سلفَ؛ بعد أن بلغت حركة تعريب العلوم ذروتها في عصر "المأمون" ومن بعده،[51] انتهى ازدهارها انتهى إثر غزو المغول وإتلاف مكتبة بغداد وسقوط الخلافة الإسلامية. وقد أدى قيام الخلافة العثمانية إلى قلب الموازين نحو اللغة التركية وصرف الاهتمام عن اللسان العربي، وهو وضع استمر حتى نهاية القرن التاسع عشر، فحينئذ وقعت جُل الدول العربية تحت نير الاستعمار، وبدأ تلاقح الفكر العربي مع الأوروبي وانطلقت حركة التعريب والترجمة الحداثية المستمرة حتى الآن، وهي حركة لا يستهان بها كذلك.

حنين وابن البطريق

حتى ولو اختفت معظم آثار حركة التعريب العباسية، إلا أنها تركت وراءها منهجًا ومدرسةً في التعريب تُناظِر مناهج الترجمة التي قامت في كثير من الحضارات الكبرى. ونعرف من دراسة تاريخهم أن العرب كانوا ضليعين بخصائص الترجمة ودقائقها، وقادرين على دراستها ونقدها بعمق. فـ"الجاحظ" (وهو لم يكن مترجمًا؛ وإنما قرأ واطلع على ترجمة غيره)،[52] يصف ببلاغة التجاذب الدائم بين اللغة المنقول عنها وتلك المنقول إليها، لأن كل واحدة منهما "تعترض على الأخرى"،[53] فيحلل بهذا التضاد التاريخي بين "اللفظ والمعنى" وتأثير اللغات الأجنبية على المترجم.[54] 

يذهب "الجاحظ" ليتناول شروط الترجمة، فيقول: إنها تَسهلُ مع كثرة ما يلقاه موضوعها من البحث والدراسة بين جمهور العلماء، فإذا كان موضوعها مطروقًا بين العلماء العرب؛ كانت سهلة، أما إن كان مجالها جديدًا أو قل العلم به؛ زادت الأخطاء فيها وثقلت المهمة[55] (وهو تفسير منطقي جدًا لصعوبة تعريب العلوم المتخصصة في عصرنا).

ولهذا اعترض الفيلسوف "أبو حيان التوحيدي" على تعريب فلسفة اليونان قبل إتقانها والإلمام بها، إذ لم تعجبه الترجمة من اللغة الإغريقية التي عفت منذ زمن طويل و"باد أهلها"، كما انتقد الترجمة عبر ثلاث لغات (مثلًا: إلى السريانية أولًا ثم العربية).[56]

وركز "الجاحظ" في تحليله لمهنة الترجمة على ضرورة الإخلاص والأمانة للأصل والتأكد من عدم تحريفه على أيدي المترجمين والنسَّاخين والمحقّقين،[57] إذ وصف شرطين للمترجم المقتدر، وهما: أولًا، وزن علمه في فروع المعرفة بعمومها. وثانيًا، أن يكون متبحرًا باللغتين اللتين يترجم بينهما حتى تكونا عنده سواء.[58]

3.7.jpg

رسمة للطبيب والمترجم السرياني "يوحنا بن ماسويه" أول من تولى رئاسة "بيت الحكمة" في عهد "هارون الرشيد"، وكان معلم "حنين بن إسحق". - منشورة تحت ترخيص المشاع الإبداعي CC-BY. المصدر: ويكيميديا كومنز.

ويعني ما سبق أن "الجاحظ" كان أقرب في مذهبه إلى الترجمة الحرفية، ونعرف من "صلاح الدين الصفدي"[59] أن الحرفية كانت واحدة من طريقتين في الترجمة سادتا في بغداد أيام العباسيين، وهاتان الطريقتان متضادتان ومتعاكستان في أسلوبيهما، فيقول في وصفهما:[60]

اقتباس

«للترجمة في النقل طريقان: أحداهما طريق "يوحنا بن البطريق" و"ابن ناعمة الحمصي" وغيرهما، وهو أن ينظر إلى كل كلمة مفردة من الكلمات اليونانية وما تدل عليه من المعنى، فيأتي الناقل بلفظة مفردة من الكلمات العربية ترادفها في الدلالة على ذلك المعنى، فيثبتها، وينتقل إلى أخرى كذلك، حتى يأتي على جملة ما يريد تعريبه. [...] الطريق الثاني في التعريب طريق "حنين بن إسحق" و"الجوهري" وغيرهما، هو أن يأتي بالجملة فيحصِّل معناها في ذهنه، ويعبر عنها (من اللغة الأخرى) بجملة تطابقها، سواء ساوت الألفاظ أم خالفتها. وهذا الطريق أجود».[61]

كان لكل من هاتين الطريقتين أنصارها فصار لها تيار أو "مدرسة". وترأس "حنين بن إسحاق" المدرسة الأولى، فدعا إلى أن تُولَى الأولوية لمقصد الكلام، فيما ترأس "يوحنّا بن البطريق" المدرسة الثانية منحازًا إلى الترجمة الحرفية. وهاتان المدرستان اللتان قامتا في بلاد العرب قبل ألف وثلاثمئة عام (وقبلهم في بلاد الفرس واليونان وغيرهم)، تمثلان الخلاف الرئيس الذي يدور بين جميع المترجمين منذ قديم الزمان وحتى هذه اللحظة، والذي قد يتغير ظاهره بين حين وحين وإن بقي ثابتًا في جوهره.

وتصلنا لمحات عن صراع هاتين المدرستين من كتب التراث، إذ تشير بعضها إلى أن ترجمات "ابن البطريق" الحرفية كانت ركيكةً، فمن العسير فهمها دون الرجوع إلى الأصل اليوناني[62] (مثلما يخبرنا "ابن إسحاق" في رسالته المعروفة)،[63] بل ولعل ترجماته كانت فاشلةً، حتى إن الخليفة "المأمون" أمر بتنقيحها أو إعادتها مرة ثانية.[64]

ويعيب "صلاح الدين الصفدي" على الترجمة الحرفية أمرين: الأول، أن اللغة العربية تنقصها مفردات ترادف لكل الكلمات اليونانية (في الموضوعات العلمية مثلًا). الثاني، أن قواعد النحو والصرف والبلاغة لا تتماثل بين اللغات، مما لا يجيز نقلها. وهو يستنتج من ذلك أن طريقة "ابن البطريق" رديئة غير صالحة، وأن طريقة "ابن إسحاق" هي الأجود.[65] ولا ريب أن الخلاف بين "ابن البطريق" و"ابن إسحاق" يختزل الطريقين السائدين في الترجمة حتى يومنا،[66] غير أن في وصف "الصفدي" لهذا الخلاف شيئًا لا يستهان به من التبسيط والسطحية، فالمسألة لا تكاد تقتصر على طريقة رديئة وأخرى صحيحة، وإلا لاختصرنا مئات السنين من مشكلات الترجمة العقيمة.

صحيح أن الدولة العباسية شهدت واحدة من أكبر حركات الترجمة على مر الأزمان وأنها خلفت لنا مدارس كبيرة في مجالها، غير أن تراجمة بغداد و"بيت الحكمة" انشغلوا بالنقل والتصحيح والتدريس أكثر من التعمق بالمنهج الأكاديمي.[67] ولهذا السبب فإن مساهمة العرب والمسلمين في تأسيس "نظرية الترجمة" كانت متواضعةً إن قيست بتراثهم الترجمي الهائل، إذ إن محور نقاشاتهم الأكاديمية (بين ابن إسحاق وابن البطريق) لم يختلف في شيء يذكر عن الخلافات التي شغلت كل المترجمين في أنحاء المعمورة، وهذه نتيجة تزداد وضوحًا عندما نلقي نظرةً شاملةً على نظرية الترجمة عالميًا.

_____

اقتباس

ملاحظة: إذا أردت مراجعة المراجع والمصادر المشار إليها فيمكنك ذلك من خلال قراءة هذا الفصل من كتاب فن الترجمة والتعريب والرجوع إلى فصل المصادر فيه.

اقرأ أيضًا


تفاعل الأعضاء

أفضل التعليقات

لا توجد أية تعليقات بعد



انضم إلى النقاش

يمكنك أن تنشر الآن وتسجل لاحقًا. إذا كان لديك حساب، فسجل الدخول الآن لتنشر باسم حسابك.

زائر
أضف تعليق

×   لقد أضفت محتوى بخط أو تنسيق مختلف.   Restore formatting

  Only 75 emoji are allowed.

×   Your link has been automatically embedded.   Display as a link instead

×   جرى استعادة المحتوى السابق..   امسح المحرر

×   You cannot paste images directly. Upload or insert images from URL.


×
×
  • أضف...