سنتابع رحلتنا في سلسلة مقالاتنا الفريدة عن مبادئ وأسس السلوك التنظيمي في المؤسسات في بابنا الثالث عشر، متطرّقين إلى جُزئيّاتٍ مهمّة وجوهريّة في بيئة العمل المؤسساتيّة، ألا وهي موضوع السلطة والسياسات المؤسساتيّة، سنخوض في رحاب المقالات التالية في آليّة عمل قواعد السلطة ضمن البيئة المؤسساتيّة، وسنتحدّث عن استخدام السلطة المضادة والاحتمالات الاستراتيجيّة في العلاقات بين وحدات العمل داخل المؤسسة، وسنتطرّق أيضًا كيفيّة تأقلم الإداريين مع السياسات المؤسساتيّة وفهمها فهمًا كافيًا، ونختتم هذا الباب في توضيح آليّة تميّز السلوك السياسي غير الأخلاقي في حال وقوعه وكيفيّة الحدّ من هذه السلوكيّات السلبيّة داخل الشركة.
استكشاف المهن الإدارية
صراع السلطة في جنرال إليكتريك
لطالما كانت جنرال إليكتريك (General Electric، شركة أمريكيّة متعدّدة التخصّصات تنشط في العديد من الصناعات، مثل المحرّكات والكهربائيّات والآلات الطبيّة) من عمالقة الصناعة العالميّة وأيقونة الاقتصاد الأمريكيّ. وبالرغم من تاريخها المميّز بدأت صراعات السلطة والمشاكل الإداريّة في السنوات الأخيرة بكشف الجانب الآخر من تنظيم الشركة.
عُرِف جِف إمِلت (Jeff Immelt) بانضباطه ووقاره خلال فترة عمله الطويلة في منصب المدير التنفيذيّ في الشركة، لكنّ عقليّته أدّت لخسارات كبيرة وانحدار هائل في أداء الشركة. عيّنت الشركة التي كانت تنازعُ رمقها الأخير، جون فلانري (John Flannery) في محاولة أخيرة للعودة إلى ميدان المنافسة العالميّ. لم يَطُل الوقت قبل أن يجري فلانري تغييره الخاصّ وقام بطرد نصف أعضاء مجلس الإدارة.
لم يكن مثل هذا التصرّف معروفًا من قبل، وكان هدفه تقليص الانقسامات وتقليل خطوط العمل الخاسرة في الشركة. شعر فلانري بضغط المستثمرين على الفور وسعى يائسًا بحركته هذه لأن يرسّخ للشركة موطئ قدمها في الصناعة وأن يعيدها إلى القمّة.
وبحلول عام 2018: سَئِم مجلس الإدارة من الانتظار وأجرى تغييرًا جذريًّا فطَرَد فلانري متكبّدًا بذلك خسارةً قدرها 23 مليار دولار.
نستطيع أن نرى صعوبة هذه التغييرات في السلطة من خلال تجربة جنرال إليكتريك عند النظر لاقتصاد القرن الواحد والعشرين المتغيّر بسرعة، والّذي تسيطر التكنولوجيا على معالمه المتغيّرة باستمرار. قال إيفان فينسث (Ivan Feinseth) وهو مدير الاستثمار في شركة (Tigress Financial Partners): "لم يعطِ السوق فرصةً للشركة لكي تتغيّر وتواكب متطلبات السوق الجديدة، لسوء الحظ لم تنجح خطّة فلانري". يفضّل السوق الشركات التقنيّة المُعاصرة، مثل غوغل وأمازون أكثر من المصنّعين التقليديّين. وسيواجه المدير التنفيذيّ الجديد لورنس كالب (Lawrence Culp) مهمّة صعبة لإصلاح مشاكل الشركة. كما عليه أن يثبت جدارته لكونه أوّل مدير تنفيذيّ يأتي من خارج طاقم الشركة. سبقته نجاحاته في شركته السابقة (Danaher)، كما ارتفعت أسهم شركة جنرال إليكتريك منذ استلامه للقيادة وهو ما يشير إلى بوادر إيجابيّة لمستقبل الشركة.
بالرغم من كون الظروف والتغييرات القياديّة في شركة جنرال إليكتريك لا تحدث في الحالات العاديّة في الشركات، إلّا أنّ تطبيق السلطة والسلوك السياسيّ في المؤسّسات ليس كذلك. السياسات والسلطة هي شريان الحياة في أغلب المؤسّسات، ونتيجةً لذلك يجب على المديرين أن يفهموا آليّة عمل السلطة. تتألّف المؤسّسات في الحقيقة من التآلفات والتحالفات بين الأطراف المختلفة والّتي تتنافس باستمرار على الموارد المُتاحة. كما يؤثّر توزيع السلطة بين صنّاع القرار تأثيرًا كبيرًا على كيفيّة اتّخاذ القرار. قد يمتلك توزيع السلطة غير العادل أثرًا جوهريًّا على العديد في جوانب العمل بما فيها تحفيز الموظّفين والرضا عن العمل ومعدّلات الغياب والدوران الوظيفيّ. لذا يكون إدراك طبيعة وتأثير السلطة في المؤسّسة أساسيًّا لفهمٍ أفضل للسلوكيّات الأخرى داخل المؤسسة.
يتعلّق مفهوم السلطة تعلّقًا وثيقًا بمفاهيم التفويض والقيادة. من المهمّ فهم متى تبدأ وتنتهي كلّ آليّة من آليّات التأثير السلطويّة. على سبيل المثال، متى يتوقّف المدير عن استخدام السلطة المخوّلة له ويبدأ باستخدام السلطة غير المخوّلة؟
أخيرًا، على المستوى الفرديّ يحاول العديد من الأشخاص ممارسة نفوذهم في المؤسّسات باستخدام استراتيجيّات السلطة. يساعد وعي المديرين حول هذه الاستراتيجيّات على التعرّف على مثل هذه الممارسات واتّخاذ الإجراءات المناسبة ضدّها. عليك أن تُبقي في ذهنك أن محاولات الآخرين لممارسة السلطة قد لا تنجح دائمًا. هنالك عدّة آليّات لمواجهة أو تحييد محاولات بسط النفوذ من الآخرين. تعطي معرفة هذه الآليّات المدير أفضليّة عند ردّه على تحركّات الآخرين.
باختصار، تمثّل عمليّات السياسة والسلطة في المؤسّسات موضوعًا جوهريًّا لدارسي السلوك المؤّسساتي. يمكن للسياسات والسلطة أن تؤثّر على سلوك ومواقف الموظّفين في مستويات مختلفة من المؤسّسة مثلما تؤثّر عليها عمليّات التواصل واتّخاذ القرار، كما يمكن لها أن تؤثّر على مدى ضمان تناسق وتعاون وحدات العمل المختلفة من أجل تأمين الموارد اللازمة لتحقيق الأهداف وإنجاز المهامّ. باختصار، حالة جنرال إليكتريك ليست الوحيدة حتمًا.
السلطة في العلاقات بين الأشخاص
نذكر في هذا الباب من سلسلة مقالاتنا عدّة جوانب للقوى والسياسات في المنظّمات، بدايةً من موضوع السلطة في العلاقات بين الأشخاص. سنعرّف السلطة في مقالاتنا ونميّزها عن المفاهيم المشابهة، مثل التفويض والقيادة، و سنناقش قواعد ومناظير مختلفة للقوى. وبالرغم من تعلّق مناظير السلطة بحالات المجموعات، إلّا أنّها أقرب للعلاقات بين الأشخاص.
ما هي السلطة؟
توجد العديد من التعاريف المختلفة لمفهوم السلطة في الأدب المؤسّساتيّ. وأحد أوائل هذه التعريفات هو تعريف ماكس ويبر (Max Weber) -عالم الاجتماع الألمانيّ- وهو: "وجود شخص فاعل ضمن علاقة اجتماعيّة في موقع ينفّذ فيه هذا الفرد رغبته الشخصيّة رغم وجود مقاومة تجاهه". بشكل مشابه كتب إيمرسون (Emerson) عن تعريف السلطة: "سلطة العنصر (أ) على العنصر (ب) هي كميّة مقاومة العنصر (ب) الّتي يستطيع أن يتغلّب عليها العنصر (أ)". وباتبّاع هذين التعريفين وغيرهما سنعرّف السلطة هنا على أنّها علاقة بين الأشخاص يتمكّن فيها فرد (أو مجموعة) من جعل فرد آخر (أو مجموعة أخرى) يفعل أمرًا لم يكن ليفعله لولا تلك السلطة الخاصة بالفرد أو المجموعة الأولى.
بعبارة أخرى، تتضمّن السلطة تغيير شخص لسلوك شخص آخر. من المهمّ ملاحظة أنّنا نقصد -في أغلب الحالات المؤسّساتيّة- القوّة المُضَمّنة وليس القوّة الفعليّة بالضرورة. أي أنّ (أ) يمتلك سلطة على (ب) إن كان (ب) يعتقد أنّ (أ) يستطيع إجباره على ذلك.
السلطة والتفويض والقيادة
من الواضح ارتباط مفهوم السلطة بمفهومي القيادة والتفويض (راجع الشكل 13.2)، في الحقيقة يمكن تسمية السلطة على أنّها "تفويض غير رسميّ"، في حين يُسمّى التفويض "السلطة الرسميّة". على أيّة حال هذه المفاهيم الثلاثة ليست متماثلة ويجب ملاحظة الفروقات المهمّة بينها.
الشكل 13.2 الأشكال الثلاثة الرئيسيّة للتأثير (حقوق النشر: جامعة Rice، منظّمة OpenStax، مرخّصة برخصة المشاع الإبداعيّ CC-BY 4.0)
كما ذكرنا، تمثّل السلطة قدرة الفرد أو مجموعة الأفراد على ضمان الطاعة من فرد أو مجموعة أفراد أخرى. لا يتعلّق ما يُذكر هنا بالحقّ في ضمان الطاعة، بل بالقدرة على ذلك فحسب. وفي المقابل يمثّل التفويض (authority) الحقّ في طلب الطاعة من الآخرين؛ أي أنّ ممارسة التفويض أساس شرعيّ. إن طلب مدير من سكرتيرته أن تكتب رسائل معيّنة هو نوع من التفويض، فهو يمتلك الصلاحيات اللازمة (التفويض اللازم) لمثل هذا الطلب، أمّا إن طلب منها على سبيل المثال القيام ببعض المهامّ الشخصيّة (مثل إحضار أغراض خاصّة له من السيّارة)، فسيكون هذا خارج نطاق ممارسته الشرعيّة للتفويض. وبالرغم من أنّ السكرتيرة قد تنفّذ طلبه فذلك لن يكون مبنيًّّا على اعتبارات التفويض وإنّما على السلطة.
تعتمد ممارسة التفويض على تقبّل المجموعة لحقّ الشخص بممارسة سلطته الشرعيّة. يقول غريمز (Grimes): "ما يُشرّع التفويض ويجعله مقبولًا لدى الأفراد هو السعي خلف أهداف مشتركة اجتمع عليها مجموعة الأفراد. أمّا المفهوم المعاكس -السلطة- هو السعي خلف أهداف فرديّة أو خصوصيّة ترتبط بطاعة المجموعة".
أخيرًا، القيادة (leadership) هي قدرة الفرد على انتزاع استجابات من شخص آخر تمتدّ أبعد من نطاق الطاعة المطلوبة أو الآليّة. وهذا الوجه الطوعيّ للقيادة هو ما يميّزها عن السلطة والتفويض. لذا نميّز عادةً بين القيادة والرئاسة. قد يمتلك رئيس القسم الحق في طلب أفعال محدّدة، في حين يمتلك القائد القدرة على إلهام أفعال معيّنة. وبالرغم من أنّ الوظيفتين قد يخدمهما نفس الشخص، إلا أن ذلك قد لا يحدث في كل الأحيان.
أنواع السلطة
إذا كانت السلطة هي القدرة على تأمين الطاعة من قبل الآخرين، فكيف تمارس هذه السلطة؟ على ماذا تقوم؟ هنالك محاولتان على الأقلّ لتحديد قواعد السلطة. اقترح اتزيوني (Etzioni) نموذجًا يحدّد ثلاثة أنواع من السلطة. يمكن القول حقيقةً أنّ المنظّمات يمكن تصنيفها وفقًا للشكل الأكثر انتشارًا للسلطة فيها. تنطوي السلطة القسرية (coercive power) على إجبار شخص ما على الامتثال لرغباته. يشكّل السجن مثالًا على التنظيم القسري. السلطة النفعية (utilitarian power) هي السلطة التي تستند إلى التوازنات بين الأداء والمكافأة. على سبيل المثال، يطيع الشخص المشرف من أجل الحصول على زيادة في الأجر أو ترقية. يُعتقد أنّ منظّمات الأعمال هي في الأساس منظمات نفعيّة. وأخيرًا، تعتمد السلطة المعيارية (normative power) على معتقدات الأعضاء في حقّ المنظّمة في التحكّم في سلوكهم، مثال على هذا المؤسّساتُ الدينيّة.
قواعد السلطة
على الرغم من فائدة التحليل المقارَن للمنظّمات المختلفة إلا أنّ هذا النموذج محدود التطبيق؛ لأنّ معظم الشركات والمؤسسات العامة تعتمد إلى حدّ كبير على مبدأ النفعيّة. عوضًا عن ذلك، قد يفيد النموذج الثاني الّذي طوّره فرينش (French) ريفن (Raven) لقواعد السلطة (bases of power) فائدةً أكبر. حدد الباحثان خمس طرق رئيسية يمكن من خلالها ممارسة السلطة في المواقف الاجتماعي، وهي:
السلطة المرجعية (referent power). في بعض الحالات يُعجَب الشخص "ب" بالشخص "أ" أو قد يقتدي به. ونتيجةً لذلك يتبع "ب" الشخص "أ" اتباعًا كبير وذلك بسبب صفات (أ) الشخصية أو مميّزاته أو سمعته. وفي هذه الحالة يمكن للشخص (أ) استخدام السلطة المرجعية للتأثير على (ب). تُسَمّى القوة المرجعية أيضًا بالقوة الكاريزمية، لأنّ الولاء يعتمد على جذب الفرد لفردٍ لآخر. يمكن رؤية أمثلة على القوة المرجعية في الإعلانات، حيث تستخدم الشركات المشاهير للتوصية بمنتجاتهم، فتضع حُكمًا مسبقًا بأن تأثير الفرد المشهور على المجتمع واتخاذه قدوةً لهم سينعكس على المُنتجات المُروَّجِ لها. يحاكي صغار المديرين غالبًا كبار المديرين في أماكن العمل ويؤدّون أدوارًا ثانويّة لا داعي لها بسبب الإعجاب الشخصي أكثر من احترام السلطة.
سلطة الخبير (expert power). تتجلّى سلطة الخبير عندما يكتسب الشخص (أ) السلطة لأنّه يمتلك معرفة أو خبرة تتعلّق بالشخص (ب). على سبيل المثال، لدى الأساتذة سلطة في الفصل الدراسي بسبب إتقانهم لموضوع معين. يمكن رؤية أمثلة أخرى لسلطة الخبراء لدى الموظفين التخصّصيين في المنظمات (مثل المحاسبين ومديري علاقات العمل والمستشارين الإداريين ومحاميّ الشركات). يكون للفرد مصداقية في منطقة أو مجال معين نتيجة للتجارب والخبرة، وهذا ما يمنح الفرد سلطةً في هذا المجال.
السلطة الشرعية (legitimate power). توجد السلطة الشرعية عندما يخضع الشخص (ب) للشخص (أ) لأنّ (ب) يشعر أنّ (أ) لديه الحقّ في ممارسة السلطة في مجال معين. السلطة الشرعية هي في الحقيقة اسم آخر للتفويض الّذي تكلّمنا عنه مسبقًا. فالمشرف مثلًا لديه الحق في توزيع العمل على الأفراد. تختلف السلطة الشرعية عن المكافأة والسلطة القسرية في اعتمادها على المنصب الرسميّ الذي يشغله الفرد على أنه مصدر السلطة وأساس الحق في فرض الأوامر أو الطبات، وليس على علاقته مع الآخرين.
تُستَمَدّ السلطة الشرعية من ثلاثة مصادر. أولًا، يمكن للقيم الثقافيّة السائدة أن تمنح السلطة لبعض المجموعات. يكتسب الموظّفون الأكبر سنًّا السلطة في اليابان وكوريا نوعًا من السلطة الشرعيّة بسبب سنهم ببساطة. ثانيًا، يمكن الحصول على السلطة الشرعية نتيجة للمكانة الاجتماعية. على سبيل المثال، لدى العديد من دول أوروبا الغربية واليابان كذلك عائلات ملكيّة تعمل على أنها حجر زاوية لمجتمعاتها. ثالثًا، يمكن تعيين السلطة الشرعية، كما هو الحال في حالة اختيار مجلس الإدارة لرئيس شركة جديد أو لشخص يتمّ ترقيّته لمنصب إداريّ. أيًّا كان السبب، يمارس الناس السلطة الشرعية لأن المرؤوسين يفترضون أن لهم الحق في ممارستها. سبب رئيسيّ من أسباب سقوط شاه إيران هو تجرّؤ الشعب على الشكّ ومن ثمّ استنكار حقّه في السلطة الشرعيّة التي كان يمارسها.
سلطة المكافأة (reward power). تحدث سلطة المكافأة عندما يمتلك الشخص (أ) سلطةً على الشخص (ب) لأنّ (أ) يتحكّم في المكافآت التي يريدها (ب). يمكن أن تشمل هذه المكافآت أشكال متعدّدة، بما في ذلك العلاوات والترقيات والمهام الوظيفية المرغوب فيها والمزيد من المسؤولية والمعدات الجديدة وما إلى ذلك. وقد أشارت الأبحاث إلى أنّ قوة المكافأة غالبًا ما تؤدّي إلى تحسين الأداء الوظيفي، حيث يرى الموظفون توازنًا قويًّا بين المكافأة والأداء. على سبيل المثال، يعتمد الراتب والترقية بين معظم العمال اليدويّين (ذوي الياقات الزرقاء) على عقد العمل وليس على تقييم الأداء.
السلطة القسريّة (coercive power). تستند السلطة القسريّة في المقام الأول إلى الخوف. يمتلك هنا الشخص (أ) سلطة على الشخص (ب) لأنّ (أ) يمكنه معاقبة (ب) بشكلٍ من الأشكال. ولذلك يُشار إلى هذا النوع من السلطة أيضًا باسم سلطة العقاب. كما يقول كيبيس (Kipnis) إنّه ليس من الضروريّ أن تعتمد السلطة القسريّة على التهديد بالعنف. "يمارس الأفراد السلطة القسريّة من خلال الاعتماد على القوّة الجسديّة أو الألفاظ أو القدرة على منح أو حجب الدعم العاطفي من الآخرين. توفر هذه القواعد للفرد الوسائل لإيذاء الآخرين أو التنمر عليهم أو إذلالهم أو حرمانهم من الحبّ أو حتى من الأجر. تشمل أمثلة القوة القسرية في المنظمات القدرة (الفعليّة أو الضمنيّة) على طرد الأشخاص أو تخفيض رتبتهم أو نقلهم إلى وظائف أو مواقع غير مرغوبة أو تجريدهم من الامتيازات الممنوحة لهم. كما يُعتقّد أنّ قدرًا كبيرًا من السلوك المؤسّساتيّ (مثل الحضور الفوري والتظاهر بالانشغال وتجنب الإبلاغ عن المخالفات) يمكن عزوه إلى السلطة القسريّة وليس إلى المكافأة. وكما يشرح كيبيس: "من بين جميع قواعد السلطة المتاحة للإنسان، سلطة إيذاء الآخرين هي الأكثر استخدامًا والأكثر إدانةً والأصعب في السيطرة عليها.
النتائج السلوكية للسلطة
حدّدنا إذًا خمس قواعد للسلطة على الأقل. تعتمد قوة الفرد في كلّ من هذه القواعد على سمة معيّنة في صاحب السلطة أو في تابعه أو في علاقتهما. تكمن السلطة في بعض الحالات (مثل سلطة المكافأة) لدى المدير، في حين يمكن في حالات أخرى (مثل السلطة المرجعية) منح السلطة إلى الرئيس من قبل المرؤوس. تنطوي ممارسة السلطة في كلّ الحالات على عواقب شخصية دقيقة بل مهدّدة أحيانًا للأطراف المعنيّة. لدى الموظفين عدة طرق للرد عند ممارسة السلطة عليهم. يُظهر الشكل 13.3 هذه الوسائل التي يتّبعها المرؤوسون.
الشكل 13.3 تفاعل الموظّفين مع قواعد السلطة (حقوق النشر: جامعة Rice، منظّمة OpenStax، مرخّصة برخصة المشاع الإبداعيّ CC-BY 4.0).
إذا قبل المرؤوس القائد وانسجم مع أفكاره تكون استجابته السلوكية التزامًا. أي أنّ المرؤوس سيُحَفّزُ ليتّبع رغبات القائد. يحدث ذلك عندما يستخدم الشخص المسؤول سلطة مرجعية أو سلطة الخبير، فيؤمن التابع ضمن هذه الظروف بقضيّة القائد ويبذل طاقةً كبيرة لمساعدة القائد على النجاح.
الاستجابة المحتملة الثانية هي الامتثال. يحدث هذا عند شعور المرؤوس أنّ القائد يمتلك سلطة شرعيّة أو سلطة المكافأة. فيمتثل التابع ضمن هذه الظروف للقائد، إمّا لأنّ الامتثال هو واجب عليه أو طمعًا بالمكافأة المُتوقّعة. لكن الالتزام أو الحماس للمشروع غير موجود. وأخيرًا، عند وجود السلطة القسرية، سيستخدم المرؤوسون المقاومة عادةً. هنا لا يرى المرؤوس سببًا كافيًا -نفسيًّا أو ماديًّا- للتعاون وغالباً ما ينخرط في سلسلة من الآليّات أو الاستجابات السلوكيّة هدفها إفشال جهود القائد.
تبعيّات السلطة
يمكن تحديد شخصين (أو مجموعتين) على الأقلّ في أيّ حالة تتعلّق بالسلطة: الشخص الذي يحاول التأثير على الآخرين وهدف أو أهداف هذا التأثير. تمحور الانتباه حتى وقت قريب على كيفية محاولة التأثير على الآخرين، ولكن تحوّل هذا الاهتمام مؤخرًا إلى كيفية محاولة الأشخاص إبطال أو تعديل محاولات التأثير. ندرك الآن أنّ تبعيّات السلطة (power dependencies) (لمن هم على الطرف المتلقي لمحاولات التأثير) تحدّد غالبًا مدى نجاح محاولات التأثير. بعبارة أخرى، لا يخضع جميع الناس (أو يعتمدون على) لقواعد السلطة ذاتها. ما الذي يجعل بعض الناس أكثر خضوعًا أو عرضة لمحاولات السلطة؟ حُدّدت ثلاثة عوامل على الأقل في هذا الصدد، وهذه العوامل:
- قيم المرؤوس (subordinate’s values). أوّلًا، قد تؤثّر قيم الشخص (ب) على عرضته لتأثير السلطة. على سبيل المثال، إن كانت النتائج التي يمكن أن يؤثر عليها (أ) مهمّة بالنسبة إلى (ب) فمن الأرجح أن يصبح (ب) أكثر عرضة للتأثير ممّا لو كانت النتائج غير مهمّة. لذا إن وضع الموظف قيمة عالية للمال واعتقد أن المشرف يتحكّم حقًّا في العلاوات؛ فمن المتوقّع أن يكون الموظّف شديد التأثّر بالمشرف، والخضوع له سيكون شبه مُطلق. تدور أحيانًا تعليقات حول عدم رغبة الشباب بالعمل بجدّ، قد يرجع ذلك إلى عدم وضع بعض الشباب قيمة عالية على تلك الأشياء (المال مثلًا) التي لطالما استُخدِمت للتأثير على السلوك. بعبارة أخرى، قد تعني مثل هذه الشكاوى حقيقةً أن الشباب أصعب على التأثير ممّا كانوا عليه في السابق.
- طبيعة العلاقة بين (أ) و(ب) (Nature of relationship between A and B). قد تلعب طبيعة العلاقة بين الفردين (أ) و(ب) أيضًا دورًا في تبعيّات السلطة. هل (أ) و(ب) زملاء عمل؟ أم أن العلاقة بينهما هي علاقة مدير ومرؤوسه؟ هل الوظيفة دائمة أم مؤقتة؟ قد يشعر الشخص العامل في وظيفة مؤقّتة مثلًا بحاجة أقل للإذعان لأنه لن يشغل هذا المنصب لفترة طويلة. علاوة على ذلك، إذا كان (أ) و(ب) قرينين أو صديقين جيّدين فمن المرجّح أن تكون عملية التأثير أكثر حساسيّة مما لو كانا مديرًا ومرؤوسًا.
- السلطة المضادّة (counterpower). أخيرًا، العامل الثالث الذي يجب مراعاته في تبعيّات السلطة هو السلطة المضادّة. يركّز مفهوم السلطة المضادّة على مدى امتلاك (ب) لمصادر سلطة أخرى تخفّف من أثر سلطة (أ). فإن كان الشخص (ب) ينتمي لنقابة ما مثلًا فقد تعمل سلطة النقابة على إبطال محاولات تأثير (أ). يُشاهَد استخدام السلطة المضادّة بوضوح في العديد من المواقف عندما تحاول التحالفات المختلفة المساومة مع بعضها وقياس سلطة خصومها.
يعرض الشكل 13.4 نموذجًا بدائيًا يجمع بين مفهومَي قواعد السلطة وتبعيّات السلطة. نرى في الشكل كيف تتفاعل قواعد السلطة لدى (أ) مع مدى اعتماد (ب) على السلطة لتحديد استجابة (ب) لمحاولة تأثير (أ). إذا كان (أ) يتمتّع بسلطة كبيرة وكان (ب) اعتماديًّا جدًّا، فسيمتثل (ب) لرغبات (أ).
الشكل 13.4 الأنماط النموذجيّة للاستجابة في علاقات السلطة الثنائيّة (حقوق النشر: جامعة Rice، منظّمة OpenStax، مرخّصة برخصة المشاع الإبداعيّ CC-BY 4.0).
إن كانت سلطة (أ) على (ب) أخفّ ولكن (ب) لا يزال يعتمد على (أ) اعتمادًا كبيرًا (ماديًّا أو معنويًّا)؛ فقد يحاول (ب) أن يساوم (أ). وعلى الرغم من حقيقة أن (ب) سوف يساوم من موقع ضعف، فإن هذه الاستراتيجية قد تحمي مصالح (ب) حمايةً أفضل من الامتثال المطلق. إذا طلب منك رئيسك مثلًا العمل لساعات إضافيّة، قد تحاول إبرام صفقة لتحصل على إجازة تعويضيّة في وقت لاحق. إذا نجحت في ذلك فعلى الرغم من أنك لن تقلل ساعات العمل فأنت على الأقل ضمنت أجرك عليها. قد يحاول (ب) -عندما تكون السلطة متكافئة أكثر- تطوير علاقة عمل تعاونية مع (أ) يكسب منها كلا الطرفين. مثال على هذا الموقف التفاوض على عقد العمل حيث تتميّز العلاقات بين العمل والإدارة بتوازن القوى وعلاقة عمل جيدة.
إن امتلك (ب) سلطة أكبر من (أ) فإنّ (ب) سيرفض على الأرجح محاولة (أ) للتأثير عليه. وقد يصبح (ب) هو المُعتدي ويحاول التأثير على (أ). أخيرًا ، عندما يكون (ب) غير متأكد من علاقات السلطة، قد يحاول ببساطة تجاهل جهود (أ). سيكتشف (ب) عندها إمّا أنّ (أ) لديه بالفعل المزيد من السلطة أو أنّ (أ) لا يمتلك السلطة التي تخوّله فرض أوامره عليه. يمكن رؤية مثال جيّد لهذه الاستراتيجيّة الأخيرة في ردود بعض الشركات على الجهود الحكومية القديمة لضمان تكافؤ الفرص للأقليّات والنساء. تجاهلت هذه الشركات ببساطة الجهود الحكوميّة حتى فُرِض الامتثال قانونيًّا.
القيادة الإدارية والمساعدون الإداريون
السلطة الخفية
من السهل ملاحظة سلطة المديرين. يمتلكون عادةً القدرة على التوظيف والفصل واتّخاذ قرارات مهمةّ وتوقيع العقود وإنفاق المال وغير ذلك. هم كيانات ذات سلطة حقًّا داخل الشركة. ولكن الأمر الذي يكون أقلّ وضوحًا هو السلطة التي يمتلكها المساعدون الإداريون أو التنفيذيّون. في الواقع، إذا كنت تريد اكتشاف مدى قوة السكريتاريّة، فكّر في ما سيحدث إن لم يكونوا موجودين. لن تُنجز معظم الأعمال الورقيّة ولن تُتّخذ العديد من القرارات المهمة وستتوقّف المنظمة في النهاية عن العمل.
ينخرط المساعدون التنفيذيّون في جزء مهم جدًا من المعلومات، كما تتطلّب مهمّتهم أن يولو اهتمامًا كبيرًا للبيانات وأن يمتلكوا مهارات ممتازة وأن يتميّز بما هو أكثر من مجرد الذكاء التقنيّ. تدفع العديد من شركات التكنولوجيا مبالغ كبيرة لإيجاد الشخص المناسب لهذه الوظيفة. ويُعتَقَد أنّ المرتّبات الأساسية للمساعدين التنفيذيين تبدأ من 80 إلى 100 ألف دولار سنويًّا في منطقة الخليج (وهي منطقة ضمن مدينة سان فرانسيسكو في شمال ولاية كاليفورنيا الأمريكيّة وتحتوي على وادي السيليكون silicon valley).
تزداد صعوبة توظيف مساعدين تنفيذيّين ذوي مهارات عالية باستمرار، ممّا أدى إلى زيادة سلطتهم. وعلى الرغم من الأجر المرتفع، إلّا أنّ منصب "المساعد" يحمل عادة فكرة سلبيّة حوله. تقول شانا لارسون (Shana Larson) (البالغة من العمر 32 عامًا والّتي تحمل شهادة ماجستير من جامعة جنوب كاليفورنيا وهي واحدة من أربعة مساعدين تنفيذيّين في شركة (Pinterest)، وهي شركة الاكتشافات المرئية في سان فرانسيسكو، تقول: "هناك وصمة طبعًا" حول المنصب الوظيفيّ. ولكن بالنسبة لها أثناء الفترة الانتقاليّة الأوليّة شعرت أنّه كان أفضل قرار مهنيّ يمكنها اتّخاذه. مهنة طويلة الأمد مع فرصة للنموّ والترقّي.
يمثّل المساعدون التنفيذيّون مثالًا حقيقيًّا للسلطة المضادة داخل المنظمة. يمتلك رؤسائهم سلطة عليهم بالتأكيد ولكن في نفس الوقت لديهم سلطة كبيرة على رؤسائهم. السكرتاريّة غالبًا ما يكونون مطّلعين على معلومات سريّة كثيرة. ويتعاملون تعاملًا روتينيًّا مع المكالمات والمراسلات والتقارير الخاصّة. غالبًا ما يأخذ المديرون رأيهم في الأفكار الجديدة، وهم على يعرفون كيف يشعر المدير تجاه زملاء العمل والرؤساء. هذه المعرفة بالتشارك مع القوالب النمطية والحاجة المتزايدة للمساعدين التنفيذيّين، هذه العوامل مُشتركةً تمنح المساعدين عالي الجودة سلطة كبيرة في التعامل مع رؤسائهم ومنظّماتهم.
ترجمة -وبتصرف- للفصل (Organizational Power and Politics) من كتاب Organizational Behavior
أفضل التعليقات
لا توجد أية تعليقات بعد
انضم إلى النقاش
يمكنك أن تنشر الآن وتسجل لاحقًا. إذا كان لديك حساب، فسجل الدخول الآن لتنشر باسم حسابك.