اذهب إلى المحتوى

من أخطر الأفكار والتصورات السائدة عن الترجمة أنها استعاضة عن كلمات لغة ما (الإنكليزية مثلًا) بمرادفاتها بلغة أخرى (وهي العربية في سياقنا)، وهذا خطأ جوهري جدًّا، وسائد جدًّا؛ بحيث إنني فضلت أن أخالف بسببه الترتيب المألوف للكتب العلمية؛ التي تبدأ بالتعاريف الأكاديمية الجامدة، وأن أخصص الفصل الأول من هذا الكتاب لبحث ظاهرة الترجمة على المستوى التجريدي وما يكتنفها من مشكلات "الترادف" أو "التقابل"؛[1] التي كانت لفترة طويلة -وربما ما تزال- السؤال الرائد في مجال الترجمة.[2]

وهذا ليس غريبًا، فمن المعتاد أن يتعلم الطلاب في فصول اللغات الأجنبية (بأي بلد في العالم) معاني ألفاظها بأن يبحثوا عمَّا يقابلها في لغتهم، فيقال لهم: إن المدينة معناها "city" وأن البيت معناه "house". ومن ذلك الوقت نشأ الطلبة وقد استقر في أذهانهم هذا "الارتباط الأبدي" بين الكلمة الأجنبية ومرادفها في لغتهم (حسب ظنهم)،[3] فأمسى من العسير إقناعهم بأن لهذه الكلمات أي معنى أو دلالة[4] غير ما اعتادوا عليه[5] (حسبما يقول المترجم محمد عناني).[6]

ومن الضروري أن نطرح هنا سؤالًا أساسيًا: لو احتجنا لوصف ظاهرة الترجمة لشخص لا يعرف ما هي الترجمة، فكيف نصفها له؟ قد نلجأ لتعريف الترجمة المعتاد أكاديميًّا، فنقول: "إنها نقل لمعنى منطوق[7] أو مكتوب من لغة[8] إلى لغة غيرها".[9] إلا أن هذا التعريف الجامد لا يجيب عن السؤال تمامًا؛ لأنه يصف هدف الترجمة؛ وهو نقل المعنى من لغة إلى غيرها، ولكن هل هذا أمر ممكن وهل هو ما يصنعه المترجمون في مهنتهم؟

سنجد الإجابة عن هذا السؤال محفوفة بمئات الأوراق البحثية والكتب والنظريات التي وضعها علماء اللسانيات؛ إذ لاقت ظاهرة الترجمة اهتمامًا واحتفاءً متزايدًا من المجتمع العلمي منذ سبعين عامًا تقريبًا، وكان هذا السؤال من أهم أسسها وموضوعات بحثها. وإجابته باختصار هي: "لا"، إذ لا يمكن للمترجم -على الأرجح- نقل معنى كامل بين أي لغتين في العالم، ولكنه يستطيع تقريب هذا المعنى، فيكاد ينجح حينًا ويحيد عن مسعاه حينًا.[10][11]

بحث علماء اللغة أفكارًا ونقاشات مثيرةً كثيرةً بهذا الخصوص، وسنتطرق إليها بتفصيل معقول فيما بعد، وأما ما عليكَ أن تضعه في الحسبان في هذه المقدمة؛ فهو أن ظاهرة الترجمة -كما يتخيلها الناس- لا وجود لها في الواقع، فلو كنت تتقن أي لغة غير لغتك الأم (ولو لم تكن تتقن واحدة فإن هذا الكتاب ليس ذا قيمة بالنسبة لك)، فلا بد أنك تدرك من تجربتك الشخصية استحالة تبديل كلامك بين لغتين دون اختلاف وقعه النفسي واللغوي في نفوس مستمعيك،[12] مهما كان اختلافًا بسيطًا.

هل تقبل اللغة الترجمة؟

لدى معظم الناس انطباع عن اللغة بأنها وسيلة لنقل "المعنى"، فلنا أن نشبهها بمركب يبحر بالمعاني والأفكار، فيحملها من ذهن شخص إلى آخر دون تغيير.[13] ومن الواضح أن الترجمة ضمن هذا التعريف طبيعية جدًّا، فإذا كان "المعنى" مستقلًّا في وجوده عن اللغة؛ فمن البديهي أن كل لغات الإنسان تصف الأفكار نفسها بكلمات وأصوات مختلفة قليلًا بعضها عن بعض، ومن السهل -بالتالي- أن نترجم هذه الأفكار بين اللغات؛ لنستطيع تناقلها على دائرة أوسع.[14][15]

ربما يوهمنا هذا التصور التقليدي بأن جميع اللغات تتحدث عن الأفكار نفسها بكلمات متفاوتة، فيفيد هذا التصور -على سبيل المثال- بأن كلمة "السماء" في اللغة العربية تصف فكرة تجريدية يفهمها جميع البشر، ويصلح التعبير عنها بأي لغة أخرى بكلمات بديلة منها "sky" في الإنكليزية و"Himmel" بالألمانية و"آسمان" بالفارسية، ولكن هذا الافتراض كله (الذي تقوم عليه ظاهرة الترجمة بالنظرة المعتادة نحوها) ليس صحيحًا. فكلمة "sky" ليست مرادفة في معناها لــــ"سماء"، ولا -غالبًا- لأي كلمة أخرى في أي لغة من لغات الأرض، مهما بدت قريبةً منها.

تدلنا السنوات المئة الأخيرة من أبحاث اللسانيات والترجمة على أن اللغة والمعنى ظاهرتان مرتبطتان ارتباطًا وثيقًا، فكل لغة على وجه البسيطة لها خواصّها الثقافية والإنسانية والذهنية التي لا تتماثل مع غيرها، ومع أن معاني الكلمات قد تتقارب جدًّا بين بعضها، إلا أنه لا وجود -غالبًا- لكلمتين "مترادفتين" حقًّا وأبدًا،[16] وعلى هذا الأساس فإن الترجمة -بتعريفها المعتاد- ليست ظاهرةً حقيقية، فكيف لنا أن ننقل المعنى بين أي لغتين إذا لم تكن فيهما أي كلمات متماثلة في معناها ودلالتها؟

المرادفات

من أولى المشكلات التي تقابلنا إن حاولنا أن نفترض "ترادف" الكلمات بين اللغات هي كثرة الكلمات التي لها دلالات عديدة،[17] والتي يجهد واضعو المعاجم والقواميس في حصرها وتعدادها[18] (إذ تسمى هذه الكلمات "المظلات الدلالية")،[19] فإذا كان للكلمة العربية خمسة معان أو ستة تختلف بحسب سياقها[20]، وإذا كان للكلمة الألمانية خمسة معان أخرى بحسب استعمالها، فكيفَ لنا أن نزعم أن هاتين الكلمتين "مترادفتان" وهما تدلان على عشرة معان متغايرة؟[21]

لنعُد إلى كلمة "السماء" مرَّة أخرى، فهي تصف ظاهرة طبيعية، شهدها الإنسان منذ أقدم الأزمنة حيثما عاش ونطق كلامًا (على عكس "الإنترنت" مثلًا: الذي ينحصر وجوده؛ معنى ولغة، في ثقافات حديثة زمنيًّا). وليس لكلمة السماء أي أهمية تميزها عن غيرها، وإنما هي المثال الأول الذي سوف نستدل منه على اتصال ظاهرة اللغة بالمعنى، وعلى اتحادهما الوثيق. فماذا تعني "السماء" إذًا؟

بحسب لسان العرب، تعني كلمة السماء أشياء منها الآتي:

  1. سقف كل شيء وكل بيت.
  2. السماوات السبع: أطباقُ الأَرَضِين.
  3. كل ما ارتفع وعلا؛ سما يسمو.
  4. كل سقف أو كل ما علاكَ فأظلك (مثل السحاب).

وبعض هذه المعاني قريبة من معنى كلمة "السماء" في زمننا، مع أن استخدامنا لها لا يتماثل تمامًا مع أيّ من المعاني أعلاه (فنحن لا نقول عن كل ما علا أنه "سماء" بل إن فوق السماء فضاءً ونجومًا ومجرات)، وهذا ليس مستغربًا؛ فمعجم لسان العرب قديم، ولا يتصل بالضرورة بحديث الناس ولغة العصر.

وعندما نقول "السماء" بدلالتها الحديثة؛ فإن أول ما يتبادر إلى الذهن هو الغلاف الجوي للأرض -كما نعرفه علميًّا- بما فيه من سحب وهواء وغير ذلك، وتختلف هذه الكلمة في بعض السياقات عن مصطلح "الفضاء" الذي يصف (بالعربية المحدثة) الفضاء الخارجي، وما فيه من شمس وقمر ونجوم وكواكب ومجرّات، وهذا التمييز لم يكن موجودًا في العربية التراثية، فقد كانت "السماء" كلمةً جامعةً لكل ما علا سطح الأرض.

ولا تزال بعض هذه المعاني دارجةً بطريقة أو بأخرى، ربما بسبب الكتب التراثية التي حفظت شيئًا من دلالات الكلمة القديمة، فالسماء في اللغة العربية قد تدل على السماوات السبع، وهذا المعنى مستقل ومختلف دلاليًّا عن المعنى الأول، فالسماوات السبع المذكورة في القرآن والأحاديث لها معنى ديني، ولا يمكننا أن نزعم أنها نفس "السماء" بمعناها الفيزيائي، ولولا هذا لما وقع الجدل الكثير بين علماء الدين في ماهيتها وفي كيفية ربطها بالعلم الحديث.

وللسَّماء -كذلك- دلالة دينية في عقائد أخرى قد تختلف عن السماوات السبع، ومنها القول في بعض المعتقدات والنصوص التي قد تعترض المترجم: إن "الله تعالى في السماء" و"الدعاء للسماء"، وهذا معنى ثالث غير ما سبق.

ولكلمة السماء -أخيرًا- معانٍ منها "العلو" و"الارتفاع" غير المحدد، مثل قول العامة عن شخص عن شخص أنه (طار عالسَّما) أو أن كرةً ارتفعت عاليًا جدًا وكأنها "وصلت السما". ومن معاني الكلمة العامية كذلك الاشتقاق منها فتصبح صفةً مثل: حال اللون السماوي (أي الأزرق الفاتح ببعض اللهجات).

كما أن للكلمة معاني تراثيةً اندثرت تمامًا ولم نتوقف عندها، مثل: دلالتها على المطر والسحاب وما شابه، ويشير هذا الكلام كله إلى أن كلمة "السماء" العربية لها دلالات كثيرة جدًا تتفاوت بحسب سياقها، لو كان علميًّا أو دينيًّا أو عاميًّا. وتسمى هذه العلاقة بين الكلمة وسياق استعمالها في اللغة بـالإيحاء الثقافي.[22][23] فعندما تسمع كلمة "السماء" في القرآن قد تتفكر بالله، وعندما تسمعها في برنامجٍ وثائقي قد تفكر بالفضاء، وهذان إيحاءان مختلفان كل الاختلاف، وينتج عنهما اختلاف أساس في دلالة الكلمة، حتى ولو كان معناها التجريدي متماثلًا في الحالتين.

وهذه هي دلالات السماء باللغة العربية، فماذا عن غيرها من اللغات؟ تتضمن معاجم اللغة الإنكليزية، ومنها أوكسفورد وكامبريدج، قائمةً بمعاني كلمة "sky" منها:

  1. السماء بصفتها كل ما يعلو الأرض.
  2. السماء كما تظهر من بلد أو مكان معين.[24]
  3. السماء بمعناها الديني.

ومعظم هذه المعاني موجودة في العربية المحدثة؛ لأنها انتقلت إليها عن طريق الترجمة، لكن هل هذا يجعلها مترادفة؟ يوجد فارق كبير جدًا بين العربية والإنكليزية في هذه الحالة، وهو أن كلمة "sky" الإنكليزية لها بديل بلغتها ذاتها. والترادف ليس موجودًا حقًا في أي لغة كما رأينا، وهذا يعني أن اللغة الواحدة -كذلك- لا تترادف فيها كلمتان ترادفًا تامًّا، لكن من الممكن الاستعاضة -في حالات محددة- عن كلمة "sky" ببديل لها هو "Heaven" أو "heavens"، وهاتان كلمتان محملتان بإيحاءات دينية وتراثية لا تنال منها "sky" إلا نصيبًا قليلًا.

وتترتب على هذا الاختلاف نتيجةٌ جوهرية، وهي أن الناطق باللغة الإنكليزية يستطيع التبديل بين كلمتي "sky" و"Heaven" ليتحدث عن السماء بإيحائها العلمي حينًا وبإيحائها الديني حينًا آخر، وأما الناطق باللغة العربية، فهو مجبر على استخدام كلمةٍ واحدةٍ محملة بهذين الإيحاءين معًا. ولدى أحد مواقع الإنترنت التبشيرية مقال، على سبيل المثال، عنوانه "Sky - and Heaven"، فهل من سبيل لترجمة هذا العنوان، إلا على أنه يعني: "السماء - والسماء"؟

إذا كان المعنى ظاهرةً تجريدية منفصلة عن اللغة، فيجب أن يكون لكل جملة (في أي لغة) ترجمة تقابلها في كل اللغات الأخرى، لكن هذا قطعًا غير صحيح، إذ لم نأت هنا إلا بأمثلة محدودة على آلاف الجمل والأفكار التي تستعصي ترجمتها من أي لغة إلى غيرها، لا بسبب صعوبة تفسير معانيها؛ وإنما بسبب مشكلة تكمن جذورها في اللغة نفسها،[25] وقد نجد ما يدلنا على أصلها في بعض نظريات علم اللسانيات.

البنائية، والنسبية اللغوية

اللغة هي وسيلة تواصل مشتركة بين البشر كافة، وهي وسيلتنا في تناقل وتبادل كل ما نعرفه عن العالم -تقريبًا- فيما بيننا،[26] وليس من الغريب أن الفيلسوف "ميشيل فوكو" أطلق القول المعروف: "من اللغة تأتي السلطة"، لكن من الصعب الجزم بالعلاقة بين اللغة وحياة الإنسان وتفكيره، ففي هذا جدال كبير عمره أكثر من مئة عام، وبدأه باحث فرنسي في بداية القرن العشرين.

سوسير ونظرية البنائية اللغوية

توفي في صباح الثاني والعشرين من فبراير سنة 1913 "فيرديناند دو سوسير" (الذي تستحيل تهجئة اسمه بدقة بالعربية)، والذي لقب أبًا لعلم اللسانيات الحديث.[27] ولم يهتم سوسير بنشر أبحاثه وأعماله في حياته، لكنَّ طلبته المخلصين انكبوا على جمع ما سجلوه من كلامه في دفاترهم ونشروا خلاصة محاضراته في كتاب بعد وفاته،[28] وكان له ولهم الفضل في ولادة نظرية "البنائية اللغوية" (Structuralism) التي سيطرت على دراسات اللغة لسنين طويلة وتجلت في جميع فروعها، ومن ضمنها دراسات الترجمة. وقد يحتاج شرح هذه النظرية بتفاصيلها الكثيرة إلى كتاب، أو كتب، على أن فكرتها الأساسية ليست معقدة كثيرًا، إن كنت مستعدًا لتقبلها، والإقرار بها.

روَّج سوسير لأفكارٍ كثيرة، ونظريات رائدةٍ، تصب في جوهرها في اتجاه واحد؛ إذ كان يرى أن اللغة ليست إلا إشارات اعتباطية ابتدعها البشر للتخاطب فيما بينهم،[29] فهي لا تصف الأشياء في العالم على حقيقتها، وإنما تأسرها في نطاق موازنات ذهنية؛ أساسها الموازنة بين الأشياء وتحري الاختلاف فيها.[30] وبعبارة أخرى: فإن كل ما يستطيع الإنسان الحديث عنه، ليس إلا مفارقات ذهنية، وتفكيرنا (الذي تحكمه اللغة) مأسور بهذه المفارقات.[31][32] وقد تخال هذا الكلام دون معنى إن لم تسمع تفسيره أولًا.

تصل البنائية اللغوية إلى هذا الاستنتاج الجريء بخطى بطيئة حثيثة، فهي تبدأ بتحليل دقيق للطريقة التي يستوعب بها الإنسان اللغة، وتحاول إثبات أن "المعنى" ظاهرة ممتزجة مع اللغة،[33] ولنأخذ مثالًا بديهيًّا لفهم هذا الجانب من نظرية سوسير: وهو مثال الاتجاهات. حيث يدرس الأطفال الاتجاهات عادة في صفوفهم المدرسية الأولى، ويتعلمون حينئذ أن يصفوا البلاد والأماكن بناءً على اتجاهاتها، فهناك قطب "شمالي" وقطب "جنوبي"، ولبلاد العرب شطر "مشرقي" وشطر "مغربي"، وقد تبدو هذه الاتجاهات التي يدرسها طلاب المرحلة الابتدائية منطقية وعلمية جدًّا في طرحها؛ فهي تقسّم العالم إلى أربعة محاور على أساس هندسي وجغرافي بحت. لكن هل وظيفة الاتجاهات الفعلية هي أن تدلنا على الجغرافيا فقط؟

يتلقن الأطفال بعد المرحلة الابتدائية دروسًا أخرى كثيرة في مواد منها التاريخ والثقافة العامة والتربية الوطنية، كما يشاهدون أخبارًا في التلفاز ويسمعونَ نقاشاتٍ عنها بين آبائهم وأصدقائهم، وعلى مر هذه السنين الطويلة يكتسب كل لفظ لديهم معاني وإيحاءات وإشارات لم تكن مألوفة لهم من قبل؛ ومن أكثر الكلمات تأثرًا بهذا الوسط الثقافي واللغوي في البلاد العربية (وكثير من البلدان الأخرى) هي جهتا "الشرق" و"الغرب". وقد تظن أن إيحاءات هاتين الكلمتين لا تتداخل معًا، فمن المفترض أن لا تتصل معانيهما المُسيَّسة الجديدة بدلالتهما الجغرافية الأصيلة، وقد نفترض ننا نستطيع الحديث عن الاتجاهات بمعناها الجغرافي فنقول أن بلدًا "في الشرق" دون قصد معنى سياسي، لكن ذلك ليس صحيحًا أبدًا، فقد يفاجأ بعض الناس بأن دمشق تقع على خط طول غرب موسكو، وأن تونس العاصمة أقرب إلى الغرب من برلين وستوكهولم، بل ولو كان "العالم الغربي" مصطلحًا يمت للجغرافيا بصلة؛ لأُلحقت القارة الأفريقية بأكملها تقريبًا بأوروبا.

والسبب في صنع هذين الإيحائين -الجغرافي، والسياسي- هو أن "الشرق" و"الغرب" كلمتان متناقضتان في أساسهما، فهما تخلقان حاجزًا في ذهن الإنسان، حيث يرى أن كل ما هو "غربي" عكس ما هو "شرقي"، وتستمد الكلمتان معانيهما هنا (حسب سوسير) من هذا التناقض، وكذلك الحال مع كثير من الكلمات المألوفة لنا، إن لم يكن في معظمها. فالبشر معتادون على إعطاء صفتين متضادتين لكل ما حولهم: فهناك شخص "طويل" وآخر "قصير"، وواحد "سمين" وآخر "نحيف"، وتوجد ثمار "كبيرة" على عكس "الصغيرة"، وقد يكون الماء "باردًا" بعكس ما يكون "ساخنًا".

ويظن سوسير أن هذه الكلمات المتضادة في معانيها هي حجر الأساس لظاهرة اللغة كلها، ويسمي العلاقة بينها: "الثنائية القطبية" أو "Binary Opposition"، ولعلها أكثر كلمة يكررها في نظريته؛ فهو يرى أن جميع الألفاظ والمفردات التي نستخدمها في اللغة لا تصف حقائق واقعةً نشعر بها ونلمسها، وإنما تعبر عن موازنات ذهنية تأسر فهمنا واستيعابنا للعالم بأطر ضيقة لا مفر منها، وهي أطر "الموازنة" و"الاختلاف": فمعنى الأشياء يتحدد بحسب اختلافها عن غيرها، ووسيلة استيعاب الاختلاف هي الموازنة الثنائية.[34]

وقد يبدو ادعاؤه غريبًا بالنسبة لنا إذا فكرنا بالكلمات المتضادة بتعريفها الضيق: فقد تكون اللغة حافلةً بآلاف الكلمات المتضادَّة، لكن فيها -كذلك- آلافًا من الكلمات التي ليست لها أضداد، ومنها معظم أسماء المحسوسات: فما هو ضد السيارة، أو القطة، أو المكعب، أو التفاحة؟

والحقيقة أن سوسير لا يعفي هذه المحسوسات من فكرة الموازنة الثنائية، بل يراها جزءًا جوهريًّا من تلك الموازنة. وتتضح وجهة نظره عند التعمق أكثر في تعريفات هذه المفردات، فعلى سبيل المثال: كيف نعرف ما هو الكلب؟ لقد صنفت "منظمة الكلاب العالمية"[35] حتى يومنا أكثر من ثلاثمئة سلالة للكلاب تختلف في أطوالها وأحجامها وألوانها ومظهرها، فمنها ما يصل وزنها إلى 150 كيلوغرامًا[36] ومنها ما لا يتجاوز 500 غرام،[37] وعلى هذا الفرق الكبير، فإن معظم الناس يعرفون الفرق بين الكلاب، وغيرها من الحيوانات. فكيف ذلك؟

كما هو متوقع، تنبثق إجابة النظرية البنائية في اللغة على هذا السؤال من الموازنة الثنائية، فعندما نرى كلبًا (وسواء أكان من الكلاب هائلة الجثة؛ التي تتقفى بها الشرطة المجرمين، أم من الكلاب الضئيلة التي تتنافس في مسابقات الجمال) فإننا نوازن -ذهنيًا- بينه وبين غيره من الحيوانات التي نعرفها، فقد نفكر بالقطة والفأر والأرنب والذئب والنمر، حتى يتضح لنا أنه ليس أيا منها. وما يجعل الكلب كلبًا -بالنتيجة- هو اختلافه عن سائر الحيوانات الأخرى حينما يوازَن بها، ولنا أن نأتي -هنا- بأمثلة كثيرة: فالمربع هو "مربع" لأنه ليس مستطيلًا ولا دائرة ولا مثلثًا، وإنما هو متساوي الأضلاع وله أربع جهات، وهكذا فإنه يختلف عن كل الأشكال الأخرى.[38]

وعدد الموازنات الثنائية التي يستدعيها ذهن الإنسان لانهائي، إذ بإمكاننا أن نوازن بين مئات الأشياء أو الآلاف منها لتعريف مفردة واحدة.[39] وإثبات هذا الأمر سهل جدًّا، فلو ظهر أمامك في حصة الرياضيات الشكل غير المنتظم أدناه وطلب منك تعريفه، فسوف تجاهد وتحار وترتبك؛ لأنه لا يطابق في أوصافه شكلًا من الأشكال التي تعرفها، وإذا لم تستطِع إسقاطه على أحد هذه الأشكال فإنَّه يبقى فكرةً غائمةً تعجز عن وصفها (عدا أن يكون "شكلاً غير منتظم")، بل لن تجيد تذكره ولن تستطيع رسمه مرة أخرى من ذاكرتك بدون أن تكتمل الموازنة التي تعطيه معناه.

1.1.png

إن عليك تذكر هذا الشكل (أو أي شكل "غير منتظم" أو "غير مسمى" مثله) إن لم ترتبط صورته باسم يسمى به، وهوية تميزه بها عن غيره من الأشكال - منشورة تحت ترخيص المشاع الإبداعي CC-BY

لقد أعادت نظرية سوسير تعريف ظاهرة "المعنى" بالتفريق بين عالمنا المحسوس وبين مفردات اللغة التي تصف هذا العالم، فعلى سبيل المثال: يرى سوسير أن كلمة "الكرسي" في اللغة العربية (أو ما يماثلها في المعنى باللغات الأخرى) لا تصف كرسيًّا حقيقيًّا؛ وإنما هي مجرد موازنة ذهنية في عقل الإنسان،[40] فقد تتخيل في ذهنك لدى سماع هذه الكلمة صورة كرسي خشبي، بينما قد يتخيل شخص آخر كرسيًا جلديًّا للمكتب، أو كرسيًّا معدنيًّا للحديقة، وقد لا يكون لأي من هذه الكراسي وجود في عالم الواقع،[41] لكن أهمية هذه الصور هي أنها المرجع الذي توازن به الكراسي الحقيقية، لتحاول تقريبها إلى شيء تعرفه وتتذكره.

ويسمي سوسير هذه الصورة الذهنية للكرسي: الدالة (Signifier)؛ أما الكرسي الحقيقي فهو: المدلول (Signified)، وما نسميه "اللغة" هو اتحاد الدالة والمدلول. وينطلق سوسير من هذا التعريف، ليزعم أن اللغة كلها ليست إلا دوال اعتباطية ابتدعها البشر،[42][43] وهذا يعني -مرة أخرى- أن اللغة والمعنى (أو الدال والمدلول) هما وجهان لعملةٍ واحدةٍ، ولا سبيل لفصلهما.

النسبية اللغوية

جاء بعد سوسير عالمان وضعا نظرية مهمة جدًّا في سياقنا هنا، مع أن صداهما في المجتمع الأكاديمي -على حجمه الهائل- كان قصير الأمد إلى حد ما،[44] وتسمى نظريتهما "نظرية النسبية اللغوية"، أو: "نظرية وُرف وسابير"، إما تيمنًا بواضعيها[45] أو تيمنًا بنظرية النسبية لآينشتاين؛ إذ أملا أن يكون لنظريتهما دور حاسم في اللغة كما كانت النسبية حاسمةً في الفيزياء.

وتنص نظرية وُرف وسابير على: أن اللغة هي العدسة التي ننظر بها إلى العالم، فهي عنصر أساس في تكوين أفكارنا؛ لا في صياغتها فقط.[46] وليست اللغة هنا مؤثرًا منعزلاً عمَّا سواه، إنما يخبرنا وُرف وسابير أن لكل ثقافة (وقد تكون هذه الثقافة العربية بعمومها، وقد تكون ثقافة بلد أو حي أو عائلة) طريقة تفكير تختلف عن غيرها، ولأن اللغة من جوهر ثقافة الإنسان؛ فهي تمتزج بتفكيره.[47]

ويقترب سوسير من هذه النظرية في وصفه للغة بأنها: نظام من الدوال، مما يعني أنها لا تسعى لأن تكشف لنا عن عالمنا كشفًا دقيقًا -كما نظن- بل إن اللغة تختلق هذا العالم، وترسمه على صورته التي نشعر بها.[48] وليس المقصود هنا أن كل ما نراه حولنا وهم لا يمت إلى الواقع بصلة، ولكن الواقع واللغة مقترنان معًا في كيان واحدٍ لا سبيل لتجزأته،[49][50] حتى إن العالم لا يكاد يوجد دون اللغة. وهذه حجة عصية على النفي منطقيًّا، لأن مناقضتها تتطلب حتمًا استدعاء مثالٍ يقال ويحكى باللغة، فيبقى أسيرًا لها ولإمكاناتها.[51]

من الضروري عدم التسرع بإسقاط نظرية النسبية اللغوية وكأنها حقيقة، فكثير من علماء اللغة لا يقتنعون بها مطلقًا[52] لأنها نظرية لا تقبل الاختبار،[53] أو يعدونها تفسيرًا ينحصر في كيفية مسِّ اللغة بتفكير الإنسان، وليس أن اللغة هي الأساس الواحد لتفكيره.[54] وهذه الانتقادات لا تنقض النظرية بالضرورة وإنما تعيد صياغتها،[55] فسواء أكانت اللغة هي التي تصنع تفكير الإنسان (كما قال وُرف وسابير) أم ثمرةً لمنظومة ذهنية متكاملة نولد معها وتأسر تفكيرنا (كما تشير اللسانيات الحديثة)،[56] فإن النتيجة واحدة: وهي أن كل لغة تمثل وجهة نظر تجاه العالم تخص قومًا من الأقوام أو ثقافة من الثقافات، وتثبت لنا التجربة أن اختلاف هذه الثقافات ولغاتها قد يعيق نقل المفاهيم والأفكار بينها.[57] ولا يكون ذلك بالضرورة بعجز الآخر عن فهم طريقة تفكيرك، فالناطق باللغة العربية، قادر كل القدرة على أن يتعلم أنواع الثلج التي يفرق بينها الإسكيمو بالعشرات[58] مثلما أن الإسكيمو أهل لاستيعاب الفرق بين أسماء الإبل الثلاثمئة بالعربية إن علمناهم إياها، على أن كلًّا من هاتين اللغتين تشجع الناطقين بها -دون ريب- على التفكير بأسلوب مختلف.[59]

وما يعنينا في دراسات الترجمة من نظرية فرديناند دو سوسير، ومن تبعه من العلماء أمران: أولًا، أن ألفاظ اللغة اعتباطية، فلا تصف المحسوسات وإنما تتصل بتفكيرنا فيها. وثانيًا، أن اللغات ربما تكون جزءًا من منظومة تشكل العالم ولا تصفه فقط. وسوف نتوسع في هاتين النقطتين لأهميتهما لموضوع الكتاب، واللتين ستثبتان -شيئًا فشيئًا- فائدتهما القطعية لنا في فهم ظاهرة الترجمة.

_____

اقتباس

ملاحظة: إذا أردت مراجعة المراجع والمصادر المشار إليها فيمكنك ذلك من خلال قراءة هذا الفصل من كتاب فن الترجمة والتعريب والرجوع إلى فصل المصادر فيه.

اقرأ أيضًا


تفاعل الأعضاء

أفضل التعليقات

لا توجد أية تعليقات بعد



انضم إلى النقاش

يمكنك أن تنشر الآن وتسجل لاحقًا. إذا كان لديك حساب، فسجل الدخول الآن لتنشر باسم حسابك.

زائر
أضف تعليق

×   لقد أضفت محتوى بخط أو تنسيق مختلف.   Restore formatting

  Only 75 emoji are allowed.

×   Your link has been automatically embedded.   Display as a link instead

×   جرى استعادة المحتوى السابق..   امسح المحرر

×   You cannot paste images directly. Upload or insert images from URL.


×
×
  • أضف...