أنا أقابل عددًا ﻻ حصر له من الناس وأحظى معهم بنقاشات عمل رائعة بحكم عملي المستقل، وقد صار كثير من هؤلاء الناس من عملائي، ثم أصبح بعض هؤﻻء أصدقاء لي.
ولعلك تعلم أن كونك مستقلًا يعني أيضًا أن تكون المساعد الشخصي لنفسك -إﻻ إن وظّفت واحدًا طبعًا-، والمحاسب وربما المحامي أيضًا -رغم أني أنصحك بشدة أن تستشير محاميًا متخصصًا إن أمكنك-، فالشاهد أن ذلك يعني قضاء ساعات وربما أيام بين الرسائل البريدية التي تناقش المشاريع ومواصفاتها وأبعادها، وبين مكالمات سكايب أو الاجتماعات الحقيقية وكتابة العقود وتوقيعها، كل ذلك قبل أن أصل إلى الجزء الذي أحسنه، وهو كتابة الشفرة البرمجية.
وإنني أعرف كثيرًا من المطورين الذين لا يفضّلون هذه الأبعاد “غير البرمجية” من حياتهم المهنية أو من كونهم مبرمجين، لذا يلجأ بعضهم إلى توكيل أحد لمعالجة “مرحلة اﻻحتكاك بالعميل” كما تسمّى، ﻻ عجب أن توجد خدمات قائمة على هذا النموذج الربحي خاصة.
ومبدأ هذه الخدمات بسيط ومباشر، وهو إيجاد عميل ومستقل مناسبين لبعضهما ومعالجة مرحلة الاحتكاك الأولي بينهما، هذا يعني أن الشركات التي تريد مستقلين (مطورين، مصممين، .. إلخ) ليس عليها أن تبحث عنهم بنفسها، فتلك الخدمات الوسيطة تقدم لهم المطور المناسب الذي سيلبي احتياجاتهم من مجتمع من المطورين الموهوبين الذين جمعتهم تلك الخدمات. وليس على ذاك المطور أن يشغل باله بمواصفات المشروع ونقاشاته، بل يقفز مباشرة إلى العمل بمجرد موافقته على المواصفات المذكورة في المشروع.
وتعتمد هذه الخدمات على أسلوب التسعير بالساعة -في نطاق معيّن من الأسعار عادة-، من أجل جعل عملية تقدير تكلفة المشاريع مباشرة و”حسابية”.
وقد تواصلت معي ممثلة لإحدى هذه الشركات الخدمية لتعرض علي أن أكون جزءًا من مجتمع الموهوبين لديهم من المطورين المستقلين، وتعدني بالمشاريع العظيمة مع نطاق واسع من الشركات الكبيرة والصغيرة على السواء، كل ذلك بينما أركّز أنا على العمل الأساسي في المشروع دون أن أشغل نفسي بمفاوضات المشروع مع العميل ﻷنهم سيقومون بذلك عني.
ثم أعطتني نبذة عن الشركة وطريقة عملها، وكيف يتم اختيار وترشيح أعضاء مجتمعهم قبل أن يوظفوهم فعليًا، وعرضت علي فرصة الانضمام إلى هذا المجتمع، وهو إطراء أقدّره كثيرًا ﻷنهم يختارون الأشخاص الذين يرون فيهم مهارة عالية في مجالاتهم كي يقدّموهم إلى العملاء.
وبعيدًا عن النموذج الربحي الذي ﻻ أتّبعه شخصيًا في عملي، فإن السبب الرئيسي الذي جعلني أرفض هذا العرض هو أنهم يعدونني بمعالجة الاحتكاك بيني وبين العملاء المحتملين، إذ أني ﻻ أريد تخطي تلك المرحلة أصلًا، بل على العكس تمامًا، فأنا أحبها.
صحيح أن ذلك يعني مزيدًا من الساعات التي سأقضيها في المناقشات وساعات أقل للعمل، لكني أعدّ هذا جزءًا أساسيًا من حياتي في العمل المستقلّ، وهو الطريق الذي اخترته لنفسي قبل سنوات ولم أنظر للوراء ثانية بعدها، وتلك الساعات التي تقضيها في الحديث مع العملاء هي أحد الوسائل التي يمكنك أن تطوّر نفسك من خلالها كمستقل وكإنسان أيضًا.
وأنا أحب الحديث إلى عملائي والاجتماع بهم في سكايب، أتعرف عليهم وعلى أهداف شركاتهم ومشاريعهم، وأسمعهم يتحدثون عن مشاريعهم بشغف ولماذا اختاروها وأين يريدون أن يصلوا بها، والأهم من ذلك كله هو سماعهم يذكرون السبب الذي جعلهم يختارون العمل معي لمساعدتهم على تحقيق هذه الأهداف، وذلك كله كنت سأفقده لو وافقت على العمل من خلال تلك الشركة الخدمية آنفة الذكر.
إضافة إلى أن الحديث مع عملائي له أبعاد أكثر من احتياجات المشروع، فقد كنت على تواصل دائم وثابت مع الفرق التي تعمل على المشاريع التي أعمل عليها، من المصممين إلى المبرمجين من أمثالي وحتى المدراء التنفيذيين، ونتواصل عبر قناة Slack مثلًا، ونخصصها لمناقشة تفاصيل المشروع، وطبعًا فإن طبيعة عملي في المشروع تتعدى مجرد تحويل التصميم إلى شفرة برمجية، فهناك نقاشات حول تصميم تجربة الاستخدام من حيث علاقتها بملائمتها لشرائح العملاء المختلفة مثلًا.
إن أحد الأسباب التي تجعل الشركات الوسيطة تعتمد أسلوب التسعير بالساعة هو أنهم يريدون إراحة المستقلين والعملاء على حد سواء من الإرهاق الذي ينتج من تغيرات أبعاد ومواصفات المشروع، لكن ذلك لم يكن مصدر قلق لي، ذلك أني أتواصل مع العميل وأتحدث معه مباشرة.
بل إن هذا “الاحتكاك” هو ما يجعلني أتناقش مع العميل بكل حرية بما في ذلك مناقشة مستقبل المشروع، واحتمال تدخلي في مراحله المختلفة، وهو ما جعلني أصل إلى العمل مع عملاء مثل Provata مرة بعد مرة على مر السنوات الفائتة، وقد كان واضحًا بين وبين عملائي أن أي تغير في أبعاد ومواصفات المشروع ينعكس على العقد بيننا، ويحدث ذلك بسلاسة ﻷننا تناقشنا مسبقًا حول احتمال حدوث هذا من أول تواصلنا في المشروع، أثناء مرحلة “الاحتكاك” إن شئت أن تسمّيها.
ﻻ تتوقع أن تنمو علاقة ما إن كنت تبني حائطًا بينك وبين الشخص الذي معك في تلك العلاقة، وذلك صحيح في حالة علاقات العمل كما هو صحيح في العلاقات الشخصية، فالعمل مع عملاء ﻻ أستطيع مناقشة تفاصيل المشروع معهم ولا أستطيع التواصل معهم لن يسمح لي أبدًا أن أكوّن صداقات مع الأشخاص الذين يعملون في الناحية الأخرى من المشروع، لكن العمل مع أشخاص مختلفين على مشاريع مختلفة هو أحد اﻷبعاد التي أفضّلها في عملي المستقل، وهو أحد الأسباب التي جعلتني أتجه إلى هذا النمط من العمل قبل سنوات من الآن، بدلًا من العمل لصالح شركة كبيرة.
وربما تعرف ذلك الشعور بالوحدة الذي يخيم على نمط عملك وأنت تجلس خلف شاشة تتحدث إلى أشخاص يجلسون خلف شاشات أخرى في مكان آخر من العالم، وقد يخفف عنك هذه الوحدة ذهابك للمؤتمرات التي تهتم بمجالك وحديثك إلى أشخاص يشاركونك نفس الاهتمامات، لكن ذلك يحدث بضع مرات في العام، ما يجعل بنائي لحائط بيني وبين العملاء الذين يمثّلون فرصة للاختلاط بالناس -ولو من وراء شاشة- أمرًا لا أستطيع تحمله، فإن هذا أشبه بآلة شفرة برمجية تحصل على معطيات (تفاصيل المشروع)، وتنتج مخرجات (الشفرة البرمجية) بشكل يومي، دون الجانب الإنساني من هذا العمل.
لذلك فإن كل ما وعدتني به تلك الشركة الخدمية لم يكن يمثّل مصدر قلق لي إطلاقًا، ولهذا رفضت عرضها للانضمام إلى مجتمعها.
لكن مع هذا، فإني ﻻ أقصد تقليل قيمة ما تقدّمه هذه الشركات الوسيطة، بل على العكس، فأنا أدرك كيف تكون مثل تلك الشركات مفيدة للغاية إن كان المستقل يقدر أجره بالساعة، إذ يمكنه العمل على أكثر من مشروع في نفس الوقت إن خصص بضع ساعات كل أسبوع لكل مشروع، أو إن كان لديه وظيفة بدوام كامل ويريد أن يعمل بضع ساعات إضافية دون أن يرهق نفسه بتفاصيل ونقاشات حول كل مشروع.
لهذا فإني أرى بوضوح كيف يمكن أن تساعد هذه الشركاتُ المستقلين على أن يعملوا أكثر ويعملوا بشكل أفضل، فربما تكون فكرة تلافي الاحتكاك بينك وبين العميل مقبولة لك من الأساس إن كنت ﻻ تحب أن تشغل نفسك بالشؤون الإدارية كثيرًا، فاﻷمر مرده إلى التفضيل الشخصي في النهاية.
هل الاحتكاك مع العميل سيء لهذه الدرجة؟
كلا، قطعًا، على الأقل ليس بالنسبة إلي، فبدون ذلك الاحتكاك لم أكن لأكسب صداقات مع أولئك الأشخاص الرائعين الذين أعرفهم اليوم، لذا حاول أن تستمتع بالأمر إن كنت مستقلًا وتستخرج منه أقصى ما يمكنك.
ابن جسورًا، وليس حوائط.
ترجمة -بتصرف- لمقال Build Bridges, Not Walls لصاحبته سارة سويدان.
حقوق الصورة البارزة محفوظة لـ Freepik
أفضل التعليقات
لا توجد أية تعليقات بعد
انضم إلى النقاش
يمكنك أن تنشر الآن وتسجل لاحقًا. إذا كان لديك حساب، فسجل الدخول الآن لتنشر باسم حسابك.