اذهب إلى المحتوى

في مقدمة هذه السلسلة، اللغة ومفهوم الترجمة بين اللغات، ذُكر أن كثيرين قد يسيؤون فهم الترجمة فيظنون أنها تسير في اتجاه واحد: إذ يخالون أن كل ما على المترجم هو إتقان لغة أجنبية ليترجم منها إلى لغته، وأما الواقع فهو أن الترجمة شطران: فالأول هو إتقان لغة جديدة والقدرة على قراءتها واستيعابها بعمق ودقة، وأما الشطر الثاني (الذي لا يقل أهمية عن الأول)، فهو إعادة صياغة هذا النص بلغة المترجم الأم، وهي العربية في حالتنا هذه، وهذا يعني أن المترجم هو -بدرجة أو بأخرى- كاتب أو أديب، وتستلزم مهنته استيعابًا دقيقًا لقواعد الكتابة واللغة والبلاغة.

ربما أدت حركة الترجمة والعولمة والاحتكاك باللغات الأخرى؛ إلى تغيير طريقة تفكيرنا بلغتنا وصياغة الكلام فيها من جمل وكلمات، وترى هذا التغيير بسهولة لو وازنت أي كتاب عربي صادر في سنة 2020 بكتاب شبيهٍ به من القرن التاسع عشر أو الثامن عشر؛ أو أيّ زمن أسبق، والفرق الشديد الذي ستراه بينهما في اللغة والمفردات ليس سوى نتيجة لتراكم كثير من المؤثرات التي تغيرت لغتنا (كما ورد في مقال آفات الترجمة على اللغة)، والتي تتجلَّى كثير منها في الترجمة على مستوى الجملة.

الفهم قبل الفعل

من أول وأهم التزامات المترجم؛ أن لا يكتب كلامًا قبل أن يفهمه، إذ كيف يتوقع من القارئ أن يفهم كلامه، والمترجم نفسه يفتقر إلى فهم ما كتب؟ وقد يبدو هذا مبدأ بديهيًّا جدًّا، لكنه من أكثر المشكلات وقوعًا في الترجمة، حتى ولو كانت من دار نشر معروفة، أو مترجم صاحب خبرة وسمعة. والسبب في شيوع ذلك هو أن اطلاع المترجم ومعرفته محدودان؛ مثله في ذلك مثل أي شخصٍ سواه، إذ يغلب أن لا يكون متعمقًا بمجالات اختصاصية كثيرة خارج مهنته، على أن الترجمة تجبره -بالضرورة- على التعامل مع نصوصٍ من شتى المجالات والاختصاصات، فيقابل عددًا لا يستهان به من الكلمات والجمل؛ التي يعجز عن فهمها تمامًا، والمشكلة أن تلك ليست حجة جائزة له في الإخلال بتعريبها.

لا سبيل لتوفير الوقت في هذه السياقات الصعبة، فعلى المترجم أن يكرس جهدًا لا يستهان به للاطلاع على موضوع ترجمته واستيعابه؛ سواء في معجم لفهم الكلمات الجديدة عليه، أو في مرجع علمي[1] لفهم موضوعها جملةً تفصيلًا. وقد يضطر المُعرّب هنا إلى استغراق وقت أطول مما يستغرقه في الترجمة؛ ليتعمق في الموضوع الذي يترجم عنه ويفهمه، فيتبحر في علم الفلك أو الهندسة أو الأحياء أو القانون؛ حتى يشعر أنه ملم بالنص، كما أنه قد يجد ضرورة -في حالات كثيرة- لإعلام القارئ ببعض ما تعلمه خلال الحواشي والملاحظات، فلو استغرق ساعة في مراجعة الموضوع والتوسع فيه، فمن الأولى أن يحتاج القارئ لذلك أيضًا.

وتزداد تداعيات هذه المشكلة سوءًا في الكتب والروايات الطويلة، ففي مثل هذه الحالات يقدم الكاتب عبر النص أفكارًا، ومفاهيم تأسيسية يبني عليها باستمرار طبقة فوق طبقة، فمثلًا: لو كان موضوعه يتعلق بنظرية فيزيائية لآينشتاين؛ فسوف يبدأ بأفكار تأسيسية عن النظرية، كمجال الجاذبية والقصور الذاتي للأجسام، ومن ثم سينتقل منها إلى نسيج الفضاء والزمان، وامتزاجهما في الزمكان، وهلم جرّا، حتى تتضح كل فكرة في ذهن القارئ. ولو عجز المترجم نفسه عن فهم أفكار الكتاب الأساسية بعمق ووضوح شديد، فقد يسيء ترجمة تسلسل أفكار المؤلف كاملة، والنتيجة أن القارئ يفقد استيعابه من الصفحات الأولى في الكتاب ولا يستطيع أن يسترجعه أبدًا.

ويحل كثير من المترجمين هذه المشكلة (رغبة منهم بتوفير وقتهم وجهدهم) بأن ينقلوا كل ما لا يفهمونه كلمة بكلمة من اللغة الإنكليزية إلى العربية، ويقي هذا الإجراء المترجم من الاضطرار لاقتطاع أي جزء من النص الأصلي، فيتفادي إظهار قصور فهمه أمام صاحب العمل، ويضمن حصوله على أجره كاملًا (إذا كانت الجهة الناشرة متساهلة بما يكفي، وهذه هي الحال غالبًا)، إلا أنه لا يعني أي شيء بالنسبة للقارئ: لأن هذا الكلام الحرفي لن يضيف أي معلومة جديدة للقارئ، ولن يعينه على متابعة النص.

وفيما يلي مثال بسيط من ترجمة قصة "الأولاد السود" (The Black Boys)، وهي قصة أطفال ألمانية مشهورة، وتحولت لاحقًا إلى مسلسل أنمي يعرفه بعض المشاهدين العرب باسم "عهد الأصدقاء"، وأقتبس من ترجمتها العربية الحوار الآتي من لقاء روميو بصديقه ألفريدو:[2]

  • "مرحبًا بك. أنا ألفريدو. من أنت؟".
  • "أنا جوليان. من أين أنت قادم يا ألفريدو؟".
  • "أنا قادم من وادي ميسوكو. وماذا عنك؟".

لم يفهم المترجم المبتدئ هنا معنى جملة أساسية هي "Where do you come from"[3] (ومعناها: "من أي بلد أنت؟") أو أن كتابته العربية ضعيفة جدًا فلم يفلح إلا بنقل الجملة إلى اللغة العربية كلمة بكلمة، فصار وقعها وكأن السؤال هو: "من أين أتيت إلى هنا؟" لا "من أي بلد أصلك؟". وهذا مثال متألق على الترجمة الحرفية التي يتجنب فيها المترجم إرهاق نفسه باستيعاب المعنى الحقيقي الكامن وراء الكلام، فيأتي بترجمة آلية لا معنى لها.

والنقطة الجوهرية هنا هي: أن الترجمة لا تعني نقل نص من لغة إلى أخرى، فهذا لا يفي بأي غرض، ولكن الترجمة الحقيقية هي في فهم المعنى ثم إعادة صياغته للقارئ بلغته الأم، بحيث تصله الرسالة بأسلوب المترجم، وليس بأسلوبها الأصليّ. وسنعود لمناقشة هذه النقطة من خلال زوايا أخرى لاحقًا، وخصوصًا فيما يتعلق بتغيير الأسلوب؛ الذي قد يتردد بعض المترجمين في الإقدام عليه.

ترتيب مكونات الجملة

مما يلفت النظر، أن المكونات الرئيسة للجملة هي نفسها في معظم لغات العالم، وهي الفعل والفاعل والمفعول به (التي تقابلها بالإنكليزية Verb، وSubject، وObject، على الترتيب)، لكن الأهم من ذلك هو أن ترتيب هذه المكونات ليس عشوائيًا: ففي كل لغة تسلسل سائد لمكونات الجملة قد لا يتغير أبدًا (أو قد يتغير في حالات محددة معروفة)،[4] وترتيب الجملة العربية السائد؛ يختلف عنه في معظم اللغات اللاتينية، ولهذا الاختلاف أثر لا يستهان به في الترجمة.

تعتمد اللغة الإنكليزية على ترتيب SVO في بناء الجملة، مما يعني أن كل جملة إنكليزية تبدأ دائمًا بالفاعل، ثم الفعل فالمفعول به، أما الجملة الفعلية العربية فتبدأ عادة بالفعل، ومن ثم يكون ترتيبها الصحيح هو VSO. وتقبل اللغة العربية البدء بالفاعل (بأن تسبق الجملة الفعلية أخرى اسمية) لأنها مرنة إعرابيًّا،[5] على أنها ليست الحال المألوفة.

ولعل البدء بالفعل أصبح يندر بالفعل في اللغة العربية الفصحى بسبب تداعيات الترجمة؛ والاختلاط باللغات الأجنبية، فقد أصبح من المعتاد أن تبدأ بالفاعل كثير من الجمل العربية المترجمة أو الحداثية، على أن المترجم لو انجرف مع هذا التيار فإنه يؤثر على لغته وكيفية استخدامها بين الناس،[6] إذ إن الترتيب الجملة وقعًا كبيرًا في النحو والخطاب، وهو موضوع نال بحثًا معمقًا في دراسات الترجمة.[7]

وعلى الرغم من مرونة اللغة العربية إجمالًا، إلا أن المترجمين قد ينقلون إليها (تأثرًا باللغة التي يترجمون عنا) تراكيب ليس من الطبيعي أو المألوف استخدامها فيها بكثرة. ومن أمثلة ذلك ضمير الغائب، الذي يعتاد الكتاب عمومًا (والصحفيون خصوصًا) في اللغة الأجنبية تقديمه على صاحبه بقصد التشويق أو التغيير، فيبدؤون كثيرًا من الجمل قبل الإفصاح عمَّن يرجع عليه الكلام فيها، مثل الآتي:

  • In His speech, president Barack Obama promised to raise the salaries.

إذ جاء هنا الضمير الذي يعود على "باراك أوباما" قبل صاحب الضمير، وأصبح هذا الأسلوب شائعًا في الصحافة العربية كذلك (سواء كانت مترجمة أو مكتوبة بالعربية أصلاً)، فيأتي على شاكلة:

  • في خطابه، وعد الرئيس باراك أوباما بزيادة الرواتب.

وعلى الرغم من الخلاف على جواز هذا التقديم[8] فإنه بلا شك يخالف المألوف، وكان من الأنسب تقديم الفاعل على ضمير الغائب، أو أن نحذف الضمير كله لأنه لا يضيف قيمة للجملة العربية فنقول:

  • وعد الرئيس باراك أوباما في خطابه بزيادة الرواتب.
  • وعد الرئيس باراك أوباما في خطابٍ بزيادة الرواتب.

أنواع الجملة الإنكليزية

تناولنا سابقًا مثال كلمة مشهور من الآية: «وَأَرْسَلْنَا الرِّيَاحَ لَوَاقِحَ فَأَنزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَسْقَيْنَاكُمُوهُ وَمَا أَنتُمْ لَهُ بِخَازِنِينَ» (سورة الحجر، الآية 22): تأتي كلمة "فأسقيناكموهُ" في هذه الآية بالمعنى التقريبي: "أنزلنا لكم [أو أسقيناكُم إياه] ماءً عذبًا"،[9] ولو درسنا إعرابها نجد فيها حرف العطف (الفاء) والفعل (أسقى) والضمير المتصل في محل رفع فاعل (نا الفاعلين) والضمير المتصل في محل نصب مفعول به (كُم) وضمير الغائب في محل نصب مفعول به ثانٍ (الهاء).[10] ولو تُرجمت هذه الكلمة إلى أي لغة لاتينية لأمست جملة كاملة من أربع أو خمس كلمات على الأقل، لكن يجوز في اللغة العربية جمعها كلها في كلمة واحدة: وهذا لأن أنواع الجملة وتراكيبها، تختلف بين اللغات، ومن المهارات الضرورية في الترجمة استيعاب أنواع الجمل هذه في كل لغة.

تختلف اللغة الإنكليزية عن العربية؛ بأن الجملة فيها مقسمة إلى مجموعات من الكلمات، واسم كل مجموعة منها "clause" أو "الإسناد"، وربما من الأدق القول: إن الـ"clause" يماثل الجملة الفعلية باللغة العربية: فهو كل جملة فيها فعل، وأما ما يسميه أهل اللغة الإنكليزية "الجملة" (sentence) فيماثل باللغة العربية عدة جمل ملحقة بعضها ببعض. والقاعدة السائدة دائمًا وأبدًا في اللغة الإنكليزية هي أن كل جملة تبدأ بحرف كبير (CAPITAL) وتنتهي بنقطة، فالنقطة علامة مؤكدة وحاسمة فيها على نهاية الجملة،[11] وترتبط الجملة الإنكليزية بجمل بعدها وقبلها لتكون فقرة، وفي كل فقرة (أي كل مجموعة من السطور المتصلة) فكرة واحدة يعرضها الكاتب لا تقل أو تزيد؛ وهذه كلها معلومات جوهرية في عمل المترجم كما سنرى.

من الصعب أن نتعمق في شرح الجملة الإنكليزية بهذا السياق، لكن لنا أن نتطرق -باختصار- إلى جوانبها التي تتعلق بوظيفة المترجم. في اللغة الإنكليزية ثلاثة أنواع للجملة، تختلف في بنائها النحوي؛ وهي الجملة البسيطة (Simple) والمركبة (Compound) والمعقدة (Complex).[12] وفيما يلي أمثلة توضيحية على هذه الأنواع بالترتيب، وهي مقتبسة من أحد فصول رواية "جزيرة الكنز":[13]

  • [Simple] He is called Long John Silver
  • [Compound] He is called Long John Silver, and has lost a leg
  • [Complex] He is called Long John Silver, and has lost a leg; but that I regarded as a recommendation, since he lost it in his country's service.

ولتفسير ما في هذه الأمثلة، قد يلحظ القارئ أن الجملة البسيطة هي جملة عادية من فعل وفاعل ومفعول به، وهي أساس الكلام وأبسطه في اللغة الإنكليزية،[14] وأما النوعان الآخران ففي كل منهما مزج لجملتين بسيطتين -معًا-، لكن بينهما اختلاف واضح:

  • تجمع الجملة المركبة بين جملتين بسيطتين دون تغيير شيء فيهما، ما عدا أن تضع بينهما حرف عطف[15] يجمعهما، كحال المثال الثاني ففيه جملتان قائمتان بذاتهما، ومن أمثلة حروف العطف: and, or, but وغيرها.[16]
  • تمزج الجملة المعقدة بين جملتين بسيطتين فترتبطان -معًا- ارتباطًا لازمًا، إذ لا يكتمل معنى الواحدة منهما إلا بالأخرى، ولو فصلت واحدة منهما عن الأخرى فستصبح جملة غير مفهومة. فلو أخذنا شطرًا من الجملة الثالثة دون الآخر؛ لنقص المعنى، ويقع ذلك بسبب أدوات تدخل على الجملة فتعدل تركيبها منها: while, although, since وغيرها.[17]

وبما أن للغة الإنكليزية ثلاثة أنواع من الجمل لا غير (ويضاف إليها نوع رابع هو مزيج بين جملة مركبة وأخرى معقدة)، فإن من النافع للمترجم أن يدرسَ أسلوب ترجمة كل نوع من أنواعها في الظروف العامة؛ فالجملة البسيطة جملة فعلية عادية نترجمها إلى جملة اسمية أو فعلية قريبة في معناها، وأما الجملة المركبة فهي جملتان فعليتان أو اسميتان متواليتان، ولذا نستطيع ترجمة كل منهما منفردة ثم نجمعهما بحرف عطف عربي مثل الواو أو الفاء، وبذلك يبقى تركيبهما قريبًا من الأصلي الإنكليزي. لكن معضلة الترجمة العربية (كما يقول صفاء خلوصي) هي في الجملة المعقدة، لأنها تجلبُ إلى اللغة العربية تركيبًا نحويًّا دخيلًا وغريبًا عليها، ولهذا فإن الجملة المعقدة هي أصل معظم مشكلات الترجمة نحوًا،[18] ومن المهارات المتقدمة للمترجم العربي أن يتقن تعريبها.

9.1.jpg

جون سيلفر، من رواية جزيرة الكنز. - منشورة ضمن الملكية العامة. المصدر: ويكيميديا كومنز

لنعد إلى المثال السابق: قد نحاول ترجمة الاقتباسات التي أخذناها من "جزيرة الكنز" إلى الصورة الآتية:

  • اسمه جون سيلفر
  • اسمه جون سيلفر، وله ساق واحدة
  • اسمه جون سيلفر، وله ساق واحدة، على أنه خسر ساقه الأخرى دفاعًا عن وطنه فرأيت هذه نقطة في صالحه.

فتغدو -إذًا- الجملة الأولى جملة عربية إسمية (بدلًا من الجملة الإنكليزية البسيطة)، والثانية جملتين اسميتين جمع بينهما حرف عطف (بدلًا من الجملة المركبة)، ولو أننا عدلنا الثانية تعديلًا طفيفًا؛ لأن التعبير عن خسارة جزء من الجسم في العربية لا يصح أن يأتي فعله بضمير المتكلم، بعكس الإنكليزية (فلا نقول "قطع ساقه" بل "قُطعت ساقه").[19] وأما الثالثة فعربناها إلى جملتين فعليتين وعكسنا ترتيبهما، وستتبين أدناه الحاجة الماسة إلى تعديل ترتيب الجملة المعقدة في حالات كثيرة أدعى من هذه.

يتعمد الكاتب الجيد التنويع في تراكيب الجمل وأنواعها، للتفنن بالأسلوب ولتجنب التكرار الممل الرتيب،[20] لكن هذه النعمة قد تنقلب نقمة في الترجمة؛ لأن أنواع الجمل ليست متساوية ومتماثلة بين اللغات، فلا يستطيع المترجم أن ينقل تراكيبها وبُناها النحوية دون حذر وتعديل، وبعض هذه الحالات تكون صعبة جدًّا لأنها تستدعي تفكيك الجملة وإعادة تركيبها جذريًّا، مما يقتضي من المترجم فهمًا دقيقًا لأنواع الجملة باللغتين.

أسلوب الخطاب

توثق كثير من الدراسات -في علم الخطاب- التباين في تركيب الجمل بين اللغتين العربية والإنكليزية. وتشير هذه الدرسات إلى أن الإنكليزية تميل إلى تركيب جمل بسيطة وقصيرة تيسيرًا للقراءة؛ وتفصل بينها بعلامات ترقيم دقيقة جدًّا، بينما تعمد اللغة العربية إلى الإطالة في الجملة الواحدة، وصهر أفكارٍ كثيرة متتابعة فيها.[21] فمن الطبيعي أن تشغل الجملة العربية الواحدة فقرةً كاملةً، فيما تعد هذه زلة مبتدئ للكاتب الإنكليزي. وقد يعْزى ذلك إلى أن علامات الترقيم جديدة على اللغة العربية؛ إذ قلّما استخدمت في تدوينها التراثي،[22]فلم تفرض ضوابط الترقيم فيها المباعدة بين الجمل إلا بالفاصلة؛ فظلت فقراتها مطولة ومتتابعة. ولهذا الاختلاف بين اللغتين أبعاد كبيرة قد لا يلحظها المترجم إن لم يكن حسن الاطلاع على الأدب العربي.

رأينا أن اللغات تختلف في نحوها وتصريفها، فتعتمد كل منها على أسلوب في الكلام يتناسب معهما، وفي الإنكليزية سبب قوي يجبر من يكتب فيها على أن لا يطيل في الجملة الواحدة: وهو أن اللغة الإنكليزية ليس فيها تصريف للأفعال للجنس والعدد، ففعل "act" له شكلان فقط (act أو acts) بينما لو ترجمناه إلى العربية قد يصبح: "يُمثِّلُ" أو "تُمثِّلُ" أو "يُمثّلان" أو "تُمثِّلان" أو "يمثِّلون" أو "يُمثِّلْنَ". ويترتب على نقص التصريف في اللغة الإنكليزية صعوبة التمييز بين الفاعل والمفعول به، ولهذا يفضل أهل اللغة الإنكليزية كتابة جمل قصيرة منفصلة خشية الغموض اللغوي (وهو مسألة سنأتي على بيانها فيما بعد).

وبسبب أهمية الوضوح والدقة من أوليات الكتابة الإنكليزية، نرى تكرارًا هائلًا للضمائر فيها للتوثق من أن القارئ يستوعب الشخص المقصود بكل فعل، ولا يضيع عليه معنى الكلام،[23] على أن هذا الأسلوب ليس ضروريًا في اللغة العربية لأن كثرة التصريف[24] تيسر على القارئ فهم الجملة ولو طالت وتفرعت، بينما يغدو تكرار الضمائر -في العربية- تكرارًا فارغًا لا مغزى له. وقد نرى ذلك في المثال الآتي (من رواية The Great Gatsby):

  • "She didn't like it," he insisted. "She didn't have a good time."
  • [حرفيًّا]: "هي لم تعجبها [حفلة الرقص]"، أصرّ هو، "هي لم تحظَ بوقت جيد".
  • [بتصرّف]: قال مصرًّا:"لم تعجبها الحفلة ولم تستمتع بها".

على عكس اللغة الإنكليزية، يستصعب القارئ العربي التوقف باستمرار أثناء القراءة؛ لأن تصريف الأفعال والأسماء في العربية يسمح بتدفق الكلام وبإطالة الجملة، وهذه سمة من سمات اللغة التي يجب أن يستوعبها المترجم ويحسن استعمالها، فيمكن لثلاث جمل أو أربع جمل إنكليزية أن تمتزج في جملة عربية واحدة (كالمثال أعلاه)، وينبغي على المترجم العربي أن يتعلم مزجها حينما يسمح السياق بذلك، إذ إن الضرورة اللغوية التي ألزمت فصلها بالإنكليزية تسقط حين تعريبها.

وقد يستوجب مزج الجمل -كذلك- أن يعاد ترتيب علامات الترقيم فيها، إذ إن للمترجم حرية تركيب الجمل وتغييرها بما يتلاءم مع احتياجات اللغة، فيمزج بين الجمل البسيطة ويزيل النقاط بينها[25] ويحذف الضمائر الزائدة ويربط الجملة مع ما بعدها بحرف عطف. ويحدث كثيرًا- لهذه الأسباب- أن يقل طول النص الإنكليزي حين تعريبه باحترافية وبإلمام لغوي صحيح، على أن بعض سياقات التعريب قد تسلتزم العكس، ومنها تعريب الصفات والحال.

الصفة والحال

يقول الروائي الشهير ستيفن كينغ: "the road to hell is paved with adverbs"، وهو تحذير للكتاب المبتدئين من الإسراف بإضافة ألفاظ "الحال" إلى كتابتهم،[26] إذ تملي مَلَكة كثير من الكتّاب الجدد عليهم أن يكتبوا جملًا منمّقة بالحال مثل: "فتح شخص الباب مسرعًا، ثم دخل الغرفة لاهثًا، وتوجه إلى الخزانة فزعًا" (ربما بدلًا من: "دخل الغرفة وفتح الخزانة"). لكن هؤلاء الكتاب الهواة لا يُلامون تمامًا؛ لأنهم يقتدون بأصول الكتابة في اللغة الإنكليزية، وهي لغة تُثقل جملها بالأحوال والصفات لتحشد كمًّا هائلًا من المعلومات[27] في جملها القصيرة الكثيفة. وفيما يلي مثال متطرف (ولو أنه حقيقي) اجتمعت فيه خمس عشرة صفةً في جملة واحدة تتحدث عن فنون المسرح:[28]

  • As broad farce surrendered to cloying melodrama, with its fitful bouts of frenzied shouting, wooden acting, and intermittent violence scenic effects, we were subjected to savage tickling, sentimental pleading, emotional blackmail, religious pandering, vehement exhortation and downright bullying.

ولعلك تلاحظ في أي ترجمة كم تأتي هذه الصفات والأحوال ثقيلة على اللسان العربي؛ لأنها غير مألوفة فيه، فيحشرها المترجمون في الكلام حشرًا ويضطر القارئ لتفكيكها في ذهنه -بعضها عن بعض- إن أراد فهم النص، وهذا يجبرنا على البحث عن وسيلة لتكييف هذه السمة الصّعبة باللغة الأجنبية مع عادات الكتابة العربية. وفيما يلي أمثلة واقعيّة من عدّة روايات معرّبة تْظهر الجمل الصعبة التي ينتجها تعريب الصفات والأحوال (وقد ميزتها بخط أسفلها، مع ملاحظة أن المقصود هنا هو الطريقة التي تظهر بها الصفات والأحوال الإنكليزية بعد تعريبها، ولا يعني هذا -بالضرورة- أنها تعد "صفة" لا "حالًا" بالعربية):

  • كان البحر المتلألئ يرتفع ويموج لأعلى، ويتحرك متفككًا إلى مستويات مسطحة صاخبة...أما الشعاب المرجانية وأشجار النخيل القليلة المتشبثة بالأجزاء المرتفعة فإنها كانت تطفو لأعلى في السماء (سيد الذباب، ص109).[29]
  • وكان حين وجوده على سطح السفينة السفلي وسط زحام الأصوات المنبعثة من مائتين من أقرانه، ينسى نفسه ويسبق عمره بالعيش في خياله في حياة البحر (لورد جيم، ص6-7).[30]
  • وكانت إحدى عابرات البحار من البواخر التي تحمل البريد، قد وصلت عصر ذلك اليوم (لورد جيم، ص121).
  • لم تستطع السيدة بينيت -ولا حتى بمساعدة بناتها الخمس- أن تستدرج زوجها ليعطي أوصافًا وافية عن السيد بينغلي (كبرياء وهوى، ص17).[31]

وهذه الجمل صعبة الفهم لأنها مثقلة بدفق كبير من المعلومات التي اختصرتها بضع صفات وأحوال في النص الأصلي، وذلك لأن اللغة الإنكليزية تسمح بإلصاق سوابق ولواحق كثيرة بالصفات تضيف إليها معانٍ يطول تعريبها، مثل كلمة: unremarkable (أي [un] [remark] [able])، التي تعرّب إلى: "غير جدير بالملاحظة".[32]

ومن الطبيعي أن يُضطر المترجم هنا -كما رأينا أعلاه- إلى تعريب هذه المعاني المتشابكة بجمل إسمية متتابعة بالعربية، والتي تُصبح ثقيلة ومزعجة على القارئ الذي لم يعتد هذه الكثافة من المعلومات. وقد يحلّ المُعرّب مشكلة الصفات والأحوال بأن يُحوّل هذه الجملة الإسمية المتتابعة إلى جمل فعلية، فنقترح: أن يُفرّق المترجم الجملة الإنكليزية الواحدة -المثقلة بالصفات والأحوال- إلى جمل عربية قصيرة؛ نبدل فيها الصفة بفعل (أي أن نقلد أسلوب التعبير الإنكليزي بما فيه من جمل قصيرة وبسيطة).

وفيما يلي الأمثلة السابقة نفسها، بعد تطبيق هذه الطريقة عليها:

  • كان البحر متلئلئًا، وأخذ يموج ويرتفع فيتفكك إلى طبقاتٍ مستوية، فأحدث ضجة صاخبة…أما الشعاب المرجانية فبدت وكأنها تطفو نحو السماء، ومثلها أشجار النخيل، والتي تشبثت بعضها بالمرتفعات.
  • وكان ينسى نفسه حين وجوده أسفل سطح السفينة، إذ تزدحم حوله أصوات مائتين من أقرانه، فيسبق عمره بالعيش في خياله في حياة البحر.
  • وكانت تعبر البحر باخرة تحمل البريد، فوصلت عصر ذلك اليوم.
  • لم تستطع السيدة بينيت أن تستدرج زوجها ليوفي بوصف السيد بينغلي، حتى حينما هبّت بناتها الخمس لمساعدتها.

ليس من الضروري أن تدعو كل حالة إلى هذا الأسلوب المعقد قليلًا في التعريب، لكنه يصبح حلًا ثمينًا في الجمل المتطرفة التي يَجْهَد المُعرّب في نقلها. وفي ما سلف من أمثلة بعض من التصرّف في ترتيب الجمل الأصلية، وهو تغيير يجوز لسببين إن لزم: الأول هو أن يساير تركيب مكونات الجملة بلغة الترجمة (إن كان مختلفًا عن تركيبها باللغة الأصل)، والثاني هو أن يقرّب النص إلى جمهور الترجمة إن كانوا أقل دراية بموضوعه (مثل أن يكونوا أقل إلمامًا من جمهور النص الأصلي باللغة الأكاديمية والاختصاصية).[33] ولعل كلتا الحالتين تنطبقان على الأمثلة أعلاه؛ لأن التركيب اللغوي غريب عن العربية، ولأنه صعب -غالبًا- على جمهور القُرّاء. وينطبق هذا على أنواع أخرى من أدوات التعبير الإنكليزية.

وعلى الرغم من..

يحدث في اللغة الإنكليزية أن تأتي أدوات للنفي في بداية الجملة المعقدة أو في منتصفها، ومن أكثرها ترددًا although (ومثلها while..وhowever)، وإذا صادف المترجم جملة تبدأ بهذه الطريقة[34] -وهي كثيرة- فعليه أن يأخذ بعين الاعتبار أن لها شقين: الشق الأول يصف معلومة، والشق الثاني ينقضها أو يخلص إلى استنتاج غير متوقع منها. وهذا نوع من الجمل فيه صعوبة بالتعريب.

ويعرف القارئ الأجنبي (مثل الكاتب) من تركيب هذه الجملة أن شقها الثاني سينقض الأول، ويحاول المترجمون العرب أن يقلدوا هذا التركيب بأن يبدؤوا الجملة العربية بكلمتي "على الرغم من.."، ولكنّ استيعابها يبقى صعبًا لأن بناءها دخيل، ولأن اللغة العربية لا تساعد على ربط شقي الجملة معًا، وقد يكون من الأسهل للمترجم والقارئ، حذف كلمتي "على الرغم من" في بداية الجملة، والاستعاضة عنهما ببديل مثل "لكن" و"إلا أن" و"على أن" و"مع أن" في بدء الشق الثاني، أي بتأخير النفي بدلًا من تقديمه.

وفيما يأتي مثال على الفرق بين الطريقتين (من مقالة لويكيبيديا عن نوعٍ من الديناصورات):[35]

  • Although the completeness, preservation, and scientific importance of this skeleton gave "Big Al" its name; the individual itself was below the average size for Allosaurus.
  • [حرفيًّا]: على الرغم من أن اكتمال هيكله وحُسن حفظه وأهميته العلمية، أعطوا لـ"بغ آل" اسمه، إلا أنه كان تحت الحجم المتوسط للألوصور.
  • [تصرُّفًا]: سُمّي هيكل الألوصور "بغ آل" لاكتماله وحُسن حفظه وأهميته العلمية، على أن حجمه كان أصغر من المعتاد بين بني جنسه.

المبني للمجهول

تتجلى الترجمة الحرفية بكثير من الكلمات والتراكيب الدخيلة على اللغة العربية؛ ولعل إحدى أكثر علاماتها انتشارًا هي كلمة "تم"، والتي جرت العادة على الاستعانة بها في ترجمة الأفعال المبنية للمجهول.[36] ولا تقع الركاكة في ترجمة هذه الأفعال بدون سبب، إذ إن صيغة المبني للمجهول صعبة ومربكة لأن فيها اختلافًا جوهريًا بين اللغتين العربية والإنكليزية: إذ إن فاعلها باللغة الإنكليزية ليس "مجهولًا" دومًا.

مثلما تختلف اللغات في كثير من خصائصها؛ كالتي تناولها المقال الأول من هذه السلسلة، فإن صيغة المبني للمجهول هي واحدة من الاختلافات المعتبرة بين العربية والإنكليزية: ولا يقتصر ذلك على أنها تأتي في سياقات متفاوتة في هاتين اللغتين، بل في اختلاف فكرتها الأساسية. فقد نقول: "كُتِبَ الكتاب"؛ إن كان مؤلف الكتاب غير معلوم (أو لم نرغب بإعلام القارئ فيه)، فينوب عنه في هذه الجملة نائب الفاعل ("الكتاب"). وهذه صيغة لا يحتاجها الكاتب العربي إلا في سياقات محددة، لذا قد يبدو من الغريب أن تشيع الأفعال المبنية للمجهول في الإنكليزية حتى يكاد يصادفها المترجم في كل نص وكل فقرة يقف عليها.[37]

حينما نقول أن اللغة الإنكليزية فيها أفعال "مبنية للمجهول" فإننا نحاول إسقاط قواعد لغتنا على لغة أخرى بالتشبيه والمقاربة، لكننا رأينا أن اللغات لا تترادف في معانيها ولا في قواعدها، وما يحل مكان "المبني للمجهول" (كما نعرفه) في اللغة الأجنبية هو ما يسمى -حرفيًا-: "النبرة الخاملة" (passive voice)، ومعناها أن الفاعل في الجملة يصبح مفعولاً به: فيتلقى فعلًا بدلًا من أن ينفذه، وهي عكس "النبرة الفعالة" (active voice). ومن أمثلتهما ما يأتي:[38]

  • [Active]: Christopher Nolan directed “The Dark Night”.
  • [Passive]: “The Dark Night” was directed by Christopher Nolan.

لكلا هاتين الجملتين معنى واحدٌ، على أن الفاعل والمفعول به ينعكسان في الجملة الثانية، فيتصدر "كريستوفر نولان" الجملة الأولى فيكون "فاعلًا" فيها، بينما يمسي مفعولًا "خاملاً" في الثانية. وهاتان هما الطريقتان الأساسيتان لصياغة أي جملة في اللغة الإنكليزية، ولذا فإن كليهما شائعتان جدًا في لغتهما، وهذا فرق شاسع عن المبني للمعلوم كما نعرفه.

السبب الرئيسي للخلط بين "المبني للمجهول" (بالعربية) و"النبرة الخاملة" (بالإنكليزية) هو إمكانية حذف ما كان الفاعل سابقًا (وأصبح مفعولًا به هنا) من الجملة الخاملة في اللغة الإنكليزية لتصبح "مبنية للمجهول" بحق، فقد يُقال: "The Dark Night was directed in 2008" (أي: بدون ذكر "كريستوفر نولان" الذي أدى فعل "الإخراج")، ويمكننا ترجمة هذه الجملة إلى صيغة المبني للمجهول بالعربية، فنقول: «أُخرِج فلم "ذا دارك نايت" في سنة 2008». لكن هذا لا يعني أننا نستطيع ترجمتها مع إضافة فاعل معلوم إليها، وهذه هي المشكلة التي ابتُدعت كلمة "تم" لحلها، والتي أصبحت عُرفًا راسخًا بين المُعرّبين الهواة في ترجمة الأفعال الإنكليزية حينما تأتي بالنبرة الخاملة؛ التزامًا منهم بقوانين الترجمة الحرفية الصارمة التي تملي تقليد كل جملة باللغة الأجنبية. بل إن كلمة "تم" أصبحت دارجة في مؤلفات كثير من الكُتَّاب العرب غير المترجمة، فيكتبون على شاكلة:

  • تم الإخراج بواسطة كريستوفر نولان.

وفي هذه الجملة مشكلتان بالعربية: الأولى والبديهية، هي أن المبني للمجهول -كما يدل اسمه- فاعله غير معروف، ولهذا فلا صحة (ولا منطق) في إتباع فعل مبني لمجهول ("تم الإخراج") بفاعل ("كريستوفر نولان"). وأما المشكلة الثانية، فهي أن هذه الترجمة الحرفية لا تأخذ بعين الاعتبار شروط اللغة الأجنبية التي استدعت اختيار المبني للمجهول، إذ إن قواعد اللغة الإنكليزية تفرض على الفاعل أن يسبق الفعل عادةً (كما ذُكر في ترتيب مكوّنات الجملة)، لكن المثال الذي نتاوله هنا خرق العادة؛ إذ تقدم الفعل الإنكليزي "directed" على الفاعل "Christopher Nolan"،[39] ولذا لزم -لدواع نحوية- أن يُضاف إليها حرف الجر by، بينما تبدأ الجملة العربية بالفعل أصلًا، فالأيسر أن نُعرّبها إلى صيغة المعلوم، ودون حاجة لكلمات زائدة فنقول:

  • "أخْرَجَهُ كريستوفر نولان" أو "أخْرَجَ الفلمَ كريستوفر نولان".

ينطبق هذا الأمر على سائر سياقات الكلمة الكثيرة، فنُعرّب "Computer was invented in 1871" إلى: "اختُرِعَ الحاسب في 1871"، و"America was discovered in 1492" إلى: "اُكْتُشِفَت أمريكا في 1492" (بدلًا من "تم اختراع الحاسب"، و"تم اكتشاف أمريكا"، وهلم جرّا). ومن المناسب تعريب "النبرة الخاملة" بتعريبها -أحيانًا- إلى صيغة المبني للمجهول السليمة بالعربية (بدون كلمة "تم")، ولو أن الأسلم منها هو الاستعاضة عن البناء للمجهول بالبناء للمعلوم؛ تماشيًا مع أعراف اللغة وأصولها.

على المترجم أن يتجنب مخالفة أصول اللغة التي ينقل إليها، وعليه -كذلك- أن يأخذ بعين الاعتبار أعراف هذه اللغة. إذ على المُعرّب أن يُدرك هنا أن "النبرة الخاملة" متأصلة في الإنكليزية بسبب قواعدها، وحتى ولو احتجنا -في بعض الحالات- إلى تعريبها للمبني للمجهول، فهذا لا يفرض الإكثار منها في الترجمة العربية، والاختيار يقع على عاتق المُعرّب بناءً على فهمه لاختلافات اللغات وللوزن الأدبي لصيغة المجهول أو المعلوم فيها.[40]

صيغة الملكية

مثل جميع المشكلات التي تنتج عن الترجمة الحرفية، قد يحاول المترجم والكاتب غير المتمرس قد نقل صيغ الملكية كما هي، من لغة أجنبية، مما يؤدي إلى توليد كلمة جديدة مثل: "خاصّتي".

ثمة طريقتان للتعبير عن الملكية باللغة الإنكليزية: إما بإضافة حرف s زائد في نهاية اسم أو بالاستعانة بضمائر التملك، وهي mine وyours وhers وhis وits وours وtheirs. وبما أن الالتزام بأصول الترجمة الحرفية يستلزم إبدال كل كلمة في اللغة الإنكليزية بمثيلة لها في العربية، فقد ابتدع المترجمون كلمات "خاصّتي" و"خاصّتكم" و"خاصّته" و"خاصّتها" و"خاصّتنا" و"خاصّتهم" لتكافئ كل هذه الضمائر، وخصوصًا حينما تأتي صيغة التملك لاسم مضاف معه مضاف إليه.

وفي اللغة العربية ضمائر ملكية -أيضًا- لكنّها ضمائر متّصلة لا منفصلة، فهي تأتي ملحقة بالاسم المملوك، ومنها مثلًا: الياء للمتحدّث المفرد (بيتي) والنون وألف لجماعة المتحدثين (بيتنا). وفيما يلي مثال توضيحي لها من ترجمة لرواية "أقمار المشتري" لأليس مونرو:[41]

  • [حرفيًا]: دلفتُ إلى غرفة جولي ووجدتها تحزمُ حقيبة الظهر خاصتها.
  • [تصرُّفًا]: دلفتُ إلى غرفة جولي ووجدتها تحزمُ حقيبة ظهرها.

ترابط مكونات الكلام

مرت بنا لمحات من علم اللغة على مستوى المعنى (علم الدلالة) واللفظ (الصوتيات) والكلمة (الصرف) والجملة (النحو)، وهي أربعة من مستويات هذا العلم الخمسة، فيبقى أن نجمع بين هذه الجمل والكلمات وما لها من دلالات ومعان؛ لتكوين كلام متصل له معنى: وهذا مجال يدرسه علم تحليل الخطاب، ومن أهم مواضيعه دراسة العلاقة بين مكونات الكلام أو النص (Cohesion) لإيصال معنى مترابط متماسك، وهذه العلاقة هي التي تنظّم استخدام اللغة، وتسمح بفهم الكلام بناءً على ما يسبقه ويتبعه. وتختلف علاقة مكوّنات الكلام بين اللغات كثيرًا، وتصنع عوائق وعقبات للترجمة، وبعضها نال اهتمامًا كبيرًا من أساتذة اللسانيات ودارسيها.[42]

اتصال الكلام

لا يكفي أن ننظر إلى الترجمة وكأنها كلمات وجمل مجزأة، فمن السهل جدًّا على المترجم المبتدئ، وكذا البرنامج الآلي، أن ينقل كثيرًا من الجمل نقلًا متقنًا من لغة إلى لغة، ويأتي دور المترجم الماهر في سبك هذه الجمل؛ وما فيها من أفكار وكلمات -معًا- في فقرات ومقالات وفصول متكاملة. ويحتاج ربط هذه الأفكار بعضها ببعض إلى مهارة خاصة، مثل مهندس معماري يخطط لبناء تقوم فيه كل طبقة على غيرها، ولو فشل المترجم -بعد إتقانه ترجمة ما فيها- في ربطها معًا فقد يخرج ترجمة يستعصي فهمها: لا بسبب لغتها؛ بل لكلامها المتباعد الذي لا تتضح علاقته ببعضه.[43]

رأينا أن المترجم يضطلع بعمل الكاتب، فهو يعيد صياغة الكلام وكأنه يكتبه من جديد، ولذا فعليه أن يوظف أدوات لتماسك الأفكار مثل الكاتب تمامًا، ومن هذه الأدوات؛ أن تبدأ كل جملة وتنتهي بما يربطها بسابقتها ولاحقتها، وبأن يلتزم فيها بزمن وسمت ثابت للأفعال.[44][45] فنقل الجمل أثناء الترجمة يعيد ترتيب مكوناتها، ومن السهل أن يضيع ترابط الأفكار بين فقرات المقالة أو فصول الكتاب. فيبدأ الكاتب الجملة -عادةً- بمعلومة يعرفها القارئ، ثم تلحقها معلومة مبنية عليها، ولم تأت سابقًا،[46] مثل القول:

لأن للإلكترونات شحنةً سالبة فإنَّ اجتماعها مع البروتونات الموجبة يُحيِّد شحنة الذرة.
معنى معلوم معنى جديد

من أهم مستويات ترابط الكلام هي الانتقال من جملة إلى أخرى، وتساعد على ربط هذه الجمل والأفكار ببعضها أدوات لغوية (مثل حروف العطف)، وهذه الأدوات ليست لها معانٍ بذاتها، وبالتالي فإنها ليست دائمًا مما ينقله المترجم من لغة أخرى، وإنما عليها إضافتها -في أحيان كثيرة- ضمن مهمة التعريب التي يؤديها. ولو تغاضينا عن تأثير اللغات الأجنبية؛ فإن أكثر أدوات ربط الجمل ومكونات الكلام تداولًا في اللغة العربية -تراثيًا- كانت الواو والفاء العاطفتان،[47] والمترجم ليس مضطرًا بأن يحصر استخدامه بهاتين الأداتين،[48] وإنما يمكنه المزج بينهما (في مواضع النقص) وبينما ما أتى في النص الأصلي؛ ليحفظ شيئًا من أسلوب المؤلف الإنكليزي لكن دون الإكثار منه بما يفسد السليقة العربية.[49] وفيما يلي مثال مقتطع من كتاب كليلة ودمنة، لابن المقفّع؛ للتدليل على طريقة ربط الكلام في اللغة التراثية:[50]

  • قال دمنة: إن إرادة الأسد لما يريد ليس لشيء مما ذكرت من تحميل الأشرار ولا غير ذلك، ولكنه الغدر والفجور، فإنه جبَار غدّار، أول طعامه حلاوة، وآخره مرارة، بل أكثره سم مميت.
  • قال شتربة: صدقت، لعمري لقد طعمت فاستلذذت، فأراني قد انتهيت إلى الذي فيه الموت.

أحرف الجر

قال بعض النحاة: إن «حروف الجر ينوب بعضها عن بعض» لأن حروف الجر هي -عمومًا- ما دل على معنى في غيره. وقد يؤخذ من ذلك جواز التبادل الوظيفي لحروف الجر، بحيث يستخدم أي حرف جر مكان الآخر دون وازع أو ضابط، وحروف الجر متعددة في وظائفها إجمالًا،[51] ولهذا السبب -تحديدًا- من السهل الخلط بينها، خصوصًا أثناء الترجمة. فلكل لغة استخدامات تخصها لحروف الجر، فلا يأتي كل فعل فيها إلا مع حروف محدّدة، ولا يمكن ترجمة هذه الحروف من لغة إلى أخرى حتى بأكثر مناهج الحرفية تطرفًا.[52]

حروف الجر هي عنصر آخر من عناصر اللغة الوظيفية التي لا تحمل معنى في ذاتها، وإنما تضيف معنى إلى غيرها من الكلمات، ولهذا فإن ترجمتها بين اللغات ليست منطقيّة. إذ إن لحروف الجر في كل لغة أفعال أو سياقات محدَّدة ترد فيها، ويمكن التوثق من هذه السياقات بمعاجم التصاحبات اللفظية (إن وجدت)، إلا أن معرفة ذلك ترجع -أيضًا- إلى الحفظ والخبرة، وقد تكون متفاوتة جدًا بين أي؛ لغتين مهما كانتا متشابهتين جدًّا في أصولهما التاريخية وبنائهما اللغوي. ويظهر هذا بالمثال الآتي لحروف الجر بالإنكليزية والألمانية:

  • [بالإنكليزية]: I write in German.
  • [بالألمانية]: Ich schreibe auf Deutsch.

يماثل حرف الجر "auf" باللغة الألمانية في معظم استعمالاته كلمة "فوق" العربية، وربما يبدو من المدهش أننا لو ترجمنا هذه الجملة آليًّا من الألمانية، سوف تعني -حرفيًا-: "أنا أكتب فوق الألمانية" أو "على الألمانية"، والقصد هو: "باللغة الألمانية". وبالمثل؛ فإن جميع أحرف الجر قد تختلف استخداماتها وسياقاتها، بطريقة لا تتبع نظامًا من الأنظمة.

ولو أخذنا حروف الجر العربية مثالًا، فسنجد أن الحرف "في" يأتي بعشرة معانٍ مختلفة بحسب سياقه، ومنها الظرفية (جريتُ في الملعب) والتعويض (فيمَ تُفكِّر؟) والتعليل (دخلت امرأة النار في هرّة حبستها) وغير ذلك. وقد نجد أن حرف الجر in في اللغة الإنكليزية يقابله في معاني الظرفية المكانية والزمانية، ولكنه لا يقابل حرف الجر العربي في وظيفة التعليل والتوكيد وغيرها، ومن المستحيل أن تجد أي حرف جر إنكليزي يماثل "في" أو أي حرف جر عربي يماثل "in" فهذه من خواص اللغات.

وهذا يعني أن ترجمة حروف الجرّ ترجع إلى خصوصيّة السّياق، كما يعني أن حروف الجرّ الإنكليزية قد تختلفُ في تعريبها، وقد يصلح أويلزم إهمالها تمامًا، ويتضح هذا إن عدنا للمثال أعلاه فجاز أن نقول: "أنا أكتبُ الألمانيَّة". فوجود حرف جر بلغة أخرى، لا يعني وجوب مقابلته بحرف جر عربي، بل ربما يقتضي البناء السليم للجملة غير ذلك. وينطبق هذا الأمر على كثير من الإضافات التي تختص بها اللغات.

الإبداع بالألقاب

تقول إحدى الباحثات: «لكل لغة أعرافها في وصف الأفعال وفاعليها، ولا سبيل لغض النظر عن هذه الأعراف في الترجمة، إلا إن أردنا غض النظر عن قارئها -كذلك-».[53] والمقصود هنا هو خصوصية طريقة الإشارة إلى الأسماء (reference) من فاعل أو مفعول به، كأن نقول: "ذهبت لين إلى مدرستها" فتعود على لين تاء التأنيث في "ذهبت" والهاء والألف في "مدرستها" فنعرف أنها هي المقصودة بفعل الذهاب، وأنها ذهبت إلى مدرسة هي طالبة فيها. وقد نلاحظ هنا أن الإشارة المعتادة في العربية تكون بالضمائر، وأما الإنكليزية ففيها إبداع وتفنن كبير بالألقاب.

قد تتنوّع طرق الإشارة إلى اسم واحد، فتلقي كل طريقة ضوءًا على سمة من سمات هذا الاسم، فقد تكون الإشارة بضمير أو اسم عادي (رأيته أو رأيتُ الطالب)[54] ومنها ما يأتي باسم مرادف في معناه (رأيتُ التلميذ) أو أعمّ منه (رأيتُ الفتى) أو أخص (رأيتُ مُحمَّدًا[55] وفيما يلي مقتطفات من تقرير لقناة فرانس24 العربية فيها عدة إشارات لشخص واحد:[56]

  • تحدث الرئيس الأمريكي السابق باراك أوباما السبت إلى طلاب في حفل تخرج افتراضي…
  • وأكد أوباما أن الأزمة الصحية كشفت اللامساواة التي يعيشها الأمريكيون السود…
  • ولا يهاجم الرئيس الديمقراطي السابق -عادةً- دونالد ترامب بالاسم ...

تحبّذ اللغة الإنكليزية التنويع في الألقاب[57] للتفنن بها وتشويق القارئ لها، وقد تُألف هذه الألقاب في الأدب الأجنبي فتأتي على شاكلة: "ذهب حسام"، "عاد العجوز"، "جلس المسنّ"، "ابتسم الهَرِمُ الذكي"، "غمزَ ذو اللحية البيضاء". وقد لا يكون هذا الأسلوب التعبيري مألوفًا دومًا للقارئ العربي، وإن لم يكن ذلك من منطلق لغوي فلأنّ مثل هذه الألقاب هي -كذلك- لها طابع ثقافي وقد يكون فهمها صعبًا بدون معرفة مسبقة بالثقافة (كما سيأتي في المقال الأخير).

وقد نحفظ بعضًا من الألقاب الواردة في الأصل من باب الأمانة، لكن لعلّ من الحكمة التخفيف منها كلّما أمكن لأن فيها صعوبة كبيرة، خصوصًا إن أتت في نص غير أدبي، فهذه الإشارة ليست قائمة على قواعد النحو الصّرفة، بل تلزم القارئ معرفة ودراية مسبقة لفهمها، فهو لن يعرف معنى "الرئيس الديمقراطي السابق" (في المثال أعلاه) إن لم يسمع من قبل بالرئيس باراك أوباما، وتلزم إزالة الإشارات والألقاب إن كانت متجذرة بثقافة أجنبية تجعل فهمها محالًا على القارئ العربي.[58]

الإبدال

مثلما تحل الألقاب مكان الاسم الواحد، فقد تخدم أدوات لغوية مخصّصة وظيفة اسمها "الإبدال" (Substitution) أي: أن تحل مكان[59] كلمات أو جمل سبقتها في الكلام، وليس لهذه الأدوات مقابل حقيقي في اللغة العربية؛ لا لأننا لا نستطيع ترجمتها، بل لأنها تهدم في الإنكليزية وظيفة وغرضًا غير موجود بسياقاته نفسها بالعربية.[60] ومن أهم هذه الأدوات كلمتا Do و That. وقد نراها بالترجمة في المثال الآتي:

  • هل تحب السباحة في الطقس البارد؟
  • نعم، أحبّ ذلك.
  • هل أقفلت باب المنزل؟
  • نعم، فعلت.

وفي المثالين السابقين حلّت كلمة That أو "ذلك" مكان جملة اسمية ("السباحة في الطقس البارد") وكلمة Do أو "فعلت" مكان جملة فعلية ("أقفلتَ باب المنزل")، فعلينا أن نُعرّبهما على هذا الأساس.

وقد نُصحّح هذه الترجمة، فنُضيف إلى الجملة الأولى ضمير الغائب (لأنه يعود على الاسم وما يتبعه) فنقول: "نعم، أحبّها". ونُكرّر في الثانية الفعل مع ضميره، فنقول "نعم، أقفلتُه".

ترجمة Already

يواجه المُعرّب مفردات محددة قد يكثر استخدامها في اللغة الأجنبية بأسلوب يخص ثقافاتها وأسلوبها في التعبير، ومن أكثر الكلمات التي قد تثيرُ حيرته -على هذا الصعيد- "already"، فهي كثيرة الاستعمال والتكرار في اللغة الأجنبية المعاصرة؛ حتى لا تكاد تمضي بضع دقائق من أي فلم سينمائي أو مسلسل تلفزيوني بدونها، على أنها كلمة ليسَ لها مقابل بالسان العربي إلا "بالفعل"، وهي الترجمة التي شاعت لها، إلا أنها لا تنجح تمامًا في نقل معنى الكلمة الأجنبية حرفيًا ولا فعليًا.

ولو سرنا على منهج التعريب، فقد نجد حلين للتعامل مع هذه المفردة:

  1. الحل الأول هو احتسابها كلمة زائدة لأن وظيفتها توكيدية بحتة، فلا فرق في المعنى الفعلي بين قولك: "I got there already" أو "وَصَلْتُ بالفعل" أو "وَصَلْت"، وأما ما زاد على فحوى الكلام فهو إيحاء إضافي أراده الكاتب بلغته الأجنبية، وهو إيحاء لا مقابل له في العربية، لذا لا حاجة لترجمته ولا فائدة ترجى منه.
  2. الحل الثاني هو الاستعاضة عنها بكلمة عربية تصف معناها بدقة أكثر حسب السياق، وهو أن الحدث قد وقع في الزمن الماضي، فلنا أن نقول "وصلتُ سلفًا" أو "وصلتُ منذ بُرْهة" أو "وصلتُ منذ فترة".

وقد يصادف المُعرّب كثيرًا من المفردات التي جرت العادة على ترجمتها بطريقة معينة، حتى ولو لم يكن لهذه الترجمة -المألوفة- معنى كبير باللغة العربية.

معان خادعة

قد يستغرب الناطق باللغة العربية قبل مئات السنين إن قيل له: إن عازفًا "يلعب على العود" أو "يهوى لعب الأدوار بالمسرح". ويكثر في زمننا هذان الاستعمالان بسياقات لا تتوافق مع معنى فعل "لعب"، وربما نعزو هذه المعاني المحدثة إلى ظاهرة لغوية يقال لها -حرفيًا-: "الصداقات الخادعة" (False friends)، والمقصود بها أن يخال المرء أن لكلمة في لغته معناها نفسه بلغة أخرى؛ بسبب تشابه الكلمتين شكلًا أو دلالة، وهذا خطأ دارج يقع -عادةً- في اللغات التي لها أصول متقاربة،[61] لكن ظاهرة الترجمة ساعدت على انتشاره بأسلوب جديد.

ومن المستغرب أن يقال عمّن يستعمل آلة العود أنه "يلعبُ عليها" بدلًا من "يعزفَ بها"، والتفسير الراجح لهذا المعنى الجديد هو أن اللغة الإنكليزية تختزل بكلمة واحدة أفعالًا منها اللعب والعزف والتمثيل والتشغيل (وهي play)، فانتقلت معانيها الأخرى إلى العربية -تدريجًا- بالترجمة وتعلم اللغة الأجنبية. وقد تستغرب لو توقفت وتمعنت قليلًا بجملة شاعت بالترجمة مثل: "يلعبُ الوزراء دورًا في السياسة.."، فكيف يصلح فعل "اللعب" فيها؟

على المترجم الجيد أن يستوقف نفسه مرارًا للتفكير بدقة الكلمات التي حفظها واعتادها قبل أن تقفز أنامله لكتابتها أو طباعتها. فمن الأمثلة المتكررة -أيضًا- على المعاني الخادعة في الترجمة فعل Enjoy، والذي يأتي بمعنى "الاستمتاع" وكذلك بنِسْبة صفة إلى الشيء:

  • Amman, a mountainous city, enjoys good weather.
  • [ترجمة حرفية]: تتمتَّعُ مدينة عمَّان الجبلية بطقسٍ لطيف.
  • [ترجمة بتصرف]: تتَّسِمُ مدينة عمَّان الجبلية بطقسٍ لطيف.
  • [ترجمة بتصرف]: لمدينة عمَّان الجبلية طقسٌ لطيف.

كما تأتي كلمة special وparticular (ومشتقاتهما) بمعنى التخصيص؛ وكذلك بمعنى الكثرة، فيُقال:

  • Superman was particularly popular during the time of World War II
  • [ترجمة حرفية]: اكتسب سوبرمان شعبية خاصة في فترة الحرب العالمية الثانية
  • [ترجمة بتصرف]: اكتسب سوبرمان شعبية كبيرة في فترة الحرب العالمية الثانية

الإطناب والإيجاز

يُشبّه صفاء خلوصي المترجم الجديد بــ"غريب تاه في مدينة حل بها حديثًا"، إذ يضرب في شوارعها وميادينها ساعات بدلًا من سلوك الطريق السهل إلى وجهته،[62] ويذكرنا نيومارك أن: «الترجمة الجيدة وجيزة كلما أمكن»،[63] فكل كلمة زائدة ولا تضيف جديدًا هي عبء على الورق والحبر والمحرر والقارئ، وإزالتها تزيد النص بلاغة وتأثيرًا وأما الإطالة والإطناب فيها فتسبب الغموض وصعوبة في استيعاب المعنى.[64]

ويستشهد عمر محمد الأمين في كتاب "أساسيات التحرير وفن الكتابة بالعربية" بمثال عن الإيجاز في ذكر الأفعال الدالة على المشاركة الصريحة (ومنها "المنافسة" و"المساجلة")، فيقول: «ومن الخطأ أن يُقال تقاتل الخصمان مع بعضهما؛ لأن الوزن نفسه يدل على المشاركة ولا داعي لذكر (مع بعضهما)"، فيُقال: "تقاتل الخصمان"».[65]

ولنا (مثلما يقول نيومارك) أن نميّز بين المترجم الجيد والمترجم المبتدئ بعدد الكلمات التي يترجمان بها جملة واحدة. وفيما يأتي اقتباسٌ من ترجمة لكتاب: "أثر العلم في المجتمع" للفيلسوف الشهير برتراند رسل:[66] (مع تحرير لها):[67]

  • إذا اعتقدتَ أن قيصر قام بعبور نهر الروبيكون فإن اعتقادك صحيح لأن قيصر قام بعبور الروبكيون فعلًا.
  • إذا اعتقدتَ أن قيصر عَبَرَ نهر الروبيكون فاعتقادُكَ صحيح، لأنه عَبَره حقًّا.

وتركيبة "قُم بكذا" أو "قام بكذا" ليست شائعة في الترجمة فقط، بل هي -أيضًا- متداولة على ألسنة الناس في كثير من اللهجات العامية مثل: "قاعد عم أمشي" (أنا أمشي). ولا بأس في هذا بالكلام المحكي، ولكنه يجعل الكتابة أقل بلاغة ويضيّع وقت القارئ سدى، إذ تقول القاعدة إن: «كل ما يحذف من غير إخلال بالمعنى يكون أبلغ».[68] ومن المفيد جدًّا تحرير الترجمة لتتبّع الكلمات الزائدة وحذفها، ففيما يلي أمثلة أخرى متداولة على ما قد تصادفه من كلام زائد:

  • "هذا يشكّل خطرًا" ← "هذا خطير"
  • "ذلك يستلزم التعريب" ← "يلزمُ تعريبه"
  • "يحتوي الكتاب على فصول" ← "الكتابُ فصول"
  • "هناك نوعان من الإحباط" ← "الإحباطُ نوعان"
  • "قُمْ بتغيير العجلة" ← "غيِّر العجلة"

الغموض

إحدى المشكلات الابتدائية التي يهتم بتقصيها علم الدلالة (وهو من فروع اللغة) هي ما نسمّيه الغموض اللغوي، والمقصود به أن يحتمل الكلام أكثر من معنى. وعادة ما يكون المعنى المقصود بالكلام واحدًا، ولو ضل عنه القارئ فهذا خطأ يقع على عاتق الكاتب (وهو في حالتنا المترجم)، وهو ما قد يأتي من الكتابة غير الناضجة أو غير الواعية.

لو قيل -مثلًا-: "زار علاء حديقة المدينة الجديدة"،[69] فقد يجد القارئ المتعمق صعوبة في تحديد الموصوف هنا، إذ ربما يكون المقصد أن ما زاره علاء هو "حديقة جديدة" في مدينة، كما يمكن أن يكون حديقة في "مدينة جديدة". وبإمكاننا أن نحاول تخمين الصحيح منهما من السياق، ولكن الجملة ليس فيها أي دلالة حتمية على المعنى مهما حللناها، مما قد يؤدي -أحيانًا- إلى غموض وحيرة كبيرين.

ولنا أن نعالج حالة واقعية تسببت فيها ترجمة رديئة بغموض لغوي يفسد تجربة القارئ، فنقتبسُ الآتي من ترجمة عربية لكتاب لعالم الفيزياء الأمريكي "ريتشارد فاينْمَان" عنوانه "متعة اكتشاف الأشياء" (Pleasure of Finding Things Out):[70]

  • لي صديق فنان كان يلتقط -أحيانًا- صورة لمنظر قد لا أوافق عليه تمامًا. كان يمسك بالوردة ويقول: "انظر كم هي جميلة، وأوافق معه. ثم يقول: "ألا ترى، أنا كفنان أستطيع أن أرى كم هي جميلة ولكن أنت كعالم عندما تجرّدها من هذا كله" تصبح شيئًا باهتًا، وأنا أعتقد أنه غريب الأطوار.

وقد لا يطول بك الأمر حتى تلاحظ أن في هذا النص مشكلات لغوية كثيرة فيكاد لا يُقرأ؛ وليس على القارئ أن يظن السبب في ما سلف أن هذا الاقتباس قطع من سياقه، وإنما ما اقتُبس -أعلاه- هو الفقرة الافتتاحية من كتاب "ريتشارد فاينمان" بترجمته العربية.

9.2.jpg

غموض بصري مشهور في رسم من رسومات قصة "أليس في بلاد العجائب"، إذ قد يظهر فيه الكائن الذي يدخّن النارجيلة وكأنه رأس رجل له ذقن وأنف نحيلان وبارزان، أو وكأنه دودة قزّ برز رأسها وساقان من سيقانها. - منشورة ضمن الملكية العامة. المصدر: ويكيميديا كومنز

تبدو الجملة الأولى واضحة تقريبًا، إذ يقول ريتشارد أن لديه صديقًا يهوى التصوير ويظهر أنه يلتقط صورًا لـ"مناظر" طبيعية، ولسبب ما فإن فاينمان "لا يوافق تمامًا" على هذه المناظر، ولكن، ما هو الذي لا يوافق عليه فاينمان في المنظر أو الصورة؟ يُفضل المترجم أن يتركنا حائرين على أن يُقدم لنا أي تفسيرًا، وهنا تكمن مشكلة الغموض الأولى.[71]

تأتي المشكلة الثانية في استخدام علامات الترقيم (فثمة أسباب جيدة تُفسّر ولع الأساتذة بها، وإلا لامتلأت صفحات الكتب غموضًا وألغازًا). ويرتكب المترجم هنا خطأ كبيرًا هو عدم فصل الحوارات بعلامات الترقيم الصحيحة، فلا يتضح لنا من علامات التنصيص متى يتحدّث فاينمان، ومتى يتحدَّث صديقه الفنان، وقد نحاول استنتاج هذا من السياق. وأما أكثر ما ينبغي التركيز عليه هنا هو العبارة الأخيرة، التي تقول: "وأنا أعتقد أنه غريب الأطوار". فهل يمكن لقارئ حذر أن يُحدد من هو أو ما هو الشيء غريب الأطوار في النص؟

علينا أن نرجع إلى الاقتباس، وندرُسَ الاسم الذي يعود عليه كل ضمير فيه لنحل مشكلة الغموض، إذ على الضمير بالعربية أن يرجع دائمًا على آخر اسم ذُكرَ في الجملة. وتُصرّف اللغة العربية الضمائر للجنس بتذكيرها وتأنيثها مما يساعدنا على تجاوز هذه المشكلة أحيانًا (على عكس الإنكليزية)، فيمكنكَ القول: "شعرت سارة بالسعادة لأن محمدًا زارها اليوم" فتعود كلمة "زارها" على سارة.

ولكن في هذا النص اسمان مختلفان من الجنس نفسه قد يعود عليهما الضمير، إذ يقول: «ولكن أنت كعالم عندما تجردها من هذا كله تصبح شيئًا باهتًا، وأنا أعتقد أنه غريب الأطوار»، وكما ترى، يمكن لاصطلاح "غريب الأطوار" أن يعود على "الشيء الباهت" أو على صديق "ريتشارد فاينمان"، فأيهما هو المقصود؟

نجد حين العودة إلى الأصل الأجنبي أن المقصود لم يكن أيًّا منهما، فما قاله ريتشارد فاينمان هو أن محاججة صديقه أو وجهة نظره تنم عن "غرابة الأطوار" عامة. وكان يمكن للمترجم أن يتنازل ويوضح هذه الجملة بأن يكتب: «"أنت عالم فتجرّد الوردة من كل جمالها لتُصبح شيئًا باهتًا"، وأنا أعتقد أن ما يقوله كلام غريب الأطوار».

وإذا وضع المترجم نفسه مكان الكاتب والمُعرّب، فعليه الانتباه إلى تفاصيل ما يكتبه وإلى ما قد يحصل لقُرّائه من سوء فهم، على عكس ما رأينا من أمثلة هاوية. وهذه المهمّة ليست سهلةً أبدًا، فالمترجم ينغمس بقراءة نص أجنبيّ ثم عليه أن يخرج من غمار هذا النصّ ليكتب بقلم عربيّ، ولهذا فلا يمكنه أن يكتفي بدراسة اللغة كمفردات وجمل، بل عليه أن يعد نفسه لدراستها على مستوى ثقافة أجنبية مكتملة الأركان.

_____

اقتباس

ملاحظة: إذا أردت مراجعة المراجع والمصادر المشار إليها فيمكنك ذلك من خلال قراءة هذا الفصل من كتاب فن الترجمة والتعريب والرجوع إلى فصل المصادر فيه.

اقرأ أيضًا


تفاعل الأعضاء

أفضل التعليقات

لا توجد أية تعليقات بعد



انضم إلى النقاش

يمكنك أن تنشر الآن وتسجل لاحقًا. إذا كان لديك حساب، فسجل الدخول الآن لتنشر باسم حسابك.

زائر
أضف تعليق

×   لقد أضفت محتوى بخط أو تنسيق مختلف.   Restore formatting

  Only 75 emoji are allowed.

×   Your link has been automatically embedded.   Display as a link instead

×   جرى استعادة المحتوى السابق..   امسح المحرر

×   You cannot paste images directly. Upload or insert images from URL.


×
×
  • أضف...