ما الذي يفصلك عن عباقرة من أمثال موزارت، وبيكاسو، وستيف جوبز؟ أهي الموهبة الطبيعية؟ أم أنه خلاصة الوقت الذي قضوه في التمرّن، وما كلفهم من دماء وعرق ودموع؟ ليس هذا تحديدًا.
تغيرت نظرتنا للأشخاص المميزين في أدائهم بشكل كبير خلال السنوات، فكنا نخال أن الأشخاص الذين ينجزون أعمالًا بارزة مختلفون عن الجميع نوعيًا، ولفترة طويلة، منعت فكرة "الموهبة الطبيعية" العلماء من الخوض بجدية في موضوع التميز.
هكذا كان الحال قبل صدور كتب مثل "الفريدون" لـمالكولم غلادويل، والذي استنتج أن التفوق يحتاج إلى تكريس آلاف الساعات للمهنة، وهكذا ولد "قانون العشرة آلاف ساعة".
إلا أن البحث الاستثنائي الذي قام به بروفيسور علم النفس K. Anders Ericsson كشف عن جانب أُهمل في هذه القضية، وهو أن وقت التمرين مهم من حيث النوع والجودة بقدر أهميته من حيث الكم، وهي ملاحظة غاية في الدقة، وغاية في الأهمية، وسيُحدث اكتشاف كيف تطبقها أثرًا عميقًا على عملك.
أخطار الوقوع في منطقة الراحة
يكون كل شيء جديدًا عليك ومثيرًا في سنواتك الأولى في العمل، على الرغم من وجود الضغط والأوقات العصيبة بالطبع، لكن يكون هناك أيضًا الكثير من الأشياء لتتعلّمها على أرض الواقع، فإدارة الأعمال تعلمك أشياء لن تتعلمها مطلقًا من المحاضرات والكتب، فلا بديل عن التجربة المُعاشة المثبتة واقعيًا، لكن بمرور الوقت، تتلاشى الإثارة، وتعلق في روتين التسويق والعناية بالعملاء وإسعادهم، ما يجعل جدول أعمالك ممتلئًا، فقد بنيت لنفسك عملًا ثابتًا.
يعود عليك كونك شخصًا بمستوى خبرة وموهبة عاليين -أي شخص مهيمن على مجال عمله- بالعديد من الفرص المثيرة للاهتمام، والسمعة الطيبة، والقدرة على التحكم بأسعارك كما تشاء دون أن يعترض أحد، إلا أن 99% منا لن يصلوا إلى هذا المستوى، ولا يعود هذا إلى الافتقار لحسن النية، كذلك، ففي النهاية، يدفع الناس لك مقابل خبرتك، فإيجاد الوقت أو الدافعية للتمرن على مهاراتك صعب عندما يكون على حساب التنازل عن فرص لجني المال.
لا يصل العديد من الذين يكرسون الوقت للتمرن يوميًا إلى المستويات العليا، لماذا؟
لماذا لا يصبح العديد منا من نخبة مجالهم
لنتصور نموذجًا لمسار شخص على مستوىً عالٍ (لكن ليس خبيرًا):
يتطورون سريعًا في البداية، فرغم أن هناك الكثير من الأشياء ليتعلّموها إلا أنه بوجود الحافز القوي يسير التقدم بخطىً واسعة، لكن عندما يبدأ هذا التطور بالتباطؤ، يبدأ العائد بالضمور مما يدفعهم إلى بذل المزيد من الجهد، حتى يصلوا إلى مرحلة تصفها Maria Popova من Brain Picking بـ"عقدة الاكتفاء"، وهي النقطة التي عندها نحصر أنفسنا في منطقة راحة حيث ننجز المهمات المطلوبة بكفاءة تجعلنا نكف عن الاهتمام بالتطوير.
أو باختصار، أننا نتحسن على نحو يكتفي بـخدمة العملاء، لكن ينتهي بنا المطاف بقضاء معظم أيام العمل كالآلات، وتخمل مهاراتنا بمرور الوقت، مما يُصعّب الارتقاء بجودة العمل إلى المستوى التالي إذا كنا سنكتفي بممارسة العمل في هذا النطاق.
بينما يقضي الأشخاص الأكفاء قدرًا جيدًا من الوقت بصقل مهاراتهم، وهذا ضروري لكن ليس كافيًا لتنتج بمستوى خبير، وعليهم تغيير كيفية صقلهم لهذه المهارات للوصول لذلك المستوى الأعلى، أي تغيير كيفية ممارستهم.
ما هو التمرن المدروس؟
لننطلق من البداية، ما هو التمرّن المدروس؟
يلخّص Corbett Barr هذا على نحو ممتاز، فهو يعرّف التمرّن المدروس بأنه "نشاط على مستوى عالٍ من التنظيم يتمحور حول إنجاز هدف محدّد أو تحسين الأداء."
تبنّى الأشخاص على نطاق واسع من المجالات -من موسيقيين، إلى رياضيين، إلى مدراء تنفيذيين وأبطال الشطرنج- هذا النمط من التمرين للوصول إلى القمة في مجالاتهم، وأنت يمكنك ذلك أيضًا!
ما الذي يميزه عن التمرن "العادي"؟
معظمنا لا يعتبر أن ما نفعله من يوم إلى آخر في أعمالنا تمرينًا على الاطلاق، فنحن فقط نلقي بالأعمال عن عاتقنا من مشاريع إلى تسويق إلى خدمة العملاء والزبائن، إلا أننا نتمرّن بطريقة ما، لكنها لاشعورية، فنحن نستمر بالضغط على أنفسنا للوصول إلى الـعشرة آلاف ساعة تبعًا لقانون غلادويل ونبني مهاراتنا بمجرّد التكرار، التمرّن المدروس في المقابل، أصعب بكثير، لأنه نشاط شعوري ومرهق، حيث يجبرنا على التركيز على نقاط ضعفنا بدلًا من نقاط قوتنا.
يشرح الصحفي Joshua Foer الاختلاف جيدًا فيقول:
اقتباس"عندما يعكف معظم الموسيقيين للتمرّن، فإنهم يعزفون الأجزاء التي يجيدونها، فالنجاح ممتع بالطبع، لكن يميل الموسيقيون الخبراء إلى التركيز على النقاط الصعبة التي لم يجيدوها بعد."
فعندما تتمرّن بشكل مدروس فإنك تتحدى وضعك لانتزاع نفسك من منطقة راحتك، مما يبني لك مهارات جديدة ويساعدك في الاستمرار والتحسّن.
ما هي المكونات الأساسية؟
إليك العناصر المتعارف عليها للتمرين المدروس الفعّال بفضل البروفيسور والكاتب Cal Newport :
- على التمرّن المدروس أن يكون مصمّمًا من قبلك بحيث يوسع قدراتك خارج منطقة راحتك، وهذا ما لا تقدمه معظم نشاطاتنا اليومية.
- على تمرّنك أن يتكرر كثيرًا، فلا يكفي التمرّن وحده فيجب أن يصاحبه التكرار الدائم الذي يطور مهاراتك إلى المستوى البديهي المطلوب.
- على التمرّن أن يكون مصحوبًا بالمراجعات لتقيّم كيف يسير، ورأيك هنا لا يُحسَب، للأسف، بل عليك الاعتماد على الأرقام التي تشير إلى أدائك (المبيعات، الاحصائيات، إلخ..) لإدخال التعديلات اللازمة لتمرّنك.
- على تمرّنك أن يكون متطلّبًا للتركيز والانتباه، فهذا ما يميزه عن النشاطات الروتينية التي تقوم بها يوميًا بلا شعور.
- يُفترض بتمرّنك أن يكون صعبًا، ليس من الممتع التركيز على نقاط ضعفك أكثر من نقاط قوتك، لكن هذا هو ثمن الوصول إلى القمة في مجالك.
- على تمرّنك أن يكون ذا أهداف جيدة، محددة وواضحة لا غموض فيها كي لا تقودك إلى نتائج لم ترغب بها، والأهداف الجيدة تتمحور حول إحراز التقدم، وهو ما نرغب به. اطّلع على بعض الأهداف الذّكية.
الاستفادة من التمرن المدروس في مجالك
قد يبدو التمرّن المدروس لعملك أكثر تعقيدًا من شيء بقواعد ومؤشرات نجاح واضحة كلعب الغولف أو الشطرنج، لكن هذا ليس بضروري. جرّب هذه النصائح لتقسيم عملك إلى أجزاء سهلة صغيرة الإدارة وتطور لنفسك نظام التمرّن الذي تحتاجه لتصبح خبيرًا حقيقيًا:
انسَ أمر النجاح الفوري
وهذه فكرة تضرب بجذورها بعمق في ثقافتنا، لكن حان وقت وضعها جانبًا قبل المضي قدمًا، فأخبارنا مليئة بـ"قصص نجاح في ليلة واحدة" عن مؤسسي مشاريع، وكاتبين ظهروا من العدم ليكسبوا مئات الملايين من الدولارات على سلسلة كتبهم، وفكرة أن تصبح الناجح التالي بهذه الطريقة لهي فكرة جذابة بلا شك، عندما تصدقها، فتُحمّل مسؤولية نجاحك للحظّ أو الظروف المناسبة بدلًا من نفسك. إلا أن هذا خطر، لأن الناس يتذرعون بذلك لاستمرارهم بفعل ما يفعلونه، ولم يكن هناك الكثير من النجاحات الفورية مثل هذه التي نسمع عنها، فلمَ نحاول تغيير الأمور الآن؟ والواقع أن ما يظهر أنه نجاح آني، هو نتيجة عشر سنوات أو أكثر من التمرّن المدروس المتناسق في مجالهم، ففي دراسة شملت 500 من أكثر سيمفونيات العالم تأثيرًا لـ76 مُلحّن، وجد بروفيسور علم النفس الإدراكي John Hayes أن كل قطعة استغرقت 10 سنوات على الأقل من حياة الملحن على ما يبدو. إذًا، حان الوقت للتوقف عن حسد الآخرين على نجاحهم أو الحلم بأن نصبح في مكانهم، فهناك وسيلة واحدة لتحقيق الأحلام: الكثير من التمرّن المدروس.
قسم التمرين إلى أجزاء مفصلة متناهية الصغر وأنجزها على حدى
قد تبدو فكرة التدرب من أجل عملك مروعة، لكنها منطقية، إذ أنه العمل في حالة حراك مستمرة في أي مجال كان، فهناك تسويق وتطوير المنتجات، وجذب العملاء و كتابة المحتوى، وتطول القائمة أكثر وأكثر خصوصًا إذا كان كل هذا عاتقك وحدك. وهذا ما يجعل التركيز تحديدًا على المهارات التي تود تطويرها فكرة جيدة، لكن لا تنغمس في جانب واحد فقط من العمل، وإلا سيؤدي بك هذا إلى هدف مثل تطوير مهاراتك في التسويق، وجني الثمار من شيء كهذا لهو مسألة معقّدة، لنقل أنك تود تطوير مهارات التسويق لديك، هذه بداية جيدة، لكن فكر إلامَ ستصل عندما تتعمق في الأمر؟ هكذا:
- أود تطوير مهارات التسويق لدي من أجل…
- أود تطوير مهاراتي في جذب العملاء من أجل…
- أود أن أتعلم كيفية كتابة رسائل البريد الإلكتروني أفضل من أجل… جميع النقاط الثلاثة السابقة تؤدي إلى واحدة: الحاجة إلى تطوير كتابك لعناوين الرسائل الإلكترونية، وهذا شيء يمكنك العمل عليه، يمكنك تفحص بريدك الوارد ورؤية أي الرسائل أثارت اهتمامك لتفتحها ولماذا، وطبّق الملاحظات على بعض الرسائل التي تصلك بعدها أو ترسلها، وميز بينها لتعرف أكثرها نجاحًا، ثم انتقل إلى تطوير عنصر آخر من مهاراتك بعد أن ترى مؤشرات على نجاحك في تطوير هذه المهارة، والتي ستتمثّل في زيادة معدل مبيعاتك، في هذه الحالة.
اتبع نمط التمرين الذي تتبعه نخبة مجالك
لم يكشف لنا بحث الدكتور Ericsson عن وسيلة التمرّن المدروسة لدى الناجحين عالميًا فقط، بل أيضًا عن الأنماط الشائعة التي يتبعونها في هذه العملية، أي منهجهم في التمرّن، سيأخذك التركيز على النقاط المهمة إلى القمة، لكن لكيفية تركيزك عليها آثار من حيث الوقت الذي تستغرقه، ومدى صعوبتها. إليك بعض ملاحظات الدكتور لتطبّقها على تمرينك:
- يستطيعون التمرّن لمدة ساعة واحدة فقط دفعة واحدة.
- العديد يبدأ في الصباح وقت تكون عقولهم نشطة.
- يتمرّنون بنفس القدر يوميًا، حتى في عُطل نهاية الأسبوع.
- حدّهم الأقصى 4 ساعات من التمرّن المدروس يوميًا.
- يصابون بالإرهاق إن لم يحصلوا على قسط كافٍ من النوم. يشكل التمرّن المدروس تحديًا، ابدأ بداية بسيطة ثم شق طريقك، حتى لو كان لديك ساعة فراغ واحدة في اليوم، فإنك ستتفوّق بها على منافسيك الذين عدد ساعات تمرّنهم هو صفر، على الأغلب.
احصل لنفسك على مرشد
لن يقوم مرشدك بعملك الذي تحتاجه للتفوق في مجالك، لكن يمكنه اختصار سنوات من الطريق لك، فالتّوجيه من شخص متقدم عليك وتعتبر نجاحه نموذجًا تحتذي به سيساعدك في إيجاد الطرق السهلة في سبيلك. هناك أعداد ضخمة من الكتب والمعلومات المتوافرة على الإنترنت والتي يمكنها العمل كمرشدة لك، هذا أفضل بكثير من التمرّن الأعمى، لكن هذا لن يحل محل مرشد ينبض بالحياة لتتبادل الأفكار معه. جد شخصًا مستعدًا لمساعدتك في تمهيد طريقك بحيث يطورك بطريقة مجدية، وإن كان مرشدًا جيدًا فسوف يدفعك خارج منطقة راحتك، لكن ليس بمبالغة.
تحد توقعاتك لجعل الأمر مسليًا
لا مفر من الالتزام بهذه النقطة في تمرينك كي تستفيد منه، وفكرتها هي الاستمرار بالتطور البسيط المستمر، فحتى لو تطورت بمعدل 1% أسبوعيًا، تخيل الفرق الذي ستشهده خلال سنة أو سنتين، الطريق إلى القمة طويل، لكن ستصل هناك بالتمرين الصحيح، إلا أن عائقك الأكبر هو نفسك، فالمعركة نفسية، والخصوم هم الملل وانخفاض الدافعية. إلا أن لديك القدرة على جعل الأمور ممتعة إذ أن وسائل التمرين بيدك أنت، فلا تخف من بعض التغيير فيها أو التشكيك في بعض افتراضاتك حول المهارات التي يمكنك ولا يمكنك تطويرها، فهذا ما قام به بعض المدراء الذين كانوا تحت سطوة وهم أن الجاذبية "الكاريزما" هي شيء تولد به ولا يد لك في امتلاكه، فماذا فعلوا إذًا؟ تحدوا افتراضاتهم ببعض تمارين التمثيل التي صمّمها أشخاص بخلفيّة عن الموضوع، وانعكس ذلك في نهاية المطاف على تواصلهم بإضفاء الجاذبية إليه.
طريق التفوق
اسمع هذا النداء إذا كنت عالقًا في منطقة راحتك وروتينك: سيجعل التمرين المدروس اليومي العمل أكثر متعة لك، والأهم من ذلك أنه سيدفعك إلى مستوى المنافسة مع النخبة. فور أن تستوعب هذا المفهوم، ترجم هذا الاستيعاب عمليًا في جوانب حياتك التي تود تطويرها، سواء كانت رياضة، تعلم لغة، أو فن، أو حتى الحركات البهلوانية، ستأخذك الخبرة في التمرن بيد إلى التفوق في أي شيء تتمناه.
ترجمة -وبتصرف- للمقال Why Your Business Needs Deliberate Practice (and How to Do it) لصاحبه Corey Pemberton
أفضل التعليقات
لا توجد أية تعليقات بعد
انضم إلى النقاش
يمكنك أن تنشر الآن وتسجل لاحقًا. إذا كان لديك حساب، فسجل الدخول الآن لتنشر باسم حسابك.