اذهب إلى المحتوى

من مأثورنا العربي أنّ فقيرًا كان يجري عليه من جاره التّاجر كلّ يوم شيء من سمن وعسل، فكان يتقوّت ببعضه، ويرفع الباقي في جرّة يعلّقها فوق فراشه. وحدث ذات يوم أن استلقى وبيده عصاه، وراح يتخيّل: "سأبيع الجرّة بكذا دينار، وأشتري بثمنها عنزًا. فإذا ولدت العنز بعتها واشتريت بثمنها بقرًا". وطال به الخيال إلى أن بنى في أحلامه قصرًا، وتزوّج غانيةً حسناء، وأنجب منها صبيًّا. "أربّيه خير تربية، فإمّا أن يطيعني، وإلا ضربته بالعصا". ورفع عصاه فكسر الجرّة واندلق ما بها على الأرض.

ويضرب هذا مثلًا في من يتواكل ويرجو النّجاح، ومن ذلك روّاد الأعمال الّذين يبنون منتجًا، ويأملون جلب المنتَجِ للعملاء. ومقبرة ريادة الأعمال ملأى بأمثال هؤلاء من الشّركات النّاشئة، الّتي فشلت في تحقيق اتّصال بالعملاء فاندثرت وزالت. وقد تبيّن في دراسة حديثة أنّ 75% من الشّركات النّاشئة الّتي يدعمها ذوو رؤوس المال المخاطرون تفشل وتختفي. لهذا ينبغي ألاّ تبني منتجًا وتعلّق آمالك عليه في جلب العملاء.

من أمثلة الشّركات الّتي أطلقت منتجًا من دون اكتشاف عملائها قبل الإطلاق، نذكر جوسيرو Juciero، والتي كان منتجها عبارة عن عصّارة بـ 699 دولارًا، بحيث تعصر علبًا من الخضروات والفواكه المقطَّعة، لتنتج عصيرًا باردًا، لكنّ اكتشاف العملاء لإمكانية عصرهم للعلب بأيديهم، جعلهم يتلافون عن دفع الثّمن الباهظ للعصّارة.

تُعَدّ عمليتي اكتساب العملاء والحفاظ عليهم صعبة، إذ عليك العمل جاهدًا لإقناع العميل بالتّعامل معك، بل والعمل بجهد أكبر لإقناعه بالتّعامل معك مجدّدًا. وقد أظهرت دراسة أجرتها شركة تحليل المعلومات سي بي إنسايتس CB Insights تحت عنوان "لماذا فشلت 101 شركة ناشئة؟" أنّ 42% من تلك الشّركات كانت قد قدّمت منتجًا أو خدمة لم تكن لهما حاجة أصلًا في السّوق، وهو ما يعني مشكلة عملاء، أو بالأحرى مشكلة عدم وجود عملاء.

تعكس التوجّهات الحالية في التّفكير الرّياديّ منهجيّةً تتمحور حول العميل، حيث يدمج روّاد الأعمال من البداية اكتشافاتهم في العمليّة التّخطيطيّة، فيما يسمّى "اكتشاف العميل" "customer discovery"، وينبغي أن تبدأ الرّحلة الرّياديّة بالعثور على ثنائيّة المشكلة والحلّ المتوافقين، أو كما يسمّيها رائد الأعمال المتسلسل، والكاتب، والمدرّس، وأحد مؤسّسي ريادة الأعمال الحديثة ستيف بلانك بـ the problem/solution fit وتعني "تناسب المشكلة والحلّ". ويناقش مارك آندريسن مؤسّس موزاييك Mosaic ونتسكيب Netscape في مقاربة متمّمة، الحاجةَ إلى تحقيق تناسب المنتج والسّوق.

بعبارة أخرى، لا تعتقد أنّ بيع جرّة العسل سيجلب الغنى فهذا تبسيط مبالغ فيه، بل عليك دخول السّوق، والسّؤال عن حاجة النّاس إلى سمن وعسل، واكتشاف نسبة السّمن إلى العسل الّتي يفضّلونها، والسّعر الّذي يرونه مناسبًا، وشكل ولون الجرّة اللّذين يرغبون فيهما. وهذا كلّه قبل بيعك لجرّتك.

نموذج الأعمال

رغم تنوّع نماذج الأعمال، يقترح كاتب "التكبير الليّن" "Scaling Lean" لآش موريا ثلاثة أنواع هي: النموذج المباشر، والنّموذج متعدّد الأطراف، والسّوق.

فأمّا الشّركات المباشرة فهي الأشهر، وتنطوي على وجه واحد هو المستخدمون الّذين يصبحون عملاءً، ومن أمثلة ذلك نجد كلًا من: المقاهي، ومحلات التجزئة، والبرامج الخدميّة، والعديد من تطبيقات الهواتف الذكيّة، ومحلاّت القطع الغياريّة.

وأمّا في النّموذج متعدّد الأوجه، فالمستخدمون مختلفون عن العملاء، ونجد بينها النّماذج المبنيّة على الإعلانات، وشركات المعلومات الضّخمة، والمنظّمات. وفي جميعها تكون المنتجات مجانيةً للمستخدمين، أمّا قيمتها فتجلب المال من قاعدة عملاء مختلفة.

بينما نماذج السّوق فهي نوع معقّد من النّموذج متعدّد الأوجه، إذ يتشكّل من قسميْ عملاء مختلفين، هما المشتَرون والباعة، ونجد كلًا من إيباي eBay وآر بي آن بي Airbnb من أهم الأمثلة المعروفة الّتي تستخدم هذا النّموذج.

على الرّغم من أهميّة التّخطيط، إلاّ أنّ إمكانيّة التكيّف مع عمليّته لا تقلّ أهميّةً أيضًا. وحول هذا المفهوم تدور منهجيّة نموذج الأعمال في رسم منهجيّة، على أن تُغيّرها كلّما اكتشفت خطأ توقّعاتك أو تخميناتك، إذ يجري رائد الأعمال في كلّ نسخة أو تطوير تغييرًا بسيطًا على نموذج الأعمال الحاليّ لاستغلال فرص السّوق أمثل استغلال.

عادةً ما يكون رواد الأعمال النّاجحون متعدّدي الأبعاد، فيجمعون بين كونهم حالمين وواقعيّين. وفي هذا يناقش آدم جرانت، الأستاذ بمدرسة وارتون للأعمال، ومؤّلف الكتاب الّذي حقّق أفضل المبيعات Originals: How Non-Conformists Move the World والذي يعني "الأصليّون: كيف يُحرّك غير الممتثِلين العالم". إذ يقول فيه بأنّ روّاد الأعمال "قادرون على التعرّف على فكرة جيّدة، والإفصاح دون إسكات أحد لهم، وبناء حلف من المؤيّدين، واختيار الوقت المناسب للتصرّف، وإدارة الخوف والشكّ".

نشرت صحيفة أونتربرونور "رائد الأعمال" Entrepreneur قصّة فريد سميث مؤسّس شركة النّقل الشّهيرة فيديكس FedEx، والّذي كتب خلال دراسته في جامعة ييل Yale منتصف السّتّينيّات ورقةً اقتصاديّةً حول الحاجة إلى منهجيّة جديدة في التّوصيل السّريع للمنتجات خلال عصر الحواسيب، إلاّ أنّ أستاذه لم يعجَب بالفكرة وأعطاه درجة C، كونها فكرة غير قابلة للتّحقيق -حسب رأيه-. ليُحوّل سميث فكرته غير القابلة للتّحقيق تلك بفضل التّفكير الابتكاري، والعزيمة المتّقدة، والعمل الجادّ، إلى أوّل شركة توصيل سريع بعد تخرجه، وبهذا غيّر صناعة النّقل إلى الأبد، كما تجسّد في سميث مفهوم جمع رائد الأعمال جزءًا حالمًا، وآخر واقعيًّا.

تُقدِّم الاستعارات الرّياضيّة دروسًا رياديّة تتجاوز التبصُّر في التّخطيط واكتشاف العملاء، ففي كرة القدم والسلّة مثلًا، عليك تشكيل فريق لدخول اللّعبة، أمّا في الملاكمة فستدخل تدخل الحلبة وحيدًا، لتقابل منافسك وجها لوجه، وهناك يُقذف بالعديد من الخطط جيّدة التّجهيز عرض الحائط، بمجرّد تلقيك لأوّل لكمة.

تغيّرت أمواج التّفكير الرّياديّ، لتتحوّل من إيمان الاقتصاديّ جوزيف شومبيتر خلال القرن العشرين بأنّ "الأفراد هم من يحملون الإبداع" لاستغلالٍ أوسع للسوق وإفادة المجتمع، إلى تبنّي فكرة حاجة الابتكار لفريق، لتعود مجدّدًا إلى فكرة أنّ الأفراد قد يُفعّلون التّغيير الرّيادي، فروّاد الأعمال المنفردون أو "صولوبرونورز" Solopreneurs على سبيل المثال، هم روّاد أعمال مجتهدون يفضّلون العمل منفردين على كلّ النّشاطات الضّروريّة لبدء مشروع رياديّ. ويمتدح الكثير من المستثمرين النّاجحين في الوقت ذاته، فوائد بناء الفرق في ريادة الأعمال، وفي هذا تقول آيلين لي صاحبة رأس المال المخاطر بأنّ النّاس هم ثاني أهمّ عامل بعد السّوق القابل للخدمة في تقييم الشّركات النّاشئة.

يساهم تماسك الفريق وتنوّع أفراده في أحقيّته الاستثماريّة واحتماليّة نجاحه الرّياديّ (الشّكل 2.11)، ولذا تُطالِب الكثير من برامج التّسريع accelerator programs - لتسريع نمو الشركات- النّاجحة الشّركات النّاشئة بتشكيل فرق قبل تقديم طلب دخول تلك البرامج، وفي هذا يقول المسرّع تيك ستارز Techstars، والذي يعني نجوم التقنية:"ما نبحث عنه في الشّركات النّاشئة هو الفريق، والفريق، ثمّ الفريق". ويتطلّب برنامج التّسريع بوم تاون Boomtown حضور مؤسّسين اثنين على الأقل طوال فترة تنفيذ برنامجها التّسريعيّ.

Team.jpg

الشكل 2.11: بينما يحقّق بعض روّاد الأعمال المنفردين النّجاح، تعثر أغلب المشاريع على قيمتها في منهجيّة الفِرق. حفظ الحقوق: "achievement agreement arms business" من rawpixel/Pixaby، تحت ترخيص CC0

قد تعكس التحوّلات العديدة في مصادر الابتكار والتّجريب المتسارع لنموذج العمل، معدّل فشل عالٍ للشّركات النّاشئة، وتُعَدّ قلّة التّخطيط سببًا رئيسيًّا آخر في الفشل، بينما تفشل واقعيًّا أغلب الشّركات النّاشئة خلال سنواتها الأولى بسبب مشاكل تتعلّق بالتدفّق الّقدي. ومع رغبة الكثير من النّاس في وقتنا هذا في تجميع فريق ناشئ، أو دخول حلبة ريادة الأعمال، فلا شكّ وأنّ قد أصبح جزءًا حاضرًا وبقوّة في الرّحلة الرّياديّة. فنرى مثلًا أنّ روّاد الأعمال المتسلسلين يطلقون العديد من المشاريع فيفشل أغلبها، لكن روّاد الأعمال في أيّامنا هذه أشبه بالملاكمين، إذ يقومون مجدّدًا بعض كلّ لكمة تطرحهم أرضًا.

الابتكار

من النّظريات الأساسيّة لريادة الأعمال فكرة أنّها جالبة للابتكار، سواءً كان ذلك الابتكار إضافةً لمنتج أو خدمة جديدين في السّوق، أو تغييرًا في منتج أو خدمة موجودين فعلًا. ويختصر هذه الفكرة أستاذ الإدارة الشّهير بيتر دراكر بالقول: "روّاد الأعمال يبتكرون".

نسجّل طبعًا أنّ الابتكار ليس جزءًا من كلّ المشاريع الرّياديّة على اختلاف أنواعها، بل وحتّى في المشاريع الّتي تبتكر حقًّا، حيث يكون لفظ الابتكار غامضًا. ويزيد الموضوع غموضًا ظهور مصطلحات جديدة تقسّم الابتكار إلى أنواع شتّى، فنجد الابتكار الجذري radical، والمتدرّج incremental، وdisruptive بمعنى المخرّب. هذا وقد يشير مصطلح الابتكار إلى المنتجات أو العمليّات ذاتها، لوجود اختلاف بين ابتكار منتج، وابتكار عمليّة.

عندما يتعلّق الأمر بريادة الأعمال، فسيحدث التّدمير الإبداعي creative destruction للأسواق القديمة وتقنياتها الرّديئة لخلق أسواق جديدة، بفضل ما سمّاه شومبيتر في ثلاثينيّات القرن الماضي بـ disruptive innovation ويعني "الابتكار التّخريبيّ".

وقد شاع وصف "التّخريبيّ" خلال التّسعينيّات تزامنًا مع الحقبة الأولى للإنترنت، ويُعزى ذلك بدرجة كبيرة إلى اشتهار نظريّة كلايتون كريستنسن (الموضّح في الشّكل 3.11)، والّتي تتحدّث عن الفشل في وجه ما أسماه أوّلا disruptive technology بمعنى "التّقنية التّخريبيّة"، قبل أن يعدّله إلى "الابتكار التّخريبيّ".

Clayton.jpg

الشكل 3.11: ساهم كلايتون كريستنسن بالكثير من الأفكار حول الابتكار في ميدان ريادة الأعمال. حفظ الحقوق:"Follow Business of Software - Clay Christensen" من "Betsy Weber/Flickr، تحت ترخيص CC BY 2.0

يصف كريستنسن الابتكارات التّخريبّية بأنّها عادة أفيَد للقادمين الجدد منها للشّركات القائمة، وهذا نظرًا لإيقاع التّخريب الّذي يُنتج اضطرابًا في السّوق، الشّركات القائمة في حيرة من أمرها، فترى أنّ من غير المنطقيّ تخليها عن قاعدة عملائها الحاليّة لخدمة قاعدة العملاء الجديدة الصّغيرة الّتي تتّبع السّوق الابتدائيّ الصّغير المدفوع بتقنية تراها تلك الشّركات أقلّ كفاءةً من تقنياتها؛ وفي الجهة المقابلة، تتحدّى الشّركات النّاشئة الجديدة تلك القديمة القائمة إمّا بإنشاء سوق جديد كليًّا، فتستقطب عملاءً لم يكونوا زبائنًا من قبل لأحد، أو باستهداف أقسام مهملة من السّوق، ثمّ السّيطرة عليه كلّه بمجرّد تحسين المنتج.

تعتمد الشّركات الرّائدة في قراراتها لتطوير منتجات جديدة وتسويق الابتكار على دعم الابتكارات التّدريجيّة الّتي تتّكئ على التّقنية السّابقة، وتساعد على استقرار المردود والأرباح، أو تطويرهما في الأسواق القائمة سلفًا. وهذا يفتح الباب للشّركات النّاشئة لتطوير وتقديم ابتكارات تخريبيّة، وتحقيق الفائدة منها.

يسرد الجدول 1.11 بعض الابتكارات التّخريبيّة:

ابتكارات تخريبية

المجال الفترة الزمنية السوق القائم الابتكار التّخريبي
التصوير الطبيّ ستينيّات القرن العشرين (1960 إلى 1969) الأشعّة السينيّة X-Rays قدّمت الموجات فوق الصّوتية نوعًا جديدًا من التّصوير الطبيّ، فخسرت شركات الأشعّة السّينيّة السّوق، ولم تستطع مجابهة الابتكار. رغم شرائها لاحقًا للكثير من شركات الموجات فوق الصّوتية.
الشاشات تسعينيات القرن الماضي، وبدايات الألفيّة الجديدة. سي آر تي CRT ابتكرت شاشات إل سي دي LCD وإل إي دي LED لتتجاوز تقييدات العرض، مستبدلةً بذلك شاشات سي آر تي الضّخمة والثّقيلة. والابتكارات الأحدث من شاشات قابلة للطيّ، وفحوص القرنية أضافت الكثير من العمليّة والذّكاء إلى تلك الشّاشات لربطها بأجهزة إنترنت الأشياء.
التّسلية العشريّة الأولى من الألفيّة الجديدة. تأجير أشرطة الفيديو أطاحت خدمات البثّ عبر الإنترنت بسوق تأجير أشرطة الفيديو، حيث وجدت شركات كثيرة مثل بلوك باستر نفسها عديمة الفائدة والصّلة بالسّوق، كما أنّ تنوّع خدمات البثّ عبر الإنترنت، وخدمات الدّفع حسب الطّلب خرّبا شركات القنوات التّلفزيّة.

الجدول 1.11

تخريب نتفليكس Netflix

خرّبت شركة نتفليكس -المؤسّسة سنة 1997 في كاليفورنيا- مجال تأجير أشرطة الفيديو ومحلاّته من أمثال بلوك باستر، بفضل خدمة الاشتراك الّتي تقدّمها، والّتي توصل عبرها أشرطة الفيديو مباشرةً إلى منزل العميل. وبما أنّ بلوك باستر ومثيلاتها من المتاجر كانت تعتمد في دخلها على عمولات تأخُّر العميل في إرجاع الشّريط، فلم تستطع مجاراة سهولة وراحة استخدام خدمة نتفليكس مباشرةً من المنزل، وما زاد المنافسة صعوبةً هو انخفاض ثمن الاشتراك في نتفليكس، واعتمادها نموذج العمولة مقابل الشّريط الواحد.

ولكن عندما خرّبت تقنية البثّ المباشر عبر التّلفزيون أو الأجهزة الأخرى نموذج أعمال نتفليكس، فقد ضمّنت هذه الأخيرة تقنية البثّ المباشر إلى خدمة التّأجير عبر إرسال الأشرطة. وهكذا اتبعت نيتفليكس في كلتا الحالتين نموذج أعمال يجعلها موزّعًا لمحتوى تصنعه شركات أخرى، لتبدأ في السّنوات القليلة الماضية في تجاوز ذلك النّموذج إلى إنشاء محتواها الخاصّ، وتبعها في ذلك شركات الإنتاج الخاصّ من أمثال ديزني Disney ومارفل Marvel وسي بي سي CBC واتش بي آو HBO، إذ أطلقت كلّ منها منصّة توزيع عبر الإنترنت تخصّها، في خطوة تحضيريّة لسحب محتواها من نتفليكس.

طوّر كريستنسن كذلك نظريّة أعمال يجب إنجازها، والّتي تساعد الشّركات على تحديد كيفيّة إنشاء المنتجات والخدمات الّتي يريد العملاء اقتناءها، وذلك عبر البحث عن العامل السّببي وراء عمليّة الشّراء. ويستعمل كريستنسن هنا مفرد عمل للدّلالة على ما يريد الفرد تحقيقه في ظرفٍ ما، تحت أبعاد اجتماعيّة، وعاطفيّة، ووظيفيّة. فمن الأعمال الّتي تحقّقها الجرائد لقرّائها على سبيل المثال هي إعلامهم، وتسليتهم، بينما تختلف تلك الأعمال المطلوبة من الجرائد حين نأخذ بالحسبان قسمًا آخر من العملاء مثل المعلنين، فهي هنا تتضمّن الإشهار، وجذب العملاء، وبيع المنتجات، وقد أُدرجت مقاربة الأعمال الّتي يجب إنجازها في تطوير نماذج الأعمال على شكل خرائط تعاطف مع العميل، ولوحات قيمة مقترحة.

تتعارض الابتكارات التّخريبيّة مع التّقنيات المستدامة الّتي تُطوِّر أداء المنتجات الموجودة عبر إضافة خصائص يتبنّاها العملاء الاعتياديّون، بينما تسهّل التقنية التّخريبيّة وصول وافدين جدد إلى السّوق، مع منتجات عادةً ما تكون أبسط، وأقلّ سعرًا، وأكثر راحةً في الاستخدام.

يواجه رواد الأعمال والمسوّقون صعوبةً في توقّع كيف سيسير الابتكار الجديد، وفي استباق كيف يتفاعل العملاء معه، كما يصعب توقُّع من سيكون العملاء المتبنّون المبكّرون في المرحلة المبكّرة من ظهور ابتكار جديد. لكن عادةً ما يجدون أنّ قاعدة العملاء الاعتياديّين لا يدركون القيمة في المنتج الجديد بادئ الأمر، بينما ترى أقسام العملاء الجديدة قيمة المزايا الجديدة والأسعار المنخفضة. لتحسّن التطويرات في النهاية، من مزايا المنتج الجديد إلى مستوى يُرضي العملاء الاعتياديّين، ما يسمح له بجذب حصّة أكبر من السّوق.

تشارك المركوب

GPS.png

الشكل 4.11: أوبر Uber وليفت Lyft هما أشهر خدمات مشاركة المركوب. حفظ الحقوق:"Navigation car drive road gps" من "DariusSankowski/Pixabay تحت ترخيص CC0

خرّبت خدمات تشارك المركوب Ride-sharingصناعة سيارات الأجرة التّقليديّة بتقديمها منصّةً على الهواتف المحمولة تربط الباحثين عن توصيلة بالسّائقين المستعدّين لتوفيرها، وبغدوّها سريعًا رائدة السّوق في هذا المجال، صارت أوبر Uber واجهة الابتكار التّخريبيّ.

لم يَعُد على مستخدِم هذه الخدمات رفع يده على قارعة الطّريق أملًا في توقُّف سائق أجرة ليقلّه إلى وجهته. بل ولا عاد بحاجة إلى حمل النّقود الكافية للوصول إليها. إذ تستخدم أوبر نظام دفع مدمجًا بتطبيقها. وهي تكلّف أقلّ من سيارة الأجرة العاديّة أيضًا، كما توفّر ميزات أخرى، مثل: الحريّة في اختيار نوع السيّارة، وسهولة الاستخدام. ولا تزال تطوّر خدماتها إلى أوبر للأكل Uber Eats، وأوبر للمروحيّات Uber Copter.

يفضلّ كريستنسن مصطلح الابتكار التّخريبيّ عوض التّقنية التّخريبيّة، لأنّه حتّى خلال إطار عمل نظريّته الأصليّة، لم تكن التّقنية هي القوّة الدّافعة لتخريب الأسواق القائمة، والمنتجات، ونماذج الأعمال؛ بل كان المخرّب هو نماذج الأعمال ذاتها. ويُعَدّ أصل التوتّر في الابتكار التّخريبيّ هو الصّراع بين نموذج الأعمال السّابق الّذي يناسب التقنية الحاليّة، وبين نموذج الأعمال الجديد الضّروريّ لاستغلال التّقنية أو العمليّة التّخريبيّتين.

ولهذا تفشل أغلب محاولات الشّركات القائمة في استغلال وتسويق التّقنية التّخريبيّة، لأنّها تغفل عن تغيير نموذج أعمالها ليتناسب مع تلك التّقنية، فيما تُحكِم الشّركات الوافدة حديثًا قبضتها على السّوق نظرًا لامتلاكها سيطرةً على نماذج الأعمال الحديثة المطلوبة. وعليه فقد يغيّر نموذج الأعمال التّخريبي من توزيع الأرباح في صناعة ما، وهو ما يضطرّ المديرين في مواجهة الابتكار التّخريبيّ إلى تغيير نموذج أعمالهم، وتعرف هذه الظّاهرة بابتكار نموذج الأعمال.

يعرّف الأستاذ المدرّس في مدرسة لندن للأعمال كونستانتينوس ماركيدس ظاهرة ابتكار نموذج الأعمال على أنّها تحدث عندما تُغيّر شركة قائمة نموذج أعمالها تغييرًا جذريًّا، إذ يقول أنّه قصد احتسابه ابتكارًا فلابدّ "أن يوسّع نموذج الأعمال الفطيرة الاقتصاديّة الحاليّة، إمّا بجذب عملاء جدد، أو بتشجيع الحاليّين على استهلاك المزيد"، وتتطلّب الابتكارات التّخريبيّة عادةً نماذج أعمال تتجاوز كونها مختلفةً عن السّابقة، بل حتى معارضةً لها وللطّريقة التّقليديّة في التّنافس. وتكون الابتكارات الجذريّة على النّقيض من ذلك، منتجات جديدة كليًا مخرّبة للعملاء والمنتجات على حدّ سواء.

في سياق الابتكار التّخريبيّ، يختلف ابتكار نموذج الأعمال عن الابتكار المفتوح لنموذج الأعمال الّذي يستغلّ الأفكار الخارجيّة مع الدّاخليّة، فيكون نتاج تعاون وشراكة بين الشّركة وأطراف خارجيّة، ويمكننا أيضًا تعريف ابتكار نموذج الأعمال Business model innovation على أنه إعادة صياغة لمنتج أو خدمة قائمة، بما في ذلك تغيير كيفية تقديمها إلى المستخدم النهائي. كما أنّه يقدّم طريقةً جديدةً في إدارة النّشاط التّجاري قد تحمل معها مزايا أداء جديدة فيما يخصّ التّسعير ومنافذ التّوزيع. ومثال هذا شركة ستيتش فيكس Stitch Fix الّتي تستعين بمعطيات تجمعها عن العملاء لتقدّم لكلّ منهم تصاميم الملابس الّتي تناسبه شكلًا وحجمًا، كما تشحنها إليه في علب إمّا من علامتها الخاصّة، أو من واحدة من العلامات الألف الّتي تملكها في مجموعتها. وبهذا تجنِّب عملاءها عناء التسوّق في المحلاّت. وعلى الرّغم من تقلّبات المستثمرين الّتي خفّضت قيمتها الأوليّة من 5.1 مليار دولار إلى ثلث ذلك المبلغ، فلا تزال الشّركة تعيد اختراع مجال الملابس الأمريكيّة المقدّر بـ 334 مليار دولار.

مقترح القيمة

يلعب روّاد الأعمال دورًا أساسيًّا في تحديد قيمة منتجاتهم، وهناك بالطّبع مقايسس ماليّة للقيمة، مثل: الأداء الاقتصادي، وخلق فرص العمل، وقياسات الثّروة والتطوّر. ولكن غالبًا ما يبتعد خلق القيمة عند بداية مشروع شركة ناشئة عن هذه المعايير، ويعتمد على القيمة الفرديّة للعملاء، فمقترح القيمة value proposition في نموذج الأعمال على سبيل المثال، هو ملخّص يصف الفوائد (القيمة) الّتي قد يتوقّعها العملاء من منتج أو خدمة ما، لذا يُعَدّ مقترح القيمة جزءًا أساسيًّا في لوحة نموذج العمل، سنناقشها بتوسّع أكبر في مبحث ( تصميم نموذج العمل).

رائد أعمال في الميدان

من أويو Odeo إلى تويتر Twitter

أنشأ الموظّفان السابقان في جووجل Google إيفان ويليامز وبيز ستون منصة تدوين صوتي (بودكسات) سمّياها أوديو Odeo سنة 2005، ويعترف المهندس بلاين كوك الّذي كان في فريق العمل بأنّهم بعد إنشاء المنصة واختبارها، لم يستخدموها قط، وبعدها بقليل أعلنت آبل Apple عن نيتها في إرفاق كلّ أجهزة الآيبود Ipod بمنصّة بودكاست، وفي ظلّ هذين الحقيقتين: عدم استخدام منتجي المنصّة أنفسهم لها، ومنافسة غير عادلة مع شركة ضخمة، فقد قرّر ويليامز أنّ مستقبَل أوديو ليس في البودكاست.

عقدت الشّركة هاكاثونات بين الموظّفين للخروج بفكرة التحوّل الأنسب، حيث ركّز جاك دورسي وهو من موظّفي أوديو الأربعة عشر، جهوده على مشكلة وضعية الشّركة، وفي فبراير من سنة 2006، قدّم هو ونوا جلاس، ومتعاقد ألماني يدعى فلوريان ويبر منصّة أسموها توترر Twttr، وهو نظام يرسِل عبره المستخدم رسالةً نصيةً إلى رقم هاتف، فينشرها النّظام إلى أصدقاء المستخدم. وبعد شهر واحد كان النّموذج الأوليّ جاهزًا. وفي خريف ذلك العام، كان لدى تويتر Twitter كما يسمّى الآن آلاف المستخدمين، وقد أدرك الكثير منهم فائدة المنتج بعد زلزال سان فرانسيسكو، حيث استخدموه لنشر الرّسائل في المنطقة.

ترجمة وبتصرف للمقال Launch for Growth to Success، من كتاب Entrepreneurship.

اقرأ أيضًا


تفاعل الأعضاء

أفضل التعليقات

لا توجد أية تعليقات بعد



انضم إلى النقاش

يمكنك أن تنشر الآن وتسجل لاحقًا. إذا كان لديك حساب، فسجل الدخول الآن لتنشر باسم حسابك.

زائر
أضف تعليق

×   لقد أضفت محتوى بخط أو تنسيق مختلف.   Restore formatting

  Only 75 emoji are allowed.

×   Your link has been automatically embedded.   Display as a link instead

×   جرى استعادة المحتوى السابق..   امسح المحرر

×   You cannot paste images directly. Upload or insert images from URL.


×
×
  • أضف...