كيف كانت الإدارة البيروقراطية والتنظيمية مكمِّلة للإدارة العلمية، قد تتساءل. في الواقع كتبَ هنري فايول (1841-1925) وماكس فيبر (1864-1920) إسهامات مكمِّلة للمبادئ الأربعة لنموذج الإدارة العلمية التي وضعها تايلور. في حين كان تايلور يركِّز على المديرين الذين يتعاملون مع العاملين مباشرة، ركَّز فايول على المديرين في مستوى الإدارة العليا الذين يضعون الاستراتيجيات، وركَّز فيبر على المديرين في مستوى الإدارة الوسطى الذين ينفِّذون الاستراتيجيات. على الرغم من تباين وُجهات النظر تجاه الإدارة بين كلٍّ من تايلور وفايول وفيبر، إلا أنّ جميعهم أكّدوا ونوّهوا على ضرورة وجود نظامٍ معياري مُمنهج يتّصف بتسلسلٍ منطقي وعقلاني لتنظيم أنواع مختلفة من الشركات والرقابة عليها.
كان هنري فايول مهندس تعدين تنفيذي من أصل فرنسي، وقد كان مُعظم تحصيله العلمي بعد الحرب الفرنسية البروسية التي حدثت ما بين عامي 1870 و1871. كان فايول يسعى إلى تطوير نظرية إدارية من أجل زيادة الكفاءة ومن ثمَّ تعزيز الاقتصاد الفرنسي. حذا فايول حَذو تايلور في تقدير المعرفة والخبرة أكثر من التقاليد، ولكنَّه -بخلاف تايلور- كان يركِّز على الإدارة العامة للشركة بدلًا من التركيز على المهام الفردية اللازمة لتنفيذ العمل. ركَّز فايول أيضًا على التفاعلات الاجتماعية إجمالًا [تحدُث بين من؟ الشركة مع شركات أخرى؟ داخل الشركة فقط؟]. يفسَّر هذا الاختلاف بأنَّ تايلور كان مهتمًا بتوجيه سلوك العاملين وأدائهم وهو مجال اختصاص المديرين في مستوى الإدارة المباشرة، بينما صبّ فايول اهتمامه على توجيه وتنسيق المؤسسة بأكملها وهو مجال اختصاص المديرين في مستوى الإدارة العليا. أحد الاختلافات البارزة الأخرى بين تايلور وفايول هو أنَّ تايلور أعطى أهمية كبيرة لنظام المكافآت المالية، في حين كان توجّه فايول بأنَّ الناس لا يعملون فقط من أجل المال. أعظم إسهام لفايول هو سعيه إلى وضع منهج يساعد المديرين في مستوى الإدارة العليا على تحديد مسار شركاتهم.
قدَّم فايول ثلاث مبادئ رئيسية تتعلَّق بالإدارة. أولى هذه المبادئ هو تأكيده على ضرورة وحدة إصدار الأوامر (unity of command) ويُقصد بذلك أنَّه ينبغي على إدارة الشركة أن تتحدَّث بصوت واحد. في نظام تايلور كان العامل تحت إمرة العديد من أرباب العمل، قد يصل عددهم إلى ثمانية مديرين، كلُّ واحدٍ منهم يأمره بتنفيذ العمل ذاته بطريقة مُختلفة، وهذا ما قد يجعل العامل في حيرةً من أمره. في حين أكَّد فايول على أهمية المرونة وأقرَّ بأنَّ الإدارة والنفوذ يجب أن يُصاحبهما مسؤوليّات ووواجبات، كما أكَّد على أنَّه ينبغي على الإدارة الحفاظ على وحدة إصدار القرار والتي تضمن أنَّ كل مشرف سيشرح لكل موظف في مجموعته أو قسمه جوانب العمل التي يتوجَّب عليه التركيز عليها. كل مشرف يتلقَّى التوجيهات والمعلومات من المديرين الأعلى منه وينقل تلك المعلومات إلى المستويات الإداريّة التي تليه وهكذا حتى تصل إلى العامل.
الإسهام البارز الثاني الذي قدَّمه فايول هو إقراره بأنَّ العاملين كانوا أكثر ما يهتمون بالجوانب الاجتماعية المرتبطة بعملهم إلى جانب اهتمامهم بالمكافآت المالية التي يتلقونها مقابل إنجاز العمل المطلوب. أدرك تايلور جيِّدًا الجوانب والضغوطات الاجتماعية المرتبطة بالعمل وحاول الحدّ منها، فقد سعى فايول إلى استغلال هذه النواحي فيما يعود بالنفع على العمل عن طريق الاهتمام بتنمية روح العمل الجماعي بين العاملين. يُشير مصطلح روح العمل الجماعي (esprit de corps) إلى تماسك العاملين في مجموعة أو قسم معين وارتباطهم بأهدافهم وأهداف زملائهم حتى في ظل الشدائد واعتزازهم لكونهم أعضاء وزملاء في المؤسسة ذاتها. أكَّد فايول على أنَّ التواصل المستمر مع العاملين هو الوسيلة الأنجع لخلق روح العمل الجماعي وتعزيز التزامهم بأهدافهم الشخصية وأهداف المؤسسة التي يعملون فيها.
من إسهامات فايول المهمة أيضًا تأكيده على مفهوم العدالة داخل المؤسسة وعلى أنَّ المؤسسة يتوجَّب عليها البتُّ في القضايا بعدلٍ وإنصاف. يمكن للمديرين بهذه الطريقة الحد من تحيُّزاتهم ومشاعرهم الشخصية التي قد تؤثِّر على قراراتهم.
أصبحت أفكار فايول تُعرف بنظرية التقسيم الإداري في وقتنا الحالي، وتتكوَّن هذه النظرية من 14 مبدأ إداري. تبيِّن هذه المبادئ أنواع المهام التي من المفترض أن يؤدِّيها المديرون، ولا تزال تُطبَّق حتى يومنا هذا، ولكن تختلف طريقة تطبيقها باختلاف ثقافة الشركة ومدى استخدامها للتكنولوجيا. على سبيل المثال، سيكون لدى المجتمعات التي تهتم بالمنجزات الفردية أنظمة تعويضات ومُكافآة مختلفة عن تلك التي تهتم بالإنجازات والعمل الجماعي.
مبادئ الإدارة الأربعة عشر التي وضعها هنري فايول هي:
- تقسيم العمل
- السلطة
- الانضباط
- وحدة إصدار الأوامر (وحدة القرار)
- وحدة التوجّه
- خضوع المصلحة الفردية للمصلحة العامة
- المكافأة والتعويض
- المركزية
- تدرج السلطة
- النظام
- العدالة والمساواة
- الحدّ من تأثير التوجّهات الشخصيّة
- روح المبادرة -يجب أن تُتاح الفرصة أمام العمّال والموظّفين لإبداء آرائهم وطرح أفكارهم وخططهم.
- روح العمل الجماعي
بالإضافة إلى المبادئ الأربعة عشر، حدَّد فايول خمس وظائف للإدارة وهي:
- التخطيط
- التنظيم
- التوظيف
- الرقابة
- التوجيه
تصف كل وظيفة من هذه الوظائف ما ينبغي على المديرين القيام به بصفة يومية. على الرغم من تغيَّرت وظائف الإدارة على مرّ السنين إلّا أنّها اعتمدت على ما وضعه فايول. وضَّح فايول ما يقوم به المدير وكيف أنَّ كل عملٍ في الهرم الإداري مُرتبط ومُتعلّق بغيره.
ماكس فيبر عالم اجتماع ألماني قدَّم إسهامات بارزة مكمِّلة لنظام الإدارة الذي طوَّره تايلور، كما أسهم في علوم الاقتصاد والاجتماع. ألّف فيبر معظم أعماله في بداية التسعينيات من القرن التاسع عشر ثمَّ تابع تأليفه بعد عام 1904 عندما عاد للكتابة مجدَّدًا. يُكنُّ علماء الاجتماع تقديرًا كبيرًا لفيبر ويعتبرونه أبًا لهذا المجال.
أكَّد فيبر على أنَّ علماء الاجتماع لا يمكنهم فهم الجماعات إلَّا من خلال فهم الأفعال التي يقوم بها الأفراد. من السلوكيات الفردية التي قام فيبر بدراستها هي أنواع القيادة، وقد حدَّد ثلاثة أنواع من القيادة وهي: السلطة الكاريزمية (العائلية والدينية) والسلطة التقليدية (البطاركة والزعامة الأبوية والإقطاعية) والسلطة القانونية (القانون المعاصر والدولة والبيروقراطية). تمثّل إسهام فيبر في الإدارة في تطوير وفهم نموذج القيادة العقلانية القانونية الذي أكَّد فكرة أنَّ القادة ينبغي عليهم اتخاذ القرارات استنادًا إلى الأنظمة والسوابق القانونية والأحكام وليس بناءً على الأهواء. قطع فيبر أشواطًا أكثر من الباحثين السابقين ووضَّح سبب نشوء الأنظمة البيروقراطية وغيرها من النتائج إِثر التحوُّل الصناعي الكبير.
يذكر فيبر بأنَّ كلًّا من الثورة الصناعية وثورة المواصلات أدَّت إلى اتساع المناطق التي بحاجة إلى إدارة. ساعدت الحاجة إلى إدارة مناطق أكبر وأشخاص أكثر على ظهور البيروقراطية وهي نظام مكوَّن من قواعد ثابتة تُدار بحيادية. لقد تطلَّب اقتصاد السوق المتوسِّع إدارة كُفؤ لتنظيمه، كما أن التطوّر الهائل الذي شهده مجال الإتصالات والمواصلات ساهم في تحسين أساليب الإدارة وكفائتها. أبرز إسهام قدَّمه فيبر للإدارة الحديثة هو ابتداع البيروقراطية الحديثة، على الرغم من أنَّ البيروقراطية بدأت عند الصينيين القدماء، إلّا أن النموذج الذي قدّمه فيبر كان مُختلفًا إلى حدٍّ كبير حيث تُتخَذ القرارات في البيروقراطية بطريقة منهجية وليس وفق ما يشعر المدير بأنَّه صواب. أكَّد فيبر على أنَّ المعرفة والأسس العلميّة يجب أن تكون الأساس الذي تقوم عليه عمليتا التوظيف والترقية في البيروقراطية وليس الظروف العِرقيّة المُحيطة بالعامل، وقد تصادم هذا التوجّه مع السياسات والتوجّهات العُنصريّة التي سادت كلًّا من أوروبا والولايات والولايات المتحدة في ذالك الوقت. كما أكَّد على أنَّه يتوجَّب على الإداريين البيروقراطيين أن يتخذوا القرارات بناءً على مجموعة من القواعد وليس بناءً على الأهواء. تحمل كلمة «بيروقراطية» دلالات سلبية في عقل القارئ المعاصر، ولكنَّها شكّلت تحسُّنًا كبيرًا لما كان يحدث سابقًا، إذ لم يكن الإدارييون قبل ظهور فيبر ملزمين بتبرير أسباب اتخاذهم لقرارات معيَّنة، كما لم يكونوا ملزمين باتخاذ القرارات بالاستناد إلى قواعد محدَّدة. كانت كلٌّ من عملية التوظيف والترقية تقومان على المحاباة والمحسوبية، وهذا يختلف كثيرًا عن ما يُعرف بالحكم بالجدارة (أو الميريتوقراطية) في وقتنا الحالي.
فيما يلي قواعد البيروقراطية المثالية:
- الأدوار المخصَّصة
- التوظيف استنادًا إلى الجدارة
- مبادئ موَّحدة للتوظيف والترقية والنقل
- الترَّقي في الوظيفة في ظل وجود هيكل رواتب محدَّد
- التدرج الوظيفي، والمسؤولية، والمساءلة
- إخضاع السلوك الرسمي لقواعد صارمة من الانضباط والرقابة
- سيادة القواعد المجرَّدة
- السلطة الموضوعية
على الرغم مما سبق فقد كان هناك جانب سلبي لهذا المنهج الإداراي الجديد، إذ أنَّ البيروقراطية كانت تحمي الإداريين البيروقراطيين من مسؤوليّاتهم ومبادراتهم الشخصيّة، والأسوأ من ذلك؛ أنّها قد تقودهم إلى الانخراط في أنشطة إجرامية. لاحظ عالم الاجتماع الأمريكي روبرت ميرتون أنَّ القوانين في النظام البيروقراطي يمكن أن تصبح أكثر أهمية من الأهداف الفعلية، ويقول ميرتون في كتاباته:
اقتباستتطلَّب البيروقراطية الفعَّالة مصداقية الاستجابة وتمسُّك شديد بالقوانين والأنظمة الموضوعة. (2) يؤدِّي هذا التمسُّك بالقوانين إلى تحوُّلها إلى أوامر مُطلقة؛ أي أنَّ النظرة إليها يُصبح بمعزلٍ عن الأهداف. (3) يتعارض هذا مع المرونة والقابلية للتأقلم في ظل ظروف خاصة لم يتوقعها الأشخاص الذين وضعوا القواعد العامة. (4) نتيجة لذلك؛ فإنَّ نفس القواعد التي تُساعد على زيادة الفعاليّة في الحالات والظروف العامّة تؤدّي إلى تخفيض الفعاليّة في الظروف الخاصّة التي تتطلّب تأقلمًا وانجرافًا بسيطًا عن القوانين الموضوعة. نادرًا ما يصل الأفراد الذين لم يتجاهلوا المغزى من القواعد الموضوعة إلى الإدراك التام بعدم ملاءمتها وقصورها في تلك الحالات. تصبح هذه القواعد رمزية بمرور الزمن بدلًا من أن تكون هادفة للنفع.
من القضايا الأخرى المتعلِّقة بالبيروقراطية هي اهتمامها الكبير بالسلطة القانونية لدرجة جعلتها تتجاهل عوامل مهمة أخرى. أول عامل من هذه العوامل هو أنَّ قوانين البيروقراطية غالبًا ما تكون قاصرة وغير مكتملة نتيجة وجود مشكلات في التواصل والإلمام الكاملين لجميع الظروف الممكنة، وغالبًا ما يتم التخلي عن هذه القوانين بدلًا من إكمالها، كما لا يُمكن أن يتطرَّق أي قانون إلى جميع النتائج أو الأحداث الممكنة. الأمر الآخر هو أنَّ المؤسسات ذات النظام البيروقراطي تجاهلت تأثير العلاقات الشخصية واعتمدت غالبًا على العقل والمنطق عند اتخاذ القرارات. غالباً ما يكون سبب التزام الأشخاص بالقوانين واتّباع أرباب عملهم ناتجًا عن إعجابهم بشخصيّة رب العمل ذاته وليس بسبب سلطته القانونية. إنَّ المديرين الذين لا يستخدمون إلا السلطة القانونية من أجل رفع أداء الموظفين سيحصلون على نتائج محدودة. (قم بالاطلاع على المقالة التي تتحدَّث عن القيادة)
قدَّم كل من فايول وفيبر إسهامات مهمة للإدارة. إنَّ أفكار فايول تعدُّ أساس الاستراتيجيات الحديثة لأنَّه حاول استنتاج الأنشطة التي ينبغي على المديرين القيام بها، وقد أغنت أفكاره الفكر الإداري فيما يتعلَّق بالقواعد التي يجب على المديرين اتّباعها لكي يضمنوا تعاون العاملين والتزامهم معهم. على نحوٍ مماثل، نجد أنَّ أفكار فيبر واضحة جدًا في مجال إدارة الموارد البشرية، حيث أشارت إلى أنَّ على المديرين اتخاذ القرارت اعتمادًا على قواعد ونُظم مُحدّدة وليس وِفقًا لأهوائهم. يمكننا أن نرى بأنَّ أفكار هذين الرجلين المتعلِّقة بالهيكلية الإدارية والتسلسل الإداري لا تزال لها تأثيرات ووقعها الكبير على الإدارة في وقتنا الراهن.
ترجمة -وبتصرف- للفصل Administrative and Bureaucratic Management من كتاب Principles of Management
اقرأ أيضًا
- المقال التالي: حركة العلاقات الإنسانية
- المقال السابق: الثورة الصناعية في عالم الإدارة
أفضل التعليقات
لا توجد أية تعليقات بعد
انضم إلى النقاش
يمكنك أن تنشر الآن وتسجل لاحقًا. إذا كان لديك حساب، فسجل الدخول الآن لتنشر باسم حسابك.