اذهب إلى المحتوى
اقتباس

«إن أعظم آفات الكلام هي كثرة الترجمة. فلم يُنقل كتاب من لسان إلى لسان قط دون أن ينتقل معه شيء من خصائص لغته، وهذه أسوأ ألوان الإبداع، فربما يحتمل بناء اللغة أن تدخل عليه آلاف المفردات الجديدة، وأما الجمل الجديدة فعاقبتها عظيمة: فهي لا تبدل جدران البنيان؛ وإنما دعائمه».- صامويل جونسون، في مقدمة معجمه عام 1755.[1]

من كل سبعة كتب منشورة سنويًّا في البلاد العربية كتاب مترجم على الأقل،[2] وهذه نسبة لا يستهان بها، ولها تأثير غير معلوم على الأمد البعيد، خصوصًا إذا ما قورنت بنسبة الكتب المترجمة عن لغات أخرى إلى الإنكليزية، والتي تتراوح بين 2.5 إلى 3% من سوق النشر الأمريكي فحسب. ولا تقتصر تداعيات هذه المشكلة على كثرة الكتب الأجنبية، بل إن لها تبعات اقتصادية أيضًا، إذ يحصد مؤلفو الكتب الإنكليزية جل أرباح الطباعة والنشر في أرجاء العالم لكثرة ما تترجم كتبهم إلى اللغات الأخرى (بما فيها العربية)، وأما المؤلفون العرب والشرقيون -وغيرهم- فلا يحصدون إلا القليل الهزيل.

كما أن للمشكلة أبعادًا ثقافية: فأهل اللغة الإنكليزية قادرون على نشر أعرافهم وثقافتهم بكتبهم وآدابهم دون أن يتلقوا -في المقابل- شيئًا يذكر من ثقافات العالم الأخرى،[3] فهم يكتبون باللغة الأصل لنصف الترجمات المنشورة في العالم حاليًّا، لكن الإنكليزية تستقبل من اللغات الأخرى 6% فحسب من الترجمات المنشورة عالميًّا. ويعبّر اختلال النسب المذهل هذا عن تأثير لغوي وثقافي عظيم للسان الإنكليزي منفردًا على العالم أجمع،[4] ويخشى كثيرون -بسببه- أن الإنكليزية صارت خطرًا يتربص بكل لغة وكل ثقافة سواها.

Screenshot from 2021-12-1.png

نسبة الأوراق البحثية المنشورة بالإنكليزية؛ مقارنة بالأوراق المنشورة باللغات الرسمية لثماني دول عالمية (منذ عام 1996 إلى 2011). - المصدر: Research Trends

العربية المتغيرة

أمسى برج خليفة منذ سنة 2010 أعلى "ناطحة سحاب" في العالم، فهو أطول بمرة ونصف من أي ناطحة سحاب سبقته (بارتفاعه الذي يتجاوز ثمانمئة متر)، على أن العرب لم يعرفوا ناطحات السحاب لأمد طويل، فأولاها بنيت في الخليج في عقد التسعينات،[5] بل وإن مهد هذه البنايات الشاهقة -عالميًا- فكان في نيويورك في سنة 1857.[6] ولهذا السبب كانت الإنكليزية أول لغة تبتدع كلمة تصف هذه البنايات، وذلك بنحت لكلمتي "sky" ("سماء") و"scraper" ("قحَّافة")، وانتقل هذا المعنى حرفيًّا إلى لغات كثيرة جدًّا، منها: الفرنسية والإيطالية والبرتغالية[7] والعربية ("ناطحة سحاب")، ويسمى هذا النقل الحرفي للمفردات -بين اللغات- "المحاكاة" (calquing)، كما يقال لها أحيانًا "النُّحل"[8] أو "التوطين"،[9] ومعناها: استنساخ الكلام بمعناه الحرفي بين اللغات، وهذه ظاهرة سائدة في عصرنا بكل مكان وكل لغة.

لا تقتصر المحاكاة على الكلمة المنفردة، بل قد تُحاكى ألفاظ وأمثال وجمل متكاملة، ومن أمثلة الجمل المحاكاة -غالبًا- التي تكثر حديثًا: "ليس بعد الآن" (not anymore)،و"صنعتُ صديقًا" (made a friend)، و"هيا يا صاح" (come on dude)، و"اذهب إلى الجحيم" (go to hell)، وهذه كلها تُرجمت إلى اللغة العربية حرفيًّا؛ وليس بالمعنى، فذاعت على ألسنة الناس.

وأظهرت دراسات على لغات أخرى (منها البرتغالية)؛ أن هذا النوع من المحاكاة قد يبدأ من الكتب المترجمة ترجمةً حرفيةً، ثم ينتقل إلى اللغة فيصبح ظاهرةً طبيعيةً فيها،[10] مثلما نرى في الأمثلة التي وردت أعلاه: فهي أمثلة لا تقتصر على الترجمة وإنما تجدها -كذلك- في الكتابات العربية الأصيلة والحوارات العامية، مما يعني أنها تغلغت في اللسان العربي، بل وتغلغلت -معها- ثقافة كاملة ألِفها الناس ووقعوا تحت تأثيرها، فلم يمانعوا في العادة من محاكاتها حرفيًّا بهذا الأسلوب.[11]

سنة التغير

ربما تدخل عشرات أو مئات الكلمات الأجنبية على أي لغة في فترة حياة الإنسان، ولكن من المستبعد أن تتغير قواعد هذه اللغة النحوية والصرفية في حياته، فهذه التغييرات تستغرق أمدًا طويلًا، ومن الأسلم -إجمالًا- أن يبقى النحو والصرف وقواعد اللغة شبه ثابتين بمرور الزمن (ما عدا ما تقتضيه "الضرورة الشعرية"، كما يُقال).[12] لكن بعض قواعد وأصول العربية -وغيرها من اللغات- ربما تكون في حالة تغير سريع ومنهجي بسبب الترجمة والعولمة، وهو تغير يتناقض مع موروثها الثقافي، إذ يقول في ذلك جرجي زيدان:[13]

اقتباس

«لا يخفى أن لكل لغة أسلوبًا في التعبير لا ينطبق بكل تفاصيله على أساليب اللغات الأخرى، واللغات تتقارب وتتباعد في تلك الأساليب بتقارب أصول الشعوب وتباعدها، والعرب بعيدون في أصولهم عن الإفرنج».

وإقحام التعابير الدخيلة على اللغة هو أمر لا بد منه، فتاريخ كل لغة في العالم قائم على التبادل والتلاقُح المستمر مع لغات أخرى تؤثر فيها بمفرداتها وأفكارها، ولكن الإكثار من الدخيل -بتسارعه الحالي- قد يؤدي إلى ركاكة الكلام، فيمسي وكأنه غير عربي أو كأنه «أعجمي مكتوب بكلمات عربية». وحسب زيدان فإن اقتباس الكلام الأعجمي من مكملات الحديث: «وإذا عده بعض اللغويين فسادًا في اللغة فلأن بعض كتابنا يبالغون في ذلك الاقتباس».

من علامات التغيير التي لاحظها باحثون كثر؛ أن الترجمات العربية أصبحت تستنسخ بناء الجملة الإنكليزي الذي يتّسم بالجمل القصيرة المتوالية (بدلًا من الجملة الطويلة، وسنأتي على ذلك في فصل "تعريب الجملة")، كما تستنسخ -هذه الترجمات- أدوات الربط الأجنبية بين الجمل؛ مثل "بالرغم من" و"في حين أن كذا.. لكن كذا"،[14] وهذا يغاير أسلوب التعبير العربي الذي تغلب فيه الجمل الطويلة المتتابعة الموصولة بالواو والفاء.

ومما يثبت أن هذه السمات دخيلة هو أنها تستفحل في النصوص المترجمة، وليس في النصوص العربية الأصيلة، بل وأنها تكثر في المؤلفات العربية الحديثة،[15] وهو ما يدل على أن تأثير اللغات الأجنبية قد تغلغل في العربية فغير أصلها لا ترجماتها فحسب. وهذه ليست حال العربية وحدها، بل تثبت دراسات عديدة وقوعها في شتى اللغات، ومنها -مثلًا- دراسة أظهرت أن الجمل الإنكليزية القصيرة تغلغلت في الكتابة الأكاديمية البرتغالية وحلت مكان الجمل المركبة الطويلة (وهي السائدة في الأدب البرتغالي سابقًا). وهذا ليس إلا مثالًا متواضعًا على ظاهرة تقع في سائر لغات العالم بخواصها كافة.

لكل لغة طريقتها في الوصف والتعبير، مثل أسلوب الانتقال بين جملة وأخرى وتدفق الكلام والفقرات، وحتى ولو نجح المترجم -كل النجاح- بتعريب الكلمات وترجمة الجمل؛ فقد لا ينجح في سبكها معًا في فقرات وصفحات وفصول يستوعبها القارئ، فالكتابة هي فن تختص به كل ثقافة ولغة عن سواها.[16] ويتسم أسلوب التعبير العربي -مثلًا- بأنه يعتمد على تكرار الكلام وهيئته عدة مرات بقصد التوكيد، وهو ما يراه الإنكليز حشوًا مزعجًا لأنهم يفضلون الاختصار والتحديد في الكلام،[17] وحسبما نرى، ربما يمحو التأثير الناجم عن الترجمة الخاصية البلاغية للعربية؛ ويستبدل بها الأسلوب البلاغي الإنكليزي.

يرى كثير من الباحثين أن كل ترجمة تتأثر بعادات وأعراف سائدة بين المترجمين، إذ إنهم يعتادون على ترجمة كل تعبير أجنبي معروف إلى اختيار تلقائي ثابت، دون تمعن فيه. [18] على سبيل المثال: من المعتاد في الإنترنت العربي المعاصر ترجمة جملة من نوع "Directed by" إلى "تم إخراجه بواسطة.." (كما سيأتي فيما بعد)، ومهما كان سياق هذه الجملة فإن ترجمتها العربية تظل ثابتة، إذ ترجع هذه الترجمة إلى أعراف الترجمة السائدة عربيًا، وفي تعبير "تم بواسطة" محاكاة حرفية لأصله الإنكليزي، وهذا النوع من المحاكاة يفسد اللغة ويُغرِّبها. وقد توصلت إحدى الدراسات إلى أن 26% تقريبًا من الجمل الواردة في اللغة البرتغالية أصبحت محاكاة حرفية -جزئيًّا أو كليًّا- لجمل إنكليزية،[19] ومن يدري كم تكون نسبة هذه الجمل في كلامنا العربيّ؟

رأينا في الفصل السابق أن من الصعب -بمكان- حسم الصراع التاريخي بين الترجمة الحرفية والترجمة بتصرف، على أن لدينا -في هذا السياق- عاملًا يساعد المترجم على الميل نحو إحدى هاتين الجهتين: وهو أن منزلة اللغة الإنكليزية تمنحها (بترجمة حرفية أو دونها) تأثيرًا غير متكافئ على سائر اللغات في عصرنا الحاضر، وخصوصًا للغات القليلة الانتشار أو المتأخرة علميًّا وتقنيًّا، وتعيش هذه اللغات (ومنها العربية) خطر طغيان الترجمة على أدبها الأم، وفي هذه الظروف تتطلع اللغة بشتى كتابها وأدبائها إلى الترجمة و"الاستيراد" لتكوين أسلوبها وهويتها، وهذا خطر يزيل تبريرات الترجمة الحرفية في سياقنا، بل وربما تبريرات الترجمة بأسرها.

5.2.png

الدول التي تأتي منها الغالبية العظمى من الكتب المترجمة المنشورة في الولايات المتحدة. - المصدر: Quartz

لغات راقية

قال الكاهن الفرنسي بيير دانييل في عصر النهضة: «[إن الترجمة] هي نص مكتوب بلغة ذات صيت ليجسد نصًا كتب بلغة ليس لها صيت»،[20] ويبين قوله هذا وجهة النظر الغربية تجاه الترجمة: فالأوروبيون يترجمون آداب الصين والهند والفرس والعرب وجميع اللغات من باب الفضول والاطلاع، وأما في لغات هذه الشعوب -ومنها العربية- فتنعكس الآية، إذ إن الترجمة عندنا ضرورة لا اختيار، ودافعها نقل علوم ومعارف أساسية لا ما يبعث على "الفضول" أو المتعة. ولهذا يظن بعض الباحثين أن الترجمة فعل يرفع موضوعها إلى منزلة متميزة متألقة، فهي تدل -ضمنيًا- على أن النص الأجنبي لا بديل له[21] باللغة العربية، فيلزم استيراده من لسان أعجمي أعلى منزلة منها.

اقترح إيفن زوهار في عام 1978 نظرية تصف هذه المسألة؛ اسمها: "نظرية الأنظمة المتداخلة"، والمقصود من اسمها أن العلوم الإنسانية هي "نُظُمٌ" تتداخل، فيتمزج فيها الأدب مع الثقافة والتاريخ وعلم الاجتماع في منظومة مشتركة دائمة التقلب؛[22] إذ تتقلب الميول والأذواق في الإنسانيات حسب أهواء لا تتبع معيارًا ثابتًا، وتتنافس ضروب الأدب دومًا لإرضاء هذه الأهواء، فما كان رائجًا قبل ثلاثين عامًا -مثلًا- ربما لم يعد رائجًا اليوم، ولن يبقى الرائج الآن على رواجه مستقبلًا.[23]

وتقول نظرية الأنظمة المتداخلة: إن ذوق كل لغة وثقافتها يجب أن يعطي للأدب المترجم منزلة أقل من الأدب الأصيل، إلا لو وقعت حالات استثنائية ترفع الأدب المترجم إلى منزلة أعلى من غيره في الذوق للعام. ومنها ثلاثة استثناءات كبرى تدعو إلى رفع مقام الأدب المترجم:[24]

  1. أن أدب اللغة جديد وحديث العهد، فيسعى للتعلم من لغات أنضج منها وأبلغ.
  2. أن أدب اللغة ضعيفٌ ناقص، فيسعى لتعويض نقصه من غيره.
  3. أن أدب اللغة في تطور لا يشبعه القديم، فيبحث عن الجديد لدى غيره.

ولا شك في أن اللغة العربية تعيش -الآن- زمنًا ارتفعت فيه منزلة الأدب المترجم، فيتهافت عليه القراء أكثر من أدبها الأصلي، بل إن كثيرًا من جمهور القراءة العربي اتجه حديثًا نحو قراءة الكتب الأجنبية بلغتها الأصلية؛ بدلًا من قراءتها مترجمةً، وهذا يعني أن الثقافة الأجنبية تفوَّقت في منزلتها على الثقافة العربية على كل صعيد. فأي من الحالات الثلاث -أعلاه- هو السبب فيما وقع؟

من الأكيد أن الأدب العربي لا يقع ضمن الحالة الأولى؛ لأنه موغل في القدم، ولكن من المحتمل -وما يستدعي البحث- أنه قد يقع في حالة من الحالتين الأخريين، أي أنه يحاول تعويض نقصه أو التجديد من غيره. ومن أمثلة ذلك أن تراث العرب تغلب عليه فنون منها الشعر والخطابة؛ بينما ليس فيه سرد قصصي يذكر. على أن معظم الإنتاج الفني والأدبي الحديث صار متمحورًا حول القصة، فتتصدره الروايات وسيناريوهات الأفلام ومسلسلات التلفاز، وهذه كلها فئات أدبية جديدة على الثقافة العربية، فتضطر لاستيرادها من غيرها من الثقافات لتعويض نقصها.

ولهذا تختلط في الأسلوب الأدبي العربي الحديث سمات كثيرة منقولة من الإنكليزية والفرنسية وغيرها من اللغات، وتدخل في هذا فوارق القوة والسلطة التي تناولناها في نظرية الترجمة ما بعد الاستعمارية: إذ إن لغات الأمم الاستعمارية لها منزلة أعلى عالميًّا من لغات الأمم المستعمرة (مثل العربية). ويظن بعض الباحثين[25] أن لغات العالم كلها -بما فيها لغات أوروبا- تعيش حاليًّا صراعًا غير عادل[26] مع «اللغة الاستعمارية الكبرى السائدة في زماننا، وهي الإنكليزية».[27]

لكل لغة قدرة على الصبر والاحتمال للترجمة، ومن الأنفع بعدها الانتقال نحو الكتابة والتأليف الأصلي، حتى ولو كان في الموضوعات نفسها والعناوين ذاتها، فهو يأتي أصيلًا عربيًّا لا في سلامة اللغة وحدها بل في يسر وسهولة الفهم، ويشيد البعض بنجاح العرب في تلافي تهديدات الترجمة على لغتهم أثناء حركة الترجمة العباسية، فزادوا (كما يقول علي النملة) في «التأليف على التعريب»،[28] لكن التأليف يقل الآن ويخبو على حساب الترجمة الكاسحة.

ويجدر بنا، نتيجة لهذا التأثر غير المتوازن والسباق الذي تخسره اللغة العربية -وغيرها- مع العولمة، أن نميل نحو الترجمة بتصرف بدلًا من الترجمة الحرفية، وأن نتجاوز عن شيء من آراء الباحثين الذين يشجعون الترجمة الحرفية لأن كلامهم موجه نحو لغة العولمة نفسها (وهي الإنكليزية) وليس للسياق المتأثر بها. ولهذا فسوف نتناول في الفصول الآتية الترجمة من منظور الأقلمة والتعريب بلسان وثقافة يفهمها القراء العرب وتقترب من قلوبهم، وهو المنهج الذي تدعو إليه هذه السلسلة بعمومها.

_____

اقتباس

ملاحظة: إذا أردت مراجعة المراجع والمصادر المشار إليها فيمكنك ذلك من خلال قراءة هذا الفصل من كتاب فن الترجمة والتعريب والرجوع إلى فصل المصادر فيه.

اقرأ أيضًا


تفاعل الأعضاء

أفضل التعليقات

لا توجد أية تعليقات بعد



انضم إلى النقاش

يمكنك أن تنشر الآن وتسجل لاحقًا. إذا كان لديك حساب، فسجل الدخول الآن لتنشر باسم حسابك.

زائر
أضف تعليق

×   لقد أضفت محتوى بخط أو تنسيق مختلف.   Restore formatting

  Only 75 emoji are allowed.

×   Your link has been automatically embedded.   Display as a link instead

×   جرى استعادة المحتوى السابق..   امسح المحرر

×   You cannot paste images directly. Upload or insert images from URL.


×
×
  • أضف...