هناك الكثير من الأفكار لشركات ناشئة أمام أعيننا، لكن أحد أسباب عدم رؤيتنا لها هي ظاهرة أسميها "عَمَى الأعمال المُملّة" أو schlep blindness بالإنجليزية. schlep في الأصل هي كلمة يديشية لكن انتشرت وأصبحت متداولة في الولايات المتحدة الأمريكية، وتعني مهمة "مملة" أو "كريهة".
لا أحد يحب المهام المملة المزعجة، خاصة مُحترفو التقنية Hacker حيث أنهم يكرهونها بشدة، فمعظمهم خاصة الذين يُطلقون شركات ناشئة يتمنون لو كان باستطاعتهم تحقيق النّجاح عبر الاكتفاء بكتابة برنامج ورفعه على خادوم ثم الجلوس لمُشاهدة زحف الدولارات إلى حساباتهم البنكية دون الحاجة إلى التحدث مع المستخدمين أو التفاوض مع شركات أخرى أو عقد صفقات مع أناس آخرين. قد يكون ذلك ممكنًا، لكني لم يسبق لي أن شاهدته.
أحد الأشياء التي نقوم بها في "Y Combinator" هو تعليم روّاد الأعمال بأن هذه المهام المملة شرّ لا بد منه، حيث أنك لا تستطيع أن تبدأ شركة ما بمجرد كتابة شيفرة التّطبيق فحسب. لقد أدركت ذلك بنفسي، خلال 1995 عندما كنت أحاول أن أقنع نفسي أني أستطيع إنشاء شركة بمُجرّد التركيز على الجانب البرمجي لها، لكن تعلمت سريعًا –بالخبرة- أن المهام المملة ليست ضرورية فحسب، لكنّها أساس إطلاق الشركة. يتم تحديد نعالم الشركة من خلال المهام المملة التي يتوجّب عليك القيام بها، وينبغي التعامل مع هذه المهام بنفس طريقة التعامل مع حوض سباحة ماؤه بارد: كلّ ما عليك القيام به هو أن تقفز إليها. لكن هذا ليس معناه أن تبحث عن الأعمال المملة بنفسك، كل ما ينبغي عليك القيام به هو ألا تهرب منها إذا صادفتها في طريقك لعمل شيء عظيم.
إن أخطر شيء فيما يخص كرهنا لتلك المهام هو جانب اللاوعي الذي يُرافقها، حيث أن عقلك اللاواعي لن يعطيك حتّى فرصة مُشاهدة هذه الأفكار التي تحتوي على مهام مملة، وهذا بالضبط هو "عَمَى الأعمال المُملّة" schlep blindness
ولا تقتصر هذه الظاهرة فقط على الشركات الناشئة، فمعظم الناس لا يقررون بكامل وعيهم أنهم لن يحصلوا على قوام رياضي يشبه أبطال الأولمبياد مثلاً، عقولهم اللاواعية هي التي تقرر ذلك نيابة عنهم، مبعدة إياهم عن العمل الممل المطلوب لذلك.
أقوى مثال أعرفه عن "عَمَى الأعمال المُملّة" هو شركة "Stripe" أو بالأحرى فكرة الشركة نفسها، فخلال عقد كامل، لم يسلم أي مُبرمج احتاج أو تعامل مع الدّفع الإلكتروني من التّعرض لهذه المُشكلة. آلاف الناس يعرفون عن هذه المشكلة، ورغم ذلك، عندما يقومون بتأسيس شركات ناشئة فإنهم يقررون أن يبنوا مواقع لوصفات طبخ، أو مواقع لتجميع الأحداث المقامة محليًا. هذا الأمر يدفعنا إلى التّساؤل، لماذا العمل على مشاكل لن يهتم لها سوى قلّة من النّاس ولا أحد يدفع من أجلها المال، في حين أنه يمكنك العمل على إصلاح واحدة من أهم مكونات البنية التحتية في العالم؟ ذلك لأن "عَمَى الأعمال المُملّة" يمنع الناس من مجرد التّفكير في إصلاح مشكلة الدفع الإلكتروني.
تقريبًا لا أحد من الذين تقدموا لـ "Y Combinator" للعمل على موقع لوصفات الطبخ بدأ بسؤال "هل ينبغي أن نصلح مشكلة الدفع الإلكتروني أم أن نبدأ موقعًا لوصفات الطبخ؟" واختار بعد ذلك موقع الطبخ، فبالرغم من أن فكرة إصلاح الدفع الإلكتروني كانت موجودة من البداية، لكنهم لم يروها لأن عقولهم اللاواعية أبعدتهم عن التعقيدات المتوقعة في الفكرة. ينبغي عليك إبرام عقود مع البنوك، وأن تطّلع على آلية القيام بذلك، بالإضافة إلى أنك ستقوم بتحويل الأموال، وهذا يعني أنك مضطر أن تتصدّى للمحتالين، وللذين يُحاولون اختراق خواديمك بشكل مُستمر، بالإضافة إلى أن هناك الكثير من القوانين التي يجب أن تتقيد بها، فإن كل هذا يعتبر أمرًا مخيفًا لتؤسس شركة ناشئة، وليس الوضع كذلك عندما تنشئ موقعًا عن الطبخ.
هذا الخوف يجعل الأفكار الطموحة قيّمة بشكل مضاعف، فبالإضافة إلى قيمتها الداخلية، فإنه يُساء تقدير قيمتها أيضًا بحكم أن قلّة من المُؤسّسين يتّجهون نحوها. إذا اخترت فكرة طموحة، ستحصل على منافسة أقل، لأن الآخرين جميعًا سيخافون من التحديات المتضمنة عليها الفكرة (نفس الأمر ينطبق على فكرة تأسيس شركة ناشئة).
كيف تتغلب على عَمَى الأعمال المُملّة؟ في الحقيقة، فإن أقوى علاج لعَمَى الأعمال المُملّة الجهل بحقيقة الأمور. معظم مؤسسي الشركات الناجحين يقولون أنهم إذا كانوا يعرفون عندما بدؤوا شركاتهم حجم العوائق التي ستواجههم ما كانوا ليفكّروا في تأسيسها منذ البداية، وقد يفسر هذا السبب الذي يجعل معظم مؤسسي الشركات الناجحة الآن من الشباب.
عمليًا، فإن المؤسسين ينضجون مع المشاكل، لكن يبدو أن لا أحد يستطيع التنبؤ بذلك، ولا حتى المؤسسين الأكبر سنًا والأكثر خبرة، لذلك فإن السبب في تميز المؤسسين الصغار هو أنهم يرتكبون خطأين يُبطل أحدهما مفعول الآخر، هم لا يعلمون إلى أي مدى يُمكنهم أن ينموا، لكنهم أيضًا لا يعرفون ما هو الحجم الذي يحتاجون أن يصلوا إليه في نموهم هذا، أما المؤسسين الأكبر سنًا فسيرتكبون الخطأ الأول فقط.
لكن بالرغم من ذلك فإن الجهل لن يحل كل شيء، فبعض الأفكار تحتوي قدرًا عاليًا من الأعمال المُملّة بشكل يجعلها ظاهرة للجميع. لكن كيف يُمكنك أن تتصيّد مثل هذه الأفكار؟ الحل التي أنصح به هي أن تُخرج نفسك من الصورة، فبدلاً من أن تسأل "أي المشاكل عليّ أن أحلها؟" اسأل "أي المشاكل أتمّنى أن يقوم أحدهم بحلّها لي؟"، فإذا كان أحد الذين واجهوا مشاكل مع الدّفع الإلكتروني قد سبق لهم أن طرحوا هذا التّساؤل فستكون Stripe هي الإجابة عليه..
إن كان من المتأخر جدًا إطلاق Stripe أخرى الآن فإن هناك الكثير من المشاكل التي لا تزال تنتظر حلولًا إذا كنت تعرف كيف تقتنصها.
ترجمة -وبتصرّف- للمقال schlep blindness لصاحبه Paul Graham (بول جراهام) مُؤسس حاضنة مشاريع واي كومبيناتور (Y Combinator). اطّلع على باقي مقالات بول جراهام المترجمة إلى العربية
أفضل التعليقات
لا توجد أية تعليقات بعد
انضم إلى النقاش
يمكنك أن تنشر الآن وتسجل لاحقًا. إذا كان لديك حساب، فسجل الدخول الآن لتنشر باسم حسابك.