اذهب إلى المحتوى

سلوك التفاوض وبتر النزاعات في المؤسسات


يمان نعساني

تحدّثنا عن الدور المركزيّ الذي يلعبه النزاع في العمليات المؤسّساتيّة. من الواضح أن هناك بعض المجالات الّتي يفضِّلُ فيها المديرون حلّ المشكلة بين الطرفين قبل أن تؤدّي إلى مستويات عالية من النزاع ونتائج عكسيّة على الشركة. وعادة ما يحدث ذلك عبر التفاوض. التفاوض (negotiation) هو العمليّة التي يحاول الأفراد أو الجماعات من خلالها تحقيق أهدافهم عبر المساومة مع طرف آخر لديه على الأقل بعض السيطرة على تحقيق الهدف. يتطلّب التفاوض مهارة كبيرة في الاتّصال وصنع القرار واستخدام السلطة والسياسة من أجل تحقيق النجاح في عمليّة التفاوض.

سنبحث في عدّة جوانب من التفاوض، بما في ذلك مراحله وأنواع السلوك فيه وعمليّة التفاوض ذاتها. وسنبدأ بالأسباب الّتي تجعل الناس ينخرطون في المفاوضات والمساومة في المقامّ الأوّل.

مراحل التفاوض

تتكوّن المفاوضات والمساومة عمومًا من أربع مراحل. على الرغم من أنّ طول أو أهميّة كل مرحلة يمكن أن يختلف من حالة إلى أخرى أو من ثقافة إلى أخرى، على الرغم من ذلك فوجود وتسلسل هذه المراحل شائعٌ جدًا عبر المواقف والثقافات.

  1. بعيدًا عن المهمّة: يركز المشاركون خلال المرحلة الأولى على التعرّف على بعضهم ولا يركّزون بشكل مباشر على مهمّة أو مسألة التفاوض. في الثقافة الأمريكيّة مثلًا تتضمّن هذه المرحلة غالبًا الأحاديث الجانبيّة الصغيرة. ومع ذلك لا تطول هذه المرحلة عادةً ولا تٌعدُّ بأهميّة المراحل الأخرى. يستخدم الأمريكيّون الشماليون عبارات مثل "دعنا نبدأ العمل" أو "أعرف مدى انشغالك لذا لندخل إلى صلب الموضوع" أو "فلنتجنّب إضاعة الوقت". أمّا في ثقافات أخرى مثل المكسيك أو كوريا الجنوبية، غالبًا ما تكون هذه المرحلة أطول وأكثر أهميّة لأنّه خلال هذه المرحلة تُؤسّس العلاقة بين الطرفين، فالعلاقة في هذه الثقافات أهمّ من العقد أو العمل من ناحية تحديد مدى ثقة كلّ طرف في وفاء الآخر بالتزاماته.

  2. تبادل المعلومات: تنطوي المرحلة الثانية من المفاوضات على تبادل المعلومات الأساسيّة والمعلومات العامّة. يمكن للمشاركين خلال هذه المرحلة مثلًا أن يقدّموا نظرة عامة على شركتهم وتاريخها. تُعدّ هذه مرحلة مهمّة في بعض الدول مثل اليابان لوجوب النظر في مقترحات أو اتفاقيّات معينّة واتّخاذ قرار بشأنها ضمن السياق الأشمل؛ توفّر المعلومات المتبادلة خلال المرحلة الثانية هذا السياق الأشمل.

  3. التأثير والإقناع: تتضمّن المرحلة الثالثة جهودًا للتأثير على الجانب الآخر وإقناعه. تُصَمّم هذه الجهود عمومًا لجعل الطرف الآخر يقلّل من مطالبه أو رغباته وزيادة قبوله لمطالبك أو رغباتك. هناك مجموعة متنوّعة من أساليب التأثير، بما في ذلك الوعود والتهديدات والأسئلة وغيرها. إنّ استخدام هذه الآليّات وفعاليتها تأكيدٌ على أهميّة نواحٍ عديدة، أولاً، إن القوة المُدركة أو الحقيقيّة لطرف ما بالنسبة لطرف آخر عامل مهمّ. إذا كان أحد الأطراف مثلًا هو المورّد الوحيد المُتاح أو المناسب لمكوّن مهمّ في الإنتاج فمن المرجّح ألّا يكون تهديد هذا المورّد بالذهاب إلى مورّد جديد مفيدًا ما لم يكن سعر المورّد الآخر أفضل. ثانياً، إنّ فعاليّة آليّة تأثير معيّنة ترضخ أيضًا للمجال الّتي تعمل به المؤسّسة وللمعايير الثقافيّة المقبولة. على سبيل المثال، إذا كانت التهديدات شكلًا غير مقبول للتأثير فقد يؤدّي استخدامها إلى نتائج معاكسة لما هو مرغوب.

  4. الإنهاء: المرحلة الأخيرة لأيّ مفاوضات هي الإنهاء. قد يؤدّي الإنهاء إلى الوصول إلى اتّفاق مقبول بين الأطراف المعنية أو إلى الفشل في التوصّل إلى اتّفاق. تختلف الرموز التي تمثّل إغلاق المفاوضات عبر الثقافات. في الولايات المتحدة مثلًا يُعدّ العقد المُوقّع رمزًا للمفاوضات المُنتهية. هنا تصبح "الصفقة نهائيّة" ويعدُّ عدم الالتزام بمحتويات الوثيقة خرقًا للعقد. ولكن في الصين مثلًا لا يوجد تاريخ أو منظور قانونيّ قويّ مثل الموجود في الولايات المتحدّة، والوثيقة المُوقّعة ليست بالضرورة رمزًا لإنهاء المفاوضات، بل تشير إلى حدّ ما لبداية نقاط التفاوض النهائية.

    تحدّد الوثيقة الموقّعة القضايا الرئيسيّة الّتي لا تزال بحاجة إلى التفاوض بشأنها، على الرغم من أنّها قد تحتوي على التزامات محدّدة للأطراف المعنيّة فيما يتعلّق بهذه القضايا. وعلى الرغم من أنّ الوثيقة قد تُلزم أحد الأطراف بتسليم منتج في يوم معيّن وإلزام الطرف الآخر بدفع سعر معيّن للتسليم، فإنّ الوثيقة نفسها لا تُشير إلى أنّ المفاوضات بشأن هذه التفاصيل قد انتهت.

تسود هذه المراحل الأربع والتسلسل الموصوف في معظم المواقف والثقافات، ويمكن مع ذلك أن يختلف طول الوقت المخصّص لكل مرحلة وأهميّة كل مرحلة والسلوكيّات المحدّدة المرتبطة بكلّ منها تبعًا للموقف والثقافة السائدة.

استراتيجيات المساومة

في سياق هذه المراحل الأربع، يجب على كلا الطرفين اختيار استراتيجيّة مناسبة من شأنها أن تساعدهم في تحقيق أهدافهم. يمكن تحديد نهجين متميزين إلى للتفاوض، وهما: المساومة التوزيعيّة والمساومة التكامليّة. يبيّن الجدول 14.2 مقارنةً بين هذين النهجين.

المساومة التوزيعيّة (distributive bargaining). المساومة التوزيعية هي أساسًا مساومة "ربح-خسارة". أي في حال كانت تتعارض أهداف أحد الطرفين تعارضًا أساسيًّا ومباشرًا مع أهداف الطرف الآخر، وتكون الموارد ثابتة ومحدودة ويريد كلّ طرف زيادة نصيبه من هذه الموارد. وأخيرًا، يمثّل هذا الوضع في معظم الحالات علاقة قصيرة المدى بين الطرفين، وقد لا ترى هذه الأطراف بعضها مرة أخرى.

من الأمثلة الجيّد على ذلك العلاقةُ بين المشتري والبائع في بيع المنازل. إذا حصل المشتري على المنزل مقابل نقود أقلّ (أي أنّه "ربح") فإن البائع يحصل أيضًا على مبلغ أقلّ (أي أنّه "خسر"). يمكن رؤية وضع الربح-الخسارة في الفصول الدراسيّة حيث يصرّ الأستاذ على منح الدرجات وفقًا لمنحىً محدّد. فإن حصل أصدقاؤك على تقدير "ممتاز" يصبح هناك عدد أقلّ من تقديرات الامتياز المتبقّية وتقلّ فرصك.

مقاربتي المساومة
خصائص المساومة المساومة التوزيعيّة المساومة التكامليّة
بنية الربح تقاسم كمّيّة ثابتة من الموارد. تقاسم كميّة متغيّرة من الموارد.
الدافع الأساسيّ أنا أربح وأنت تخسر. المنفعة المشتركة.
الرغبات الأساسيّة متعارضة مع الآخر. متكاملة مع الآخر.
تركيز العلاقات قصيرة الأمد. طويلة الأمد.

الجدول 14.2 (حقوق النشر: جامعة Rice، منظّمة OpenStax، مرخّصة برخصة المشاع الإبداعيّ CC-BY 4.0).

في ظلّ هذه الظروف، يمكن أن يتبنّى كل جانب مسارًا للعمل على النحو التالي: أولاً، سيحاول كل طرف في النزاع اكتشاف مدى استعداد الطرف الآخر للتوصّل إلى اتّفاق. يمكن القيام بذلك من خلال تقديم مقترحات منخفضة للغاية (أو عالية). في بيع منزل مثلًا يطلب البائع عادة سعرًا أعلى مما يأمل الحصول عليه (راجع الشكل 14.6). وعادةً ما يقدّم المشتري بدوره عرضًا أقلّ بكثير مما يستطيع دفعه. يُطرح هذان السعران لاكتشاف سعر مقاومة الخصم. سعر المقاومة (resistance price) هو النقطة التي لن يتنازل بعدها الخصم للوصول إلى تسوية. بمجرد أن تُقدّر نقطة المقاومة، يحاول كل طرف إقناع الخصم بأن العرض على الطاولة هو أفضل عرض يمكن أن يحصل عليه وأنّه يتعيّن عليه قبوله. عندما ينخرط كلا الجانبين في تكتيكات مماثلة، غالبًا ما يُحدّد الفائز حسب من لديه أفضل المهارات الاستراتيجية والسياسية لإقناع الطرف الآخر بأن ما يقدّمه هو أفضل ما يمكن أن يحصل عليه.

المساومة التكاملية (integrative bargaining). غالبًا ما توصف المساومة التكاملية على أنّها نهج "ربح-ربح". أي أنه باستخدام هذه الآليّة يحاول الطرفان التوصّل إلى تسوية تفيد الطرفين. يعتمد مثل هذا النهج على الاعتقاد بإمكانيّة الوصول لحلول إبداعيّة تساعد الجميع إذا حاول الناس حل المشكلة حلًّا متبادلًا. تمثّل المفاوضات التجاريّة الثنائيّة بين بلدين مثالًا جيّدًا. يتفق المشاركون عادة في مثل هذه المفاوضات على أنّ الحرب التجاريّة ستضرّ بالجانبين. لذلك يحاول كلا الجانبين تحقيق توازن في النتائج والأرباح ويفضّلونها على الحرب التجاريّة بين الجانبين. ولكنّ الحيلة في هذه الاستراتيجيّة تكمن في التخلّي عن أقلّ قدر ممكن من المصالح لتحقيق التوازن.

Exhibit 14.6.png

الشكل 14.6 المساومة التوزيعيّة في عمليّة شراء منزل (حقوق النشر: جامعة Rice، منظّمة OpenStax، مرخّصة برخصة المشاع الإبداعيّ CC-BY 4.0).

يتميّز هذا النهج بوجود موارد متنوّعة للتقسيم وإمكانيّة لزيادة الجهود والنتائج المشتركة إلى أقصى حدّ، بالإضافة إلى توافر الرغبة في تأسيس علاقة طويلة الأمد أو الحفاظ عليها (كما هو موضّح سابقًا في الجدول 14.2). قد تكون مصالح الطرفين مُتقاربة (غير تنافسية مثل منع نشوب حرب تجاريّة بين دولتين) أو متطابقة (متداعمة كما هو الحال عندما يتوصل البلدان إلى اتفاقيّة دفاع متبادل).

تختلف أساليب المساومة في هاتين الحالتين عن تلك الأساليب الموجودة عادةً في المساومة التوزيعيّة. يجب أن يكون الطرفان هنا قادرين ومستعدّين تمامًا لفهم وجهات نظر الطرف الآخر، وإلّا فلن يكتشفوا طريقة الوصول إلى الاتفّاق المحتملّ. يجب أيضًا أن يكون هنالك تدفّق حرّ للمعلومات، من البديهيّ أن تُطلب درجة معينة من الثقة أيضًا. في المناقشات، يُركّز على تحديد النقاط المشتركة بين الطرفين وتُهمّش الخلافات ومواطن النزاع. وأخيرًا، يُركّز عند البحث عن الحلّ على اختيار مسارات عمل تلبّي أهداف وغايات كلا الجانبين. يتطلّب هذا النهج وقتًا وطاقة أكبر بكثير من المساومة التوزيعيّة. ومع ذلك يمكن أن يؤدّي إلى حلول أكثر إبداعًا وأطول مدّةً.

عملية التفاوض

تتضمّن عمليّة التفاوض تحديد الأهداف المرغوبة -أي ما تحاول الخروج به - ثمّ تطوير استراتيجيّات مناسبة تهدف إلى الوصول إلى تلك الأهداف. تتمثّل إحدى السمات الرئيسية لاستراتيجيّة المرء في معرفة وضعه النسبيّ في عملية المساومة؛ أي اعتمادًا على موقعك أو سلطتك النسبيّة قد ترغب في التفاوض بجديّة أو قد ترغب في إخبار خصمك "بالموافقة أو الانسحاب".

يمكن استنباط ديناميكيّات سلطة المساومة مباشرة من جدول مناقشة السلطة (14.3)، يشير الجدول أيضًا إلى العديد من الشروط التي تؤثّر على هذا الاختيار. على سبيل المثال، قد ترغب في التفاوض عندما تكون قيمة التبادل وتأسيس علاقة وثيقة مع الطرف الآخر مهمّةً، وعندما يكون الالتزام بالقضيّة مرتفعًا أيضًا. في الحالة المعاكسة قد لا تهمّك المساومة.

استراتيجيّات المساومة
خصائص الوضع التفاوض الموافقة أو الانسحاب
قيمة المبادلة مرتفعة منخفضة
الالتزام بالقرار مرتفع منخفض
مستوى الثقة مرتفع منخفض
الوقت متّسع من الوقت أمر مُستعجل
توزّع السلطة* منخفض أو متوازن غير مهمّ
العلاقة بين الطرفين مهمّة غير مهمّة
* يشير لتوزّع السلطة النسبيّ بين الطرفين. يعني "منخفض" هنا أن الشخص يمتلك سلطة قليلة في هذا الموقف، في حين يعني "مرتفع" امتلاك الشخص سلطة كبيرة.

الجدول 14.3 (حقوق النشر: جامعة Rice، منظّمة OpenStax، مرخّصة برخصة المشاع الإبداعيّ CC-BY 4.0).

يتطلّب الأمر بعض الوقت لوضع خطّة عمل مناسبة بمجرّد أن تُحدَّد الأهداف والغايات بوضوح وتوضع استراتيجيّة المساومة. يتطلّب التخطيط للتفاوض إجراء تقييم واضح لنقاط القوّة والضعف لديك ولدى منافسيك. اقترح روي لويكي (Roy Lewicki) وجوزيف ليترر (Joseph Littrer) صيغةً عامّةً للاستعداد للتفاوض. يجب أن يمرّ التخطيط للتفاوض وفقًا لهذه الصيغة بالمراحل التالية:

  1. افهم الطبيعة الأساسية للنزاع. ما هي المجالات الأساسيّة للاتّفاق والخلاف؟
  2. ماذا تريد بالضبط من هذه المفاوضات؟ ما هي أهدافك؟
  3. كيف ستدير عملية التفاوض؟ يجب هنا تمييز عدّة نقاط:
    • تحديد القضايا الأساسيّة للتفاوض.
    • إعطاء الأولويّة لهذه القضايا.
    • تحديد حزمة رغبات بما فيها هذه القضايا الهامة.
    • ضع جدول أعمال.
  4. هل تفهم خصمك؟
    • ما هي الموارد والاحتياجات الحاليّة لخصمك؟
    • ما هو سلوك مساومة خصمك في السابق؟ ما الأنماط التي يمكنك رؤيتها والتي يمكن أن تساعدك في توقع تحركاته الطرف الآخر؟

تشير الأبحاث إلى أنّ اتّباع مثل هذه الإجراءات يؤدّي إلى مساومة أكثر نجاحًا. يمكننا أن نرى في الجدول 14.4 الاختلافات في نهج التخطيط والسلوكيّات الفعليّة للمفاوضين الناجحين والمتوسّطين. من الواضح أنّ التحضير يُحدِث فرقًا كما يفعل الأسلوب الشخصيّ أثناء التفاوض الفعليّ.

متّى تفاوض
سلوك التفاوض المفاوض الماهر المفاوض المتوسّط
قبل التفاوض
عدد الخيارات المطروحة لكلّ قضيّة 5.1 2.6
نسبة الوقت المخصّص للتركيز على نقاط الاتّفاق (المُتوقّعة) بدلًا من نقاط الخلاف 39% 11%
خلال التفاوض
نسبة الوقت المخصّص لطرح أسئلة حول المنافس 21% 10%
نسبة الوقت المخصّص للإصغاء الفعّال 10% 4%
نسبة الوقت المستخدم لمهاجمة المنافس 1% 6%
المصدر: مبنيّة على تقارير من N. J. Adler and A. Gunderson, International Dimensions of Organizational Behavior 5th edition (Mason, OH: Cengage Learning, 2008), pp. 165–181.

الجدول 14.4 (حقوق النشر: جامعة Rice، منظّمة OpenStax، مرخّصة برخصة المشاع الإبداعيّ CC-BY 4.0).

ترجمة -وبتصرف- للفصل (Conflict and Negotiations) من كتاب Organizational Behavior


تفاعل الأعضاء

أفضل التعليقات

لا توجد أية تعليقات بعد



انضم إلى النقاش

يمكنك أن تنشر الآن وتسجل لاحقًا. إذا كان لديك حساب، فسجل الدخول الآن لتنشر باسم حسابك.

زائر
أضف تعليق

×   لقد أضفت محتوى بخط أو تنسيق مختلف.   Restore formatting

  Only 75 emoji are allowed.

×   Your link has been automatically embedded.   Display as a link instead

×   جرى استعادة المحتوى السابق..   امسح المحرر

×   You cannot paste images directly. Upload or insert images from URL.


×
×
  • أضف...