سنتابع سلسلة مقالاتنا عن مبادئ الإدارة في بابها الحادي عشر والذي سنُعرّض فيه على نقاط مهمّة وجوهريّة في عالم الإدارة المؤسساتيّة، وهي الموارد البشريّة، فالمؤسسات كما نعلم هي تجمهرٌ من الأفراد الذين اجتمعوا على هدفٍ واحد وضمّتهم مصالح مشتركة.
في مقالاتنا القادمة سوف نتطرّق إلى تاريخ تطوّر علم إدارة الموارد البشرية عبر السنين وما هي أهميّة هذا العلم بالنسبة للمؤسسات في وقتنا الراهن، كما سنستعرض مفهوم امتثال الموارد البشريّة وفائدته للشركات، كما سنخوض أيضًا في عمليّة إدارة الأداء وكيف تؤثر ممارساتها على أداء الشركات، وسنتحدّث عن استراتيجيات المكافآت ودورها في تعزيز أداء الموظفين، وسنختتم هذا الباب بعمليّة استقطاب المواهب ودورها في بناء ميزة تنافسية للشركة، بالإضافة إلى ذكر فوائد عمليتي تنمية المواهب وتخطيط التعاقب الوظيفي.
استكشاف المهن الإدارية
إيفا هارتمان من شركة Trellis ذات المسؤولية المحدودة
امتهنت إيفا هارتمان القيادة الاستراتيجية لمدة تصل إلى حوالي 20 عامًا، وكانت من المبدعين في هذا المجال ومن الذين يهتمون بتحقيق الإنجازات الكبيرة، وهي ذات خبرة كبيرة في استراتيجيات الموارد البشرية وتنمية المواهب وتطوير المهارات القيادية والفعالية التنظيمية، وقد عملت في مجموعة متنوعة من قطاعات الأعمال، من ضمنها: التصنيع، وتقديم الاستشارات للشركات المُدرجة في قائمة فورتشين 500، وغيرها. بالإضافة إلى ذلك، تُعدُّ إيفا من وكلاء التغيير التحويلي (أو الجذري)، وقد طوّرت وأشرفت على العديد من برامج رأس المال البشري الإستراتيجي ومبادرات المواهب في الكثير من البيئات المحفوفة بالتحديات على مستوى العالم، ومن الواضح أنَّها تمتلك شغفًا تجاه تحسين أداء الأفراد والمؤسسات.
بدأت إيفا حياتها المهنية في واحدة من أكبر شركات الاستشارات الإدارية حينذاك، وعادت منذ عدة سنوات إلى مجال تقديم الاستشارات عن طيب خاطر. تُعدُّ إيفا مؤسسة ورئيسة شركة Trellis المحدودة والمتخصِّصة في الاستشارات المتعلِّقة برأس المال البشري والتوظيف والموجودة في مدينة ريتشموند في ولاية فيرجينيا الأمريكية.
كانت إيفا مديرة قسم الموارد البشرية في إحدى الشركات العالمية الكبيرة المتخصِّصة في تصنيع منتجات الأفلام البلاستيكية قبل تأسيسها لشركة Trellis، وكانت مسؤولة عن الاستراتيجيات والعمليات المتعلِّقة بالموارد البشرية في هذا القسم العالمي، الذي تبلغ قيمته 600 مليون دولار. لقد قادت إيفا أثناء عملها في هذه الوظيفة فريقًا عالميًا من مديري الموارد البشرية في أمريكا الشمالية والجنوبية وأوروبا وآسيا لدعم مبادرات الموارد البشرية العالمية من أجل تحقيق نتائج العمل وتنمية رأس المال البشري وتطوير الأداء داخل القسم.
شغلت إيفا أيضًا مجموعة متنوعة من الوظائف القيادية والإدارية في مجالي الموارد البشرية ووظائف الجودة في العديد من الشركات المعروفة على المستوى المحلي والعالمي، ومن هذه الشركات: Wachovia Securities، وGenworth Financial، وSun Microsystems، وAndersen Consulting (التي أصبحت تُدعى Accenture في الوقت الحالي).
حصلت إيفا على درجة الماجستير في إدارة الأعمال من كلية ويليام وماري في مدينة ويليامزبرغ الأمريكية، وحصلت على درجة البكالوريوس في علم الإنسان من جامعة فيرجينيا في مدينة شارلوتسفيل الأمريكية. إيفا أيضًا عضو هيئة تدريس مساعد في كلية روبينز للأعمال في جامعة ريتشموند، وهي حاليًا عضو في مجلس إدارة جمعية إدارة الموارد البشرية (SHRM) في مدينة ريتشموند التي تقع في ولاية فيرجينيا الأمريكية.
قطع مجال الموارد البشرية أشواطً طويلة خلال العقود القليلة الماضية، إذ غيَّر مديرو الشركات ومتخصِّصو الموارد البشرية -منذ الزمن الذي كانت تسوده الإدارة التكتيكية للموظفين وحتى عصرنا الحالي الذي تميل فيه الإدارة إلى أن تكون ذات توجُّهات استراتيجية- غيّروا نظرتهم تجاه وظيفة إدارة الموارد البشرية. تتنافس الشركات من أجل الحصول على المواهب، وما يميِّزها عن غيرها، فيما يتعلَّق بأداء أعمالها، هو ذخيرتها من الموظفين الموهوبين، لذلك أصبحت إدارة الموارد البشرية من الأساليب الأساسية التي يُمكن للشركات استخدامها من أجل العثور على المواهب وتوظيفها وتطويرها وتنميتها لكي يكون لدى هذه الشركات ميزة تنافسية. سنتطرّق في مقالاتنا التالية إلى الفوائد التي تجلبها إدارة الموارد البشرية للمؤسسة، بالإضافة إلى التحديات التي لا تزال تواجه هذه الوظيفة لكونها تساهم في تحديد ما ستكون عليه استراتيجية الشركة.
مدخل إلى إدارة الموارد البشرية
لقد خدمت إدارة الموارد البشرية العديد من الأغراض المؤسسية على مر السنين، وقد كانت هذه الوظيفة في بداية نشأتها تقوم على التأكُّد من امتثال الموظفين للأنظمة والتعليمات، ثمَّ توسَّعت وتطوَّرت إلى أن أصبحت في زمننا الحالي المحرِّك الأساسي لعمليات تنمية رأس المال البشري وتطوير الموظفين في المؤسسات. أشار مؤلفو كتاب «HR From the Outside In» الذي نُشر في عام 2012 إلى مراحل تطوُّر وظيفة الموارد البشرية ووصفوا هذه المراحل بالموجات، كما هو موضَّح فيما يلي:
- الموجة الأولى (HR administration): ركزَّت على الأعمال الإدارية التي كان يؤدِّيها موظفو الموارد البشرية والتي تتمثَّل في تحديد شروط وأحكام العمل وتقديم خدمات الموارد البشرية والتأكُّد من امتثال الموظفين للأنظمة. لا يزال هذا الجانب الإداري جزءًا من وظيفة الموارد البشرية في زمننا المعاصر، ولكنَّه أصبحت يُنفَّذ بواسطة التقنيات الحديثة والاستعانة بمصادر خارجية. إنَّ جودة خدمات الموارد البشرية ومصداقيتها في هذه المرحلة تنبع من القدرة على تنفيذ العمليات الإدارية وحل القضايا ذات الصلة بفعالية.
- الموجة الثانية (HR practices): ركزَّت على وضع ممارسات مبتكرة فيما يتعلَّق بالموارد البشرية، مثل: تعيين التعويضات وتعليم الموظفين وتدريبهم وتحديد أساليب التواصل، واستقطاب الكفاءات، وقد بدأ متخصِّصو الموارد البشرية المسؤولون عن وضع هذه الممارسات يتفاعلون، خلال السنوات القليلة الماضية، ويتشاركون مع بعضهم بعضًا من أجل بناء منهج متناسق لإدارة الموارد البشرية. تنبع مصداقية وظيفة الموارد البشرية وجودتها في هذه المرحلة من تقديم أفضل الممارسات والاستراتيجيات في هذا المجال.
- الموجة الثالثة (HR strategy): ركزَّت هذه المرحلة –التي امتدت حوالي 15-20 عامًاعلى التكامل بين استراتيجية الموارد البشرية والاستراتيجية العامة للشركة، وقد بدأ متخصِّصو الموارد البشرية يأخذون في الحسبان استراتيجية الشركة حتى يُحدِّدوا أهم مهام الموارد البشرية التي سيعملون على تنفيذها وكيفية استخدام الموارد على أفضل وجه، وأصبح هناك تعاون حقيقي بين قسم الموارد البشرية وإدارة الشركة. تقوم مصداقية وظيفة الموارد البشرية وجودتها في هذه المرحلة على أن يكون لقسم الموارد البشرية شأن في اتخاذ القرارات عندما تعقد الشركة المناقشات لتحديد الاستراتيجيات المناسبة.
- الموجة الرابعة (HR outside in): استمرّ في هذه المرحلة التعاون بين قسم الموارد البشرية وإدارة الشركة، ولكن أضحت المهام ذات طابع تنافسي على إثر الاستجابة لظروف العمل الخارجية، إذ يُحدِّد قسم الموارد البشرية عناصر النجاح من خلال النظر إلى عدة عوامل خارج مؤسساتهم، مثل: نسبة الزبائن الذين تعاملوا معهم، وثقة المستثمرين فيهم، وسمعتهم في المجتمع. تنبع مصداقية وظيفة الموارد البشرية وجودتها في هذه المرحلة من قدرتها على تعزيز هذه العوامل الخارجية.
على الرغم من أهمية جميع مراحل تطوُّر وظيفة الموارد البشرية وضرورة تأديتها بفاعلية، إلَّا أنَّ المرحلة الرابعة هي الحجر الأساس، والتي تسهم في ازدهار هذه الوظيفة من خلال السمعة الخارجية للمؤسسة والنجاحات التي تحقِّقها.
مراحل تطور وظيفة الموارد البشرية (حقوق النشر محفوظة لجامعة رايس، OpenStax، مستخدمة تحت رخصة المشاع الإبداعي (CC-BY 4.0))
امتلاك الروح الريادية: الاستعانة بجهات خارجية لأداء وظيفة الموارد البشرية – مشاريع ريادية
وظيفة الموارد البشرية هي إحدى الوظائف المهمة في أي شركة، ولكن ليس بمقدور جميع الشركات تحمُّل التكاليف المصاحبة لتعيين موظفي موارد بشرية بدوام كامل، لذلك أصبحت الاستعانة بمصادر خارجية لأداء وظيفة الموارد البشرية خيارًا جيدًا خلال العقد الماضي بالنسبة للعديد من الشركات الصغيرة التي لا يمتلك موظفوها الحاليون الإمكانيات أو الخبرات اللازمة التي تؤهلهم لمواجهة المخاطر والقضايا المرتبطة بعلاقات الموظفين أو الامتيازات والرواتب أو مسؤوليات امتثال الموارد البشرية، الأمر الذي دفع العديد من متخصِّصي الموارد البشرية إلى تجربة الدخول إلى عالم ريادة الأعمال وتقديم خدمات إدارة الموارد البشرية للشركات التي تحتاجها في فتراتٍ معينة أو "بدوامٍ جزئيّ".
غالبًا ما تتجه الشركات الصغيرة (والشركات الكبيرة أيضًا في كثير من الأحيان) إلى الاستعانة بجهات خارجية لأداء وظيفة الموارد البشرية من أجل تنظيم وتنفيذ بعض المهام داخل الشركة، مثل إدارة الامتيازات والرواتب؛ في الواقع أصبحت هذه الوظيفة تُوكل إلى جهات خارجية منذ سنوات عديدة؛ بل أصبح من التوجُّهات الحديثة السائدة ما يُدعى «وظيفة الموارد البشرية الجزئية»، والتي تهدف إلى تقديم المساعدة للشركات عند الحاجة (يوميًا أو أسبوعيًا أو شهريًا) فيما يتعلَّق باستراتيجيات الموارد البشرية وعلاقات الموظفين وتنمية المواهب. أصبحت وظيفة الموارد البشرية الجزئية من الوظائف التي يزداد الطلب عليها، وغدت العديد من المشاريع الريادية تتجه إلى تقديم خدماتها في هذا المجال. يمكننا تعريف وظيفة الموارد البشرية الجزئية بأنَّها: تقديم خدمات الموارد البشرية لشركة بدوام جزئي أو على فترات متقطعة، وذلك عندما لا تكون الشركة قادرة على تحمُّل تكاليف تعيين موظفي موارد بشرية بدوام كامل، إذ يمكن لمن يشغل هذه الوظيفة الذهاب إلى مكان العمل لعدد محدَّد من الساعات أو الأيام أسبوعيًا أو شهريًا، وذلك بناءً على احتياجات الشركة وميزانيتها، ويتولَّى هؤلاء الموظفون خلال تلك الفترة الاهتمام بكل ما يتعلَّق بإدارة الموارد البشرية، مثل: الحرص على امتثال الموارد البشرية للأنظمة والتعليمات وتدريبهم ودعمهم والتعامل مع مشكلاتهم.
بالإضافة إلى ذلك، قد يتولَّى موظف الموارد البشرية الذي يعمل بدوام جزئي عمليات إدارة المواهب في الشركات التي تهتمُّ بتطوير موظفيها والتي تحتاج إلى ما هو أكثر من مجرد خدمات الموارد البشرية الأساسية، مثل عمليات إدارة الأداء وتخطيط التعاقب الوظيفي والتدريب والتطوير.
كيف يُحدِّد مديرو الشركات ما إذا كانت هناك حاجة إلى الاستعانة بجهات خارجية لأداء وظيفة الموارد البشرية؟ في الواقع، هناك عاملان يدفعان المديرين إلى التفكير في تعيين موظفي موارد بشرية بدوام جزئي أو الاستعانة بجهات خارجية لأداء هذه الوظيفة، وهما: الوقت والمخاطر. إذا كان المدير يقضي الكثير من الوقت في التعامل مع القضايا المتعلِّقة بالموارد البشرية وعلاقات الموظفين، فقد يقرِّر أنَّه من الأفضل توكيل هذه المهام لجهات خارجية متخصِّصة في هذا المجال. إلى جانب ذلك، فإنَّ المخاطر التي تنطوي عليها بعض قضايا الموارد البشرية قد تكون كبيرة جدًا، مثل احتمالية التعرُّض لدعوى قضائية أو لخسارة مالية، ولذلك تندفع الشركات إلى الاستعانة بمتخصِّصي الموارد البشرية الذين يعملون بدوام جزئي من أجل ضمان سيرٍ سلس للعمل في إطار الموارد البشرية للشركة.
لقد أحسن العديد من روَّاد الأعمال الذين يعملون في مجال إدارة الموارد البشرية استغلال هذا التوجُّه المهم، والذي يقول الكثيرون أنَّه من المحتمل جدًّا أن يستمر بالتزامن مع نمو الشركات الصغيرة ورغبة الشركات الكبيرة في توكيل الأعمال المرتبطة بإدارة الموارد البشرية إلى جهات خارجية. تُقدِّم بعض الشركات المتخصِّصة في إدارة الموارد البشرية خدماتها بدوام جزئي، بالإضافة إلى تقديمها لخدمات إدارة الرواتب والامتيازات والتعويضات وتقديم الدعم الفني لبرامج إدارة الموارد البشرية. غالبًا ما يؤدِّي الاستعانة بموظفي موارد بشرية بدوام جزئي إلى بروز الحاجة إلى خدمات الموارد البشرية الأخرى والبرامج ذات الصلة، والتي عادة ما توفِّرها أيضًا تلك الشركات المتخصِّصة في إدارة الموارد البشرية.
تجدر الإشارة إلى أنَّ تقديم خدمات الموارد البشرية بدوام جزئي أو على فترات متقطعة للشركات التي تحتاجها قد يكون عملًا تجاريًا مُجديًا ومُربحًا، سواء كنت تقدِّم هذه الخدمات لوحدك أم كنت جزءًا من شركة صغيرة مكوَّنة من عدد من متخصِّصي الموارد البشرية والاستشاريين. قد يجعلك ذلك أيضًا تشعر بالرضا عن ذاتك، وذلك عندما تعلم أنَّ المتخصِّص في الموارد البشرية يساعد الشركات الصغيرة على النمو والازدهار من خلال حرصه على امتثال الموارد البشرية للأنظمة وتأديته المهام اللازمة التي تُسهم في تطوير موظفي تلك الشركات.
تستفيد المؤسسة استفادة كبيرة من الموظفين المتخصِّصين في إدارة الموارد البشرية الذين يُديرون جميع مراحل دورة حياة الموظف، والتي تشتمل على: عملية التوظيف، وتهيئة الموظفين الجدد، وإدارة الأداء، وتنمية المواهب، وإدارة التنقُّلات الوظيفية مثل تغيير الوظيفة والترقيات، والتقاعد أو الاستقالة. إنَّ رأس المال البشري يُمثِّل ميزة تنافسية مهمة بالنسبة للشركات، لذلك سوف تتمكَّن الشركات التي تُحسن الاستعانة بموظفي الموارد البشرية الأكفاء من وضع الاستراتيجية المناسبة التي تتعلَّق برأس المال البشري وسوف تحصد أفضل النتائج.
تتضمَّن وظيفة إدارة الموارد البشرية الاهتمام بشؤون الموظفين والحرص على تنفيذ العمليات الأساسية التالية:
- الحرص على امتثال الموارد البشرية للأنظمة.
- اختيار الموظفين المناسبين وتوظيفهم وتدريبهم وتهيئتهم للعمل.
- إدارة الأداء.
- إدارة التعويضات والمكافآت والامتيازات.
- تنمية المواهب والتخطيط للتعاقب الوظيفي.
إنَّ قسم الموارد البشرية هو المسؤول عن وضع الاستراتيجيات والسياسات المتعلِّقة بالعمليات المذكورة أعلاه والتأكُّد من أنها تتوافق مع الاستراتيجية العامة للمؤسسة وتنسجم معها، وإنَّ لكل عملية من العمليات السابقة دورًا أساسيًا في تحقيق النفع للمؤسسة والتأثير على المزايا التي سوف تُوفِّرها للموظفين الذين سينضمون إليها.
ترجمة -وبتصرف- للفصل An Introduction to Human Resource Management من كتاب Principles of Management
اقرأ أيضًا
- المقال التالي: مفهوم امتثال الموارد البشرية
- المقال السابق: نماذج التغيير الشائعة في المؤسسات
أفضل التعليقات
لا توجد أية تعليقات بعد
انضم إلى النقاش
يمكنك أن تنشر الآن وتسجل لاحقًا. إذا كان لديك حساب، فسجل الدخول الآن لتنشر باسم حسابك.