تناولنا في مقالات سلسلة الترجمة والتعريب موضوعات الترجمة من زوايا عدة، من ضمنها الزاوية الأكاديمية (في مقال نظرية الترجمة) وخصوصياتها الدلالية والصرفية (في مقال تعريب المفردة)، وما لها من خصوصيات قواعدية ونحوية (في مقالي تعريب التراكيب والجمل)، وقد ناقشنا بعض مشكلات الترجمة؛ وأهمها النزاع القائم بين الحرفية والتصرّف. على أن في الترجمة معضلات أخرى أوسع، تعود إلى اعتبارات الثقافة واللغة كاملة، والتي يجدر بالمترجم أخذها في الحسبان، فهي أقرب إلى مبادئ عامة تحكم عمل المترجم وترشده، وقد ترى في الصفحات القادمة أن كثيرًا من هذه المعضلات ليس فيها رأي واضح بين الباحثين وليس لها حل واحد معروف، لأنها تتعلق بدراسة الثقافة الإنسانية بمجملها، على أن الاطلاع عليها -على الأقل- يبقى مهمًا للمُعرّب.
الحرفية والتصرف
ما زال الهم الأكبر للمترجمين إلى الوقت الحاضر متمحورًا حول الخلاف الذي نشأ في مدارس الرومان واليونان والعرب (بين ابن إسحاق وابن البطريق) منذ مئات السنين، وهو ترجمة الكلام مفردة بمفردة "حرفيًّا" أو ترجمة معنى كل جملة "بتصرّف". وفيما سلف من مقالات هذه السلسلة، ميل واضح نحو منهج التصرّف والحرية وذمّ للحرفية، لكن المترجمين ليس بينهم إجماع حتى اللحظة على منهج محدد من ذينك المنهجين دون الآخر، بل لكل منهما حسناته وسيئاته التي يشيد بها الباحثون. فخير الأمور أوسطها، ولعلّ أوسط الأمور أصعبها.
نالت الترجمة بتصرّف تأييدًا من كبار المترجمين منذ العصور القديمة، ولهذا سبب واضح؛ هو أنها تُفضّل "القارئ" على الكاتب، فالمهم بحسب هذا المنهج هو أن نضع بين يديه نصًّا يقرؤه كما لو كُتب بلغته هو، ولهذا يتفاخر بعض المترجمين بأنهم يترجمون ما قيل بلسان أعجمي، وكأنه قيل أصلًا بلسان عربي (أو إنكليزي أو فرنسي أو غيرهما).[1] ويرى بعض الباحثين أن هذا هو المنهج الأنسب في الترجمة، حينما يمسّ النص حياة القارئ اليومية، مثل: أن يكون إعلانًا أو دليلًا سياحيًّا، لكنه ليس بالضرورة المنهج الأنسب في كل مكان وزمان.[2]
وأما الترجمة الحرفية (واسمها نفسه هو ترجمة "حرفية") فقد تلقّت ذمًّا ونقدًا من مدارس للترجمة في شتى العصور، فنرى صلاح الدين الصفدي ينتقد أتباعها أشدّ انتقاد؛ ويشيد بمن خالفهم، ومثله القديس جيروم ومارتن لوثر وجون درايدن وغيرهم، لكن كثيرًا من الباحثين المعاصرين، يرون ضرورة الحرفية في الترجمة، بل ربما تكون المنهج السائد بينهم حاليًّا.[3]
أساس الترجمة الحرفية هو الالتزام بما جاء في الأصل كلمة بكلمة، ونقل أسلوب الكاتب بأمانة دون تلاعب فيه ولا إخلال بهويته، أي أن الأولوية هنا هي للمؤلف (من حيث صون أسلوبه) وليس للقارئ (من حيث يسر تجربته)، ولهذا يرى كثيرون أن هذا هو المنهج الصحيح في ترجمة الأدب؛ لأن قيمة الأدب تأتي من أسلوب المؤلف وقلمه المميز، وأما لو تُرجم إلى لغة يألفها القارئ فقد يمسي مثل أي نص سواه.[4]
تتفاوت شدة معضلة "الحرفية" و"التصرف" حسب طبيعة عمل المترجم، إذ إن الترجمة تقع -دائمًا- بين لغتين، وكلما تقاربت هاتان اللغتان كان من الأسهل إجراء الترجمة بينهما بسلاسة، ودون إخلال بأسلوب المؤلف.[5] ومن السهل مثلًا الترجمة بين الإسبانية والفرنسية بإتقان، واعتدال بين منهج الحرفية والتصرّف، لأن هاتين اللغتين تشتركان بكم هائل من المفردات؛ وبقواعد كثيرة في النحو والصرف، لكن العربية بعيدة جدًّا عن كل اللغات الأوروبية، فهي من عائلة اللغات السامية (مثل العبرية والآرامية والسريانية)، وأما لغات العالم الغربي فمعظمها من العائلة الهندو أوروبية.
وتختلف -لذلك- العربية عن الإنكليزية في أمور كثيرة، تتجاوز قواعد اللغة ومعانيها، ولهذا فإن نتاج الترجمة الحرفية فيها أسوأ أثرًا، ولا يفيد القارئ كما رأينا في أمثلة كثيرة، كما تزداد صعوبة الترجمة بين العربية والإنكليزية؛ لما بينهما من تباعد ثقافي شاسع، فعلى المترجم أن يبدع ويستعين بموهبته لتعويض ما يضيع من معنى ببدائل تحل مكانه، ولهذا يلجأُ إلى أساليب في التكييف منها: التصريح والأقلمة والاستعاضة، وهي كلها أمور لا يقتصر هدفها على ترجمة المعنى، وإنما الثقافة التي يختزلها أيضًا.[6]
التصريح والتضمين
نادرًا ما يمضي يوم دون أن يسمع العربي جملة "إن شاء الله"، وهي جملة مشهور لها معنى صريح هو: الاحتكام لمشيئة الله. على أن أي ناطق بالعربية يعرف حينما يسمعها أن لها عشرات المعاني المبطّنة؛ من المجاملة والتهرّب والاعتذار عن عمل الشيء، كأن يُقال: "متى تدفع لي الإيجار؟" فيجيب المستأجر الغارق في الديون: "قريبًا إن شاء الله"، ويفهم القارئ هنا أن المعنى المُبطّن تقريبًا هو: "حين يأتيني مال" أو "حتى أجل غير مسمى". ولو ترجمنا جملة "قريبًا إن شاء الله" بمعناها الحرفي فربما لا يفهم أبعادها المقصودة قارئ صيني أو سويدي، لذا قد يضيف المترجم إلى هاتين اللغتين تفسيرًا أو حاشية لما جاء من معنى مبطن، ويسمى هذا التصريح،[7] أي أن يُقال بواحًا ما نوى الكاتب قوله ضمنًا. وهذا يطرح تساؤلًا كبيرًا في الترجمة: فهل الأصح هو ترجمة النص بمعناه الضمني أم بالتصريح بما فيه؟
يختلف معنى النص الحقيقي -في كثير من الحالات- عن معناه الظاهر، فقد تطلب من شخص أن يذهب معك إلى مكان فيرد قائلًا: "أنا متعب"، ويفهم المستمع أن هذه الجملة بمثابة القول: "لا أرغب بالذهاب"، وهذا معنى ضمني لا حاجة للمجاهرة به لأن عموم الناس يفهمونه.[8] لكن المعاني المبطنة لها خصوصيات ثقافية واجتماعية، فلا يفهمها القارئ دومًا بلغة أخرى، مثل الحال عند التلاعب بالكلمات والألفاظ، إذ تستخدم كلمة مكان كلمتين عمدًا، بينما قد يجمعهما المترجم مرة أخرى في كلمة واحدة، تدل على المعنى بوضوح لم يرغب به المؤلف، وهذه مجاهرة[9] بما كان على القارئ أن يفهمه من السياق.[10]
يزعم بعض الباحثين أن الترجمة -بطبيعتها- تستلزم التصريح وتشجع عليه،[11] لأن المترجم ينبغي أن يبدأ بفهم المعنى الضمني لما يود ترجمته ثم يعيد تفسيره بلغة أخرى، فينحو بسبب ذلك إلى نقل المعنى صريحًا -كما فهمه- لا مضمنًا. والتصريح له هنا حالتان:[12]
- تصريح اختياري: يلجأُ إليه المترجم إن رأى ضرورة مثل: أن يفسر المترجم للقارئ جملة "إن شاء الله" أو أن يشرح مزحة تحتاج اطلاعًا مسبقًا لفهمها، ويزعم بعض الباحثين أن الترجمة في جميع اللغات تشجع على زيادة التصريح بهذه الأساليب.
- تصريح إجباري: تلزم به قواعد اللغة مثل: أن المتحدث بالإنكليزية قد يقول "I'm sorry" دون تحديد ما إن كان صاحب الضمير "أنا" ذكرًا أم أنثى، بينما على الترجمة العربية أن تصرح بالقول: "أنا آسف" أو "أنا آسفة". وهذا تصريح زائد لا حيلة للمترجم فيه لأن اللغة تسيره.
وقد نالت مسألة التصريح في الترجمة قدرًا عظيمًا من البحث فأشبعت اهتمامًا ودراسة،[13][14] ومن أهم الاكتشافات التي حققتها أبحاث الترجمة هي أن معظم النصوص المترجمة تستبدل بالمعنى الضمني معنى صريحًا[15] فتكشف عما يخفيه المؤلف في كتابته من تلميحات مبطنة بالشرح والتفسير،[16] ولهذا السبب قد تطول كثير من الترجمات موازنةً بأصلها.[17] ومن مبررات هذا السلوك (أي إطالة الترجمة موازنةً بالأصل) أن جمهور الترجمة أقل ضلاعة بموضوعها عادة، فهم يحتاجون شرحًا إضافيًا لاستيعاب مبلغ الكلام،[18] مثلًا: يأتي النص الآتي في رواية "صورة دوريان غريه" للمؤلف "أوسكار وايلد":
يعرف قراء رواية "صورة دوريان غريه" (بلغتها الأصلية) أن "اللورد هنري" من الأثرياء لأنه يقيم في حيّ مايفير، لكن قراء الترجمة قد لا يعون ذلك. - منشورة تحت ترخيص CC-BY. المصدر: ويكيميديا كومنز
- Dorian Gray was reclining in a luxurious arm-chair, in the little library of Lord Henry's house in Mayfair
وقد يختار المترجم إحدى طريقتين في تعريب هذه الجملة، من حيث التصريح أو التضمين بمعلومة أخفاها المؤلف:[19]
- [تضمين]: كان دوريان جراي جالسًا في استرخاء على مقعد كبير وثير بمكتبة اللورد هنري في بيته بحي مايفير.[20]
- [تصريح]: كان دوريان جراي جالسًا في استرخاء على مقعد كبير وثير بمكتبة اللورد هنري في بيته بحي مايفير الراقي الذي يسكنه أثرياء لندن.
على أن المبالغة بالتفسير قد تضيع مقصد المؤلف، لأنه ربما يتعمد إيصال المعنى بكلمة واحدة مبهمة، بدلًا من بسطه أمام القارئ وكشف كل مقصده؛ وقد يضطر المترجم إلى أن يستبدل بهذه الكلمة جملةً مطولة، لأن الكلمة لا مقابل لها بلغته، فيقع في فخ التصريح.[21]
والتصريح مسألة خلافية كبيرة في الترجمة، فعليها مآخذ كثيرة لأن فيها تقوُّلًا على لسان المؤلف، وتفسيرًا ربما يخالف نواياه ومقاصده، وفي الوقت ذاتِه فإن الكلام الضمني لا يجوز نقله بين الثقافات حرفيًّا، إذ قد يلزم التصريح عن شيء منه. ولسنا هنا بصدد تقديم إجابة لمعضلة عويصة، وإنما لعرض وجهات النظر حولها التي تؤخذ بعين الاعتبار، مثلها في ذلك مثل معضلات أخرى كثيرة، لعل من أشهرها كيفية التعامل مع "الجنس" تذكيرًا وتأنيثًا.
مؤنث ومذكر
من المشاكل ذات الشأن في عصرنا كيفية "تحييد" الجنس في اللغة، لما ينطوي عليه -عادة- من تمييز واستبعاد للمؤنث في أحوال كثيرة، وهو أمر يتطرق إليه كثيرون في هذا العصر. ويرى بعض أساتذة العربية أن الضمائر المحايدة لا مكان لها أو لا حاجة إليها في لغة العرب، ومن ذلك ما يورده أحد الأساتذة في رسالة له[22] عن أن التأنيث هو علامة مضافة إلى الكلام، عُدّت منها خمس عشرة علامة، وما خلاها فهو مذكر بالأصل والمؤنث فرع منه «كما خُلِقَت حواء من آدم».
وهذا ليس بالقول الجديد، فقد قال سيبويه منذ أكثر من ألف ومئتي عام: «إن أصل الأشياء كلها التذكير ثم تختص بعد». ويقول الباحث الفلسطيني إلياس عطا الله:[23] «لا حاجة لإجراء عمليات تجميلية في اللغة العربية وأضرابها»، قائلًا: إن التغليب في اللغة العربية «لصيغة المذكر لا للذكر نفسه». وحُجّة هذا الأمر هي اختلاف الجنس الحقيقي (مثل المؤنث في "أم" والمذكر في "أب") عن الجنس المجازي[24] أو الصرفي (مثل المؤنث في "السماء" والمذكر في "الرعد").
لكن هذا الرأي يُنقصُ من دور المرأة بـ"وأد عاطفي واجتماعي" كما تقول أديبة عصر النهضة "عائشة بنت الشاطئ"،[25] فهو لا يتماشى مع متطلبات زمننا الذي يدعو إلى الحرية والمساواة، واللغات الحديثة تستجيب للدعوة لحقوق المرأة وتغير خواصها الذكورية باستحداث الضمائر المحايدة، فأصبحت هذه الضمائر من أهم مشكلات الأدب والأكاديميات الحديثة.
يدعو التيار الحديث بعمومه إلى المساواة بين صيغتين التذكير والتأنيث أو الاستعاضة عنهم بضمائر محايدة، وهي ضمائر لعلها تنقص -فعليًا- من أكثر اللغات، إذ إن العربية ليست حالة مميزة أبدًا في تفضيلها "للمذكر"؛ سواء أكان ذلك تفضيلًا للذكر أم لا. ولهذا السبب قرر جمهور الكتاب باللغة الإنكليزية الاستعاضة عن كلمة "he" (التي كانت تعتبر في الماضي كلمة "محايدةً" تصف الجنسين) بـ"they"، والأصل أن الكلمة الأخيرة هي للجمع حصرًا، لكن درج استخدامها الآن في محل المفرد لأن المذكر والمؤنث يجتمعان فيها بصيغة محايدة.
وهذا الحل ليس سائغًا في اللغة العربية، فجميع الضمائر وأسماء الإشارة العربية (ما عدا ضمائر المتكلم، "أنا" و"نحن") تميز بين الجنسين، ومنها: هم وهنّ وأنتم وأنتنّ وأنتَ وأنتِ وهذا وهذه. وهلمّ جرّا.[26] وليس هذا فقط: بل إن كل الأسماء العربية لها جنس مذكر أو مؤنث، وكل الأفعال لها شكلان يتطابقان مع جنس الاسم، وعلى هذا فإن اتباع الأسلوب الحداثي والنسوي في العربية يكاد يكون مستحيلًا حتى ولو أراده الكاتب والمترجم،[27] فقد يُقال في جملة من بضع كلمات: "على المسافر/ة أن تـ/يحمل معه/ا وثائقه/ا دومًا".
ومن الطرق القليلة التي فيها مخرج من هذه المعضلة هي الأفعال المبنية للمجهول، وهذا ما تنحو إليه كثير من الترجمات التجارية، وهو ما يجعلها -كذلك- غريبةً وصعبة القراءة، فمن ذلك أن يقال في تعليمات منتجٍ ما: "يُغسل الشعر بالشامبو برفق ثم يُدهن بكريم الفيتامينات" أو "تُؤخذ حبة واحدة من الدواء ثلاث مرات يوميًا".[28] والطريقة الأخرى التي يدعو إليها بعض الباحثين هي اللجوء إلى ضمير المتكلم (أنا أو نحن)، لأنها فئة الضمائر الوحيدة في العربية المحايدة جنسيًا،[29] فنقول: "علينا أن نحمل معنا وثائقنا دومًا عند السفر".
وللباحث إلياس عطا الله اقتراحات متعمقة في هذا السياق لتحييد جنس الكتابة العربية، دون الإخلال بأصولها النحوية والصرفية، وقد فصّل هذه الأفكار في كتابه "التذكير والتأنيث في اللغة"، ومن الحلول التي يقترحها: استخدام الخط المائل (كحال: "كاتب/ة")، وضمير "نحن" لحياديته الجنسية، وأسمنة الأفعال لتحييدها ("على الطالب أن يُعدّ واجبه" ← "المطلوب إعداد الواجب")، وصيغة المبني للمجهول ("تؤخَذ حبة من الدواء يوميًّا")، كما ويدعو للاستعاضة عن بعض المسميات الذكورية ببدائل عامّة (مثل "لجنة الآباء" ← "لجنة أولياء أمور الطلبة" و"غرفة المعلمين" ← "غرفة الهيئة التدريسية").[30]
والجنس المحايد ضروري في الاستخدام الحديث للغة وحاجة ماسة لاستمرارها وازدهارها، فالضمائر الذكورية أمست مشكلة حقيقية في اللغة ولا يجوز التحجج أو التهرب منها بمبررات واهية مثل: أن "الأصل هو التذكير" (فلماذا لا تنعكس الآية ويغدو الأصل هو التأنيث؟). على أن هذه مشكلة واسعة لا تقتصر أساسًا على اللغة العربية، وإنما طالت معظم اللغات الحديثة التي فيها تصريفات للأفعال، مثل الألمانية واللغات الرومانسية وغيرها،[31] فكلما زاد التصريف باللغة استحال تحييدها، والعربية من أكثر اللغات تصريفًا.
والحل لهذه المشكلة ليس بيد مترجم ولا كاتب وحيد، ولكن عدم إمكانية حلها بعمومها لا يعني التغاضي عن تحييد الجنس في السياقات التي تسمح به، ولا عن محاولة نقل الضمائر المحايدة في الأصل الأجنبي نقلًا واعيًا حين التعريب، وهو مبدأ من مبادئ الأمانة والأخلاقية في مهنة المترجم.
أخلاق المهنة
المترجم هو الوسيط الوحيد بين القارئ الذي يتصفح الكتاب بلغته، والمؤلف الذي كتبه بلغة أخرى، وهذا يضع مسؤولية أخلاقية كبيرة على عاتقه: فهو كاتب يتحدث بلسان المؤلف ويزعم أنه ينقل أفكاره ومقاصده، وهو يتحمل -إذًا- وزر أي غلطة أو تقصير في هذا النقل. ويرى الباحثون أن المترجم كاتب، فهو يعيد -عمليًّا- تأليف نص بلغة جديدة وقد يصعب عليه (مهما حاول) أن يتجنب إضافة آرائه الشخصية إلى ما يكتبه، وألا يعدل الأصل قصدًا أو عفوًا ليتوافق مع شروط لغته الأدبية[32] والثقافية، وهذا الأمر من أكبر التحديات التي عليه تذليلها.
على المترجم -بديهيًّا- أن يلتزم الأمانة، وقد رأينا أن الحرص على الأمانة لا يحول دون بعضٍ من التصرف بالترجمة، ولكن هذا لا يعني أن يتعمد الإخلال بمعانيها تأثرًا بأفكاره أو ميوله أو هواه. من أكبر المشكلات الأخلاقية والمهنية في الترجمة حذف النص وتغييره، وقد يبرر هذا السلوك بحجة العُرف المجتمعي والديني والسياسي، لكن إذا ظن المترجم أن الكتاب أو المقال أو القصة التي بين يديه لا تليق بثقافته فله أن يعتزل تعريبها منذ البداية لا أن يُحوِّر معانيها ومشاهدها، ولا سيما إن كانت الترجمة لعمل أدبي.[33]
وتثبت الدراسات أن المترجم لا يستطيع التخلي عن نظرته، وأفكاره المسبقة واللاواعية حينما ينقل نصوصًا من ثقافات أخرى، فقد يستبعد (بقصد أو بلا قصد) بعضًا من أفكار الكاتب حينما يحاول تقريبها إلى القارئ،[34] ومن المحال فصل المترجم عن ترجمته مهما حاول واجتهد.[35] وتتجلى هذه المشكلة بوضوح في الكتب التي تتناول موضوعات فلسفية أو دينية باللغة العربية، أو ما يُظن أنه يمس الدين والعقيدة، مثل: استبدال الكلمات التي تشير إلى نظرية التطور الدراوينية بكلمات عن الخلق ومعجزة الحياة، أو ما شابه.
ولو كان النص الأصلي فيه خطأ بنظر المترجم، كأن يمجد اليهود ويذم العرب مثلًا، فليس للمترجم حيلة إلا أن ينقل الكلام مثلما هو، فتلك هي وظيفته لا أكثر، بل ولا حاجة به لأن يتبرأ فيه مما قيل؛ لأنه ليس مسؤولًا عما يُعرّبه أصلًا، بل من الطبيعي والمتوقع أن تتحدى الترجمة أفكار القُرّاء وتتناقض معها بطريقة أو بأخرى؛ لأنها أتت من ثقافة غريبة عنهم.[36] ومسعى المترجم هو نقل النصّ بأكبر دقة وأمانة ممكنة، وأما الحكم عليه واستحسانه أو استنكاره؛ فهو مشكلة يفضل أن يتركها لسواه.
والأمانة في النقل تعني أن يتجنب المترجم إسقاط أفكاره بوعي منه على ما يترجمه، لكن هذا لا يمنعه من محاولة تكييف وأقلمة النص مع ثقافته بطريقة يظن تساعد على فهم معاني هذا النص الأصلية، بل إن تلك ضرورة لا مفر منها لاستكمال التعريب قلبًا وقالبًا.
الأقلمة
يقول الناس في اللهجات الشامية لأحبابهم كلمة "تقْبرنِي"، ومعناها حرفيًّا: "أتمنى أن تدفنني في قبري". وتصلح ترجمة هذه الكلمة إلى الإنكليزية بطريقتين: أولًا، يمكننا ترجمتها حرفيًّا بأن نقول: "I wish you would dig my grave" أو "put me into my grave"، وهي جملة قد تترك أي قارئ أجنبي في أقصى درجات الحيرة والدهشة. وثانيًا، يمكننا أن نحاول ترجمة المعنى ترجمة مجردة من كل وقع للعبارة الأصلية، مثل أن نقول: "I love you so much". ولكلا هذين الحلين مشكلاته، لأننا نتناول هنا فكرة ثقافية فلا يكفي نقلها حرفيًّا، وكذلك لا تجوز الاستعاضة عنها بجملة عادية يضيعُ فيها وقعها المميز، وإنما تحتاج إلى تكييف وأقلمة.
مرّت معنا فيما سبق تعاريف التعريب، ومن معانيه "الترجمة"، لكن لا تُقصد به الترجمة بمعناها المعتاد (أي نقل معنى الكلام من لغة لأخرى) وإنما يمتد إلى أقلمة هذا المعنى وتعديله وتكييفه مع لغة جديدة بما يتّفق مع جمهورها،[37] فالتعريب "أشمل من الترجمة"؛ وما الترجمة إلا وجه من وجوهه.[38][39] ويلفت التعريب نظرنا إلى أن الترجمة ليست مهنة آلية؛ وإنما هي مكتوبة لقُرّاء حقيقيين يرغبون بالاستفادة منها، وما قد يغيب هنا عن كثير من المترجمين (حتى من أتباع منهج التصرّف) أن أقلمة النص للقراء لا تنحصر بتعريب مقصده الحرفي ولا المجازي، بل بنقل ثقافة كاملة يختزلها ضمنه، ولا يمكن للمُعرّب أن ينقل سمات هذه الثقافة المعقدة بدون إجراء تعديلات جذرية على النص:[40] بما في ذلك تبديل أسلوبه أو موضوعه أو عنوانه كاملًا.
يعتبر كتاب "تاريخ موجز للزمن" من أشهر الكتب في تاريخ الفيزياء، على أن محتواه ليس علميًا بحتًا، إذ إن فيه بعض الأمثلة والاستشهادات التي تخدم غرضًا أدبيًا يتطلب إبداعًا في تعريبه. - مقتبسة تحت ترخيص الاستعمال العادل
تاريخ موجز للزمن
اقتباس«ذات مرة ألقى عالم مشهور (يقال: إنه "برتراند راسل") محاضرة عامة عن علم الفلك، ووصف كيف أن الأرض تدور حول الشمس، وكيف تدور الشمس بدورها حول مركز لمجموعة هائلة من النجوم تسمى مجرتنا، وفي نهاية المحاضرة، نهضت سيدة عجوز ضئيلة في آخر القاعة وقالت: "إن ما تقوله لنا هراء. فالعالم في الحقيقة صفحة مسطحة مستقرة على ظهر سلحفاة ماردة". فابتسم العالم في تعال قبل أن يجيب: "وما الذي تقف عليه السلحفاة؟" فقالت العجوز: "إنك لبارع جدًّا أيها الشاب، بارع جدًّا. على أن الأمر كله سلاحف بطول الطريق لأسفل!"». — من ترجمة كتاب ستيفن هوكنغ: "تاريخ موجز للزمن".[41]
والجملة الأخيرة المقتبسة أعلاه تطرح تساؤلات وعلامات استفهام كثيرة، فكلمة "الأمر" هنا لا تعود على أي "أمر" فعلي ذكره المترجم في جملته السابقة، ولذا يجد القارئ نفسه في حيرة من أمره وهو ما يزال في منتصف الجملة، وأما في نصفها الثاني فلعلّنا نتساءل: ما هو "الطريق" الذي نتحدث عنه والذي يعج -كما يخبرنا المترجم- بالسلاحف؟ فهل هو شارع معبّد (مثل قولنا: "أوقفت السيارة بجانب الطريق") أم هو رمزي (مثل قولنا: "اتبع طريق الحق") أم هو طريق ثالث لا نعرفه؟ وما علاقة الطريق المكتظ بالسلاحف في الحوار السابق؟
وربما يفهم معظم القراء مقصد المترجم أو يخمنون شيئًا منه (وهو أن السلحفاة تقف على عدد لانهائي من السلاحف الأخرى، بعضها فوق بعض)، إلا أنّني لا أنسب الفضل للترجمة العربية، بل إلى أن كثيرًا من هؤلاء القراء على دراية -تقل أو تزيد- بالتراكيب الإنكليزية، وهو أمر قد نعزوه -أصلًا- لكثرة الترجمات الحرفية مثل هذه. فكلمة "الطريق" التي ترد هنا -مثلًا- هي نسخ حرفي لكلمة "way" بمعنى نُقرّه إلى "الامتداد"، فلا تخدم سياقنا هنا بشيء إن تُرجمت إلى "طريق"، ولكن القارئ العربي قد يعرف الكلمة الأجنبية فيسقطها على ما قرأ.
ويتضح ضعف هذه الترجمة مباشرةً في حالتين: الأولى هي أن يقرأ الترجمة شخص لا يتقن شيئًا من اللغة الإنكليزية فيجد فيها طلاسم يستحيل فهمها. والحالة الثانية هي أن تأتي ترجمة حرفية عن لغة لا يألفها جمهور القُرّاء (مثل: اليابانية أو الروسية أو غير ذلك)، ووقتها لن يكون لهم أي عون في فهم الترجمة، وهو أمر واجهته -شخصيًا- مرات عدة في قراءة كتب مترجمة عن لغات غير مألوفة.
الأسطورة القائلة بأن العالم قائم على ظهر سلحفاة، والتي ترجع أصولها للثقافتين الهندية والصينية، ويصفها "ستيفن هوكنغ" في فاتحة كتابه. - منشورة ضمن الملكية العامة. المصدر: ويكيميديا كومنز
على أننا نجد -لدى العودة إلى الفقرة أعلاه- أنها لا تقبل الترجمة إلى العربية بسهولة، فهي مبنية من بدايتها إلى نهايتها بأسلوب غريب عن اللغة العربية، ويفيدنا في هذا الصدد أن ندرس الهدف من وجود هذه الفقرة في موضعها بكتاب "هوكنغ": فهي لا تخدم قيمة علمية، على عكس معظم محتوى الكتاب، بل هي افتتاحية الفصل الأول، والكاتب يحاول فيها أن يُلطف الجو وأن يأسر انتباه القارئ؛ تمهيدًا للخوض في مواضيع فيزيائية معقدة سوف يتناولها في هذا الفصل وما بعده. والهدف من هذه الفقرة -إذًا- ليس إرباك القارئ؛ بل تقريب النص إلى قلبه بقصة خفيفة ومضحكة، ومن حق المترجم (بل ومن الأجدر به) أن يتلاعب بالقصة وأسلوبها ليثير مشاعر مماثلة في نفس قارئه.
يستشهد "هوكنغ" في هذه الافتتاحية بمثل ثقافي مشهور في الولايات المتحدة ومجهول خارجها، وهو: أن "العالم قائم على ظهر سلحفاة" (وهذه أسطورة قديمة تظهر في سلسلة قصص واسعة الشهرة في أمريكا، اسمها Discworld)،[42] كما يأتي "هوكنغ" عمدًا بشخصية يقول عنها: إنها: "امرأة عجوز في آخر القاعة"، وهذا وصف مألوف في الثقافة الأمريكية لامرأة عجوز طويلة اللسان وقاصرة الفهم، ويصفها "هوكنغ" بهذا الأسلوب ليرسم صورة عن شخصيتها في مخيلة قارئه، لكن من الصعب على المترجم أن ينقل هذه الصورة لأي لغة أخرى.[43]
وتحتاج هذه الحالات الصعبة إلى حلول مبدعة، ومن أمثلة هذه الحلول: الأقلمة التي أتى بها مترجم أو مترجمة الكتاب إلى اللغة اليونانية، فاختلق قصّة شبيهة بأحداثها لقصّة "هوكنغ"، لكنها تستشهد بشخصيات من رواية "أليس في بلاد العجائب"، والقارئ اليوناني -كما يبدو- يعرف أليس في بلاد العجائب وشخصياتها معرفة راسخة، فيفهم الانطباعات المقصودة عنها، وفيما يلي ترجمة للنص اليوناني:[44]
اقتباس«ذات مرة ألقت أليس في بلاد العجائب محاضرة عن علم الفلك. ووصفت كيف أن الأرض تدور حول الشمس، وكيف تدور الشمس بدورها حول مركز لمجموعة هائلة من النجوم تسمى مجرتنا. وفي نهاية المحاضرة، نهضت الملكة وقالت: "إن ما تقولينه هراء، فالعالم في الحقيقة ورقة لعب هائلةٍ ومسطحة مثل أي ورقة لعب"، والتفتت نحو حاشيتها فصفقوا لها على تفسيرها، وابتسمت أليس في تعال ثم أجابت: "وعلام وضعت ورقة اللعب هذه؟". فقالت الملكة: "إنك لبارعة جدًّا أيتها الشابة، لكن ورقة اللعب هذه تحتها ورقة لعب ثانية وتحت تلك الورقة ورقة ثالثة وهلمَّ جرّا" ومضت حتى انقطعت أنفاسها قائلة: "فالعالم بأسره ليس إلا كومة هائلة من أوراق اللعب"».
وسآتي هنا بمثال ممكن على أقلمة عربية، ولو أن هذا الأسلوب غير رائج وربما غير متقبَّل في التعريب حاليًّا، واتبع خطى المثال اليوناني بأن استشهد ببديل ليس عربيًّا خالصًا، وإنما هو مجرد بديل يألفه الجمهور العربي (وهذا الأهم في حالتنا):
اقتباس«ذات مرة ألقى بطوط محاضرة عن علم الفلك، فوصف كيف أن الأرض تدور حول الشمس وكيف تدور الشمس بدورها حول مركز لمجموعة هائلة من النجوم تسمى مجرة "درب التبانة". وفي نهاية المحاضرة نهض العم دهب وقال: "إن ما تقوله هراء، فالعالم في الحقيقة عملة نقدية هائلة مسطحة". وابتسم بطوط في تعال ثم أجاب: "وعلام وُضعت هذه العملة؟". فقال عم دهب: "إنك لبارع جدًّا أيها الشاب، لكن هذه العملة تحتها عملة ثانية وثالثة وهلمّ جرّا" ومضى حتى انقطعت أنفاسه قائلًا: "فالعالم بأسره ليس إلا كومة هائلة من العملات"».
الإيحاء
قد تسمع في بعض اللهجات العربية كلمة "خواجات"، وهي في الأصل جمع الكلمة الفارسية "خواجة" (ومعناها: الأستاذ والمعلم)، وما زالت هذه الكلمة متداولة اليوم في كثير من بلدان المشرق العربي؛ فيُقصد بها سكان هذه البلاد من الأوروبيين البيض، لكن من يعرف الكلمة يدرك أن فيها إيحاءً إضافيًا مفاده التكريم وتعظيم الشأن لصاحبها بفضل أصوله الأجنبية. وهذا إيحاء أو انطباع عاطفي تثيره اللغة في نفس المتلقي؛ ولكل كلمة في اللغة إيحاءاتها الدقيقة التي يعرفها الناطقون بهذه اللغة ويستخدمونها بمواضيع دقيقة للتعبير عن مشاعرهم ومواقفهم،[45] ولهذه الإيحاءات أهمية هائلة في الترجمة.
تعدّ كلمة Home عصية على الترجمة لمعظم أو سائر اللغات غير الإنكليزية، إذ إن فيها معاني مُبطنة وإيحاءات قد يصعب نقلها، فربما تأتي بمعنى "المنزل" (مثل stay at home) أو "الوطن" و"المأوى"، مثل: "I belong home"،[46] على أن "الوطن" المقصود هنا ليس بلدًا بالضرورة (كما هو الحال في اللغة العربية) بل إنه يضفي إيحاءً عاطفيًّا بمعنى "الألفة" أو "الانتماء" على أي شي، فقد ينطبق على مكان أو شخص أو جماد، وهذه طيف واسع من الأحاسيس التي لا مناص من إسقاطها في الترجمة العربية.
لا تقتصر الإيحاءات على المفردة الواحدة، بل قد تختزل في تركيب الجملة وقواعد اللغة ولفظها. فاللهجات واللكنات محملة بإيحاءات عن العِرق (مثل لكنة الأمريكيين السود) والمنطقة (مثل لهجة صعيد مصر) والطبقة (مثل لهجات المهاجرين من بلدان غير عربية)، وقد تضيع كثير من هذه الإيحاءات في الترجمة لأنها مغروزة في الثقافة. وقد حدث -على سبيل المثال- أن بعض المبشرين قصّوا على سكان فنزويلا الأصليين ترجمة لقصة صلب ومقتل يسوع المسيح، وتوقع المبشرون أن تهتز لها قلوبهم؛ لكن القوم الفنزويليين لم يفهموا القصة ولم يكترثوا لها، ففي ثقافتهم يعد الاستسلام للموت علامة على الضعف والهزيمة، وترجمة الكلام إلى لغتهم لم تكن كفيلة بترجمة إيحاءاته وانطباعاته العاطفية.[47]
ومثل قصة المسيح؛ فإن للكثير مما يحكيه الناس -أو معظمه- دلالات واستنباطات يحاول المُتحدّث والكاتب أن ينقلها إلى المستمع والقارئ، لكنها ربما تستعصي على الترجمة. فالحديث بلكنة إيطالية في الأفلام الأجنبية يُقصد به -أحيانًا- الانتماء لعصابات المافيا (لكثرة ما فيها من طليان)،[48] والمتحدث بالعربية العامية يُعبّر عن جانب كبير من شخصيته إن ألقى التحية على أحدهم قائلًا "بونجو" أو "هاي" أو "مَرْحَبَا" أو "السلام عليكم ورحمة الله وبركاته"، ومن التحديات الكبيرة للمترجم أن يحاول نقل هذه الإيحاءات إلى بديل قد يفهمه القارئ.
تمتاز المسلسلات التلفزيونية[49] عن الأدب بأن لغتها عامية أكثر، ولذلك تغص بإيحاءات مرتبطة بثقافة الشارع والناس في بلد أجنبي، والتي قد يصعب نقلها إلى لغة أخرى. ويقال في ترجمة هاوية لمسلسل هزلي اسمه "Big Bang Theory":[50]
- You know, out of the four of us you have the most veal-like consistency.
- تعلم أن بين أربعتنا، أنت لديك الكثافة الأقرب للعجل.[51]
والمشكلة هنا هي أن الهدف من الجملة ليس وصف حيوان "العِجْل" بمعناه العلمي أو الأحيائي، بل في تشبيه الشخص بكائن مشهور بالضعف والضآلة في ثقافته. ومن غير المألوف -في اللغة العربية- التشبيه بالعِجل في هذه الحالة؛ وإنما بالحَمَل، فمن الأولى القول أنه "الأقرب إلى الحَمَلِ" أو "الحَمَلُ الوديع" ضمن المجموعة.
وعلى المترجمِ هنا أن يأخذ بالحسبان مبدأ "الحد الأدنى"[52] الذي ابتدعه المترجم التشيكي "جيري ليفاي"، ويقتضي هذا المبدأ أن يضع المترجم الحد الأدنى اللازم من الجهد، لحَصْد أكبر عائد ممكن في عمله: فالإيحاءات تكثر في الكلام كله وتتعذّر ترجمتها مجتمعة، وإن كان على المترجم بذل جهد هائل وكتابة فقرة مطولة تشرح مزحة عابرة؛ فهذا يتجاوز التزاماته بكثير، ولكن إن كانت هذه المزحة متصلة بحبكة القصة وضرورية لفهمها؛ فلا بد من تفسيرها للقارئ بطريقة ما؛ إذ على المترجم دومًا الموازنة بين أهمية الإيحاء في النص الأصلي وصعوبة نقله إلى القارئ.[53] ولعل هذه الموازنة تصبح أدعى حينما يكون الإيحاء مختزلًا في عنوان النص أو العمل نفسه.
أفلام ألمانية
لو حاولت -ذات مرة- مشاهدة أفلام أو مسلسلات مدبلجة عن اللغة الإنكليزية إلى لغات أخرى (وخصوصًا اللغات الأوروبية) فقد تلاحظ أمرًا غريبًا، وهو أن عناوين هذه الأفلام باللغات الأخرى قد تختلف تمامًا عن عناوينها الأصلية، إذ تُفضل كثير من مؤسسات الترجمة الأجنبية ابتكار عنوان جديد للفلم، يختزل الفكرة الأساسية منه مع وضعها في سياق يسير ثقافيًا على المشاهدين[54] (بدلًا من التعنت بترجمتها حرفيًّا)، والسّبب هو أن الأفلام من أكثر الإنتاجات الفنية التي تتشرّب الثقافة وتنغمس فيها، وقد يستعصي فهمها بدون أقلمة.
فلنأخذ مثلًا فلم Pulp fiction (صادر سنة 1994) للمخرج "كوينتين تارانتينو"، وهو صاحب سابع أعلى تقييم لفلم سينمائي بالتاريخ؛ بحسب قاعدة أفلام الإنترنت.[55] فلو ترجمنا عنوان هذا الفلم حرفيًّا سيصبح معناه بالعربية: "الخيال الإغرائي"، لكن، لهذه الترجمة مشكلتان: الأولى هي أن الثقافة العربية ثقافة محافظة ومتدينة، ولذا فإن معظم المشاهدين لن يتقبَّلوا الاسم، وهو أمر لا بد للمترجم الجيد من أخذه في الحسبان. وأما المشكلة الثانية ولعلها الأكثر أهمية في سياقنا، فهي أن هذا العنوان لا يعني شيئًا للمشاهد العربي، فلو تخيلت نفسك مشاهدًا (عوضًا عن مترجم) سمع بفلم عنوانه: "الخيال الإغرائي" فهل ستتشوّق لمشاهدته أو تجد أي علامة تخمن بها موضوعه؟
في عنوان Pulp Fiction اصطلاح ثقافي يترك وقعًا دقيقًا جدًّا في نفس المشاهد الأمريكي عند سماعه، فمعنى كلمة "Pulp" بحسب المعجم هو: "مجلة أو رواية مطبوعة على ورق رخيص (كورق الصحف) فيها مشاهد عنيفة وفاضحة"،[56] وهذا نوع من المجلات انتشر في الولايات المتحدة منذ عام 1900 إلى فترة الحرب العالمية الثانية، فلاقى رواجًا كبيرًا حينذاك،[57] ويقلد الفلم طابع هذه المجلات لكثرة ما فيه من مشاهد ذات طابع قديم ورخيص، مع إضافة مشاهد عنيفة وإغرائية. ونجد -إذًا- أن للعنوان انطباعًا فريدًا جدًّا محال تعريبه، إذ تتضح مشكلة تعريب هذا العنوان لو عدنا إلى مثال "تقبرني" الذي تناولناه سابقًا، وربما تتفق حينها بأن من حق المترجم الجيد (ومن واجبه كذلك) أن يبتكر عنوانًا جديدًا لهذا الفلم أكثر انسجامًا مع الثقافة العربية، كأن نقول: "حكايات صفراء" تقليدًا لما يقال بالعربية عن المجلات والصحف الرخيصة "الصفراء".
من اللغات الرائدة في الابتكار والإبداع بترجمة الإنتاجات السينمائية؛ اللغة الألمانية، فهي لغة لها استقلالية ثقافية عالية تحرص على تميزها عن الثقافة الإنكليزية، وتكثر تعديلات الأسماء فيها حتى إنها تأتي بنتائج غريبة، مثل: فلم "حياة حشرة" (A Bug's Life) من "بكسار" اسمهُ "Das große Krabbeln" (أي "الزَّحف الكبير"، بمعنى زحف أو حَبْو الحشرات) وفلم "موانا" (Moana) من ديزني اسمها "Vaiana" (وهو مشتق من كلمة "Vai" أي "الماء" بلغة تاهيتي، رغم أنها لغة لا يعرفها معظم المشاهدين الألمان).
من المسلسلات التلفزيونية الشهيرة الصادرة حادثًا سلسلة 13 Reasons Why، التي تتحدث عن فتاة اسمها "هانا بيكر" سجلت ثلاثة عشر شريطًا صوتيًّا تتحدث فيها عن أسباب انتحارها. ولو حاولنا ترجمة هذا العنوان حرفيًّا إلى العربية سنخرج بشيء مثل: "13 سببًا لماذا؟"، وهذه الصيغة ليست ذات معنى كبير في العربية لأنها -بالأصل الأجنبي- أقرب إلى جملة خبرية من سؤال، وعلى عكس اللغة الإنكليزية لا يمكن اتباع كلمة "لماذا" العربية بجملة خبرية، مثل جملة: "That is why I went out"، والتي تتحول في العربية إلى: "لهذا ذهبت" (إذ يحل اسم الإشارة: "لهذا"؛ مكان اسم الاستفهام).
غلاف المسلسل باللغة الألمانية. - مقتبسة تحت ترخيص الاستخدام العادل
وفي اللغة الألمانية، اختار مدبلجو المسلسل نقله إلى لغتهم بعنوان Tote Mädchen lügen nicht، الذي يعني حرفيًّا "الفتيات الميتات لا يَكذِبْن". ويدل هذا العنوان على دراية مُتعمّقة من المترجم بموضوع المسلسل، فخلال أحداثه يحاول كثير من الأشخاص التشكيك بمصداقية الأشرطة التي سجلتها هانا بيكر، واتهامها بالكذب وتحوير الحقائق، ويلقي عنوان المسلسل الألماني الضوء على هذا الجانب من السلسلة، بل ويرد عليه ببلاغة. والمجال هنا مفتوح للإبداع والابتكار بالتعريب كذلك على غرار ما أَلْمَنَهُ الألمان، وقد نقول في أمثلة بسيطة قريبة من العنوان الأصلي: "تسجيلات هانا بيكر الثلاثة عشر"، أو "ثلاثة عشر شريطًا غامضًا"، أو ما شابه. وطُبّق هذا الأسلوب ببراعة -مثلًا- في ترجمة عنوان سلسلة الأنيمي "Food Wars!: Shokugeki no Soma"، فأتى عنوانها على قناة نتفلكس: "لا سلام على طعام" وهي ترجمة تتجلّى فيها روح الأقلمة الثقافية باستعارة تعبير عربيٍّ معروف قديمًا وحديثًا.
قد يظن البعض أن هذه الترجمات، التي تأخذ حريتها بتعديل العنوان وإعادة صياغته، تُفسد العناوين الأصلية للأفلام والمسلسلات، ولا شكّ بأننا نفضل الإبقاء على العناوين والأسماء على أصلها متى ما أمكن ذلك، لأننا -في نهاية المطاف- لا نحاول ابتكار إنتاج جديدٍ بل ترجمة جديدة لما هو موجود. والمسألة المهمة هنا دومًا هي أن التعريب ليس محض ترجمة، بل هو تكييف وأقلمة لقارئ عربي، وتحوير الترجمة عن الأصل أفضل من ترجمة غير مفهومة، ولا تحمل أي معنى لثقافة القارئ أو المستمع أو المشاهد العربي، فالتحوير هنا جائز إن دعت الضرورة إليه،[58] وهي تدعو إليه حتى يصبح واجبًا في أحيان كثيرة.
النقد الأدبي
لو قرأ طفل في المدرسة قصة مثل: "مزرعة الحيوانات" أو "كليلة ودمنة" فربما تعجبه لما فيها من حيوانات عجيبة ناطقة تخوض مغامرات مثيرة، لكنه ربما لا يدرك أن في هذه القصص إسقاطات[59] لمسائل جادة جدًا في الحياة الواقعية. ففي مزرعة الحيوانات منافسة دامية بين الشيوعية (ورمزها الخنزير "نابوليون" الذي يحكم سائر الحيوانات الأخرى) والرأسمالية (ورمزها هو الإنسان الذين تتشبه به الخنازير في نهاية الرواية)، وفي كليلة ودمنة إسقاطًا دقيقًا لشؤون الحكم عند الملوك (ورمزهم الأسد، زعيم الغابة) وما يلقونه من غدر من حاشيتهم (من دمنة الذي يوقعُ بالثور باحتياله وخداعه). ولعل معظم المترجمين المتمرسين يفهمون مغزى هاتين القصتين، ولا يخلطونهما بقصص الأطفال، لكن قلة منهم قادرون على التعمق في الرموز والأفكار الأدبية العميقة الكامنة في الروايات والشعر وشتى ألوان الأدب، والتي يستحيل على المترجم أن ينقلها إلى قارئه كما ينبغي؛ إن هو نفسه أغفلها.
نشر الكاتب لويس كارول قصة "أليس في بلاد العجائب" في إنكلترا عام 1865، وزرع فيها صورًا كثيرة أراد منها -ضمنيًّا- نقد المجتمع الإنكليزي في عصره، وكان هذا المجتمع وقتذاك متيمًا بالآداب الاجتماعية وحسن التصرف (الإتيكيت)، وتتناقض شخصيات "بلاد العجائب" مع هذا المجتمع لأنها تفتقر إلى العادات الاجتماعية قاطبة،[60] وتكتظ القصة بشخصيات كثيرة لها معانٍ رمزية، مثل: الأرنب الذي يقفز متفحصًا ساعته ومشتكيًا من تأخره، في صورة تذكر بالموظفين الإنكليز الذين يركضون بين التزاماتهم كل يوم دون أن يبلغوها أبدًا، ومثل "ملكة القلوب" التي يصعب إرضاؤها فتأمر بضرب عنق كل من لا يعجبها سلوكه، والتي تمثل تزمت المجتمع البريطاني آنذاك وقسوته مع من يخالف أعرافه، وهلم جرّا.
الأرنب الذي "تأخر عن مهامه" في قصة "أليس في بلاد العجائب". - منشورة ضمن الملكية العامة. المصدر: ويكيميديا كومنز
وخلف كل نص أدبي احترافي جذور ثقافية عميقة كهذه، حتى يمسي من المستحيل تعريبه تعريبًا كاملًا ينقل للقارئ كل ما فيه من معانٍ،[61] لكن، للمترجم أن ينقذ بعضًا من هذه المعاني أو يعوضها ببدائل تحل مكانها وتحفظ للقارئ شيئًا من الفكرة، فتبقى ضلاعته بخفايا النقد الأدبي شرطًا ثمينًا في ترجمة الروايات والمسرحيات والأدب الرفيع. ولا ريب أن المترجم نفسه قارئ يتذوق الأدب، إلا أن قراءته هي دراسة متعمقة وتحليلية تختلف تمامًا عما يقوم به القارئ العادي.[62]
ويستعين الأدباء في كتاباتهم (وكذلك في الأفلام السينمائية والمسلسلات وكرتون الأطفال) بحيل وأساليب فريدة ربما لا يستوعبها جميع القرّاء بالضرورة، على أن هذه الأساليب تحتوي على رسالة موسعة يريدها المؤلف من النص، ولا تقتصر هذه الرسالة على النصوص الأدبية الصرفة، فكثير من الكتب العلمية فيها هذه الأدوات أيضًا؛ مثلما رأيناه في كتاب "ستيفن هوكنغ". ومن أشهر أمثلة الأدوات الأدبية "الموتيفة"،[63] وهي حدث أو فكرة أو محسوس يتكرر في القصة فيعطيها عمقًا رمزيًّا ومعنويًّا، وللموتيفة أهمية فائقة في كل نص أدبي؛ لأن الأدب قائم على بناء الصلات والروابط وتكرار الأفكار.[64]
على سبيل المثال: "Winter is coming" ("الشتاء اقترب")[65] هي جملة تتكرر عشرات المرات في سلسلة "لعبة العروش" الشهيرة، فتتصل بها عناصر القصة، إذ تنبئ هذه الجملة القارئ -أو المشاهد- بفصل الشتاء الوشيك وما سوف يأتي به من برد ومتاعب (كما يرمز الشتاء عادة) لأبطال القصة وشخصياتها، وتتضح فحوى هذه الموتيفة حينما تتحول الجملة إلى "Winter is here" ("الشتاء حل") في المواسم الأخيرة، ثم حينما ينقشع الشتاء ويحل الصيف في نهايتها، فتكتمل رمزية القصة في تناغم "النار والجليد" (وهو عنوان الرواية الأصلية) أو الشتاء والصيف أو النور والظلام، أو متضادات أخرى كثيرة قد يسقطها عليها المحللون.
ومن أمثلة الموتيفات في الأدب: الوصايا السبع في "مزرعة الحيوانات"، والتي يستغلها الخنازير للتحايل على حيوانات المزرعة، فتصبح الوصايا وسيلة للظلم بدلًا من العدل. ومن أمثلتها -كذلك- المحارة في رواية "سيد الذباب"، والتي ترمز لسطوة القانون والانضباط، فلحاملها الحق بالكلام دومًا أمام الجماعة، ويكتمل معناها كموتيفة حينما يدفع أحد الأولاد الأشرار صخرة نحو حاملها (وهو الولد "بيغي") فينسحق تحتها وتتحطم المحارة التي يحملها، ومعها آخر بقية باقية للمتجمع المتحضر على الجزيرة.
وعلى المُعرّب هنا أن يدقق في الموتيفات والرموز المحورية في القصة، فلا يجوز حذفها ولا التقليل من ظهورها في النص. وربما يخال المترجم المبتدئ أن هذه الموتيفات هي عناصر عشوائية مبعثرة دون صلة واضحة؛[66] فيرتكب خطأ جسيمًا بأن يترجمها في كل سياق بصيغة جديدة أو يسميها بمصطلح مختلف، فتضيع فكرتها أو لا تتضح العلاقة بينها وبين مسار القصة. وليس هذا سوى عنصر واحد من عشرات العناصر والأدوات الدارجة في الآداب التي ينبغي دراستها والانتباه إليها لمن يهم في تعريبها.
البلاغة
يقال أن الأدباء فئتان: فئة تترجم (أي يصلح أدبها وكتابتها للترجمة)، وفئة لا تترجم. والمقصود هو أن أصحاب الفئة الأولى يكتبون الأدب للحديث عن فحوى وعبرة؛ مثل وضع كتاب في علم من العلوم، وأصحاب الفئة الثانية يكتبونه للتفنن باللغة والكشف عن مكامن جمالها وبلاغتها؛ مثل الشعر وغيره. وعبرة أدب الفئة الثانية هي في لغته وأسلوبه،[67] لكن الترجمة تنقل المعنى وليس الجمال ولا البلاغة.
مثلًا، يقول "تورفالد" في بداية مسرحية "بيت الدمية" لهنريك إبسن (بحسب ترجمتها العربية):[68] «أهذه أرنبتي الصغيرة التي تمرح؟»، فتجيبه زوجته نورا بـ«نعم»، فيسأل ثانيةً: «ومتى عادت الأرنبة؟»، فتخبره نورا وهي تتناول قطعة من البسكوت وتمسح فمها أن يأتي ويرى ما اشترت، فيفتح باب غرفته ليندهش من كثرة ما اشترت، ويقول لها مداعبًا: «أعادت مسرفتي الصغيرة إلى [التبذير] مرة أخرى؟» ولهذا الحوار أهمية فائقة في الكشف عن شخصيات المسرحية وحبكتها، ويدل اختيار الكلمات في ترجمته العربية على براعة فائقة في نقل جمال هذا الحوار.
أداء واقعي لمسرحية "بيت الدمية"، التي تتمحور قصّتها حول كيفية تحكّم "تورفالد" بزوجته "نورا". - منشورة ضمن الملكية العامة. المصدر: ويكيميديا كومنز
فـ"أرنبتي الصغيرة" أصلها "my little squirrel" (أي "سنجابتي الصغيرة")، وهذا تشبيه بلاغي وأدبي اختاره المؤلف لسببين (وربما أكثر): أولًا ليرينا أن زوج "نورا" يعتبرها مثل "حيوان أليف" يملكه لا "إنسانًا" مستقلًا أو قادرًا على تدبر أمره. وثانيًا ليدل على طباع "نورا" وشخصيتها كما يراها زوجها، ولا سيما أنها تظهر في المشهد نفسه وهي تقضم البسكوت "مثل السنجاب"، ويبدع المترجم في التعويض عن هذه المفردة بـ"الأرنب" في العربية، والأرنب تشبيه سائغ أكثر للقارئ العربي، ولكنه ينقل المعنى الأدبي المقصود، وعلى الرغم ذلك فهو يظل تشبيهًا "غريبًا" فيحفظ غربة الترجمة. ونرى أن اختيارات الكلمة الأخرى، مثل "مسرفتي الصغيرة" بل وعنوان المسرحية نفسه (وهو بيت الدمية) يلمحان إلى الفكرة نفسها، والتي لن يفلح المترجم في حفظها إن لم يلحظها أولًا.
وقد نَصِف هذه المفردات الدقيقة على أنها علامات على بلاغة الترجمة، إذ يقول "معجم الدوحة التاريخي" في تعريف البلاغة: إنها «إجادة القول باختيار أحسن لفظ وأوجزه وأدقه في التعبير عن المعنى المراد»،[69] وفي تعريف الفصاحة أنها: «حُسْن البيان مع الإصابة في القول»،[70] وفي الترجمة قدر هائل من البلاغة والفصاحة لا يشعر بها المرء إلا بالتمرّس والخبرة، فكل كلمة في الأدب (أو الأدب المتقن) يختارها الكاتب بعناية شديدة لمعناها ووقعها ومزاياها الصوتية والجمالية وتناغمها مع باقي الكلمات، وعلى المترجم أن يفهم هذه السمات اللغوية، وأن يدرسها ويسعى إلى صونها إن استطاع.
وفي ما جاء أعلاه سمة نالت حظًّا وافرًا من الدراسة والاهتمام من المترجمين هي الـ"Markedness"، ولعل أفضل ما يقرّب به هذا المصطلح إلى العربية هو "الفصاحة"، ويُقصد به أن يكون وقع الكلمة في نفس القارئ أو المستمع مألوفًا وعاديًّا على عكس ما إن كان وقعًا غريبًا يدفعه إلى التوقف والتأمل (مثل: كلمة "أرنبتي" في هذه الحالة). وكثيرًا ما يقصد المؤلف أن يختار مفردات لها وقع غريب وخاص، وقد ينجح المترجم بالحفاظ على هذا الطابع أو قد يستعيض عنه بمفردات لها وقع عاديّ في اللغة التي يترجم إليها، وهذا خطأ واضح.[71]
اختيار الكلمات في الكتابة مهم جدًّا لأن كل ما يُكتب له أسلوب وألفاظ تختلف حسب موضوعه، فالأخبار الصحفية -مثلًا-[72] تعتمد على اللغة الجادة التي تسرد وقائع واقتباسات متتالية، والكتب الفقهية تتناول أحكامًا دينيَّة لا يجوز الزج بينها بمزحة أو هزل عابر. ومما يدل على أهمية الأسلوب، أن لكل نوع من الأدب جمله المعروفة التي يتوقعها القارئ، فلعلك تعرف موضوع النص إذا كانت فاتحته: "بسم الله الرحمن الرحيم والصلاة والسلام على أشرف المرسلين" أو "كان يا مكان في قديم الزمان وسالف العصر والأوان". ولكن هذه أمثلة فاقعة واضحة، ويحدث في حالات كثيرة غيرها أن يسيء المترجم فهم التركيب البلاغي الذي يستخدمه الكاتب لإضفاء طابع مقصود على كتابته.[73]
وقد نأخذ على ذلك مثالًا حداثيًا من جملة "forget about it" التي تتكرر عشرات المرات في فلم "دوني براسكو"،[74] والذي يتناول قصة حقيقية لعميل أمريكي اخترق صفوف عصابات المافيا، والتي تكثر في لهجتها هذه الجملة (والواقع أن الجملة تأتي في هذا السياق كـ"موتيفة"، لكننا سنتغاضى عن ذلك لأغراض الشرح)، حتى إن في الفلم ذاته مشهدًا مطوَّلًا يشرح معانيها العديدة. وفيما يلي اقتباسات من الفلم ومن ترجمته العربية على قناة نتفلكس، مع دلالات الجملة بحسب مكانها:[75]
اقتباس | ترجمة نتفلكس | المعنى |
---|---|---|
What's that, you want me to sign it? Forget about it. |
ماذا؟ تريدني أن أوقّعها؟ انس الأمر. |
[حرفيّ]: دعكَ من الأمر. |
Is he a good old guy? Forget about it. |
هل يمكن الاعتماد عليه؟ انس الأمر. |
[موافقة]: بلا شكّ. |
A Lincoln is better than a Cadillac? Forget about it | الـ(لينكولن) أفضل من (الكاديلاك)؟ انس الأمر. | [نفي]: مستحيل. |
I’m known, forget about it | أنا شهير. انسَ الأمر | [توكيد]: لا يساورنَّك الشك |
Forget about it, I ain't doing it | انس الأمر، لن أفعل ذلك | [حسم]: لا تناقشني |
والنقد الأدبي وما فيه من أدوات قصصية وبلاغية هو بحر واسع، ولا تكفي هذه المساحة لتغطية قسم يذكر من آثاره وتداعياته على التعريب، لكن الهدف هو أن يعرف المترجم الذي يعمل في هذا المجال أن النقد موضوع غنيّ ثمين ولا يفهم المرء الأدب دونه، ولا يصلح لتعريب الرواية والمسرحية والقصة من لم يتسلّح به. ويُنصح من يطمح إلى الترجمة الأدبية أن يتعمّق في هذا الموضوع، بل وأن يدرسه كاختصاص دراسي. إلا أن مشكلات الثقافة في الترجمة لا تقتصر على ما قد يبذله المترجم من جهد في فهم النص وتحليل ما فيه، بل وفي كيفية تعويضه بثقافة أخرى.
اللهجات الدارجة
يقول طبّاخ السفينة في ترجمة لرواية موبي ديك:[76] «إنتوا هيوانات قرش وهو بطبؤه شره كتير، لكن بردو أقول لكم يا إكواني إنه الشره داك - امنأوا اللطم بالدنب! كيف ممكن تسمأوا ان كان بقيتوا مسمرين في اللطم والأض الملئون هناك؟».[77] والطباخ هنا (واسمهُ "فليس العجوز") هو عجوز زنجي ينطق الحروف والكلمات بلكنته، فيقول "dat" بدل "that" و"zay" مكان "say"، وارتأى المترجم محاكاة هذا الأسلوب بالعامية المصرية لنقل شيء من الواقعية الاجتماعية التي أرداها هيرمان ميلفل، و"تعويض" اللهجة باللهجة بهذه الطريقة هو من الأساليب الشائعة في ترجمة الأدب.
تصوّر رواية "موبي ديك" حياة بحارة بسطاء على متن سفينة لصيد الحيتان، فتحتاج لمحاكاة لهجاتهم العامية بواقعية. - منشورة ضمن الملكية العامة. المصدر: ويكيميديا كومنز
اللهجات مسألة شائكة لها أبعاد سياسية ومجتمعية. فاللهجة في علم اللسانيات هي فرع من اللغة، تختلف فيه بعض المفردات ومخارج الحروف وشكل الألفاظ، على أن غير الناطقين بها يفهمونها دون حاجة لتعلمها (ويسمى هذا "الفهم المتبادل" بين اللهجتين)،[78] إلا أن اللهجات تعبّر -أيضًا- عن انتماءات جغرافية واجتماعية وعرقية للمتحدثين بها،[79] فالأمريكيون السود لهم لهجة غير البيض، وسكان المدن لهجتهم غير سكان الريف. وقد كان من الشائع قديمًا ألا يعتد إلا بلهجة واحدة من اللغة لتصلح لكتابة الأدب[80] (مثل الفصحى بين اللهجات العربية[81] والبريطانية في الإنكليزية)، لكن هذا الأمر تغير فصار الأدباء يُدخلون اللهجات العامية في كتاباتهم؛ لينقلوا كلام الناس بواقعية، ولذا أصبحت ترجمة هذه اللهجات من لغة إلى لغة معضلة عصيبة.
إن هدف الترجمة الأسمى هو أن تُقرّب نصًّا من لغة أجنبية إلى لغة يألفها القارئ، لكن المعضلة هنا أن بعض النصوص فيها تنوع لغوي لا يجب أن يألفه القارئ أصلًا: فاللهجات كلام غير مألوف له دلالات قوية على الطبقة الاجتماعية، واللكنات والمفردات لها دلالة على سمات شخصية في الحديث تميز كل إنسان عن سواه، واللغة تتغير مع الوقت فتكسب نصوصها التراثية طابعًا عتيقًا،[82] ويستعين الأدباء بهذه الصنوف اللغوية قصدًا[83] فيأتون بلهجات تختلف في نطقها أو مفرداتها أو تراكيبها النحوية والصرفية عن اللغة الفصيحة السائدة،[84] وبين هذه اللهجات ولغتها -دومًا- علاقة مميزة لا يمكن نقلها إلى أي لغة سواها.
وتكثر اللهجات واللكنات في الأعمال الأدبية الحديثة نسبيًا،[85] ومن أشهر أمثلتها روايات "تشارلز ديكنز"؛ التي تُصوّر طريقة حديث العمال الفقراء في بريطانيا بالقرن التاسع عشر. وينقل معظم المترجمين العرب هذه الروايات وما فيها من حوارات إلى لغة عربية فصيحة، وهذه مشكلة لأن العربية الفصحى لغة تقتصر على الكتب؛ ولا أحد -تقريبًا- يتحدثها مع عائلته أو أصدقائه في عصرنا، فكيفَ -إذًا- يمكن لهذه اللغة أن تنقل الطابع الثقافي الذي أراده "تشارلز ديكنز" في رواياته، وهو يقصد أن يصف لهجة المواطن الإنكليزي الفقير؟ مثلًا، يقول "جو غارجيري" في ترجمة عربية لمشهد من المشاهد الأخيرة في رواية "آمال كبيرة":[86]
اقتباس"نعم يا بيب، يا صديقي العجوز…لقد سمعت بعض الأخبار عن ذلك، وهذا لا يهمني بالمرة، مثل هذه الأشياء لا أهمية لها بين الأصدقاء الحقيقيين".
وفي هذه الترجمة قصور هائل لأنها تُصوّر جو وكأنه رجل متعلم يتحدث لغة فصيحة وكأن الناطق بها أستاذ من الأساتذة، ولكنه في الرواية حداد فقير يتكلم لهجة عامية متضعضعة، فيقول "wery" (مكان very) و"lookee" (مكان look)[87] ولم يختر ديكنز هذه اللهجة عبثًا وإنما لها قيمة جوهرية في الحبكة، إذ إن "جو" يتملكه التوتر والارتباك كلما تحدث أمام الناس؛ وذلك لأنه رجل قليل الأهمية في المجتمع، بينما صديقه وبطل القصة (واسمه "بيب") هو سيد فاضل[88] كبير الاحترام والثروة. وقد كان حلم "بيب" منذ بداية الرواية أن يغدو سيدًا فاضلًا، لهذا فإنه يخجل من أن يراه الآخرون مع صديقه الفقير "جو"، لكنه يدركُ فيما بعد أن "جو" -رغم منزلته المتدنية اجتماعيًا وحديثه العامي- يتحلى بصفات السيد الفاضل أكثر من ذوي الجاه والمال الكثير. ويساعد تفاوت اللهجة في مشاهد القصة (لو أجاد المُعرّب تعريبها) على استيعاب هذه العبرة والتباين بين "جو" وباقي الشخصيات، مما يعود بنا إلى ما يحتاجه المترجم من باع وخبرة في أدوات تحليل الأدب وفهمه.[89]
للغات لهجات متنوعة تحمل كل منها ثقافة تخص منطقة وفئة من الناس دون غيرها، وتستخدم هذه اللهجات لزرع انطباعات مدروسة في الأدب. - منشورة تحت ترخيص CC-BY. المصدر: ويكيميديا كومنز
ويستعين المترجمون على مشكلة اللهجات هذه بطريقة الأقلمة، فيأتون بلهجات قروية أو مهمشة من لغتهم؛ للتعويض عن العامية في اللغات الأخرى، كما رأينا في المثال البارع من رواية "موبي ديك" المُعرّبة. ومن أمثلة ذلك -أيضًا- أن "شيموس هيني" عوَّض في ترجمته الشهيرة لقصيدة "بيولف" عن اللهجة القديمة للإنكليز (التي كانت ذات طابع بدوي وعامي اجتماعيًا) بلهجة المزارعين الإيرلنديين في الوقت الحاضر، والتي تحفظ عناصر بائدة كثيرة من الإنكليزية القديمة.[90]
وتتسم اللهجات العامية المعاصرة بسمات محددة يدرسها اللغويون ويحللون طريقة استخدامها، ومن أمثلتها الشائعة التي قد يواجهها المترجم من اللهجات الإنكليزية هي تكرار النفي، مثل جملة: "Sorry I ain't got no money" (وقد تكرر النفي فيها، مرة بأداة not ومرة بكلمة no). وتجوز ترجمة هذه الجملة من منطلقين: إما بترجمتها إلى لهجة عربية سائدة في المناطق المهمشة؛ لتُعبِّر عن الفئة الاجتماعية المقصودة،[91] أو بترجمتها إلى عربية فصيحة فيها خاصية اللهجة التي استعان بها المؤلف هنا (وهي تكرار النفي مرتين) فتحتفظ بالسمة اللغوية التي أرادها المؤلف:[92]
- معذرةً فلا مال ليس بحوزتي.
- والله يا زلمة معيش ولا قرش.
والأسلوب الثاني غير شائع في الترجمات العربية بعد، ولو أنه الأصلح في سياقات كثيرة، فهو ينقل روح الطبقة المقصودة اجتماعيًا وليس السمات اللغوية والنحوية الجامدة للهجات التي ربما لا يفهمها القارئ. لكن على المترجم إن سلك الطريق الثاني أن يتوخى أشد الحذر، لأن اللهجات نوعان: لهجات اجتماعية (تقسم الناس حسب طبقتهم وتعليمهم) ولهجات جغرافية (تقسم الناس حسب مكان معيشتهم)، والجمهور العربي يعزو فروق اللهجات غالبًا لاختلافات جغرافية لا اجتماعية، وهذا يعني أن الاستشهاد بلهجة عربية في الترجمة قد يفسره القارئ على أنه انتقاص لشعب بكامله، على أن ولو كان المقصود -كالحال هنا- هو استعارة لهجة واقعية لفئة من الناس تتحدث عنها الرواية (مثلًا: طبقة العامة)، وليس استعارة لهجة بلد بعمومه.
ولهذه الطريقة سلبيات أخرى: فهي تستوجب من المترجم تعمقًا باللهجات العربية الدارجة، وهو أمر صعب،[93] ثم إن فيها غموضًا مبهمًا، فكيف للمُعرّب أن يجد دومًا لهجة مماثلة في الثقافة العربية -مثلًا- للهجة الطبقة العاملة في لندن أو سكان أسكلتندا؟ فلكل لهجة سمات ثقافية فريدة تميزها عن غيرها.[94] ولعل استبدال اللهجات الأجنبية بمثيلاتها العربية أسلوب مناسب في أدب الأطفال وفي السياقات العامة، إلا أنه قد لا يصلح إن كان لهذه اللهجات وظيفة في حبكة القصة، كفلم تاريخي عن بطل أسكتلندي ("وليام والاس" مثلًا) يحارب الإنكليز، إذ ترتبط اللهجة هنا بسياق تاريخي وجغرافي محدد لا تجوز الاستعاضة عنه بغيره.
وتقحم في الروايات الأجنبية -أحيانًا- اقتباسات كاملة من لغات أخرى، وخصوصًا الفرنسية والألمانية،[95] ولاقتباس هذه اللغات في الإنكليزية أهداف محددة لها جذورها التاريخية، فأبناء الطبقة الثرية في إنكلترا كانوا يخلطون كلامهم بالفرنسية في فترات عدة -مثلًا- فيدل اقتباسها على طبقة المتحدث. ونقل هذا الواقع في الترجمة العربية ممكن في بعض الحالات إن كانت لغاتها مألوفة للجمهور العربي، فبعض الكلمات الفرنسية مثل "ميرسي" و"شوفير" و"أمبيونس"[96] مألوفة كثير من البلاد العربية بحكم التاريخ كذلك، ومن الأفضل للمترجم أن يحاول صون هذه الكلمات إن ظن أن جمهوره يفهمها، كما يمكن أن يستبدلها بما يعطي وقعها للقارئ العربي، وإلا فإن جزءًا مهمًّا من روح النص قد يذهب أدراج الرياح.[97]
يرى بعض الباحثين الأكاديميين قيمة خاصة لعامل الزمن في لغة الأدب، فهم يميزون بين ترجمة الأعمال الأدبية المعاصرة، وبين ترجمة التراث الأدبي الذي يعود عمره إلى مئات أو آلاف السنين.[98] ويرى الأكاديميون أن في هذه الترجمة طريقتين: إما نقلها بلغة حداثية[99] أو الحفاظ على طابعها التراثي العتيق:[100] إذ تتعمد الترجمة -في الطريقة الثانية- استخدام مفردات عتيقة وعلامات ترقيم تراثية،[101] وقد يصلح هذا الأسلوب في نقل الملاحم الشعرية القديمة إلى العربية، مثلما نحاه -تقريبًا- "دريني خشبة" في الإلياذة والأوديسة، وهو ما تحدثنا عنه في المقالات الأولى لهذه السلسلة.
وللمترجم -إذًا- طرق عدة في نقل اللهجات واللكنات، وجميع هذه الطرق غير مثالية؛ حالها كحال الترجمة كلها، على أن من اللازم أن تذكر أمرًا مهمًّا حين الاختيار بين هذه الطرق: وهو أن العربية الفصحى ليست إلا لهجة ولا لغة يتحدث بها الناس في حياتهم، ولذا فإن المبالغة والتزمت في الالتزام بها يتناقض أساسًا مع سبب إقحام اللهجات في الأدب، وهو محاكاة ألسنة الناس وما ينطقون به في البيوت والشوارع. فالفصحى لغة أدبية لا تخرج عن إطار المطبوعات والخطابات الرسمية، وأما اللهجات فهي لغة إنسانية تلمس أحاسيس الجمهور، والفرق بينهما ليس لغويًّا بحتًا وإنما هو اجتماعي وثقافي يصنع هوّة عميقة لا مجال لترميمها.
الشعر
اقتباس«.. وقد نُقلَت كتب الهند وتُرجمت حكم اليونان وحُوّلت آداب الفرس، فبعضها ازداد حسنًا وبعضها ما انتقص شيئًا، ولو حُوّلت حكمة العرب لبطل ذلك المُعجِز الذي هو الوزن، مع أنهم لو حولوها لم يجدوا في معانيها شيئًا لم تذكره العجم في كتبهم التي وُضعت لمعانيهم وفطنتهم وحكمهم». — الجاحظ، كتاب الحيوان، الجزء الأول
يرى "الجاحظ"، حسبما يتضح مما سبق، أن ما يميز أدب العرب عن سائر الأمم هو نظمه ووزنه في الشعر، فبدونه لا فرق بين حكمتهم وحكمة الأمم الأخرى: ولعل قوله يرجع إلى ما اشتهر به العرب من إبداع وتألق في نظم الشعر، لكن تميزهم فيه لا ينفي خصوصية الشعر في كل لغة وثقافة؛ فجماله مزيج للمعنى (الدلالة) واختيار الألفاظ (الحصيلة المعجمية) ومزاياه الصوتية (النظم والوزن والقافية).
ولهذا يحار المترجمون للشعر في إمكانية ترجمته بين اللغات، فيظن كثيرون استحالة ترجمة الشعر بالجملة، فيما يقول آخرون أن الشعر لا يترجمه إلا شاعر،[102] ويتبرأ بعض الشعراء مما تُرجم من أشعارهم وكأنه لم يعد من تأليفهم،[103] ومع ذلك فإن ترجمة الشعر صنعة قائمة جرّبها وما زال يسلكها كثيرون.
أشعار الأمم
يقال: إن "الخليل بن أحمد الفراهيدي" قصد شوارع بغداد ذات يوم، فمر بسوق الصُّفارين (والصُّفر هو النحاس حين يصفر لونه،[104] أي حين يُطرق)، وهو سوق يصدح دومًا بأصوات مطارق النحاسين التي يطرقون بها مصنوعاتهم؛ من أوان وأباريق وأطباق، فتحدث ضجة مثل قرع الطبول.[105] وتوقف "الفراهيدي" ينصت لهذه الأصوات وما فيها من طرق كلحن الموسيقى، حتى ظنه المارة -كما تقول الحكاية- مخبولًا،[106] إلا أنه استنبط مما سمعه بحور الشعر العربي وعلم العروض.[107] إلا أن علينا أن نعلم أن ما اكتشفه "الفراهيدي" (لو غضضنا النظر عن صحة القصة أو عدمها) كان وزنًا ينتظم به الشعر العربي، ويختلفُ هذا النظم في أوزانه وأسلوبه ونظامه عن نظم وأوزان وأسلوب اللغات الأخرى، فيكاد الشعر في كل من هذه اللغة يكون لونًا مختلفًا عن الأدب في أي لغة أخرى.
تُنظَم بحور الشعر في اللغة العربية بحسب علامات حروفها الساكنة أو المتحركة، فتنقسم إلى أسباب (نحو "بَلْ"، وهي متحرك يتبعه ساكن) وأوتاد (نحو "رَمَى"، وهي متحركان فساكن) وفواصل (نحو "سَمَكَاً"؛ أي "سَمَكَنْ" بالتقطيع الشعري، وهي ثلاث متحركات فساكنْ).[108] وتتناغم بحور الشعر بحسب سكونها وحركتها مثل: قرع أواني الصفارين التي ألهمت "الفراهيدي"، وعدد هذه البحور -جميعًا- ستة عشر بحرًا،[109] وقد رتبها "الفراهيدي" وأعطى لكل منها اسمًا، كالمَديد والبَسيط والسَّريع.
مخطوط في بحور الشعر العربي من تأليف الشيخ "عبد الله الشبراوي"، وكتبها الشيخ "قاسم أفندي المفتي" بخط يده عام 1257 هـ. - منشورة ضمن الملكية العامة. المصدر: ويكيميديا كومنز
وفي اللغة الإنكليزية -كذلك- "بحور" للشعر تتبع نغمته وموسيقاه، لكن تقطيع هذه البحور يقوم على خاصية لغوية قلّما ينتبه إليها العرب، ما عدا طلبة التجويد وخبراء اللغة، وهي النَّبْر. والنَّبْر هو التركيز على مقطع من الكلمة لإبراز صوته فوق غيره، ويقال له بالإنكليزية stress، وقد يتضح معناه في اختلاف اللفظ بين أفعال وأسماء لها التهجئة نفسها، فيقال: "content" (وهو اسم معناه "محتوى"، فيأتي النَّبْرُ في المقطع الأول) و"content" (وهو فعل معناه " يُرضي"، فيأتي النَّبْرُ في المقطع الثاني).
وفي اللغة العربية نبر كأن نقول: "مُتعلِّم" أو "مُعلِّم"، فيأتي النَّبرُ على التاء في الأولى واللام في الثانية. والنَّبرُ هو أساس نظم الشعر الإنكليزي فيأتي في مقاطع عليها نبر وأخرى بدونه بتتابع ثابت مثل بحور الشعر العربي، لكن كثيرًا من الشعراء تخلوا عن هذا الأسلوب، فبدؤوا بنَظْم الشعر المُرسل (Blank verse) أي دون قافية واحدة مع الحفاظ على الوزن، ثم الشعر الحر (Free verse) دون قافية ولا وزن، فأسقطوا سمتي الشعر الأصليتين، ولهذا ربما يكون الشعر الحديث أسهل في ترجمته.
شعر أم نثر؟
للمترجمين منهجان غالبان في نقل الشعر إلى أي لغة: فإما نقله إلى شعر موزون يحفظ جمال الصوت (ولو أنه غالبًا ما يأتي مع تغيير في المعاني والكلمات لتتناسب والصوت المرغوب)، أو نقله إلى نثر يحفظ معنى القصيدة (ولو أن هذا يأتي -غالبًا- بدون سمات الشعر الصوتية من وزن وقافية وغيرها، لصعوبة جمعها مع المعنى). ولكل من هذين الأسلوبين مؤيدوه وخصومه، وهذا لأن نقل خواص الشعر مجتمعة من لغة إلى أخرى مستحيل واقعيًّا، فلا بد من التنازل عن شيء منها لقاء شيء.[110]
وللأسلوب الأول (أي نقل الشعرِ شِعْرًا) أنصار كثر من المترجمين العرب، بذلوا محاولات طويلة في نقل الأشعار والملاحم الأجنبية إلى اللسان العربي، وخصوصًا رُوّاد فترة النهضة مثل: "دريني خشبة"، وهو مشهور بترجمته "للإلياذة" و"الأوديسة" شعرًا (مع أنه غيَّر فيهما تغييرًا جمًّا)، ولعل ترجمته مثال على ما يصفه الباحثون بأنه "ترجمة تتفوق على أصلها".[111] وأما الأسلوب الثاني (نقل الشعر نثرًا) فلم يلقَ تشجيعًا كبيرًا في التعريب بسبب تَعلّق النقاد العرب بجماليات الصوت؛ وعدم تقبلهم للأسلوب المُحدَث في الشعر المُرسَل والشعر الحر،[112] ومن أمثلة هذا الرأي قول الناقد والمحقق "إحسان عباس": إن الشعر لا تجوز ترجمته «وإلا تقطَّعَ نظمُهُ وبَطُلَ وزنُهُ».[113]
وترجمة الشعر طريق محفوف بالمتاعب، وقد يكون من الأحق أن تُذلّل في حقول أخرى لها نفع أكثر، فلعل الأولى بهذا الجهد أن يذهب إلى تأليف شعر أو نثر عربي أصيل عوضًا عن النقل من أمم أخرى. ولنا هنا الاستشهاد بقول "عبد الخالق عيسى": «السر في جمال الشعر لا يكمن في المعنى أو الصورة الشعرية، بل في التعبير بطريقة غير مألوفة». فإذا رأينا (في المقال الأول من هذه السلسلة) أن نقل المعنى بين لغة وغيرها يتسم بالاستحالة، فكيف بنقله حينما يتحد مع أسلوب اللغة ومظهرها ووقعها الصوتي في منظومة واحدة متكاملة، تضع أمام المُعرّب أصعب تحدياته مجتمعة؟[114]
_____
اقتباسملاحظة: إذا أردت مراجعة المراجع والمصادر المشار إليها فيمكنك ذلك من خلال قراءة هذا الفصل من كتاب فن الترجمة والتعريب والرجوع إلى فصل المصادر فيه.
اقرأ أيضًا
- المقال التالي: تعريب الجملة وأقلمتها
أفضل التعليقات
لا توجد أية تعليقات بعد
انضم إلى النقاش
يمكنك أن تنشر الآن وتسجل لاحقًا. إذا كان لديك حساب، فسجل الدخول الآن لتنشر باسم حسابك.