قد تتساءل ما هما نوعا أنظمة اتخاذ القرارات المستخدمان في الدماغ؟ في الواقع يعالج دماغ الإنسان المعلومات عند اتخاذه للقرارات بواسطة أحد النظامين الآتيين: النظام التأملي والنظام الانفعالي. يعدُّ النظام التأملي (reflective system) نظامًا منطقيًا وتحليليًا ومنهجيًا، في حين أنَّ النظام الانفعالي (reactive system) هو نظام سريع واندفاعي وحدسي ويعتمد على العواطف أو العادات ليستدلَّ على الخطوة التالية التي سيقوم بها.
تشير الأبحاث في مجال علم النفس العصبي إلى أنَّ الدماغ يمكنه استخدام نظام واحد فقط في نفس الوقت من أجل معالجة المعلومات دارلو وسلوماند وأنَّ النظامين يُداران باستخدام أجزاء مختلفة من الدماغ. القشرة الأمامية الجبهية مسؤولة أكثر عن النظام التأملي، أما العقد القاعدية واللوزة الدماغية فهي مسؤولة أكثر عن النظام الانفعالي.
نظام اتخاذ القرارات الانفعالي
نميل إلى أن نفترض بأنَّ الطريقة المنطقية التحليلية تؤدِّي إلى اختيار القرارات الأفضل، ولكن تعتمد صحّة هذا الافتراض على الموقف الذي يتم فيه اتخاذ القرار. الطريقة السريعة الحدسية يمكنها أن تنقذ حياتك؛ فعندما نشعر فجأة بالخوف الشديد، تكون الاستجابة هي إما الكر أو الفر مما يؤدِّي إلى التصرُّف مباشرة دون التفكير في جميع الخيارات المتاحة وتقييم نتائجها بطريقة منهجية. بالإضافة إلى ذلك، غالبًا ما يستطيع المديرون ذوو الخبرة اتخاذ القرارات بسرعة كبيرة جدًا لأنَّهم قد تعلَّموا من تجاربهم وخبراتهم كيف يتصرَّفون في موقف معين. قد لا يكون هؤلاء المديرون قادرين على شرح الأسباب التي جعلتهم يتخذون قراراتهم، وسيقولون أنَّهم تبِعوا "حدسهم" أو فعلوا ما "شعروا" بأنَّه الشيء المناسب. في الواقع، يقوم الدماغ بالتحويل مباشرة إلى نظام اتخاذ القرارات السريع والحدسي في مثل هذه المواقف لأنَّ المديرين قد واجهوا موقفًا مماثلًا في الماضي وتجاوبوا معه بطريقة صحيحة ومناسبة.
نظام اتخاذ القرارات التأملي
الطريقة السريعة ليست دائمًا أفضل طريقة لاتخاذ القرارات؛ فمن الأفضل عند مواجهة مواقف معقَّدة وغير مألوفة دراسة المعلومات المتوفرة منطقيًا وتحليليًا ومنهجيًا. بصفتك مديرًا، ينبغي عليك أن تكون قادرًا على التمييز بين المواقف التي تتطلّب استجابةً عفويّة "حدسيّة" وتلك التي تحتاج إلى تفكيرٍ مليٍّ ومحاكمة عقليّة جيّدة. من المهم جدًا الانتباه إلى العواطف لأنَّ بعض العواطف القوية قد تُصعِّب تحليل المعلومات بعقلانية. يدرك المديرون الناجحون تأثيرات العواطف ويعلمون أنَّ عليهم الانتظار ومعالجة الوضع المضطرب بعد أن تهدأ عواطفهم. غالبًا ما تقودنا العواطف القوية -سواء كانت إيجابية أم سلبية- نحو اتخاذ القرارات بسرعة وعفوية. هل سبق أن اندفعت وقمت بعملية شراء كبيرة كنتَ متحمِّسًا لها، ثمَّ ندمتَ على قيامك بذلك؟ هذا يدلُّ على مدى قوة العواطف وقدرتها على التأثير على قراراتنا. ينبغي عمومًا أن لا تُتخَذ القرارات الكبيرة باندفاع؛ بل ينبغي اتخاذها بعد تفكير وتأمل.
دور العواطف
إدراك دور العواطف وتأثيرها على عمليّة اتخاذ القرار لا يعني أنَّ علينا تجاهلها، إذ يمكن أن تكون العواطف بمثابة إشارات قوية تدلٌّنا على ما ينبغي علينا فعله ، خاصةً في المواقف ذات الصلة بالجوانب الأخلاقية. (سنتطرّق إلى المزيد عن اتخاذ القرارات في مثل هذه المواقف في فقرة الأخلاقيّات في الحياة العمليّة المذكور لاحقًا في هذاالمقال.) التفكير مليًا بشأن مشاعرنا تجاه الخيارات الممكنة ومعرفة الأسباب الكامنة وراء تلك المشاعر يمكنه أن يحسِّن من عملية اتخاذنا للقرارات. تعتمد عملية اتخاذ القرارات الفعَّالة على كلًا من المنطق والعواطف، لذلك أصبح الذكاء العاطفي من المميزات الشائعة لدى المديرين الفعَّالين, يُعرَّف الذكاء العاطفي بأنَّه القدرة على إدراك الفرد لمشاعره الخاصة ومشاعر غيره وفهمها وإداركها والانتباه لها، وهو يتطلَّب أن يكون لدى الفرد وعي وانضباط ذاتي، وينطوي في الأساس على التبديل بين العواطف والمنطق عن طريق تحليل العواطف وفهمها ثمَّ التحكم بها وإدارتها بما يتناسب مع الموقف. يتضمن الذكاء العاطفي أيضًا التعاطف مع الآخرين –أي القدرة على فهم عواطفهم (ووجود رغبة في القيام بذلك). أخيرًا، يتضمن الذكاء العاطفي وجود مهارات اجتماعية تساعدنا على إدارة الجوانب العاطفية لعلاقتنا مع الآخرين. يستطيع المديرون المدركون لعواطفهم الخاصة استنباط ما تعنيه عواطفهم في موقف معين واستغلال هذه المعلومات في اتّخاذ القرار النهائي، كما أنَّ المديرون الذين يستشعرون عواطف الآخرين بإمكانهم مساعدة المجموعات على العمل بطريقة فعَّالة أكثر والمشاركة في عمليات اتخاذ القرارات الجماعية بطريقة أفضل. على الرغم من أنَّ بعض الأشخاص يمتلكون ذكاءً عاطفيًا فطريًا، إلا أنَّه من الممكن اكتساب الذكاء العاطفي وتقويته بالممارسة. يبيِّن الشكل التالي مكونات الذكاء العاطفي.
القرارات المبرمجة وغير المبرمجة
- ما الفرق بين القرارات المبرمجة وغير المبرمجة؟
من المهم أن يميِّز المديرون بين القرارات التي يمكن أن يكون لها هيئة خاصة وسلسلة إجراءات محددة (القرارات المبرمجة) والقرارات ذات الطبيعة غير المألوفة التي تتطلَّب إعمال الفكر واسترعاء الانتباه (القرارات غير المبرمجة)، وذلك لأنَّ الوقت لدى المديرين محدود ويجب عليهم استغلال ذلك الوقت بحكمة حتى يكونوا فعَّالين.
القرارات المبرمجة
القرارات المبرمجة هي القرارات التي تتكرَّر على مر الزمن والتي يمكن وضع مجموعة من القواعد التي تساعد في عملية اتخاذها. قد تكون هذه القرارات بسيطة أو قد تكون معقَّدة إلى حدٍ ما، إلّا أن جميع المعايير المستخدمة في اتخاذها تكون معروفة مُسبقًا أو يمكن على الأقل تخمينها بدرجة مقبولة. على سبيل المثال، يُفترض أن يكون القرار المتعلِّق بتحديد كمية المواد الخام اللازم طلبها قرارًا مبرمجًا مبنيًا على المخزون الحالي وكمية الانتاج والمدة التي من المتوقع تسليم المنتج النهائي خلالها.
لنأخذ مثالًا آخر؛ تخيَّل أنَّ هناك مديرًا لأحد المتاجر يحاول وضع جدول العمل الأسبوعي للموظفين الذين يعملون بدوام جزئي. يجب على المدير أن يراعي مدى ازدحام المتجر في الأوقات المختلفة وأن يضع في الحسبان التغيرات الموسمية للعمل، كما يجب عليه مراعاة عدد العمال المتاحين للعمل آخذًا في الاعتبار الإجازات التي قد يطلبها الموظفون والتزاماتهم الأخرى (مثل دراستهم في الجامعة). قد تكون عملية وضع الجدول الزمني معقَّدة، ولكنَّها في الواقع تعتمد على اتخاذ قرارات مبرمجة، إذ أنَّها تتم دوريًا وتستند إلى معايير واضحة، ولذلك يمكننا وضع قواعد محددة لها. غالبًا ما يبني المديرون استدلالات (heuristics) أو طرق تفكير مختصرة لتسهيل عملية اتخاذ القرارات المبرمجة. على سبيل المثال، قد لا يعلم مدير المتجر كم سيكون المتجر مُزدحمًا خلال أسبوع الخصومات الكبيرة على الأسعار، ولكنَّه قد يزيد عدد العمال كعادته بنسبة 30% خلال تلك الفترة(لأنَّ هذا الأمر قد نجح إلى حدٍ ما في الماضي).
تُعدُّ الاستدلالات وسيلة فعَّالة، إذ أنَّها توفِّر وقت مُتَّخِذ القرار من خلال إيجاد حل مناسب بسرعة. ليس بالضرورة أن تُفضيَ الاستدلالات إلى الحل المثالي دومًا؛ فقد يتطلَّب الوصول إلى الحل المثالي عملية تفكير أكثر تعقيدًا، ولكن عادة ما ينتج عن الاستدلالات حلولًا جيدة وناجعة، وغالبًا ما تُستخدم في حالة القرارات المبرمجة لأنَّ الخبرة التي تكوَّنت نتيجة اتخاذ القرارات مرارًا وتكرارًا تساعد مُتَّخِذ القرار على معرفة النتائج المتوقعة ورد الفعل المناسب للموقف، كما أنّه من الممكن تعليم ونقل الخبرات الشخصيّة المتعلِّقة بالقرارات المُبرمجة للآخرين بسهولة، إذ يمكن تحديد القواعد والمعايير وكيفية ارتباطها بالنتائج وشرح ذلك بوضوح حتى يستطيع مُتَّخِذ القرار الجديد التوصُّل إلى قرار جيِّد. يُشار إلى القرارات المبرمجة في بعض الأحيان بـِ القرارات الروتينية لأنَّها لا تتطلَّب عملية تفكيرمعقَّدة عند الحاجة إلى التوصُّل إلى قرار. يوضِّح الشكل التالي أوجه الاختلاف بين القرارات المبرمجة والقرارات غير المبرمجة.
القرارات غير المبرمجة
بخلاف القرارات المبرمجة، فإنَّ القرارات غير المبرمجة هي قرارات غير مألوفة وليس لها قواعد محددة وعادةً ما تكون المعايير التي تحكمها غير واضحة ، كما أنَّ المعلومات المتوفِّرة في هذه الحالة غالبًا ما تكون غامضة أو غير مكتملة، وقد يلجأ مُتَّخِذ القرار إلى التفكير العميق والإبداعي للتوصُّل إلى قرار جيِّد. يُشار إلى هذه القرارات في بعض الأحيان بـِ القرارات غير الروتينية لأنَّها تتطلَّب قدرًا أكبر من الدراسة والتفكير. على سبيل المثال، تخيَّل أنَّ هناك مديرًا يحاول اتّخاذ قرار بشأن تبنِّي تقنية حديثة في شركته. دائمًا ما سيكون هناك أمور مجهولة في مثل هذه المواقف؛ هل ستكون التقنية الحديثة أفضل من الحالية؟ هل ستحظى بقبول على نطاق واسع بمرور الزمن؟ أم ستحظى تقنيّة أخرى باهتمام الزبائن؟ أفضل ما يستطيع المدير فعله في هذا الموقف هو جمع أكبر قدر ممكن من المعلومات ذات الصلة ودراستها لتخمين ما إذا كانت التقنية الحديثة جديرة بالاهتمام. من الواضح أنَّ القرارات غير المبرمجة تشكِّل تحديًا أكبر.
عملية اتخاذ القرارات
إنَّ اتِّخاذ القرارات المُبرمجة يعتمد على طُرق تفكير مُختصرة كما ذكرنا سابقًا، ولكنَّ الأمر مُختلف في حالة القرارات غير المُبرمجة التي تتطلّب وضع تسلسل فكري مُنظّم. يوضِّح الشكل التالي عملية اتخاذ القرارات غير المُبرمجة والتي يمكن تقسيمها إلى ست خطوات متسلسلة كما يلي:
- إدراك أنَّ هناك قرار ينبغي اتخاذه.
- وضع عدة خيارات.
- دراسة الخيارات.
- تحديد الخيار الأفضل.
- تطبيق الخيار المحدَّد.
- تقييم مدى فاعلية ذلك الخيار.
بالرغم من أنَّ هذه الخطوات تبدو واضحة، إلا أنَّ الأفراد غالبًا ما يتجاوزون بعض الخطوات أو لا يعطونها ما تستحقّ من الوقت والتفكير. في الواقع، سيرفض الناس في بعض الأحيان الاعتراف بوجود مشكلة لأنَّهم لا يعلمون كيف يتعاملون معها. سنتحدَّث عن المزيد من التفاصيل الخاصة بهذه الخطوات لاحقًا في هذا المقال عندما نستعرض طُرُقًا لتحسين جودة عملية اتخاذ القرارات.
قد تلاحظ وجود أوجه تشابه بين النظامين اللذين يستخدمهما الدماغ في اتخاذ القرارات ونوعي القرارات (القرارات المبرمجة والقرارات غير المبرمجة). عادة ً ما تكون القرارات غير المبرمجة بحاجة إلى المعالجة في أدمغتنا بواسطة النظام التأملي من أجل أن نتمكَّن من التوصُّل إلى قرار جيِّد. أمَّا بالنسبة للقرارات المبرمجة، فإنَّ الاستدلالات تتيح لمتخِذي القرارات بالتحويل إلى النظام الانفعالي السريع ثمَّ الانتقال بسرعة إلى مسائل أخرى.
ترجمة -وبتصرف- للفصلين How the Brain Processes Information to Make Decisions و Programmed and Nonprogrammed Decisions من كتاب Principles of Management
اقرأ أيضًا
- المقال التالي: معيقات عملية اتخاذ القرارات الفعَّالة
- المقال السابق: اتخاذ القرارات الإدارية
أفضل التعليقات
لا توجد أية تعليقات بعد
انضم إلى النقاش
يمكنك أن تنشر الآن وتسجل لاحقًا. إذا كان لديك حساب، فسجل الدخول الآن لتنشر باسم حسابك.