اذهب إلى المحتوى

لا يكتمل أيّ نقاش حول الدوافع بدون ذكر أبراهام ماسلو Abraham Maslow. تعرّف آلاف المديرون على نظريّة ماسلو عبر كتابات دوغلاس ماك غريغور Douglas McGregor في الستينيّات من القرن الماضي. العديد منهم أيضًا لا يزالون يتكلّمون عن دوافع الموظّفين عبر نظريّة ماسلو.

ماسلو هو عالم نفس أطلق نظريّته حول تصنيف حاجات الإنسان بشكل هرميّ بناءً على دراساته مع الكائنات البدائية (القرود) وملاحظته للمرضى ونقاشاته مع الموظّفين في المؤسّسات. وتوصّل إلى أنّ الحاجة التي ستصبح حاجة ظاهرة، يجب أن يسبقها تلبية لحاجات أخرى. على سبيل المثال: تسبق حاجتنا للمياه حاجتنا للتواصل الاجتماعي (يسمّى هذا أيضًا المُكنة المسبقة أو الأسبقيّة)، أي أنّنا دائمًا ما نلبّي حاجتنا للشراب قبل أن نلتفت لحاجاتنا الاجتماعيّة، وهذا يعني أنّ الماء يملك الأسبقيّة على الحاجات الاجتماعيّة. تتميّز نظريّة ماسلو عن نظريّات سابقيه بفكرتي الهرميّة والأسبقيّة.

اقترح ماسلو خمس أنواع رئيسيّة من حاجات الإنسان. وهذا يختلف عن آلاف الحاجات التي اقترحا الباحثون الآخرون كما أنها أقل من الحاجات التي عرّفها موراي في نظريّته. اختصر ماسلو الحاجات إلى مجموعةٍ صغيرة. وهذه الحاجات الخمس هي كما يلي (بحسب ترتيب أسبقيّتها على السلوك الإنسانيّ):

  1. حاجات البقاء والحاجات الفيزيولوجية: هذه هي الحاجات الإنسانيّة الأكثر أساسيّةً وتتضمّن الحاجة للطعام والشراب والنوم والجنس والنشاط والتنبّه والأوكسجين.
  2. حاجات الأمن والأمان: هذه الحاجات الّتي تحمي حرّيّة الفرد من الخطر. مجموعة الحاجات هذه تتضمّن مواجهة المخاطر الوجوديّة؛ مثل الظروف البيئيّة الشديدة (الحرارة والغبار وغيرها) والاعتداء من الآخرين والطُغيان والقتل. بعبارة أخرى، يقينا إشباع هذه الحاجات من الخوف والقلق ويجعل حياتنا أكثر استقرارًا.
  3. الحاجات الاجتماعيّة: تعكس هذه الحاجات الرغبة الإنسان بأنّ يتلقّى العطف والمحبّة من الآخرين. ويكونون راضين تحديدًا عند وجود الشريك والأطفال والوالدين والأصدقاء والأقرباء والمقربين. تعبّر أحاسيس الوحدة والرفض عن أنّ هذه الحاجات لم تُشبَع.
  4. الحاجة للتقدير: التقدير يذهب أبعد من الحاجات الاجتماعيّة. فهو يعكس حاجتنا لأن يحترمنا الآخرون ولأن نقدّر أنفسنا. فيختلف كوننا محبوبين من الآخرين عن كوننا مُقدِّرين لمواهبنا وقدراتنا. تمتلك الحاجة للتقدير تركيزًا داخليًّا (الذات) وخارجيًّا (الآخرين). يتضمّن التركيز الداخليّ الرغبة في الإنجاز والقوّة والكفاءة والثقة والاستقلاليّة. أمّا التركيز الخارجيّ فيتضمّن الرغبة في التقدير والسمعة والتميّز والحصول على الانتباه والاحترام. كما قد يؤدّي إشباع حاجات التقدير الخارجيّة لإشباع حاجات التقدير الداخليّة.
  5. الحاجة لتحقيق الذات: الحاجة لتحقيق الذات هي أصعب الحاجات وصفًا. وعلى عكس باقي الحاجات فهذه الحاجة لا يمكن إشباعها أبدًا بشكل كامل. يتضمّن تحقيق الذات الرغبة في إشباع الذات "أي أن تصبح أكثر وأكثر ما أنت عليه وأن تصل لكلّ ما أنت قادر عليه". يختلف معنى تحقيق الذات بشكل كبير بسبب اختلاف الأشخاص في نقاط قوّتهم وضعفهم وقدراتهم وحدودهم. يعني إشباع حاجة تحقيق الذات أن نطوّر كل قدراتنا الخاصّة لأقصى درجة ممكنة.

    Seattle protester with sign.png

الشكل 7.5 متظاهر في سياتل حاملًا لافتة (حقوق الصورة: Adrenalin Tim /flickr/ Attribution 2.0 Generic (CC BY 2.0))

يظهر الشكل 7.6 هرم ماسلو المقترح للاحتياجات. حسب هذه النظريّة، يوجّه الأشخاص اهتمامهم في إشباع الحاجات أسفل الهرم فحسب (الحاجات الفيزيولوجيّة والأمن والأمان). حالما تُشبع هذه الحاجات يتنشّط المستوى التالي لهم (الحاجات الاجتماعيّة). وحالما تشبه الحاجات الاجتماعيّة نركّز على تقدير الذات. يعتقد ماسلو أن أغلب الأشخاص يتوقفون عند هذه المرحلة. أي أنّ أغلب الأشخاص يمضون حياتهم في تكوين تقديرهم لذاتهم وللآخرين. لكن عندما يُحَقّق ذلك، تسيطر الحاجة لتحقيق الذات على حسب توقّع ماسلو. لا يوجد مستوى أعلى في الهرم لأنّ الحاجات لتحقيق الذات لا يمكن إشباعها بالكامل أبدًا. فهي تمثّل عمليّة مستمرة من تطوير الذات وتحسين الذات، وهذه العمليّة عند تمامها في جانب معيّن (الرسم مثلًا) تتنشّط في جانب آخر (النحت)، ما يجعل المرء يتساءل إن كان رياضيّون مثل تيم تيبو (Tim Tebow) يحقّقون ذاتهم عندما يشاركون في عدّة مسابقات رياضيّة على مستوى احترافيّ.

Maslow’s Hierarchy of Needs.png

الشكل 7.6 هرم ماسلو للاحتياجات المصدر: مبني على كتاب (A theory of human motivation) لصاحبه (A. H. Maslow). Psychological Bulletin 50:370–396.

من مبادئ هذه النظريّة الأساسيّة أنّ انتباه الشخص (الاتّجاه) وطاقته (الشدّة) يركّزان على أخفض مستوى من الحاجات غير المشبعة. أيضًا يمكن أن تتحول الحاجات المشبعة في مرحلة ما إلى حاجات غير مشبعة نشطة مجدّدًا. يجب أن "تصان" الحاجات (فنحن نحتاج للطعام باستمرار). ووفقًا لماسلو، عندما يُنَشّط أحد المستويات السفلى مجدّدًا، يعود تركيزنا على هذا الحاجات. أي أنّنا نفقد اهتمامنا في الحاجات الأعلى عندما تتنشّط الحاجات الأساسيّة.

إنّ تطبيقات نظريّة ماسلو في السلوك المؤسّساتي هي منهجٌ نظريّ بقدر ما هو عمليّ. تقترح النظريّة أن رفع الدافعيّة لدى الموظّفين يتطلّب من المديرين محاولة نقل اهتمام الموظّفين لديه إلى مستويات أعلى من الهرم. يعني هذا أنّ على المدير أن يساعد موظّفيه على تلبية حاجاتهم الأساسيّة الدنيا، مثل الأمان والحاجات الاجتماعيّة. فعندما تكون هذه الحاجات مشبعةً سيُدفع الموظّفون لبناء تقدير الذات والاحترام عبر العمل والإنجاز. يظهر الشكل 7.6 كيف ترتبط نظريّة ماسلو مع العوامل التي تؤثّر عليها المؤسّسة. على سبيل المثال، عند توفير الأجر الملائم وظروف العمل الآمنة ومجموعات العمل المتجانسة، لا بُد أن هذا من شأنه أن يساعد الموظّفين على تلبية حاجاتهم الأساسيّة في أسفل الهرم. وعندما تُشبع هذه الحاجات، تساعد المهام المتحدّية والمسؤوليّات الإضافيّة والمناصب المهمّة على إشباع حاجات تقدير الذات.

لا تزال نظريّة ماسلو شائعة بين المديرين الحاليّين. لكنّها لا تلقى ذات الرواج بين الباحثين في السلوك المؤسّساتي لأنّ نتائج الأبحاث لا تدعم فكرة الهرميّة لماسلو. فقد أفضت الأبحاث إلى أنّ الأشخاص لا يمرّون عبر هذه المستويات الخمسة بالترتيب. ومن ناحية أخرى تدعم بعض الأدلّة ترتيب ماسلو لتلبية الحاجات. تعكس التعديلات في نظريّة ماسلو هذه الهرميّة الحديثة الأكثر تحديدًا. سيساعدك التقييم الذاتي لاحقًا في مقالاتنا على تقييم حاجاتك الخمس.

نظرية الحاجات المعدلة (البقاء – الانتماء – النمو ERG) لدرفر

لاحظ كلايتون الدرفر (Clayton Alderfer) أنّه لم تكن هناك سوى محاولات قليلة لاختبار نظريّة ماسلو الكاملة. كما أنّ الأدلّة المجموعة ساندت النظريّة بشكل جزئيّ فحسب.

أثناء عملبّة تشذيب وتوسيع نظريّة ماسلو، أسّس الدرفر نظريّة مبنيّة على الاحتياج وبمنظور عن الدافعيّة أكثر فائدة بعض الشيء. تختصر نظريّة ERG الدرفر فئات ماسلو الخمس إلى ثلاثة فئات فحسب وهي: البقاء والانتماء والنمو. بالإضافة إلى ذلك فصّلت نظريّة الدرفر ديناميكيّة حركة الفرد بين الفئات هذه أكثر من التفسيرات النموذجيّة لعمل ماسلو.

وكما يظهر في الشكل 7.7 يشمل نموذج ERG الحاجات المعرّفة في عمل ماسلو ذاتها وهي:

Alderfer’s ERG Theory.png

الشكل 7.7 نظريّة ERG لألدرفر (حقوق النشر: جامعة Rice، منظّمة OpenStax، مرخّصة برخصة المشاع الإبداعيّ CC-BY 4.0).

  • حاجات البقاء تتضمّن حاجات الأمان المادّيّ والفيزيولوجيّ. تُلَبّى هذه الحاجات عبر حالات ماديّة وليس عبر علاقات بين الأشخاص أو انخراط الشخص في بيئة العمل.
  • حاجات الانتماء تتضمّن كلّ حاجات ماسلو الاجتماعيّة بالإضافة إلى حاجات الأمان الاجتماعيّ والتقدير الاجتماعيّ. تُلبّى هذه الحاجات عبر تبادل الأفكار والمشاعر مع الآخرين.
  • حاجات النموّ تتضمّن حاجات تقدير الذات وتحقيق الذات. تميل هذه الحاجات لأنّ تُلبّى عبر انخراط الفرد في العمل وبيئة العمل.

يوضّح الشكل 7.8 عددًا من الطرق التي يمكن للمنظّمات من خلالها أن تساعد أعضاءها على إشباع الحاجات الثلاث المذكورة.

Satisfying Existence, Relatedness, and Growth Needs.png

الشكل 7.8 إشباع حاجات البقاء والانتماء والنموّ (حقوق النشر: جامعة Rice، منظّمة OpenStax، مرخّصة برخصة المشاع الإبداعيّ CC-BY 4.0).

هناك 4 عوامل أساسيّة لفهم نظريّة ERG وهي: تقدّم الرضا والإنهاك وتراجع الإنهاك والطموح. الأول -تقدّم الرضا- هي فعليًّا توافق فكرة ماسلو للانتقال عبر الحاجات، فعندما نتقدّم في إشباع حاجات البقاء لدينا نوجّه اهتمامنا تجاه حاجات الانتماء. وعندما تُشبع هذه الحاجات تتنشّط حاجات النموّ لدينا. العامل الثاني -الإنهاك- يحدث عندما نحاول أن نشبع رغبة معيّنة ولكن نفشل في ذلك. قد يجعل ذلك الإنهاك إشباع الحاجات هذه أكثر أهميّة لنا، إلّا إذا فشلنا مرارًا في ذلك. وفي هذه الحالة يقودنا العامل الثالث -تراجع الإنهاك- لتحويل انتباهنا إلى حاجات مشبعة مسبقًا ملموسة وأكثر واقعيّة. أخيرًا، يشير العامل الرابع -الطموح- في نموذج ERG إلى أن النموّ بطبيعته هو مُشبع جوهريًّا، فكلما نمونا أكثر كلما ازددنا رغبةً في النموّ. لذا؛ كلّما أشبعنا حاجتنا في النموّ كلّما ازدادت أهميّة وقوّة الدافع لإشباع هذه الحاجة.

Jamie Dimon.png

الشكل 7.9 جايمي ديمون (Jamie Dimon) المدير التنفيذي في JP Morgan Chase، يُقدّر دخله السنويّ 27 مليون دولار، وهو يمتلك وظيفة مُكافِئة بشكل كبير كونه مديرًا تنفيذيًّا. الوظائف البدئيّة في المصرف الّذي يترأسه تعطي راتبًا سنويًّا قدره 36,100$ وتكون مهامهم روتينيّة وغير مُكافِئة من منظور تحفيزيّ. كيف ترتبط هذه المنظومة بنظريّة تحديد الذات (SDT)؟ (حقوق الصورة: Stefan Chow/ flickr/ Attribution 2.0 Generic (CC BY 2.0)).

قد يكون نموذج الدرفر مفيدًا أكثر من نموذج ماسلو من ناحية كونه لا يولّد تصنيفات دوافع غير حقيقيّة. على سبيل المثال، من الصعب على الباحثين التأكد والفصل بين متى يُشبع اتصالُنا مع الآخرين حاجتَنا للقبول وبين متى يشبع حاجتنا للاعتراف. تركّز نظريّة ERG أيضًا بشكل خاص على الانتقال بين فئات الحاجات بالاتّجاهين. كما أنّ الأدلّة الّتي تدعم التصنيف الثلاثيّ للحاجات وترتيبهم أقوى من الأدلّة الّتي تدعم التصنيف الخماسيّ لماسلو وترتيبهم النسبيّ.

نظرية العوامل الثنائيّة (الدافع-الصحة) لهرزبرغ (Herzberg)

نظريّة العوامل الثنائيّة لفردرك هرزبرغ (Fredick Herzberg) هي واحدة من أكثر النظريّات تأثيرًا خلال الخمسينيّات والستينيّات من القرن الماضي. هذه النظريّة هي تحسين إضافيّ لنظريّة ماسلو. اقترح هرزبرغ وجود فئتين للحاجات بدلًا من خمس. أسمى الفئة الأولى "الدوافع" (أو حاجات النموّ)، عوامل الدوافع (Motivators) تتعلّق بالعمل الّذي ننجزه وقدرتنا على الشعور بالإنجاز نتيجة لهذا العمل، وهذه الدوافع متجذّرة في حاجتنا لأن نختبر النموّ ونحقق ذواتنا. الفئة الثانية من الحاجات أسماها "عوامل الصحة المهنية". تتعلّق عوامل الصحة المهنيّة (hygienes) ببيئة العمل وهي تبنى على حاجات الإنسان الأساسيّة "بتجنّب الألم". فوفقًا لهرزبرغ، تحفّزنا حاجات النموّ لأن نؤدّي بشكل أفضل وهي تجعلنا نختبر الرضا عند تحقيقها. في حين أنّ حاجات الصحة المهنيّة يجب أن تُشبَع لتجنّب الاستياء (لكنّها لن تؤدّي بالضرورة للرضا أو توليد الدافع).

لا تتعلّق عوامل الصحة المهنيّة بمضمون العمل بشكل مباشر. بل بسياق العمل (الأجر - ظروف العمل - الإشراف - الأمان). كما يشير هرزبرغ إلى هذه العوامل باسم "المُسيئات (dissatisfiers)" لأنّها تتعلّق بالموظّفين المستائين. ترتبط هذه العوامل بالاستياء بشكل كبير إلى حدّ دفع هرزبرغ إلى وصفها بأنّها قد لا تجلب الرضا أبدًا. توافر هذه العوامل بكميّات كافية يجنّبنا الاستياء لكنه لا يؤدّي للرضا. بالإضافة إلى ذلك، فإن عدم إتيان هذه العوامل بالرضا جعل هرزبرغ يستنتج أنّها لا تولّد الدافعيّة لدى الموظّفين.

تتضمّن عوامل الدوافع الحاجة طويلة المدى للسعي وراء النموّ النفسيّ (كما حاجات تقدير وتحقيق الذات لدى ماسلو). تتعلّق عوامل الدوافع بمضمون العمل. مضمون العمل هو ما نقوم به في الحقيقة عند أدائنا لوظائفنا. اعتبر هرزبرغ أنّ عوامل الدوافع هي المهام الوظيفيّة التي تؤدّي للشعور بالإنجاز والاعتراف. كما أسمى هذه العوامل "المُرضيات" لكي يعكس قدرتها على توفير تجارب مرضية للأشخاص. فنحن نشعر بالرضا عندما تُشبَع هذه الرغبات وهذا ما يحفّز الموظّفين. آمن هرزبرغ على وجه التحديد بأن عوامل الدوافع تؤدّي للأداء المرتفع (الإنجاز) وأن الأداء المرتفع بذاته هو ما يوجد الرضا.

المميز في نظريّة هرزبرغ أنّ ظروف العمل التي تمنع الاستياء لا تسبّب الرضا، فالاستياء والرضا يوجدان ضمن "مقاييس" مختلفة بالنسبة له، فقد تسبّب عوامل وظروف الصحة المهنيّة الاستياء إن لم تتوفّر بالمستوى اللازم ضمن الشركة. لذلك يمكن أن يستاء موظّف بسبب أجره المنخفض، لكن زيادة راتبه لن تؤدّي إلى إيجاد الشعور بالرضا المستقبليّ إلّا إذا حضرت عوامل الدوافع. أي أن الأجر الجيد لوحده سيجعل شعور الموظّف حياديًّا تجاه عمله، ولكي يصل للرضا يجب أن يمتلك مهمّات متحدّية تولّد لديه الإحساس بالإنجاز. يمكن للموظّفين أن يكونوا مستائين أو حياديّين أو راضين عن عملهم بناءً على مستويات عوامل الدوافع والصحّة لديهم. تتضمّن نظريّة هرزبرغ أيضًا وجود احتمال إرضاء واستياء موظّف ما في الوقت ذاته؛ مثلًا "أحبُّ عملي لكن أكره راتبي"!

أضافت نظريّة هرزبرغ باستمرار مساهمات على البحث المؤسّساتي والعلم الإداريّ. فاستخدمها الباحثون لتعريف المدى الواسع من العوامل الّتي تؤثّر على ردود أفعال العاملين. سابقًا، لم تكن المنظّمات تبدي اهتمامًا سوى بعوامل الصحة المهنيّة. أمّا الآن -وبفضل عمل هرزبرغ- أدركت المنظّمات أهمية عوامل الدوافع. وبرامج إغناء العمل هي أحد النتائج المباشرة لبحث هرزبرغ.

يقترح عمل هرزبرغ آليّة ثنائيّة المرحلة لإدارة دوافع الموظّفين ورضاهم. أولًا: يجب على المديرين أن يهتمّوا بعوامل الصحة المهنيّة، فالاستياء الشديد يشتّت الموظّفين من الأنشطة المتعلّقة بالعمل كما يميل لأن يكون مثبّطًا. لذا يجب على المديرين أن يحرصوا على تأمين الحاجات الأساسيّة هذه، مثل الأجر الملائم وظروف العمل النظيفة والآمنة وإمكانية التفاعل الاجتماعيّ. ومن ثمّ يجب عليهم أن يتوجّهوا نحو الحاجات الدافعيّة الأقوى التي تجعل الموظّفين يختبرون شعور التقدير والمسؤوليّة والإنجاز والنموّ. إن تمّ تجاهل عوامل الدوافع فلن يكون حدوث الرضا قصير وطويل المدى ممكنًا. في حين يشعر الموظّفون بالرضى والاندفاع للأداء الجيّد عندما تشبع حاجاتهم الدافعيّة.

نظرية تحديد الذات

إحدى أهمّ تطبيقات نظريّة هرزبرغ هي الفكرة غير المتوقّعة بأنّ المديرين عليهم التركيز على عوامل الدوافع بدلًا من العوامل الصحة المهنيّة. (فمع كل ذلك، ألا يرغب الجميع بأن ترتفع أجورهم؟ اعتبرت المنظّمات هذه الفكرة الدافع الأساسيّ للموظّفين لسنين طويلة!) لم قد يثمر التركيز على الدوافع نتائج أفضل؟ لكي نجيب على هذا السؤال يجب علينا أن نميّز أنواع الدافعيّة. يصنّف الباحثون في السلوك المؤسّساتيّ عادةً الدوافع عن طريق الشيء الّذي تدفعه. ففي حالة الدافعيّة الخارجيّة (extrinsic motivation) نسعى لأن نكتسب شيئًا يرضي حاجة من أسفل الترتيب. فالوظائف ذات الرواتب الجيّدة وبيئة العمل النظيفة والآمنة والإشراف الملائم تشبع -بشكل مباشر أو غير مباشر- هذه الحاجات الدنيا. هذه العوامل "خارج الشخص" هي المكافآت الخارجيّة.

العوامل "داخل" الشخص تجعل الأشخاص يؤدّون المهام الموكلة إليهم وتسمىّ الدافعيّة الداخليّة (intrinsic motivation) وهي تنشأ من تأدية المهام بحدّ ذاتها لكونها مشوّقة أو "ممتعة". فإن كانت المهمّة ممتعة نستمر بأدائها حتّى في غياب العوامل الخارجيّة. أي أنّنا مدفوعون بالمكافآت الداخليّة، وهي المكافآت التي نمنحها لأنفسنا بطريقة أو بأخرى. تشبع المكافآت الداخليّة الحاجات الأعلى ترتيبًا مثل حاجات الانتماء والنموّ حسب نظريّة ERG. عندما نشعر بأنّنا مساهمون قيّمون أو أنّنا ننجز شيئًا مهمًّا أو أنّنا نتحسّن في مهارة ما؛ نُعجب بتلك الأحاسيس ونسعى للحفاظ عليها.

لا تسعى نظريّة تحديد الذات (self-determination theory SDT) لتفسير أسباب الدافعيّة فحسب؛ بل أيضًا لتفسير تأثير المكافآت الخارجيّة على الداخليّة. فحسب SDT تعني الدافعيّة الخارجيّة أداء نشاط ما بعد الحفاظ على بعض المخرجات القيّمة منه، في حين تعني الدافعيّة الداخليّة أداء نشاط ما بهدف الرضا النابع عن النشاط بحدّ ذاته. تحدّد نظريّة STD متى يكون نشاط ما دافعًا داخليًّا ومتى لا يكون كذلك. أظهرت الكثير من الدراسات أنّ المهام تدفع الفرد داخليًّا عندما تكون مُشبِعةً لواحدة على الأقلّ من الحاجات الثلاث العليا (الكفاءة - الاستقلال - الانتماء). تتماشى نتائج SDT مع النظريّات المطروحة هنا لماك كليلاند وماسلو الدرفر هرزبرغ.

تذهب نظريّة SDT بمفهوم المكافآت الداخليّة والخارجيّة أبعد من نظريّات الحاجات الأخرى. وجد الباحثون في نظريّة SDT أنّ ارتفاع مستوى المكافآت الخارجيّة يرافقه انخفاض في الدافعيّة الداخليّة. وبناء على ذلك، تفترض نظريّة SDT أنّ المكافآت الخارجيّة تسطيع توليد دافعيّة داخليّة كما أنها يمكن أن تقلّلها. خذ الهوايات مثالًا، بعض الأشخاص يحبّون الحياكة والبعض الآخر يحبّون الحفر على الخشب. يفعلون ذلك لأنّه يدفعهم داخليًّا؛ الهواية تشبع حاجتهم في الكفاءة والاستقلاليّة والانتماء. لكن ما الذي يحدث إن بدأ هؤلاء بتلقّي الأجر لقاء هواياتهم هذه؟ فعند مرور الوقت تصبح الهوايات أقلّ متعةً لهم ويمارسونها بغرض الحصول على المكافآت الخارجيّة (المال).

أي أنّ الدافعيّة الخارجيّة ازدادت في حين نقصت الدافعيّة الداخليّة! عندما تتواجد المكافآت الخارجيّة لا يشعر الأشخاص بأنّ ما يفعلونه يولّد الكفاءة أو أنّه يحقّق ذاتهم أو أنّه يحسّن علاقتهم مع الآخرين. بعض الأعمال هي بطبيعتها غير مثيرة ومن الصعب جعلها كذلك. تقترح نظريّة SDT أنّ تحفيز الأداء العالي في الوظائف المشابهة لا يكون إلّا بجعل الأداء مقترنًا بالمكافآت الخارجيّة. فالأجر العاليّ نسبيًّا ضروريّ للحفاظ على الأداء في هذه الوظائف.

من الناحية الأخرى، تقترح نظريّة SDT أنّه لتحسين الدافعيّة الداخليّة في الوظائف المشوّقة يجب ألّا يكون التركيز موجهًّا على رفع المكافآت الخارجيّة فحسب (مثل الأجور المرتفعة)، بل يجب أن ينصبّ على الفرص والأعمال التي يستطيع الموظّفون من خلالها أن يشبعوا حاجاتهم في الكفاءة والاستقلاليّة والانتماء. هذا يعني إعطائهم الفرصة لتعلّم مهارات جديدة وأن يؤدّوا وظائفهم بدون تدخّل وأنّ يطوروا علاقات مهمّة مع الآخرين في قسمهم. تحسّن هذه أفعال من المكافآت الداخليّة.

قد تلاحظ أن نظريّات المحتوى لا تذكر ما الّذي يحدّد شدّة الدافع. على سبيل المثال: بعض الأشخاص يسرقون لتلبية حاجاتهم الأساسيّة (الّتي تمتلك شدّة عالية). لكن معظمنا لا يسرق. لم ذلك؟ تحاول نظريّات الدوافع المنهجيّة أن تشرح هذا الجانب من الدافعيّة عبر التركيز على شدّة الدوافع كما على اتّجاهها. ووفقًا لنظريّة تحديد الذات، العمال الماهرون الذين يُعطَون فرصًا لتحسين مهاراتهم وحريّةً لأداء حِرفهم ستتولّد لديهم الدوافع الداخليّة.

ترجمة -وبتصرف- للفصل (Work Motivation for Performance) من كتاب Organizational Behavior

اقرأ أيضًا


تفاعل الأعضاء

أفضل التعليقات

لا توجد أية تعليقات بعد



انضم إلى النقاش

يمكنك أن تنشر الآن وتسجل لاحقًا. إذا كان لديك حساب، فسجل الدخول الآن لتنشر باسم حسابك.

زائر
أضف تعليق

×   لقد أضفت محتوى بخط أو تنسيق مختلف.   Restore formatting

  Only 75 emoji are allowed.

×   Your link has been automatically embedded.   Display as a link instead

×   جرى استعادة المحتوى السابق..   امسح المحرر

×   You cannot paste images directly. Upload or insert images from URL.


×
×
  • أضف...