لو نظرت في قائمة المدن الأمريكية مرتبة بحسب السكان، فإنّ عدد الشركات الناشئة الناجحة للفرد الواحد يتباين بشكل كبير. كما لو أنّه قد تمّ رشّ معظم الأماكن بمبيد للشركات الناشئة.
لطالما حيّرني هذا الأمر لسنوات. كنت أرى متوسّط المدن بمثابة مصيدة صراصير لطموحات الناشئين: الأذكياء وأهل الطموح يهرعون إليه، لكن لا تنبثق منه شركة ناشئة جديدة. لم يكن بإمكاني أن أحدّد بالضبط ما الّذي كان يحدث داخل المصيدة، أو بأكثر دقّة ما الّذي كان يفني كلّ الشركات الناشئة المحتملة [1].
قبل بضعة أسابيع اهتديتُ أخيرا إلى تبيّن الأمر. كنت أخطأتُ في تأطير المسألة. ليست المشكلة في أنّ معظم المدن تقتل الشركات الناشئة. إنها في كون الفناء هو الافتراضي بالنسبة للشركات الناشئة، ومعظم المدن لم تكن تنقذهم منه. بدل التفكير في أنّ معظم المدن قد تمّ رشّها بمبيد للشركات الناشئة، فمن الأجدر أن نفكّر أنّ معظم الشركات الناشئة متسمّمة، وقليلة هي الأماكن التي جرى رشّها بالترياق.
الشركات الناشئة في أماكن أخرى تفعل بالضبط ما تفعله الشركات الناشئة عادة: الفشل. السؤال الحقيقي هو، ما الذي ينقذ الشركات الناشئة في أماكن مثل وادي السيليكون؟ [2]
المحيط
أعتقد أنّ هناك مكوّنين للترياق: التواجد في أماكن حيث إطلاق شركات ناشئة هو أفضل ما يمكن القيام به، وفرصة الالتقاء بأناس قادرين على مساعدتك. وما يجرّهما على حدّ سواء إنّما هو عدد العاملين على شركات ناشئة من حولك.
المكوّن الأول مفيد بشكل خاص في المرحلة الأولى من حياة شركة ناشئة، عندما تنتقل من مجرّد الاهتمام بتأسيس شركة إلى تأسيسها بالفعل. إنّها وثبة بأتمّ معنى الكلمة أن تطلق شركة ناشئة. ولكن الأمر يبدو مألوفا في وادي السيليكون. [3]
في معظم الأماكن، إذا أطلقتَ شركة ناشئة، سيعاملك الناس كما لو كنت عاطلا عن العمل. الناس في وادي السيليكون لن يُبهروا بك تلقائيا لمجرّد أنّك قمت بإطلاق شركة، لكنّهم سيولونك اهتمامهم. كلّ من زار وادي السيليكون ولو لبضعة مرات فقط يعرفون بأنّه يفضّل تجّنب الشّك بشكل قياسي، فلا مشكل إن كنت قليل الخبرة أو ما إذا لم تظهر فكرتك بأنّها واعدة في البداية لأنهم جميعا رأوا مؤسّسين ذوي خبرة محدودة وبأفكار غير واعدة تحولوا في سنوات قليلة إلى مليارديرات.
أن يكون لديك أناس من حولك يهتمون بما تفعل هو نقطة قوّة منقطعة النظير. حتّى أكثر الناس عزيمة يتأثّرون بذلك. بعد زهاء عام من إطلاقنا لـ Y Combinator قلت شيئا لأحد الشّركاء في إحدى شركات الاستثمار الجريء VC المعروفة أعطاه انطباعا (خاطئا) أنّي أنوي إطلاق شركة ناشئة أخرى. أجاب دون تمهّل بشكل دفعني إلى أن أفكر في القيام بذلك حتّى وإن لم يدم تفكيري في الأمر سوى نصف ثانية.
في أغلب المدن الأخرى، احتمال إطلاق شركة ناشئة لا يبدو واقعيًّا. في وادي السيليكون، لا يبدو الأمر واقعيا فحسب بل يُعتبر موضة. وهذا دون ريب ما يدفع إلى تأسيس شركات ناشئة من قبل كثير ممّن لا ينبغي لهم ذلك. ولكن أعتقد أنّ الأمر جيّد. قليلون هم الناس الذين يناسبهم إطلاق شركات ناشئة، ومن الصعب جدًّا التنبّؤ مسبقا (وأعرف ذلك عن تجربة بحكم أنني في مجال يدفعني إلى مُحاولة التّنبؤ بشكل مُسبق)، وبالتالي فإن وجود عدد كبير ممن لا يُفترض بهم إطلاق شركات ناشئة ومع ذلك يُطلقونها هو أمر صحّي. طالما كنت في مرحلة من عمرك حيث يمكنك تحمّل تبعات الفشل، فإنّ أفضل سبيل لمعرفة ما إذا كان يناسبك إطلاق شركة ناشئة هو أن تحاول ذلك.
الفرص
المكوّن الثاني للترياق هو فرصة الالتقاء بأشخاص يمكنهم أن يقدموا لك العون. هذه القوّة تعمل في كلتي المرحلتين: سواء في الانتقال من الرغبة في تأسيس شركة ناشئة إلى تأسيس واحدة بالفعل أو في الانتقال من إطلاق شركة إلى النجاح. قوّة فرص اللقاءات تتناسب طردًا مع الأشخاص المحيطين بك المهتمين بالشركات الناشئة، إنها بمثابة الخلفيّة الإشعاعيّة التي تؤثّر في الجميع بالتساوي، ولكنها في ذروتها أكثر قوّة.
فرص اللقاءات (Chance meetings) تتيح معجزات للتعويض عن الكوارث التي تعترض بشكل لافت الشركات الناشئة. في وادي السيليكون، تصيب الشركات الناشئة المصائب في كلّ الأوقات، تمامًا مثل ما يحدث مع الشركات الناشئة في كلّ مكان. السبب الذي يجعل الشركات الناشئة في وادي السيليكون تنجح هو أنّ أشياء عظيمة تحدث هنا أيضا.
على سبيل المثال، تعدّ موقعًا لطلاب الجامعات وتقرّر الانتقال إلى وادي السيلكون في الصيف للعمل عليه. ثم في أحد شوارع الضواحي العشوائية في "بالو ألتو" (Palo Alto) يصدف أن تواجه "شين باركر" (Sean Parker) الذي يفهم المجال بشكل جيّد لأنّه كان قد أطلق مشروعا مماثلا هو نفسه ولأنه أيضا يعرف كلّ المستثمرين. وعلاوة على ذلك له رؤية معمّقة مُتقدّمة عن روّاد الأعمال الّذين يحتفظون بالسّيطرة على شركاتهم.
لا يمكن أن تقول بالضبط كيف ستكون المعجزة، أو على الأقل إن كانت ستحصل واحدة لك. لكن ما يُمكن قوله هو: إذا كنت في مكان يُعتبر مركزًا للشركات الناشئة فإنّ أمرًا جيّدًا غير متوقّع سيحدث لك خاصة إذا كنت تستحقّه.
أراهن على صحة ذلك حتى مع الشركات الناشئة التي نموّلها. بالرّغم من أننا نعمل جاهدين على حدوث هذه الأمور معهم عن قصد وليس من قبيل الصدفة فقط، إلّا أن مقدار ومُستوى فرص اللقاءات في وادي السيليكون عالٍ جدًّا بحيث يُعتبر أكبر بكثير ممّا يمكننا نحن تقديمه.
تلعب فرص اللقاءات دورًا يشبه الدور الذي يلعبه الاسترخاء في توليد الأفكار. معظم الناس جربوا العمل الشاق على حلّ بعض المشاكل، ولعدم التمكن من حلّها، يستسلمون ويخلدون للنّمو ومن ثم قد يجدون الحلّ لدى استحمامهم في الصّباح. ما يسمح ببزوغ الحلّ هو السماح لأفكارك بالانجراف قليلا مما يُسبّب انجراف الأفكار التي دفعتك إلى الطريق الخاطئ الذي كنت تسلكه ليلة البارحة والانعراج إلى الطريق الصحيح المتاخم له.
تسمح لقاءات الصدفة لمعارفك بجرفك بنفس الطريقة التي تنجرف فيها أفكارك لمّا تستحم. الأمر المهم أنّه في هذي الأمرين معًا يتمّ جرفك بالمقدار المُناسب فقط. اللقاء بين "لاري بيج" و"سيرجي برين" كان مثالا جيّدا. سمحا لمعارفهما بجرفهما لكن بمقدار بسيط فقط، التقيا مع بعض لما كانا يجتمعان مع شخص آخر كانا يتشاركان معه الكثير.
بالنسبة إلى "لاري بيج" المكوّن الأهمّ للترياق كان "سيرجي برين" والعكس بالعكس. الترياق هو الناس. ليست البنية التحتية المادية لوادي السيليكون هي التي جعلت الأشياء تحدث، ولا الطقس ولا أيّ شيء من هذا القبيل. كلّ ذلك ساعد على الانطلاق ولكن الآن بحكم أن التفاعل مكتفٍ بذاته فالّذي يوجّهه هم النّاس.
العديد من الملاحظين نوّهوا إلى أنّ أحد أكثر الأشياء تميّزا بخصوص مراكز الشركات الناشئة هو إلى أي مستوى يساعد الناس بعضهم البعض بدون توقّع الحصول على مقابل. لست متأكّدا لم هي كذلك. ربّما لأنّ الشركات الناشئة هي أبعد ما تكون من الألعاب التي تكون صفرية المُحصّلة (يعني ليربح البعض يجب على الآخرين أن يخسروا) مقارنة بأغلب أصناف الأعمال التجارية، فنادرًا ما يقتل الشركات الناشئة منافسون لها. أو ربّما لأنّ عددًا كبيرًا من أصحاب الشركات الناشئة لديهم خلفيّات في العلوم حيث يتمّ تشجيع التعاون.
إن جزءً كبيرًا من مهمة Y Combinator هو تسريع تلك العمليّة. نحن أشبه ما نكون بوادي سيليكون في ثنايا وادي السيليكون، حيث كثافة الأشخاص العاملين في مجال الشركات الناشئة والرغبة في المساعدة مضخّمتان بشكل اصطناعي.
أرقام
كلا من مكوّنات الترياق (محيط محفّز للشركات الناشئة، وفرصة الالتقاء بأشخاص يساعدونك) – موجّهان بنفس الدّافع الخفي: عدد الأشخاص العاملين في الشركات الناشئة المُحيطين بك. حتّى تحدث مركزًا للشركات ناشئة تحتاج إلى العديد من الأشخاص المهتمين بالشركات الناشئة.
هنالك ثلاثة أسباب. الأوّل، من الواضح، أنّه إن لم يكن لديك ما يكفي من الكثافة، ففرص اللقاء لن تحدث [4]. الثاني، أنّ شركات ناشئة مُختلفة تحتاج إلى عدد مُختلف من الأشياء المختلفة، ولذلك فأنت تحتاج إلى عدد من الأشخاص لتزويد الشركات الناشئة بما تحتاج إليه. "شين باركر" كان بالضبط ما يحتاج إليه فيس بوك في عام 2004. شركة ناشئة أخرى قد تكون محتاجة إلى شخص في مجال قواعد البيانات أو شخصا لديه معارف في مجال صناعة الأفلام.
هذا واحد من دواعي تمويلنا لعدد عريض من الشركات، عرضيًّا. كلما كانت المجموعة أوسع كلما كانت فرصة التقائك بالشخص الذي يمتلك ما تحتاج إليه أكبر.
السبب الثالث أنت محتاج إلى الكثير من الناس لإطلاق مركز للشركات الناشئة هو أنه لمّا يكون لديك ما يكفي من الأشخاص المهتمّين بنفس المشكل، فإنّهم سينطلقون في ضبط المعايير الاجتماعية له. وإنّه لأمر قيّم عندما يكون المناخ من حولك مُشجّعًا لك على القيام بأشياء كانت ستبدو من دونه طموحة جدًّا. في معظم البقاع يسحبك المناخ نحو الوسط.
منذ أيّام طرتُ إلى منطقة خليج سان فرانسيسكو. أسجّل هذا كلّ مرّة أحلّق فيها فوق الوادي: بطريقة ما يمكنك أن تشعر بشيء يحدث هناك. من الواضح أنه يمكنك الإحساس بالازدهار في الكيفية التي تُحفظ بها الأماكن. لكن هناك أنواعًا مختلفة من الازدهار. وادي السيليكون لا يبدو مثل بوسطن أو نيويورك أو لوس أنجلوس أو واشنطن. حاولت أن أجد كلمة أستعملها لوصف الشعور الذي يشعّه الوادي، وكانت الكلمة التي تبادرت للذهن: التفاؤل.
هوامش
[1] أنا لا أقول إنه من المستحيل أن تنجح في مدينة مع عدد قليل من الشركات الناشئة، ولكن الأمر أصعب. إذا كنت قادرًا على رفع روحك المعنوية الذاتية فيمكنك المُواصلة دون تشجيع خارجي. "ووفو" (Wufoo) كانوا متمركزين في "تامبا" (Tampa) ونجحوا. لكن فريق عمل "ووفو" كانوا منضبطين بشكل استثنائي.
[2] بالمناسبة، هذه الظاهرة ليست مقتصرة على الشركات الناشئة. أغلب الطموحات غير الاعتياديّة تفشل، ما لم يعكف الشخص الذي يحملها على إيجاد المُجتمع الصّحيح الذي يدعمها.
[3] إطلاق شركة أمر اعتيادي لكن إطلاق شركة ناشئة أمر نادر. كنت تحدثتُ عن الفرق بينهما في مواضع أخرى، ولكن أساسا الشركات الناشئة هي أعمال تجارية صُمّمت لتنمو بسرعة. معظم الشركات الجديدة هي شركات خدمية وباستثناء حالات نادرة، لا تنمو هذه الشّركات بشكل سريع.
[4] لما كنت أكتب هذا المقال حدث أمامي مثال حيّ عن تركّز المُهتمّين بالشركات الناشئة في وادي السيليكون. كنت أقود أنا وجيسيكا نقود دراجتينا إلى شارع الجامعة في بالو آلتو للغداء في Oren's Hummus الرائع. بمجرّد أن دخلنا صادفنا Charlie Cheever الذي كان يجلس بالقرب من الباب. ثم توقّفت أمامنا Selina Tobaccowala لإلقاء التّحيّة لمّا كانت خارجة. ثم أتى Josh Wilson ليأخذ ما طلبه عبر الهاتف. وبعد الغداء ذهبنا لأكل بعض المُثلّجات وفي طريقنا التقينا Rajat Suri. ولمّا وصلنا إلى محل المُثلّجات وجدنا Dave Shen هناك. وبمجرّد خروجنا التقينا بـ Yuri Sagalov. مشينا معه قليلا لنلتقي بـ Muzzammil Zaveri ومن ثم بـ Aydin Senkut. هذه هي حياتنا اليومية في بالو آلتو. لم نكن نحاول أن نلتقي بجميع هؤلاء فكل ما رغبت فيه هو وجبة غداء فقط. وأنا متأكّد بأنه مقابل كل رائد أعمال أو مُستثمر أعرفه من الذين التقيتهم هناك 5 آخرون لا أعرفهم. لو كان Ron Conway معنا لالتقى بـ 30 شخص يعرفهم.
ترجمة -وبتصرّف- للمقال Why Startup Hubs Work لصاحبه بول جراهام (Paul Graham) مُؤسس حاضنة مشاريع واي كومبيناتور (Y Combinator). اقرأ المزيد من مقالات بول جراهام بالعربية
أفضل التعليقات
لا توجد أية تعليقات بعد
انضم إلى النقاش
يمكنك أن تنشر الآن وتسجل لاحقًا. إذا كان لديك حساب، فسجل الدخول الآن لتنشر باسم حسابك.