سنكمل رحلتنا في رحاب سلسلة مقالاتنا الفريدة عن مبادئ الإدارة في بابها الثالث عشر والذي يدور في فلك مفهوم جوهريّ في عالم إدارة الأعمال، ألا وهو مفهوم القيادة، ستحمل مقالات هذا الباب في طيّاتها كمًّا رحبًا من المعلومات التي ستحتاجها كلُّ مؤسسة تخطّط وتضع نُصبُ أعينها النجاح في سوق المنافسة العصري الشديد. خلال مقالاتنا القادمة سنطرح العديد من المفاهيم المتعلّقة بطبيعة عمليّة القيادة وعناصرها ضمن المؤسسة وكيفيّة تفاعل هذه العناصر مع بعضها، كما سنستعرض كيف يؤثر القادة على أتباعهم ويحثّونهم على العمل، سنخوض أيضًا في نظريات السمات والنظريات السلوكيّة والنظريات الموقفيّة في القيادة، وسنشرح أيضًا المقصود ببدائل القيادة ونسلّط الضوء على خصائص القيادة التبادلية والتحويلية والكاريزمية، وفي ختام هذا الباب سنستطلع كيف تؤثر مناهج وأساليب القيادة المختلفة على متطلبات عصرنا الحالي.
استكشاف المهن الإدارية
جون أرويو، مدير فريق (Springfield Sea Lions)
لقد شعر جون أرويو بالسعادة عندما حصل على منصبه الجديد، ألا وهو المدير العام لفريق (Springfield Sea Lions) والذي يلعب في دوري مُصغر للبيسبول. لقد كان أرويو من عشاق رياضة البيسبول طيلة حياته، ويبدو الآن أنَّ عمله الدؤوب ودراسته للإدارة الرياضية يؤتيان ثمارهما.
أدرك جون الصعوبة التي سوف تواجهه صعوبة في أن يكون خلفًا جيِّدًا للمدير العام السابق "تي جي جريفين"، الذي كان متمرِّسًا ومحبوبًا كثيرًا من قِبل فريق (Springfield Sea Lions)، والذي كان معهم خطوة بخطوة منذ بداية نشأة الفريق قبل 14 عامًا. كان جون مُدركًا لتلك الصعوبة، ولكنه لم يكن مُدركًا لمدى الهوان وقلّة الحيلة اللذان ينتظرانه. لقد جرَّب أن يرفع من معنوياته ببعض الكلمات المشجِّعة: «أنا المدير العام -الرئيس التنفيذي لهذا النادي! سوف يحترمني طاقم العاملين مع مرور الوقت.»
كان يشعر جون بالإحباط بعد أن انتهى الموسم الأول. لقد انخفضت مبيعات التذاكر والامتيازات الممنوحة، وأُشيع أن بعض الموظفين الذين عملوا مع الفريق منذ فترة طويلة يفكِّرون في ترك أعمالهم. كان جون يعلم أنَّ فترة إدارته لفريق (Springfield Sea Lions) ستكون قصيرة إن لم يتمكَّن من تغيير مجرى الأمور.
تساؤلات: هل سيتحقَّق افتراض جون بأنَّ طاقم العاملين سوف يحترمونه مع مرور الوقت؟ ماذا يمكن أن يفعل جون لكسب ولاء طاقم العاملين وتحسين أداء النادي؟
الإجراءات والنتائج: فكَّر جون مليًّا -خلال موسم الشتاء- في كيفية كسب احترام طاقم العاملين في نادي (Springfield Sea Lions). كشف جون عن الخطة التي ينوي تنفيذها قبل بدء الموسم التالي: «لكي أستطيع أن أفهم بصورة أفضل كيف يقضي كلٌّ منكم يومه سأخصِّص يومًا لأجرِّب أن أكون مكان كلّ واحدٍ منكم. سأتبادل الأدوار معكم. سأكون مرةً جامعًا للتذاكر، ومرةً بائعًا متنقلًا للنقانق، ومرةً بوَّابًا، ومرةً مسوقًا، ومرةً محاسبًا. وفي المقابل ستحصلون يومها على عطلة لكي تحظَوا بفرصة أن تكونوا مكان المدير العام». صدر عن طاقم العاملين الضحكات والصفير تقديرًا لما قاله جون، وبعد ذلك تحدَّث "جالب الحظ" لنادي (Springfield Sea Lions) قائلًا: «سيِّد أرويو، هل ستضع نفسك مكاني؟» ردَّ جون ضاحكًا: «بالتأكيد!»، فتعالت أصوات الجميع بالهتاف.
يُكمل جون: «سوف نكرِّم واحدًا من طاقم العاملين ونمنحه جائزة «تي جي جريفين» نظيرَ مساهماته البارزة في نادي (Springfield Sea Lions). لقد كان تي جي جريفين رجلًا عظيمًا، ويتوجَّب أن نكرمه». عندما انتهى الاجتماع، تباطأ طاقم العاملين في الرحيل لكي يُخبروا جون عن مدى تحمُّسهم وإعجابهم بأفكاره. كان جون أثناء مصافحته لهم يأمل أن تكون إنجازات لنادي (Springfield Sea Lions) في هذا العام أفضل من إنجازاتهم في الأعوام السابقة.
سارة إليزابيث رويسلاند (Sarah Elizabeth Roisland)هي مديرة لمكتب مطالبات تابع لشركة تأمين كبيرة، ويعمل لديها 14 شخصًا. تشير نتائج إحدى استطلاعات الرأي الحديثة إلى أنَّ الموظفين الذين يعملون لدى سارة يتمتَّعون بدرجة عالية من الرضا الوظيفي والدافعيّة، كما أنَّ النزاعات نادرة الحدوث في مكتبها، بالإضافة إلى أنَّ مقاييس الإنتاجية تضع مجموعتها ضمن أفضل المجموعات وأكثرها إنتاجيةً على مستوى الشركة بأكملها. لقد دفع نجاح سارة نائب رئيس الموارد البشرية إلى زيارة مكتبها من أجل محاولة اكتشاف سر هذا النجاح، وقدَّم زملاء سارة ورؤساؤها ومرؤوسوها نفس الإجابة: إنَّها أكثر من مجرَّد مديرة جيدة؛ فهي قائدة رائعة. دائمًا ما تحصل سارة على أداءٍ عالٍ من موظفيها، وهي تدفعهم إلى ذلك بطريقة تجعلهم يستمتعون بالعمل لديها.
لا توجد وصفة سحرية لكي يُصبح المرء قائدًا جيدًا، ولكن هناك العديد من الأسباب التي تُفسِّر لماذا يميل بعض الأفراد إلى أن يكونوا قادة أفضل وأكثر تأثيرًا من غيرهم. لا تُبنى المهارة القياديّة -خاصة القادة المؤثِّرين- بمجرَّد حضور ورشة عمل أو محاضرةٍ حول القيادة لمدة يوم واحد، ولا يُولد معظم الناس وهم يمتلكون مهارات القيادة الفعَّالة. يستطيع المرء أن يُصبح قائدًا فعَّالًا إذا كان مستعدًا لاستثمار الوقت والجهد لبناء جميع المهارات المناسبة.
أشارت لويز أكسون -مديرة استراتيجية المحتوى- وزملاؤها في منشورات هارفارد بزنس إلى أنَّ القيادة من المزايا المطلوبة بشدة في جميع الأدوار والمناصب الإدارية. في الواقع، يندُر وجود القادة الجيِّدين ونماذج القيادة الجيِّدة، وقد أشار جون كوتر -بروفيسور متخصِّص في الإدارة بجامعة هارفارد- إلى أنَّ هناك أزمة في القيادة في الولايات المتحدة في العصر الحالي، وأشار وارن بنيس -الأستاذ الراحل الذي كان يدرّس في جامعة جنوب كاليفورنيا- إلى أنَّ العديد من المؤسسات الحالية تعاني من سطوة الإدارة وضعف القيادة.
طبيعة القيادة
هناك تعريفات عديدة للقيادة، وكل تعريف يُركِّز على أمر مختلف. تصف بعض التعريفات القيادة بأنها فعل أو سلوك، مثل: وضع الهياكل والخطط لكي يعرف أعضاء المجموعة كيف يُنجزون المهام، وتشير تعريفات أخرى إلى أنَّ القائد هو مركز أو نواة أي نشاط تؤدِّيه المجموعة، وهو المحرِّك والمحفّز لتحقيق الأهداف، والذي يمتلك شخصية مميّزة ومُلفتة وقدرة على الإقناع والتأثير وأسلوبًا يدفع الآخرين إلى الاقتداء به وطاعته. ينظر البعض إلى القيادة على أنَّها إدارة للعمليات التي تُنفِّذها المجموعة؛ فالقائد الجيِّد وفقًا لهذه النظرة يضع رؤيةً واضحةً للمجموعة، وينشر هذه الرؤية بين أعضائها ، ويُنظِّم أنشطة المجموعة وجهودها في سبيل تحقيق الأهداف المنشودة، ويُحوِّل مجموعة الأفراد إلى فريق متماسك، ويُترجم المساعي الجيِّدة إلى أفعال إيجابية.
تُعرَّف القيادة من جهة أخرى على أنَّها علاقة اجتماعيّة تبادليّة بين شخصين أو أكثر ضمن مجموعة معيّنة بحيث تجمعهم أهداف محدَّدة ومشتركة يتعاونون جنبًا إلى جنب لتحقيقها.تساعد القيادة الفعَّالة الأفراد والمجموعات على تحقيق أهدافهم من خلال التركيز على متطلَّبات الترابط (حاجة الأفراد إلى الانسجام والعمل معًا، من خلال وجود قواعد مشتركة مثلًا) ومتطلَّبات المهمة (حاجة أفراد المجموعة إلى التقدُّم نحو تحقيق الهدف الذي يجمعهم).
يظهر في الصورة جو مادون (Joe Maddon)، وهو مدير فريق البيسبول الذي يُسمَّى شيكاغو كابز، ويُشتهر بمهاراته الإدارية والقيادية. يُعدُّ مادون قدوةً للمديرين الذين يُكافحون في عالم الأعمال، ويمكن للمديرين أن يتعلَّموا ويستفيدوا من فلسفته المتمثِّلة في غرس روح التفاؤل في الفريق، والمحافظة على المرونة والإنتاجيّة في الوقت نفسه، والابتعاد عن لفت الأنظار إلى نفسه وجذبها عوضًا عن ذلك نحو الفريق.
الفرق بين القائد والمدير
القائد والمدير (القيادة والإدارة) هما مفهومان لا يُمكن أن يحل أحدُّهما محل الآخر أو أن نستغني عن أحدهما. قد تكون الاختلافات بينهما محيِّرة؛ ففي العديد من الحالات يتوجَّب على المدير الجيِّد أن يكون قائدًا فعَّالًا، وقد عُيِّن العديد من المديرين التنفيذيين بناءً على مهاراتهم القيادية وقدرتهم على المساهمة ووضع رؤية واضحة للمؤسسة وحث الآخرين على تبنِّي هذه الرؤية في دفع المؤسسة نحو الأمام. بالإضافة إلى ذلك، غالبًا ما تتطلَّب القيادة الفعَّالة القدرة على الإدارة؛ أي القدرة على تحديد الأهداف، ووضع الخطط والاستراتيجيات وتنفيذها، واتخاذ القرارات، وحل المشكلات، والتنظيم، والرقابة. سنبيِّن فيما يلي بعض أوجه الاختلاف بين هذين المفهومين.
أولًا: يختلف تعريف مفهوم الإدارة عن تعريف مفهوم القيادة. لقد عرَّفنا الإدارة في سابقًا في مقالاتنا بأنَّها: عملية مؤسساتيّة تشتمل على التخطيط والتنظيم والتوجيه والرقابة، ولكنَّنا -في المقابل- عرَّفنا القيادة في هذا المقال بأنَّها: علاقة اجتماعيّة تبادليّة بين شخصين أو أكثر ضمن مجموعة معيّنة بحيث تجمعهم أهداف محدَّدة ومشتركة يتعاونون جنبًا إلى جنب لتحقيقها.
ثانيًا: غالبًا ما يكون هناك اختلاف بين العمليات التي يتولّى الإداريون من خلالها أدوارهم ومناصبهم، إذ عادةً ما يحصل المديرون على مناصبهم عن طريق عمليات التعيين، أمَّا القيادة فهي في بحد ذاتها علاقة ترتبط بقَبول الأتباع أو رفضهم للقائد ولا تحدث نتيجةً لقرارات تعيينٍ أو ترقيات إداريّة للمدير، على الرغم من أنَّ هناك مؤسسات عديدة تعيِّن أشخاصًا في مناصب قيادية على وجه الخصوص. بناءً على ذلك، يمكننا أن نقول بأنَّه غالبًا ما يسطع نجم القادة من الأحداث التي تدور بين أعضاء المجموعة.
ثالثًا: غالبًا ما يختلف المديرون عن القادة من حيث أنواع السُلطة التي يمارسونها ومصادرها. عادةً ما يستمدُّ المديرون سلطتهم من مركزهم في المؤسسة، وإنَّ جميع المؤسسات تقريبًا تُجيز استخدام أسلوب الثواب والعقاب (العصا والجزرة) لضمان امتثال موظفيها للأنظمة واللوائح الخاصّة بها. بعبارة أخرى: يتمتَّع المدير (الرئيس، نائب الرئيس، رئيس القسم، المشرف) بعددٍ من صلاحيّات التصرُّف (مثل: جدولة الإنتاج، التعاقد لبيع منتج، التعيين والفصل)، وذلك بمقتضى المنصب الذي يشغله وموقعه في الهرم الإداري. يستطيع القادة أيضًا فرض سلطتهم وتأثيرهم باستخدام أسلوب الثواب والعقاب، ولكنَّ الأكثر انتشارًا هو أن يستمدَّ القادة سلطتهم من الانطباع الذي يتشكَّل لدى الأتباع عن خبرتهم وشخصيتهم وجاذبيتهم ومن علاقات العمل التي نشأت بين هؤلاء القادة والأتباع.
إنَّ امتثال الأتباع للقائد أو المدير يكون في معظم الأحيان نابعًا من دوافع مختلفة؛ فغالبًا ما يمتثل المرؤوسون للمدير بسبب سلطة منصبه، وبسبب صلاحياته في التحكُّم في المكافآت والعقوبات، أمَّا أتباع القائد فهم يمتثلون له بإرادتهم الشخصيّة لا بدافعٍ إداريّ سلطويّ. هذا يعني أنَّ القادة يحفِّزون أتباعهم بواسطة محفِّزات داخلية، في حين أنَّ المديرين يحفِّزون أتباعهم بواسطة محفِّزات خارجية.
أخيرًا، من الجدير بالذكر أنَّه على الرغم من أنَّ المديرين قد ينجحون في توجيه مرؤوسيهم والإشراف عليهم، إلَّا أنَّ نجاحهم أو فشلهم غالبًا ما يُعزى إلى قدرتهم أو عجزهم عن القيادة الفعّالة. وكما ذكرنا سابقًا، فإنَّ القيادة الفعَّالة غالبًا ما تتطلَّب القدرة على الإدارة، والإدارة الفعَّالة غالبًا ما تتطلَّب القدرة على القيادة.
ترجمة -وبتصرف- للفصل The Nature of Leadership من كتاب Principles of Management
اقرأ أيضًا
- المقال التالي: شرح عملية القيادة
- المقال السابق: فوائد التنوع في العمل وكيفية إدارته
أفضل التعليقات
لا توجد أية تعليقات بعد
انضم إلى النقاش
يمكنك أن تنشر الآن وتسجل لاحقًا. إذا كان لديك حساب، فسجل الدخول الآن لتنشر باسم حسابك.