اذهب إلى المحتوى

الشخصية والمؤسسة: تعارض أساسي


وهيبة مغربي

كيف يمكن للإداريين دفع موظفيهم إلى تقديم أفضل ما لديهم؟

تشدّد معظم النظريات الشخصية على أنّ شخصية الفرد لا تصبح كاملة إلّا إذا تفاعل مع الآخرين، فلا يحدث النمو والتطور من لا شيء. فشخصيات الفرد هي تعبير عن ثقافتنا، وثقافتنا ونظامنا المجتمعي هي مجموعة التعابير عن شخصيات الأفراد، لذلك فإنه من المهم في هذه الحالة فهم كيف يؤثر عمل المؤسسات على نمو وتطور شخصية الموظف.

اقترح كريس أرغيريس Chris Argyris نموذجًا عن العلاقات ما بين الفرد والمؤسسة، أُطلق عليه اسم **نظرية التعارض الأساسي**، وتتألف من ثلاثة أقسام: ما يريده الأفراد من المؤسسات، وما تريده المؤسسات من الأفراد، وكيف يتم التنسيق والتوفيق بين هاتين المجموعتين المتعارضتين من الرغبات.

بدأ أرغيريس بدراسة كيفية تغيّر الأفراد الطبيعيين أثناء نضوجهم. وعلى أساس أحد الأعمال السابقة، اقترح أنّه مع نمو الأفراد واقترابهم من النضوج الشخصي في العمل تحدث سبع تغيرات رئيسية في الاحتياجات والاهتمامات:

  1. يتطور الأشخاص من حالة الهمود والهدوء كأطفال إلى حالة من النشاط المتزايد عندما يصبحوا بالغين.
  2. يتطور الأشخاص من حالة الاعتمادية والإتّكالية على الآخرين إلى حالة من الاستقلال النسبي.
  3. يتطور الأشخاص من امتلاك بضعة طرق للتصرف فقط إلى امتلاك العديد من طرق التصرف المتنوعة.
  4. يتطور الأشخاص من امتلاك اهتمامات فارغة وعادية إلى امتلاك اهتمامات أقل لكن أكثر عمقًا.
  5. يتطور الأشخاص من امتلاك منظور قصير الأمد (مثلًا السلوك مُحدّد بأحداث حالية) إلى امتلاك منظور بعيد المدى (السلوك محدد بمزيج من أحداث ماضية وحالية ومستقبلية).
  6. يتطور الأشخاص من موضع المرؤوس إلى المُترأس (من طفل إلى أب أو من متدرب إلى مدير).
  7. يتطور الأشخاص من فهم ووعي قليل عن أنفسهم إلى فهم أكبر وتحكم أكبر بأنفسهم في سن البلوغ.

على الرغم من أنّ أرغيريس يعي أنّ هذه التطورات قد تختلف ما بين الأفراد، فإنّ تغير الميول والصفات العامة من الطفولة إلى البلوغ يُعتقد أنّها مشتركة إلى حد ما.

تاليًا، وجّه أرغيريس تركيزه نحو الخصائص المميزة لمؤسسات العمل التقليدية، وجادل أنّ المؤسسات في سعيها نحو الكفاءة والفعالية، أسست بيئة عمل ركّزت فيها على إنجاز العمل بشكل أكبر من إشباع أهداف ورغبات الموظفين الشخصية. من الأمثلة على ذلك زيادة تخصص المهام والتحكم والقوانين وأمور أخرى تهدف إلى الحصول على منتجات موّحدة وأشخاص موحدّين وقياسيين دون أي جانب إبداعي أو طابع شخصي. يرى أرغيريس أنّ المؤسسات في سعيها إلى هذا التوحيد والمنهجية أسست أوضاع عمل تتصف بالسمات التالية:

  1. يُسمح للموظفين بحد أدنى من التحكم بعملهم، وغالبًا ما يعطى التحكم للآلات.
  2. يُتوقّع منهم أن يكونوا ساكنين واعتماديين وتبعيّين.
  3. يسمح لهم فقط بأفق ابداعي ضيّق وقصير في عملهم.
  4. يُوضعون في وظائف تكرارية تتطلب مهارات وقدرات بالحد الأدنى.
  5. على أساس البنود الأربعة الأولى، سيكون من المتوقع أن يُنجز هؤلاء الأفراد العمل ويُساهموا في الإنتاج ولكن في ظروف ستُهيّؤ إلى الفشل النفسي وغياب الذات.

لذلك، يجادل أرغيريس أن الكثير من الوظائف في مجتمعنا التكنولوجي مبنية بطريقة تعارض الاحتياجات الأساسية لنمو شخصية سليمة للفرد العامل فيها، وهذا التعارض ممثّل في الشكل (2.3). حجم هذا الصراع بين الشخصية والمؤسسة ناتج عن عوامل متعددة. إنّ هذا الصراع يبلغ ذروته في المؤسسة عندما يكون الموظفين فيها على مستوى عالي من النضج والإبداع الفكري، ولكن المؤسسة مهيكلة ومنظمة ومُمنهجة مع قواعد وإجراءات رسمية معقدة، والوظائف مجزأة ومسيطر عليها من قبل الآلات. وبالتالي يمكننا استنتاج أنّ التعارض الأقوى يحدث في المستويات الأدنى من المؤسسة لدى عمال خط الإنتاج الأول وموظفي المكاتب، بينما يميل الإداريون إلى امتلاك وظائف أقل اعتمادًا على الآلات وأقل عرضة للقواعد والإجراءات الرسمية.

Basic Conflict Between Employees and Organizations.png

الشكل (2.3): التعارض الأساسي بين الموظفين والمؤسسات (حقوق النشر لجامعة رايس Rice ، OpenStax، تحت الرخصة CC BY-NC-SA 4.0).

حيثما توجد تعارضات قوية ما بين شخصيّات الأفراد والمؤسسات، أو بشكل أدق بين ما يريده الموظفين والمؤسسات من بعضهما البعض، يواجه الموظفين خيارات صعبة. من الممكن أن يختاروا مغادرة المؤسسة أو قد يعملون بجدٍّ لتسلق السلم الإداري والوصول إلى مستويات الإدارة العليا، ومن الممكن أيضًا أن يدافعوا عن مفاهيمهم الشخصية وأن يتأقلموا باستخدام آليات نفسية دفاعية. وأحد الاستجابات المحتملة الأخرى هي فصل أنفسهم نفسيًا عن المؤسسة (مثلًا فقدان الاهتمام بعملهم، تخفيض معاييرهم في العمل …إلخ)، وتركيزهم على المكافآت المادية المتاحة من المؤسسة عوضًا عن ذلك. من الممكن أيضًا أن يجدوا حلفاء لهم من زملائهم ينسجمون معهم، وربما يستمرون بالتكيف مع بعضهم البعض كمجموعة من خلال أنشطة سلبية معيّنة مثل تقييد الحصص والإضراب والتخريب.

لسوء الحظ، على الرغم من أنّ أنشطة كهذه قد تساعد الموظفين على الشعور بأنّهم يتغلبون نوعًا ما على المؤسسة، فإنّها في الواقع لا تحسّن من الوضع الأساسي ولا تُسهم في معالجة سبب لمشكلة. لتحقيق ذلك يجب أن يدرس المرء طبيعة وبيئة العمل. تمثل الشخصية قوة كبيرة وعاملًا أساسيًّا في تحديد سلوك الأفراد في العمل، لذلك يجب أن تُفهم بشكلٍ جيّد من قبل الإداريين قبل تطبيقهم لأي تغيير كبير يهدف إلى تحسين فعالية مؤسساتهم.

إدارة التغيير

دمج أهداف الموظفين والمؤسسة في كاياك

يرسم السيناريو أعلاه وبعدة طرق صورة قاتمة عن العلاقة ما بين الكثير من الموظفين ومديريهم، لكن يجب أن نذكر أنّ هناك العديد من الشركات التي تحاول تغيير هذه العلاقة السلبية وبناء شراكة ما بين الموظفين والشركة بحيث تحقق أهداف كلا الطرفين. لكن أثناء تحقيق ذلك تحرص هذه الشركات على أن تكون حذرة من خلال اختيار وتوظيف الأفراد الذين يمتلكون القدرة على التلائم مع ثقافة الشركة. أحد الحالات التي يمكن أن تؤخذ مثالًا هي شركة كاياك Kayak وهي شركة سفر على الإنترنت في ستامفورد ضمن ولاية كونيكتيكت الأمريكية. تسعى الشركة إلى تحقيق رضا عملائها انطلاقًا من ثقافتها وموظفيها. كان هدف أحد مؤسسيها المشاركين بول انكليش Paul English والمدير السابق لقسم التكنولوجيا توليد سير مستمر من الأفكار الجديدة والفريدة وإحاطة نفسه بأفراد وموظفين مبدعين لتنشيط حيّز الإبداع والإبتكار وتعزيز الإلهام.

لا تختار كاياك موظفيها على أساس مهاراتهم التقنية، وإنّما تعتمد فلسفتها على اختيار الموظفين الأكثر ذكاءً بين نُظرائهم. كما تُشجّع موظّفيها باستمرار على طرح أفكارهم واختبارها، وتعمل على تحقيق توازن بين العمل والحياة تضع فيه موظفيها اولًا، والذي بدوره يؤدي إلى بيئة عمل إنتاجية وإبداعية.

إنّ قدرة كاياك على اتخاذ القرارات السريعة والمُبتكرة ناتج عن تشجيعها لموظفيها على تجربة أفكارهم. يفتخر المدير التنفيذي الحالي لقسم التكنولوجيا جيورغوس زكريا Giorgos Zacharia بقدرتهم على الحفاظ على النظام والالتزام بالمواعيد، قائلًا: "يمكن أن يأتي أي فرد في الفريق بفكرة وأن يصنع نموذجًا أوليًّا لها ثم نرى رأي المستخدم والعميل بها، إذا نجحت فذلك رائع! لكن لا يوجد تصميم ثابت، فالعملية حيوية ومُتغيّرة بشكل كبير ونرى ذلك كنقطة قوة لنا."

إنّ كاياك من خلال تشجيعها ومكافأتها للمخاطرة أصبحت قادرة على اتخاذ القرارات بسرعة والنهوض من حالات الفشل بسرعة ومن ثم الالتفاف وإيجاد فكرة أكثر ابداعية أفضل من سابقتها. تأمل الشركة بشكل عام أن تقدم لموظفيها بيئة عمل تسمح لهم بالنمو والازدهار الشخصي والشعور بالرضا. بالمختصر، تهدف الشركة إلى تقليل احتمال حدوث تعارض ما بين أهداف الموظفين الشخصية وأهداف الشركة.

المصدر:

Hawkes, Jocelyn, “KAYAK on Creating a Culture of Innovation,” Fast Company, April 4, 2012. (https://www.fastcompany.com/1827003/kayak-creating-culture-innovation); Hickey, Matt, “How KAYAK Converts Employee Well-Being Into Customer satisfaction,” Forbes, October 4, 2015. https://www.forbes.com/sites/matthickey/2015/10/07/how-kayak-converts-employee-well-being-intocustomer-satisfaction/#6c97f519b7a4.

الشخصية واختيار الموظفين

شهدت السنوات الأخيرة اهتمامًا متزايدًا باستخدام اختبارات التقييم ما قبل التوظيف. هناك عدة افتراضات ومعايير مهمة عند استخدام اختبارات الشخصية كوسيلة لاختيار الموظفينالمُرشحين: (1) يملك الأفراد شخصيات وسمات مختلفة، (2) تؤثر هذه الاختلافات على سلوكهم وأدائهم، (3) تحتاج الوظائف المختلفة متطلبات مختلفة. وبالتالي، يمكن يمكن استخدام هذه التقييمات لاختيار الأفراد الملائمين لسياسة الشركة ككل ولمطابقة شخصيات وصفات هؤلاء الأفراد مع الوظائف المناسبة لهم. لكن ينبغي على الإداريين توخي الحذر عند استخدام أدوات الاختيار هذه، حيث يجب مثلًا من الناحية القانونية أن تستوفي هذه الاختبارات قوانين عدم التمييز المنصوص عليها في المبادئ التوجيهية الموحدة للجنة تكافؤ فرص العمل Equal Employment Opportunity Commission أثناء إجراءات اختيار الموظفين. على وجه التحديد، في عام 1971 حكمت المحكمة العليا (على شركة Griggs v. Duke Power) كالتالي: "إنّ النية الصافية وعدم وجود رغبة للتمييز لاتبرئكم.. تعمل آليات الاختبار لديكم عمل طواحين الهواء بالنسبة للأقليات ولا علاقة لها بقياس القدرة والمتطلّبات الوظيفية". يحوي هذا الحكم حالتين يمكن أن ينطبق عليهما وجود التمييز في عمليات الاختيار. أولًا، تشمل "المعاملة المتباينة" التمييز ضد الأفراد على أساس العرق واللون والجنس والدين أو الأصل القومي. ثانيًا، يتضمّن "التأثير المتباين" التأثير السلبي لعمليات الاختيار (وكذلك الممارسات الأخرى) على الأقليات بغض النظر عما إذا كان مقصودًا أن يكون لها تأثير سلبي أم لا. بالتالي، على الرغم من أنّ إختبارات الشخصية يمكن أن تكون وسيلة مهمة لاختيار الموظفين المرشّحين ومطابقتهم مع الوظائف المناسبة، إلّا أنه يجب توخي الحذر لضمان أن الصفات والأداء الذي يُقيّم أثناء الاختبار تنبأ بالفعل بجودة الأداء الوظيفي وكفاءة الفرد دون تحيّز أو تمييز.

القيم والأخلاقيات الشخصية

ما هو دور السلوك الأخلاقي في الإدارة؟

أحد العوامل التي فاجأت الكثير من أصحاب الأعمال هو الازدياد المفزع لاتهامات عن سلوكيات غير أخلاقية في الكثير من الشركات في يومنا هذا. نسمع باستمرار عن تزايد التلاعبات بسوق الأوراق المالية وتجاهل للمخاطر البيئية والرشاوى والعمولات. لنفهم هذه السلوكيات، يجب علينا دراسة دور القيم والأخلاقيات الشخصية في مكان العمل، وسنبدأ أولًا بمفهوم القيم.

خصائص القيم

يمكن تعريف القيم على أنّها "اعتقاد ثابت بأنّ سلوكًا معيّنًا أو وضعًا معيّنًا مفضّل شخصيًا أو اجتماعيًا على سلوك آخر." "23" بمعنى آخر، تمثل القيم حكمًا فرديًا على أمور معينة على أنّها "جيدة" أو "سيئة"، "مهمة" أو "غير مهمة" وهكذا. تلعب القيم على هذا النحو دورًا مفيدًا في توفير إرشادات أو معايير لاختيار السلوك الشخصي وتقييم سلوك الآخرين.

تميل القيم التي يمتلكها الأشخاص إلى أن تكون ثابتة مع مرور الوقت. يكمن السبب وراء ذلك في الطريقة التي اكتُسِبت القيم من خلالها في بادئ الأمر. عندما نتعلم قيمة لأول مرة (عادة في سن صغير) نُلقّن على أنّ سلوك كهذا وسلوك كهذا هو دائمًا جيد أو دائمًا سيء. على سبيل المثال، من الممكن أن نتعلم بأنّ الكذب أو السرقة هما دائمًا سلوك غير مقبول، في حين قد يتعلّم بعض الأشخاص أنّ سلوك كهذا مقبول في بعض الحالات ولكن ليس في حالات أخرى. لذلك، تميل نوعية القيم المتعلمة إلى أن تكون مغروسة في نظام معتقداتنا، لكننا لا نعني بذلك أن القيم لا يمكن أن تتغير مع مرور الوقت. مع تقدمنا في العمر، نواجه باستمرار مواقف جديدة وغالبًا ما تكون مواقف معقّدة ومتضاربة. من الضروري في الكثير من الأحيان أن نوازن المزايا النسبية لكل منها ونحتار مسار سلوكنا اتجاهها. خذ على سبيل المثال موظف يمتلك اعتقاد راسخ بالعمل المجتهد لكنه يتعرّض للضغط من قبل زملائه حتى لا يتفوّق على باقي المجموعة في أدائه، ماذا سيفعل في هذه الحالة؟

حدّد روكيش Rokeach نوعين أساسيين من القيم: آلية ونهائية. "24" تمثّل القيم الآلية القيم المتعلقة بكيفية تعاملنا مع مواقف ومواضع معيّنة، هل نؤمن مثلًا بالطموح أو النظافة أو الأمانة أو الطاعة؟ ما العوامل التي توجّه سلوكك اليومي؟ من الجهة الاخرى، القيم النهائية هي الأهداف التي نطمح إليها من هذه المواقف، يشمل ذلك الحياة المريحة، أو الإحساس بالإنجاز، أو المساواة بين جميع الأشخاص وإلى ما هنالك. كلا المجموعتين من القيم لها تأثير كبير على السلوك اليومي في العمل.

دور القيم والأخلاقيات في المؤسسات

تمثل القيم الشخصية قوة مهمة وعاملًا مؤثرًا أساسيًّا في السلوك المؤسساتي لأسباب عديدة. هناك ثلاث غايات أو أهداف في الواقع يحققها وجود القيم الشخصية في المؤسسات: (1) توّفر القيم معايير للسلوك تحدد المسار الصحيح للأفعال والنشاطات المختلفة، (2) تعمل القيم كمرشد في اتخاذ القرارات وحل النزاعات، (3) تؤثر القيم أيضًا على تحفيز الموظفين وعلى دوافعهم المختلفة. فلنناقش كل من هذه الأدوار على حدا.

معايير للسلوك. أولًا، تساعدنا القيم على تحديد المعايير المناسبة للسلوك، وتضع حدودًا لسلوكنا داخل وخارج المؤسسة. نشير في هذه المواقف إلى ما يسمى السلوك الأخلاقي أو الأخلاقيات. يتعيّن على موظفي المؤسسة في جميع المستويات اتخاذ قرارات متعلقة بتحديد ما هو صواب أو خطأ، وما هو مناسب أو غير مناسب بالنسبة لهم. على سبيل المثال، هل ستخفي معلومات عن منتج خطير أو رديء من صنع شركتك أم ستشعر أنّك مضطر إلى إخبار شخص ما؟ كيف ستتصرف حيال سرقة بسيطة قام بها المشرف عليك أو زميلك في المكتب؟ في الواقع يتأثر السلوك الأخلاقي إلى حد ما بالقيم والأعراف المجتمعية، فهي تخبرنا أنّه من الخطأ الانخراط في بعض السلوكيات دون أخرى مثلًا. بالإضافة إلى ذلك، يجب أن يحدّد الأفراد لأنفسهم في كثير من الأحيان ما هو مناسب وما هو غير مناسب. خاصة عندما يجد الأشخاص أنفسهم في "مناطق رمادية"، وهي مواقف تكون فيها المعايير الأخلاقية والتصرّف الصحيح غامضًا أو غير واضح. ففي كثيرٍ من المواقف يكون تصرّف ما غير صحيح أو غير قانوني بينما قد يكون في موقف آخر صحيحًا تمامًا، علاوة على ذلك، يمكن لزملاء أو أصدقاء الشخص أن يخالفوه الرأي بما هو مناسب. يتعيّن على الأشخاص في حالات كهذه تحديد معايير السلوك الخاصة بهم.

منظور حضارتين مختلفتين حول الحديث الصريح

يوكيكو تانابي هي طالبة تبادل أجنبي من طوكيو من اليابان، كانت متحمسة وقلقة في نفس الوقت من تكوين صداقات جديدة خلال دراستها لمدة عام كامل في الولايات المتحدة الأمريكية. بعد دورة مكثفة في اللغة الإنجليزية لمدة شهر خلال الصيف بدأت دراستها في جامعة كاليفورنيا. كانت يوكيكو في نفس صف علم النفس مع جين ماك ويليامز. رغم شخصية يوكيكو الخجولة نوعًا ما، إلّا أن الأمر لم يستغرق طويلًا قبل أن تبدأ الاثنتان بالتحدث معًا قبل وبعد الصف وبالدراسة سويًا.

في أحد المرات خلال الفصل سأل البروفيسور عن متطوعين ليكونوا جزءًا من تجربة عن الشخصيات ومهارة حل المشكلات، وعرض البروفيسور أيضًا علامات إضافية مقابل المشاركة في التجربة وطلب من الطلاب المهتمين بالأمر البقاء بعد الصف لمناقشة تفاصيل أكثر عن المشروع.

بعد انتهاء الصف، سألت جين يوكيكو عمّا إذا كانت ترغب بالبقاء ومعرفة المزيد عن المشروع والعلامات الإضافية. ترددت يوكيكو ثم قالت أنّها ليست متأكدة، أجابت جين أنّ الاستماع للشرح سيتطلب دقائق قليلة فقط، فذهبت الشابتان إلى مقدمة الصف مع 20 طلاب آخرين لسماع المزيد من التفاصيل.

يتضمن المشروع ببساطة ملء استبيان عن معالم الشخصية ثم محاولة حل ثلاث مشكلات قصيرة، والذي سيتطلب ككل ما يقارب الساعة ويساوي 5% علامات إضافية. اعتقدت جين أنّ الفكرة رائعة وسألت يوكيكو عمّا إذا كانت ترغب في المشاركة، أجابت يوكيكو أنّها غير متأكدة، أجابت جين أنّ بإمكانهما الذهاب معًا وأنّ ذلك سيكون ممتعًا وأنّ ال5% من العلامات الإضافية ستكون مكافأة جيدة، لم تجب يوكيكو على ذلك بشيء، فقامت جين بتسجيل اسم كل منهما للمشروع واقترحت أن يلتقيا في ساحة الكلية قبل 10 دقائق من موعد التجربة.

لكن في يوم التجربة لم تأتي يوكيكو، واكتشفت جين لاحقًا أنّ يوكيكو لم تكن ترغب بالمشاركة، فسألتها جين "لماذا لم تقولي ذلك ببساطة؟"، أجابت يوكيكو: "لأنّي لم أرغب في إحراجك أمام جميع أصدقائك الآخرين بقول لا".

المصدر: حادثة حصلت مع الكاتب، مع تغيير الأسماء.

قواعد ومبادئ في اتخاذ القرارات وحل النزاعات. بالإضافة إلى البنود السابقة التي ذكرناها في أهمية القيم، تعمل القيم كمرشد عند اتخاذ القرارات ومحاولة حل النزاعات. إنّ الإداريين الذين يقدّرون النزاهة الشخصية والأخلاق والقيم هم أقل عرضة لاتخاذ قرارات يعلمون أنّها قد تؤذي جهةً أو أشخاصًا آخرين. وفي نفس السياق، تؤثر القيم أيضًا على الطريقة التي يتعامل فيها الشخص مع النزاعات والخلافات. على سبيل المثال، إذا سألك مديرك عن رأيك حول تقرير كتبه ولم يعجبك مضمونه، هل ستعبر عن رأيك بصراحة أم ستكون مهذبًا وتجامله؟

أحد التطورات المثيرة للاهتمام في مجال القيم واتخاذ القرارات هو اختبارات النزاهة والأمانة. إنّ هذه الاختبارات مصممة لقياس مستوى نزاهة وأمانة الفرد وذلك اعتمادًا على فكرة أنّ سلوك الفرد النزيه أو غير النزيه وقرارته تنبع من القيم الأساسية للشخص. تستخدم اليوم أكثر من 5000 شركة هذه الاختبارات، بعضها يستخدم أسئلة مباشرة والبعض الآخر يستخدم الأسئلة بطريقة غير مباشرة ومموهة. على الرغم من أن موثوقية هذه الاختبارات تُعدُّ جيّدةً بمعظم المقاييس، إلا أن صلاحيتها (إلى أي مدى يمكنها التنبؤ بالسلوك الغير نزيه على نحو صحيح) ما زالت موضع للنقاش. مع ذلك، ونظرًا لكونها لا تكلف الكثير وأقل تطفلًا من اختبارات كشف الكذب، فإنّ اختبارات النزاهة أصبحت تُستخدم بشكلٍ متزايد لتقييم الموظفين المرشحين لوظيفة معيّنة.

التأثر على الحافز. تؤثر القيم على تحفيز الموظفين من خلال تحديد المكافآت أو النتائج المرجوة. يُعرض مثلًا على الموظفين في الكثير من الأحيان العمل لوقت إضافي وفرصة كسب المزيد من المال على حساب وقت فراغهم ووقتهم مع عائلاتهم. أيًّا منهما تختار؟ هل سترغب بالعمل بجهد أكبر لتترقى إلى رتبة أعلى ووظيفة غالبًا ما ستكون أكثر إرهاقًا أم ستفضّل الاسترخاء وتقبّل مسار مهني أبطأ وربما أقل مردودًا؟ يواجه المدراء والموظفون أسئلة مهمة كهذه يوميًا.

من أبرز القيم المرتبطة بالعمل هو مفهوم أخلاقيات العمل. يمكن تعريف أخلاقيات العمل بشكل مبسّط على أنّها قوة التزام الفرد وتفانيه نحو العمل الجاد والمجتهد، سواء على أنه غايةٌ في حد ذاته أو وسيلةٌ للوصول إلى مكافآت مستقبلية. كُتب مؤخرًا الكثير عن الوضع النسبي لأخلاقيات العمل في أمريكا الشمالية، وأُشير مرارًا وتكرارًا إلى أنّ أحد أسباب المشاكل التي تواجهها الشركات في الولايات المتحدة على مستوى السوق العالمية يكمن في أخلاقيات عملها المتواضعة. لا يعني هذا أنّ الأمريكيين لا يعملون بجد، بل يعني ببساطة أنّ الآخرين (خصوصًا في آسيا الشرقية) يعملون بجهد وجد أكبر.

هناك عدة طرائق لتقييم هذه الاختلافات، لكن ربما الطريقة الأبسط هي النظر إلى متوسط عدد ساعات العمل الفعلية في دول مختلفة في آسيا وأوروبا الغربية. بالنظر إلى الجدول (2.3) ستتفاجئ أنّه على الرغم من أنّ الموظف الأمريكي العادي يعمل 1789 ساعة في السنة (ويأخذ وسطيًا 19.5 يوم إجازة)، فإنّ الموظف في كوريا الجنوبية يعمل 2070 ساعة في السنة (ويأخذ 4.5 يوم إجازة فقط)! "26" في حين يعمل الموظف الياباني 1742 ساعة في السنة ويأخذ 9.6 يوم إجازة. وبالمقابل يعمل الموظف في أوروبا الغربية ساعات أقل ويأخذ أيام إجازة أكثر. على الرغم من أنّ الأمريكيين يعملون عدد ساعات أطول من الأوروبين، إلّا أنّهم يتخلّفون كثيرًا عن دول شرق آسيا.

متوسط عدد ساعات العمل وعدد أيام الإجازات المأخوذة لكل موظف
البلد متوسط عدد ساعات العمل في السنة عدد أيام الإجازات المأخوذة فعليًا
كوريا الجنوبية 2070 4.5
الولايات المتحدة الأمريكية 1789 19.5
دول منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية 1763  
اليابان 1742 9.6
المملكة المتحدة البريطانية 1676 22.5
ألمانيا 1288 30.2
فرنسا 1472 25
المصدر: مقتبس من OECD Stat، "متوسط عدد ساعات العمل الفعلية لكل عامل سنويًا"، حُصل عليه في 20 يوليو 2018، Average annual hours actually worked per worker; and Richard M. Steers, Yoo Keun Shin, and Gerardo R. Ungson, The Chaebol: Korea’s New Industrial Might (Philadelphia: Ballinger, 1989).

الجدول (2.3) (حقوق النشر لجامعة رايس Rice ، OpenStax، تحت الرخصة CC BY-NC-SA 4.0).

مثال عن دولة تحاول تخفيض عدد ساعات العمل

ما الذي تفعله دولة عندما يكون شعبها متحفز تحفّزًا زائدًا؟ خذ على سبيل المثال اليابان. على أثر ثراء اليابان الحديث ونجاحها في السوق الدولية، بدأت العديد من الشركات –والحكومة- تشعر بالقلق حيال إذا ما كان الموظف الياباني يعمل بجهد زائد وأنّ عليه الإبطاء، فقد يكون هذا الاندفاع الزائد على حساب صحّتهم ومصالحهم الأخرى. لذلك بدأت وزارة العمل اليابانية حملة لتقصير أسبوع العمل وتشجيع المزيد من الموظفين اليابانيين على أخذ إجازات أطول، والجهود مركّزة بشكل خاص على الموظفين متوسطي العمر والأكبر سنًا، لأنّ قدرتهم على التحمل البدني أقل من زملائهم الأصغر سنًا. بدأت العديد من الشركات باتباع هذا النهج وبدأت بتقصير أسبوع العمل. لكن هذه المهمة ليست سهلة سيّما في مجتمع ينظر فيه الموظفون إلى سلوك كهذا على أنّه فعل ينمُّ عن عدم الولاء اتجاه الشركة، أي أنّ ذلك يتطلب تغييرًا جذريًا في مواقف وسلوك الموظفين.

في نفس الوقت كان الأمر مختلفًا لدى الموظفين الشباب، حيث بدأت الشقوق تظهر في أخلاقيات العمل اليابانية الفريدة لديهم. إذ بدأ الموظفون الشباب بالتعبير عن الإحباط المتزايد بسبب الوظائف المملة والمهام الروتينية، ويبدو أنّ الرضا الوظيفي لديهم أصبح في أدنى مستوياته على الإطلاق. وما انفك الموظفون اليابانيون الشباب يأخذون استراحات غداء أطول وأصبحو يتطلعون إلى نهاية أسبوع العمل وإلى عطلة نهاية الأسبوع القادمة. سواءً أكان ذلك نتيجة للثراء المتزايد في مجتمع متغير أو ببساط نتيجة لظهور جيل جديد، فإنّ الأمور بدأت بالتغير –لكن ببطء- في الشرق.

ترجمة -وبتصرف- للفصلين Personality and Organization: A Basic Conflict و Personal Values and Ethics من كتاب Organizational Behavior


تفاعل الأعضاء

أفضل التعليقات

لا توجد أية تعليقات بعد



انضم إلى النقاش

يمكنك أن تنشر الآن وتسجل لاحقًا. إذا كان لديك حساب، فسجل الدخول الآن لتنشر باسم حسابك.

زائر
أضف تعليق

×   لقد أضفت محتوى بخط أو تنسيق مختلف.   Restore formatting

  Only 75 emoji are allowed.

×   Your link has been automatically embedded.   Display as a link instead

×   جرى استعادة المحتوى السابق..   امسح المحرر

×   You cannot paste images directly. Upload or insert images from URL.


×
×
  • أضف...