سنسلّط الضوء في هذا المقال على ناحيتين من عمليّة النزاع. سنحدّد أوّلًا عدّة عوامل تساهم في النزاع. سنراجع بعد ذلك نموذجًا لعمليّة النزاع في المؤسّسات.
لم تحدث الكثير من النزاعات في بيئة عمل المؤسّسات
هنالك عدد من العوامل الّتي تُكثر من حدوث النزاع المؤسّساتيّ في ظروف معيّنة. يلخّص روبرت مايلز (Robert Miles) ما كُتب حول هذا الموضوع عبر الإشارة إلى عدة أمثلة.
- ترابط المهام (task interdependencies). العامل الأوّل هو طبيعة الترابط بين المهام. كلمّا زاد مدى الاعتماد المتبادل في المهام بين الأفراد أو المجموعات (أي كلّما كان عليهم العمل معًا أو التعاون لتحقيق هدف مشترك) زاد احتمال النزاع في حالة وجود توقعات أو أهداف مختلفة بين الفريقين. يعود ذلك جزئيًّا لكون ترابط العمل هذا يصعّب تجنّب النزاع. ويحدث هذا جزئيًّا لكون الترابط بين المهام العالية يزيد من حدّة العلاقات والمناقشات. وبالتالي يمكن أن ينفجر الخلاف الصغير بسرعة كبيرة إلى قضيّة وخلافٍ جوهري بين الأطراف.
- تناقضات الوضع (status inconsistencies). العامل الثاني هو التناقضات في الوضع بين أطراف النزاع. يتمتّع المديرون مثلًا في العديد من المؤسّسات بالحقّ في أخذ إجازة شخصيّة خلال أيام العمل لقضاء مهامّ شخصيّة وما إلى ذلك، في حين أنّ الموظّفين غير الإداريّين لا يحقّهم لهم ذلك. ضع في حسبانك الأثر الّذي يمكن أن يُحدثه ذلك على وجهة نظر غير المديرين لسياسة المؤسّسة والعدالة فيها.
- غموض الصلاحيّات (jurisdictional ambiguities). يمكن أن ينشأ النزاع أيضًا من غموض الصلاحيّات؛ أي الحالات الّتي لا يكون فيها واضحًا على من تقع مسؤولية أمرٍ ما. على سبيل المثال، يُجرى تعيين موظّف جديد في العديد من المؤسسات بعد تقييم المُتقدّمين من قبل قسم شؤون الموظّفين والقسم الّذي يحتوي على الشاغر. وبما أنّ كلتا الإدارتين مُنخرطتان في عمليّة التوظيف، ما الّذي سيحدث عندما يريد قسم توظيف فرد ما لكنّ القسم الآخر لا يريده؟
- مشاكل التواصل (communication problems). إن مشاكل التواصل أو وجود الغموض في عمليّة التواصل يمكن أن يولّد النزاع أيضًا. غالبًا ما يستجيب الشخص بإحباط وغضب عندما يسيء شخص ما فهم رسالة ما أو عندما تُحجب بعض المعلومات عنه.
- الاعتماد على الموارد المشتركة (Dependence on Common Resource Pool). عامل آخر ناقشناه سابقًا يساهم في النزاع هو الاعتماد على الموارد المشتركة. لا مفرَّ من النزاع عندما يتعّين على العديد من الإدارات التنافس على الموارد الشحيحة. عندما تكون الموارد محدودة تبدأ معركة الحصول عليها وتتولّد النزاعات للفوز بتلك الموارد، وفي النهاية تفوز بها جهة ما وتخسر جهة أخرى دائمًا.
- عدم وجود معايير أداء مشتركة (Lack of common performance standards). تولّد الاختلافات في معايير الأداء وأنظمة المكافآت فُرصًا أكبر للنزاع في المؤسّسات. يحدث هذا بسبب نقص معايير الأداء المشتركة بين المجموعات المختلفة داخل المؤسّسة ذاتها. على سبيل المثال، يُكافأ موظّفو الإنتاج على كفاءتهم، وتُقاس هذه الكفاءة عبر إنتاج عدد قليل من المنتجات على المدى الطويل. من ناحية أخرى، تُكافأ إدارات المبيعات على استجابتها قصيرة المدى لتغيّرات السوق، وذلك غالبًا على حساب كفاءة الإنتاج على المدى الطويل. ينشأ النزاع -في مثل هذه الحالاتعندما تحاول كلّ وحدة تلبية معايير الأداء الخاصّة بها.
- الفروقات الفرديّة (Individual Differences). أخيرًا، يمكن لمجموعة متنوّعة من الاختلافات الفرديّة (مثل القدرات الشخصيّة والسمات والمهارات) أن تؤثّر تأثيرًا كبيرًا على طبيعة العلاقات الشخصيّة. تؤثّر الهيمنة الفرديّة والعدوانيّة والتسلّط وتحمّل الغموض، تؤثّر جميعها على كيفيّة تعامل الفرد مع النزاع المُحتمل. والواقع أن هذه الخصائص تحدّد ما إذا كان النزاع سوف ينشأ منذ البداية أم لا.
نموذج عملية النزاع
بعد الحديث عن بعض العوامل المعروفة لإثارة النزاع يمكننا أن ننتقل إلى كيفيّة حدوث النزاع في المنظمات. طوّر كينيث توماس (Kenneth Thomas) النموذج الأشمل لعملية النزاع. يتكوّن هذا النموذج كما هو موضّح في الشكل 14.3 من أربع مراحل، وهي: (1) الإحباط (2) التصوّر (3) السلوك (4) النتيجة.
المرحلة (1): الإحباط (Frustration). تنشأ حالات النزاع عندما يشعر فرد أو مجموعة ما بالإحباط أثناء السعي لتحقيق أهداف مهمّة بالنسبة لهم. قد تكون العديدُ من العوامل سببًا في هذا الإحباط، بما في ذلك الخلاف حول أهداف الأداء أو الفشل في الحصول على ترقية أو زيادة الأجور أو النزاع على الموارد الاقتصاديّة النادرة أو القواعد أو السياسات الجديدة. يمكن أن نعزو معظم أسباب النزاع حقيقةً إلى حالات الإحباط من أيّ شيء تهتمّ به مجموعة أو فردٌ.
المرحلة (2): التصوّر (conceptualization). تحاول أطراف النزاع في المرحلة الثانية فهم طبيعة المشكلة وماهيّة الحلّ الّذي تريده وما الحل الّذي يريده خصومها في اعتقادها والاستراتيجيّات المختلفة التي يشعرون أنّ كل أطراف النزاع عليها تطبيقها لحلّ النزاع. هذه المرحلة هي حقًّا مرحلة حلّ المشكلات. على سبيل المثال، عندما تتفاوض الإدارة والنقابات حول العقود يُحاول كلا الجانبين تحديد النقاط الجوهريّة بالنسبة له وما يمكن المساومة عليه مقابل تلك الاحتياجات ذات الأولويّة.
المرحلة (3): السلوك (behavior). المرحلة الثالثة في نموذج توماس هي السلوك الفعليّ. تحاول أطراف النزاع في مثل هذه الحالات تطبيق حلّها عن طريق التنافس أو التكيّف على أمل حلّ المشكلات مستقبلًا. تتمثّل المهمّة الرئيسيّة هنا في تحديد أفضل السبل للمضيّ قُدمًا رغم الخلافات والنزعات. أي ما هي الاستراتيجيات الفُضلى التي ستُستخدّم لمحاولة حلّ النزاع؟ حدّد توماس خمسة استراتيجيات لحلّ النزاع موضّحةً في الشكل 14.3، وهذه الاستراتيجيات الخمس هي: (1) التنافس (2) التعاون (3) المساومة (4) التجنّب (5) التأقلم. يظهر في الشكل أيضًا المواقف الأكثر ملاءمة لكل استراتيجيّة.
الشكل 14.3 نموذج لعمليّة النزاع المصدر: مقتبس منKenneth Thomas, “Conflict and Conflict Management,” in M. D. Dunnette (ed.), Handbook of Industrial and Organizational Behavior (New York: Wiley, 1976), p. 895. (حقوق النشر: جامعة Rice، منظّمة OpenStax، مرخّصة برخصة المشاع الإبداعيّ CC-BY 4.0).
يعتمد اختيار حل النزاع المناسب إلى حدٍّ كبير على الظروف المحيطة وأهداف المجموعة ذاتها، يوضّح الشكل 14.4 هذا بيانيًّا. ووفقًا لهذا النموذج، يجب أن يُحدّد كلّ طرف مدى الحزم (assertiveness) لديه؛ وهو مدى اهتمامه وعزمه على تلبية حاجاته الخاصة، بالإضافة إلى تحديد درجة التعاون (cooperativeness) لديه؛ وهي مدى اهتمامه ومرونته واستعداده للمساعدة في تلبية حاجات المنافس. يمكن أن يتراوح مستوى الحزم من حازم إلى غير حازم، ويمكن أن يتراوح مستوى التعاون من المتعاون إلى غير المتعاون. بمجرد أن يحدّد الطرفان توازنهما المنشود بين رغباتهما المتنافسة -إمّا بالوعي أو باللاوعي- تظهر استراتيجيّة الحلّ. على سبيل المثال، إذا شعر المفاوض النقابيّ بالثقة في الفوز في قضيّة ذات أهميّة رئيسيّة لأعضاء النقابة (مثل الأجور) فقد يُختارُ وضع المنافسة المباشرة (انظر إلى الزاوية العلويّة اليسرى من الشكل 14.4). من ناحية أخرى، عندما تكون النقابة غير مبالية بمشكلة ما أو عندما تدعم بالفعل رغبات الإدارة (مثل سلامة المصنع) فإنّنا نتوقّع وضع التأقلم أو التعاون (على الجانب الأيمن من الشكل).
الأوضاع الخمسة لحلّ النزاع | |
---|---|
أوضاع التعامل مع النزاع | مواقف ملائمة |
المنافسة |
1. عند ضرورة اتّخاذ إجراء سريع وحاسم مثل حالات الطوارئ. 2. في القضايا المهمّة الّتي يجب فيها تطبيق إجراءات غير مُحبّبة، مثل تخفيض الأجور وإجراءات الانضباط. 3. في القضايا الحيويّة للشركة والّتي تعرف أنّك على حقّ بشأنها. 4. ضدّ من يستغلّ السلوك غير التنافسيّ. |
التعاون |
1. عندما تحاول إيجاد حل وسيط، وتكون حاجتي طرفي النزاع أثمن من أن يساوِما عليها. 2. عندما يكون هدفك أن تتعلّم. 3. عندما تدمج مناظير وآراء مختلفة من عدد من الأشخاص. 4. عندما تكون المخاوف المختلفة مُشتركةً وتتطلّب الحصول على اتّفاق جماعيّ. 5. عندما تحاول تجاوز مشاعر تداخلت مع علاقة ما. |
المساومة |
1. عندما تكون الأهداف مهمّة لكنّها لا تستحقّ الجهد أو الإزعاج الممكن حدوثه في الأوضاع الأحزَم. 2. عندما يلُتزم المنافسون ذوو السلطة المماثلة بالأهداف المشتركة. 3. عندما تحاول الوصول لمساومات مؤقّتة حول مواضيع معقّدة. 4. عند الوصول لحلول مواتية تحت ضغط الوقت. 5. بديل لعدم نجاح التعاون أو المنافسة. |
التجنّب |
1. عندما تكون المشكلة غير مهمّة أو عندما توجد قضايا أهمّ. 2. عندما لا ترى فرصةً لتحقيق رغباتك. 3. عندما تتفوق آثار المشكلة السلبيّة على فوائد الحلّ. 4. عندما تريد إتاحة فرصة للآخرين لتهدئة الأعصاب. 5. عندما يكون جمع المعلومات أهمّ من اتّخاذ القرار فورًا. 6. عندما يستطيع الآخرون حلّ النزاع بكفاءة أكبر. 7. عندما تبدو القضيّة مُتاخمةً أو متعلّقة بقضايا الآخرين. |
التأقلم |
1. عندما تكتشف أنّك على خطأ، لتسمح بالاستماع لموقف جديد وللتعلّم ولإظهار عقلانيّتك. 2. عندما تكون القضايا أهمّ للآخرين منك، من أجل إرضاء الآخرين والحفاظ على التعاون. 3. عندما تريد استخدام الرضا وسيلةً للضغط في القضايا القادمة. 4. عندما تريد الحدّ من الخسائر. 5. عندما يكون الانسجام والاستقرار مهمّين جدًّا. 6. عندما تودّ السماح لمرؤوسيك بالتطوّر عبر التعلّم من أخطائهم. |
المصدر: مقتبس من K. W. Thomas, “Toward Multidimensional Values in Teaching: The Example of Conflict Behaviors,” Academy of Management Review 2 (1977), Table 1, p. 487. |
الجدول 14.1 (حقوق النشر: جامعة Rice، منظّمة OpenStax، مرخّصة برخصة المشاع الإبداعيّ CC-BY 4.0).
الشكل 14.4 مقاربات حلّ النزاع المصدر: مقتبس من Adapted from Kenneth Thomas, “Conflict and Conflict Management,” in M. D. Dunnette (ed.), Handbook of Industrial and Organizational Behavior (New York: Wiley, 1976), p. 900. (حقوق النشر: جامعة Rice، منظّمة OpenStax، مرخّصة برخصة المشاع الإبداعيّ CC-BY 4.0).
المثير للاهتمام في هذه العمليّة هو الافتراضات الّتي يضعها الأشخاص حول أوضاعهم الخاصّة مقارنةً بمنافسيهم. على سبيل المثال، بيّنت إحدى الدراسات حول المديرين التنفيذيّين أنّهم يرون أنّهم يستخدمون التعاون أو المساومة لحلّ النزاع، في حين أنّ هؤلاء المديرين التنفيذيين أنفسهم يرون خصومهم يستخدمون المنافسة فقط تقريبًا. وبعبارة أخرى، فإنّ المديرين التنفيذيّين قلّلوا من شأن مخاوف خصومهم. وبشكل مماثل بالغ المديرون التنفيذيّون في رؤية استعدادهم لإرضاء الطرفين في النزاع.
المرحلة (4): النتيجة (outcome). وأخيرًا، يحدّد كلا الجانبين مدى الرضا عن الحلّ الناتج عن جهود حلّ النزاع. عندما لا يشعر أحد أطراف النزاع بالرضا أو يشعر بالرضا الجزئي فحسب تُزرع بذور السخط مؤهّبةً لنزاع لاحق. كما هو موضّح في الشكل السابق 14.2. يمكن لنزاع واحد لم يُحلّ أنّ يمهّد الطريق لنزاع آخر. إنّ العمل الإداريّ الّذي يهدف إلى تحقيق حلّ سريع ومرضٍ أمرٌ جوهريّ، كما إنّ الفشل في الشروع في مثل هذا الإجراء يخلّف إمكانيّة ظهور نزاعات جديدة مستقبلًا.
ترجمة -وبتصرف- للفصل (Conflict and Negotiations) من كتاب Organizational Behavior
أفضل التعليقات
لا توجد أية تعليقات بعد
انضم إلى النقاش
يمكنك أن تنشر الآن وتسجل لاحقًا. إذا كان لديك حساب، فسجل الدخول الآن لتنشر باسم حسابك.