كيف أوازن بين التواضع والثقة؟ ماذا إذا رأى الآخرون في ثقتي علامةً على التكبّر أو في تواضعي علامةً على الضعف؟ كيف أصل إلى المزيج المناسب؟ إنني لستُ الوحيدة التي تجول هذه الأفكار بخاطرها، فالعديد من الرجال والنساء يواجهون –رغم كونهم ناجحين– مشكلةً جديّةً في الوصول إلى هذا التوازن الدقيق.
يسيء كثير من الناس فهم معاني الثقة والتواضع. وعلى سبيل التوضيح، ما هي أول الكلمات التي تخطر على بالك عند التفكير في الثقة؟ لابدّ أنها تدور حول معاني القوة والسلطة والجرأة والجدارة والاطمئنان، أليس كذلك؟ ماذا عن التواضع؟ لابدّ أنك تفكر في معاني مثل الطاعة والتردد والسلبيّة والعجز.
إن التواضع لا يعني بالضرورة العجز أو ضعف الثقة بالنفس، وإنما يعني
اقتباس"ألا تقلل من نفسك، ولكن أن تقلل من التفكير في نفسك."
- سي. إس. لويس C.S. Lewis
التواضع يعني ألا تغتبط بنفسك كثيرًا، وأن تعترف بأنك لا تعرف كل شيء، وأنك ما زلت بحاجة إلى تعلم الكثير؛ أمّا الثقة، فهي ليست نقطةً في المنتصف بين الخوف والتكبّر كما يظن كثير من الناس، والحقيقة أن الثقة تحتاج إلى التواضع وتسير معه جنبًا إلى جنب، ونقصد بذلك أن تثق بقدراتك، وأن تتواضع في ذات الوقت من خلال الإقرار بوجود حدود لما تعرفه. صحيح أن ثقتك بنفسك ضروريّة للغاية، ولكن التواضع لا يقل أهميّةً، فهو يساعدك على اكتشاف حدود قدراتك، ويمكّنك من طلب المساعدة عند الحاجة إليها. علاوةً على كل ذلك، يساعد التواضع عندما يمتزج بالثقة على تجنب التكبر أو الغرور.
هذا المزيج بين التواضع والثقة هو ما يحتاج إليه كل قائد، وكما يقول آدم جرانت Adam Grant في كتابه "فكّر مجددًا Think Again": "الثقة هي الإيمان بقدرتنا مع الاعتراف بأننا قد لا نمتلك الحل المناسب، أو حتى نتعامل مع المشكلة الصحيحة.. أن تكون لدينا مساحة للشك تسمح لنا بإعادة النظر في معرفتنا القديمة، وثقة كافية لتجربة الأفكار الجديدة".
الجمع بين التواضع والثقة يعني الثقة بقدرتك على اتخاذ القرار الصحيح، والاعتراف بحاجتك للآخرين لتنفيذه. فهو يعني الإقرار بما لا تعرف والثقة بما تفعل. إنه الإيمان بنقاط القوة في شخصيتك، وفي ذات الوقت الوعي بنقاط ضعفها. كما أنه الإقرار بعدم معرفتك بشيء معيّن، والثقة بقدرتك على تعلمه وتحصيله.
إن القائد الذي يجمع بين التواضع والثقة هو ذاك الذي لا يتغافل عن نقاط ضعفه، وإنما يضع إجراءات عمليّة لمعالجتها.
القادة الذين يمزجون بين الثقة والتواضع أكثر قدرة على التميز
يمثل روبرت إيجر، المدير التنفيذي السابق لشركة ديزني، مثالًا رائعًا على الجمع بين التواضع والثقة، فقد عمل رئيسًا لقسم الترفيه في شبكة ABC الإعلاميّة الشهيرة، ولكنه كان أول شخص من خارج مجال صناعة الترفيه يتولى رئاسة قسم الترفيه في الشركة. وعن هذه التجربة، يكتب إيجر في كتابه رحلة العمر The Ride of a Lifetime:
اقتباس"لم يكن الأمر بالتأكيد مثل خطورة القفز من طائرة بدون مظلة، ولكني شعرت في البداية بأنني أسقط من علوٍ شاهق. لقد توليت هذا العمل، وهم يتوقعون رؤية النتائج، وعدم خبرتي ليست عذرًا للفشل".
وعن المزج بين الثقة والتواضع رغم عدم معرفته بالكثير حول مجال عمله في ذلك الحين، يقول إيجر:
اقتباس"إذًا ماذا تفعل في وضع كهذا؟ القاعدة الأولى: لا تحاول التظاهر بشيء. يجب أن تكون متواضعًا، وألا تتظاهر بأنك تعرف شيئًا لا تعرفه في الحقيقة، ولكنك مع ذلك في موضع القيادة، لذلك يجب ألا يمنعك التواضع من ممارسة مهامك في هذا الصدد".
ويضيف:
اقتباس"إن الخط بين الثقة والتواضع دقيق للغاية. يجب أن تسأل عمّا لا تعرفه، وأن تعترف بلا تردد عندما تعجز عن فهم شيء ما، وأن تبادر إلى تعلم ما لا تعرفه بأسرع ما يمكن؛ أمّا محاولة التظاهر بالمعرفة في حين أنك لا تملكها فليست من الثقة في شيء، فالقيادة الحقيقيّة تنبع من معرفتك بنفسك، وتقديمك لنفسك بلا تجمّل أو تظاهر."
تمثل كاثرين جراهام Katharine Graham مثالًا آخر على الجمع بين الثقة والتواضع، فقد أنقذت صحيفة واشنطن بوست وحولتها إلى واحدة من أبرز الصحف في الولايات المتحدة، ويصفها العديد بأنها جريئة وجسورة، ولكنها لم تتباه بأي من ذلك. لقد كانت تمتلك ثروةً وتأثيرًا هائلين، ولكنها لم تسئ استغلالهما. وقد غيرت تاريخ بلدها ومدينتها، وتاريخ الصحافة، بل وتاريخ النساء أيضًا. قليل هم أولئك الذين يستطيعون الجمع بين هذه الخصال الحميدة دون تعارض.
يُعَد لو جيرستنر Lou Gerstner والذي أنقذ شركة IBM من حافة الإفلاس في منتصف التسعينيات تجسيدًا آخر أيضًا للجمع بين الثقة والتواضع.
هؤلاء وغيرهم المئات من القادة يؤكدون أن أفضل ما يستطيع القائد الواثق فعله هو أن يظهر التواضع للموظفين بالتراجع قليلًا إلى الوراء لمنحهم مساحةً كافيةً للتعبير عن آرائهم.
لماذا يصعب الجمع بين الثقة والتواضع؟
ينقسم معظم القادة إلى صنفين: صنف يعاني من الثقة الزائدة رغم افتقاره للكفاءة، وصنف يمتلك كفاءة عالية للغاية ولكنه لا يحظى بالثقة اللازمة لتحويل أفكاره إلى واقع.
فأمّا الصنف الأول، فتبدأ المشكلة لديه من عدم معرفته بجهله، ووجود شعور زائف لديه بمعرفة كل شيء. يعاني هذا النوع من القادة من عدم قدرته على رؤية الفجوات لديه، ناهيك عن الاعتراف بوجودها أصلًا، فتراهم يتحدثون بدون توقف دون أن يمنحوا أنفسهم فرصة الاستماع للآخرين أو ملاحظة ما يدور من حولهم؛ فهم معجبون كثيرًا بنقاط القوة لديهم إلى درجة تعميهم عن ملاحظة نقاط ضعفهم، وهم منشغلون دائمًا بمحاولة إثبات صواب رأيهم حتى لو كان خطأً؛ كما أنهم لا يتوقفون عن الحديث، ولا يستمعون لأحد، ولا يطرحون الأسئلة على أحد، وهنا لا مكان للتواضع بكل تأكيد.
في هذه الحالة، تمثل الثقة المفرطة خصلةً خطيرة، فهي تدفعهم إلى إصدار الأحكام على الآخرين، ورفض أي معلومات تتعارض مع معتقداتهم، لأنهم متأكدون تمامًا وبدون أي مساحة للشك من صحة قراراتهم. ولماذا قد يطرحون الأسئلة أو يبحثون عن معلومات تتعارض مع وجهات نظرهم طالما أنهم متأكدون تمامًا مما لديهم؟ بل كيف يمكن لهم اكتشاف الفجوات المعرفيّة لديهم إذا لم يكونوا على استعداد لتقبل وجودها أصلًا؟
إن الشعور بالتفوق والكبرياء يمنعهم من التعلم أو محاولة تجديد معلوماتهم، وهو ما يُعرف بتأثير دانينغ كروجر. وكلما كان هذا النوع من القادة أقل كفاءة، ازدادت ثقته المفرطة بقدراته، إذ بدون امتلاك المهارات اللازمة لاكتشاف أخطائه، لن يستطيع رؤيتها وسوف يظل معتقدًا بأنه يبلي البلاء الحسن.
وفي هذا الصدد، يصف تيم أوربان Tim Urban صاحب مدونة ويت بات واي Wait But Why المغرور، بأنه "جهل مع قناعة" وهو مزيج خطير للغاية يمنع القادة من التحسن، فهم لا يفتقرون إلى المعرفة فحسب، بل يفتقرون أيضًا إلى التواضع الذي يمكّنهم من اكتساب المعرفة الحقيقيّة والتحوّل إلى قادة أفضل. فعندما يعتقدون أنهم يبلون حسنًا، فلا مجال لديهم للتحسن إذًا. إن التواضع أشبه بالمصفاة التي تسمح للخبرات بالمرور وتحولها إلى معرفة وحكمة؛ أمّا التكبر، فهو أشبه بدرع مطاطي تصطدم خبرات الحياة به، ثم ترتد عنه دون أن تترك أي فائدة."
وأمّا الصنف الثاني من القادة، فهم أولئك الذين يمتلكون الكفاءة ويفتقرون إلى الثقة. وتبدأ المشكلة لدى هذا الصنف من تشكيكهم المستمر بقدراتهم، فهم يشعرون بأنهم لا يستحقون المناصب التي يعملون فيها، وبأنهم ليسوا مؤهلين بما في الكفاية لاتخاذ القرارات، ويخشون كثيرًا من نظرة الآخرين، وهو ما يُعرف بمتلازمة المحتال.
هذه المشاعر تخلق لديهم التواضع اللازم للتشكيك بقدراتهم ومعارفهم، ولكنها تدفعهم إلى العمل بجد من أجل تحسين مهاراتهم، والتحقق من صحة فرضياتهم، وطلب النصيحة من الآخرين. في مثل هذه الحالة، يؤدي النجاح إلى توليد الثقة، فبمجرد أن ينجح هؤلاء القادة في تحقيق بعض الأهداف الكبيرة، فإنهم يبدأون باكتساب الثقة. وربما تظل تساورهم بعض الشكوك، ولكن هذه الشكوك لا تضعفهم، أو تحبط عزيمتهم، أو تمنعهم من التقدّم.
قد تكون مشاعر التشكيك بالذات أمرًا صحيًا إذا ما تحولت إلى وسيلة للتطور وتحقيق النمو، فبدلًا من انتظار الثقة، يعمل هؤلاء القادة على بناء ثقتهم بأنفسهم شيئًا فشيئًا، وذلك من خلال مواجهة مخاوفهم، وتنفيذ الأعمال المنوطة بهم، والتعلم من الأخطاء السابقة دون التوقف عن المحاولة.
أي الصنفين برأيك أقدر على تحقيق النجاح؟ الذي يحمل التواضع ويشكك بقدراته ولكنه يثق في ذات الوقت بقدرته على التحسن؟ أم الذي يثق بقدراته إلى درجة تمنعه من العمل على تحسينها؟
كيف يمكن للقائد أن يظهر التواضع والثقة في ذات الوقت؟
اقتباس"لو كان عالمنا بسيطًا، لكانت السلطة تتركز في يد شخص واحد ذكي وقادر على إدارة كل شيء بكفاءة، ولكن عالمنا ليس كذلك. إن عالمنا معقد، وهو يعتمد على المشاركة الجماعيّة للسلطة والإبداع،ووجهات النظر، لذلك فهو متقلب ويسير بنا نحو مستقبل غير واضح."
- جينيفر جارفي بيرجر Jennifer Garvey Berger، عادات بسيطة في زمن معقد Simple Habits for Complex Times.
بمعنى آخر، إن العالم اليوم بحاجة إلى قائد يجمع بين التواضع والثقة، ذاك القائد الذي:
- يعترف بما يجهل، ولا يتظاهر بالمعرفة.
- يعمل جاهدًا لملء الفجوات المعرفيّة لديه.
- يشكك باستراتيجياته ويطلب آراء الآخرين.
- يُعيد صياغة وجهات نظره لتعبّر عن الجميع.
- يستمع باهتمام، ولكنه يتحدث عن رأيه بثقة.
- لا يتردد في اتخاذ القرارات الصعبة عندما يمتلك المعلومات اللازمة.
- يقود بعقليّة الجمع، وذلك يعني عدم التفرد ونسبة الفضل لأهله.
- يتقبل الخطأ ويتحمل مسؤوليته الكاملة.
- يتمتع بالانفتاح على وجهات النظر المخالفة.
- يبحث عن التغذية الراجعة ليطوّر نفسه.
- لا يترك معتقداته تؤثر على مواقفه، ويسارع إلى تغييرها إذا تبيّن خطؤه.
- يواجه المخاطر لكن دون تهوّر.
- يترك مساحة للآخرين للتعبير عن آرائهم قبل أن يعبّر عن رأيه.
- يضع الآخرين أمام مسؤولياتهم ولا يخجل من خوض النقاشات حتى لو كانت حادة أو محرجة.
- يدير الصراعات من خلال وضع الأمور في سياقها الصحيح والتركيز على تقليل الخسائر.
- يثق بقدرته على تجنب النتائج السيئة.
- يتخذ القرارات بكفاءة ولا يتهاون مع التردد من الآخرين.
- يؤمن بقدرته على النجاح ويرى الفرص في قلب المشاكل والتهديدات.
- يبني الثقة في الآخرين من خلال تكليفهم بإجراءات تنطوي على مخاطر أو احتماليّة للفشل.
ملخص
- قد يبدو التواضع والثقة أمران متناقضان، ولكن التواضع لا يعني عدم الثقة، وإنما الإقرار بما لا تعرف.
- يجب على القادة أن يثقوا بقدراتهم وفي ذات الوقت أن يعترفوا بأنهم لا يمتلكون حلًا لكل شيء، وأن يتركوا مساحةً للآخرين للحديث وتقديم الحلول.
- يمتلك القادة الذين يجمعون بين الثقة والتواضع قوةً فريدةً تمكّنهم من التميّز وتحقيق النجاح.
- يحتاج الجمع بين التواضع والثقة إلى جرعات مكثفة من الوعي بالذات.
أخيرًا، أود أن أنهي هذا المقال باقتباس من آدم جرانت، والذي يلخص مدى أهميّة جمع القادة بين التواضع والثقة.
اقتباس"المفكرون العظماء هم أولئك الذين يشككون بأنفسهم، لا لأنهم يفتقرون إلى المعرفة، بل لأنهم يدركون أننا جميعًا نعاني من قصور النظر بدرجات متفاوتة، وهم يسعون دائمًا إلى تحسين نظرهم ورؤية الصورة الكاملة. هم لا يتبجحون بحجم ما يعرفون، وإنما يتعجبون من قلة ما يفهمون، فهم يدركون أن كل إجابة تفتح معها أسئلةً جديدة، وأن رحلة المعرفة لا تنتهي أبدًا. إن أبرز ما يميّز الباحثين عن المعرفة هو أنهم يدركون أن باستطاعتهم تعلّم شيء جديد من كل شخص يقابلونه. وفي حين أن الغرور يعمينا عن ضعفنا، يمثل التواضع مرآةً عاكسةً تساعدنا على رؤية أنفسنا بكل وضوح. إن المزج بين التواضع والثقة أشبه باستخدام نظارات تصحيح النظر، فهو يمكّننا من رؤية نقاط الضعف لدينا والتغلب عليها."
ترجمة -وبتصرّف- للمقال How to Cultivate Confident Humility for Better Leadership لصاحبته فينيتا بانسال Vinita Bansal.
أفضل التعليقات
لا توجد أية تعليقات بعد
انضم إلى النقاش
يمكنك أن تنشر الآن وتسجل لاحقًا. إذا كان لديك حساب، فسجل الدخول الآن لتنشر باسم حسابك.