سنكمل سلسلة مقالاتنا الفريدة عن السلوك التنظيمي في المؤسسات في بابها السابع، والذي سنتدارس فيه أحد السلوكيات والمفاهيم المهمّة في عالم الأعمال وهو رفع الأداء ودفع العمل داخل المؤسسات، سنستعرض في مقالاتنا اللاحقة جُملة من الأفكار الأساسية من تعريف الدافعيّة إلى نظرية محتوى الدافعية والنظريات المشابهة لها، ووصولًا إلى النظريات المنهجية للدافعية، وأخيرًا سنعرض أحدث الدراسات حول ذلك.
استكشاف المهن الإدارية
بريدجيت اندرسن (Bridget Anderson)
اعتقدت بريدجيت بأنَّ الحياة ستكون مثالية في "العالم الحقيقي". بعد الحصول على شهادتها في علوم الحاسوب، تحصّلت على وظيفة مبرمجة بأجرٍ جيّد في منظمة كبيرة غير ربحيَّة، كانت بريدجيت تؤمن بأهداف هذه المنظمة بشكل كبير، وكانت في البداية سعيدة بعملها.
وفي الآونة الأخيرة أصبحت بريدجيت تشعر بالإعياء كل صباح عندما يرنُّ منبهها. لم هذا الشعور بالبؤس؟ رغم كلّ شيء فهي تعمل في المجال التي اختارته وفي البيئة التي تتطابق مع قِيمها ورؤيتِها. ما الشيء الذي ينقصها؟ إنّها في حيرة شديدة من أمرها.
شارفت سنتها الثانية في المنظمة على الانتهاء، وتحدّد بريدجيت موعد لتقييم أدائها السنوي. هي تعلم بأنها مبرمجة مؤهلة وجيّدة، ولكنها تعلم أيضاً بأنها مؤخرًا لا تعمل إلا الحد الأدنى من المطلوب لتدبير أمرها فقط، بناءً على برنامج الشركة. أصبح قلبها بعيدًا عن العمل مع تلك المنظّمة. وهذا بالتأكيد ليس ما كانت تطمح إليه.
مدير بريدجيت كايل جاكوبس (Kyle Jacobs) فاجأها ببداية التقييم بالاستفسار عن أهدافها المهنية. واعترفت حينها بأنّها لم تفكر جيدًا حول مستقبلها. وتساءل كايل فيما إذا كانت سعيدة في منصبها الحالي وإذا ما كانت تشعر بأن أي شيء ينقصها. وفجأًة أدركت بريدجيت أنّها تريد المزيد لمهنتها.
السؤال: هل مشاكل الدافعيّة لدى بريدجيت هي مشاكل داخليّة أم أنها خارجيّة؟ وأيّ احتياج من احتياجاتها لم يُلبَّى حاليَّاً؟ وما هي الخطوات التي يجب أن تتخذها مع مديرها لتعزيز دافعها للعمل وبالنتيجة تعزيز أدائها؟
النتيجة: عندما تقرُّ بريدجيت بأنها غير راضية عن عملها كمبرمجة حاسوب ستكون مستعدة لاستكشاف الإمكانيَّات الأخرى. بدأت بريدجيت مع كايل بعملية عصف ذهني لإيجاد مهمّات تحفزها وتساعدها في الحصول على رضا وظيفي أكبر. أخبرت بريدجيت كايل بأنّها، وبقدر استمتاعها بالبرمجة، فإنَّها تشعر بالعزلة وتفتقد التفاعل مع المجموعات الأخرى في المنظّمة. كما أدركت أيضًا بأنّها بمجرد إتقانها منحنى التعلم الأساسي بدأت تشعر بالملل. إذ قالت بريدجيت بأنها مستعدة دائمًا لأي تحدّيات أو أعمال إضافية.
يوصي كايل بأن تنتقل بريدجيت لفريق أنظمة المعلومات كممثلة تقنية له. الفريق يستطيع الاستفادة من معرفة بريدجيت في البرمجة، وهي ستصبح قادرة على التعاون أكثر مع أشخاص آخرين في المنظمة.
وضع كايل وبريدجيت أهدافًا محدّدة لتلبية احتياجاتها من أجل تحقيق العمل التعاونيّ. أحد أهداف بريدجيت هو حضور دروس تخرج في الإدارة وأنظمة المعلومات. هي ترى بأنّ هذا سيمكّنها من الحصول على ماجستير في إدارة الأعمال، أي في النهاية سيقود لمنصب قائد فريق. وفجأًة فكرة الذهاب للعمل لم تعد محبطة وفي النهاية تغلبت بريدجيت على المنبه، واستعادت نشاطها ونهضت للعمل!
إن كنت قد عملت مسبقًا مع مجموعة من الأشخاص، ومعظمنا فعل ذلك، فإنك وبدون شك لاحظت وجود اختلافات في أداء الأفراد ضمن المجموعة. وقد فكر الباحثون مليًّا بهذه الاختلافات لسنوات عديدة. وبالطبع فإن جون واتسون (John B, Watson) أوّل من درس هذه القضية في بدايات القرن التاسع عشر. الأداء بالطبع هي قضيَّة مهمَّة جدًا لأصحاب العمل، لأنَّ المنظمات ذات الأداء الجيّد لموظفيها ستكون أكثر فعاليًّة ونجاحًا.
ولفهم أفضل لسبب اختلاف مستويات أداء الأشخاص، صنَّف الباحثون المحدّدات الكبرى للأداء: القدرة، الجهد (الدافع)، الإدراك الدقيق للدور، وعوامل بيئية (راجع الشكل 7.2). كلّ محدد للأداء مهم، وأي نقص في أحدها سيؤثر تأثيرًا كبيرًا على المحددات الأخرى. الأشخاص الذين لا يفهمون ما هو المطلوب منهم سيبقَون مقيدين بفهمهم المغلوط لدورهم، حتى لو امتلكو القدرة والدافع القوي والإمكانيّات الضرورية لأداء عملهم. لا يمتلك أي من المحددات القدرة على تعويض النقص في أي من المحددات الأخرى. لذلك لا يستطيع المدير التعويض عن نقص المهارة أو القدرة عند الموظفين عن طريق تعزيز الدافع لديهم.
الشكل 7.2 مُحدّدات الأداء (حقوق النشر: جامعة Rice، منظّمة OpenStax، مرخّصة برخصة المشاع الإبداعيّ CC-BY 4.0).
الدافعية: اتجاهها وشدتها
يشير مصطلح القدرة (Ability) إلى ما يمتلكه الشخص من معرفة ومهارات عند التزامه بمهمة أو عمل ما. المعرفة هي ما يعرفه الشخص حول موضوع ما. المهارة هي قدرته على أداء مهمّة معيّنة (مثل اللّحام أو المحاسبة) ومعرفته ما هو متوقّع منه (ما يسمّى بإدراك الدور بدقّة). تقبّل التعلّم هو مدى سرعة اكتساب الفرد لمعرفة أو مهارة جديدة. بعض الأشخاص يمتلكون مقدرة أكبر على ذلك ويؤدّون أفضل ممّن يمتلكون مقدرة أقل (رغم أنّنا سنرى أنّ هذا ليس صحيحًا دائمًا).
يعبّر مصطلح إدراك الدور (role perception) بدقّة عن مدى فهم الفرد لدوره في المنظّمة، هذا يتضمّن الأهداف (النتائج) الّتي من المتوقّع أن يحقّقها والآليّة الّتي يجب أن يستخدمها لتحقيقها. يعلم الموظّف الذي يدرك دوره بدقّه ما النتائج المطلوبة منه كما يعلم كيف يحقّق هذه النتائج. الإدراك الناقص أو الخطأ لدور الفرد يحدّ من قدرته على تحقيق التوقّعات، بغض النظر عن قدرته أو حافزه.
تعني بيئة الأداء (performance environment) مجموعة العوامل الّتي تؤثّر على أداء الموظّفين والخارجة عن سيطرتهم. تؤثّر العديد من العوامل المحيطة على الأداء حيث ترفعه بعض العوامل وتحدّده عوامل أخرى. مُحرِّر النصوص الذي يعمل على حاسوب شخصيّ معطّل بالتأكيد لن يستطيع أن يؤدّي عمله أداءً جيّدًا مهما كانت قدرته أو رغبته. كما لن يستطيع الطلاب العاملون بدوام كامل ويتابعون دروسهم كاملةً، لن يستطيعوا أن يؤدّوا امتحاناتهم جيّدًا كما كانوا سيؤدونها لو كانوا يعملون ساعاتٍ أقل، وذلك بالرغم من امتلاكهم مقدرة عالية وحافزًا كبيرًا.
الدافعيّة هو العامل الرابع والأهم والذي يحدّد جودة أداء الفرد لمهمّة ما. الدافعيّة (motivation) هي قوّة داخل أو خارج الجسم تنشّط وتوجّه وتعزّز الأداء البشريّ. ومن الأمثلة على ذلك: الحاجات والقيم الشخصيّة والأهداف، في حين تكون الحوافز مثالًا على الدوافع الخارجيّة. يرجع أصلة كلمة (motivation) إلى الجذر اللاتينيّ (movere) ويعني "أن تُحرّك". وبشكل عام، تنشأ الدافعيّة نتيجةً لرغبة الشخص في إشباع حاجات معيّنة، أو حلّ أفكار متضاربة تجعله قلقًا (تجربة غير سارّة). هناك العديد من الطرق الّتي نستعملها لوصف وتصنيف الحاجات الإنسانيّة، كما سنرى لاحقًا في مقالاتنا. بعض الحاجات أساسيّة لبقائنا مثل الطعام والشراب.
فعندما نكون جائعين نعمل بنشاط لسدّ تلك الحاجة عبر توفير الطعام وتناوله. تعمل حاجاتنا الأخرى بشكل مشابه، فعندما تكون حاجة ما غير مُلبّاة نندفع مباشرةً إلى العمل على تلبيتها. ينطبق الأمر ذاته على الأفكار المتضاربة. فعندما نجد أنفسنا في مواقف تتعارض مع معتقداتنا أو قيمنا أو توقّعاتنا نسعى لإلغاء التضارب عبر تغيير الموقف نفسه أو تغيير نظرتنا تجاه ذلك الموقف. ينظر الإنسان إلى المواقف عمومًا على أساس كونها ملبّيةً لحاجاته أو تتطابق مع معتقداته أم لا، فتكون بذلك الدافعيّة نتيجةً لتفاعلنا مع المواقف الحاصلة بحيث نشبع الرغبات غير الملبّاة أو نبسّط التناقض الفكريّ.
الشكل 7.3 توم برادي (Tom Brady) كان توم برادي دائمًا لاعبًا بديلًا في فريق جامعته (جامعة ميشيغان University of Michigan) فقد كان هناك دومًا لاعبون واعدون يُختارون قبله، كما اختُير في الجولة السادسة من الاختيار العام عند دخوله لعالم الاحتراف بعد الجامعة. علق على ذلك عندما قال: "الكثير من الناس لا يؤمنون بك. ذلك واضح الآن، اختُير 6 ظهراء ربعيّين و198 لاعبًا قبلي، لكنّي قلت لنفسي دائمًا ما إن تحين لي الفرصة سأكون جاهزًا لها وسأستغلّها أفضل استغلال." وبدلًا من الاستسلام، وظّف أخصّائيًّا نفسيًّا ليساعده على التعامل مع الإرهاق المستمر. ولاحقًا أصبح برادي ظهيرًا ربعيًّا من النخبة، كما يُعدُّ أحد أعظم اللاعبين على الإطلاق. "أعتقد أنّني لطالما حملت عبئًا خاصًّا على كاهلي، إن كنت الاختيار رقم 199 فلا بدّ أن الجميع سيظنّ أن هنالك سبب لذلك: لأنّ أحدهم اعتقد أنّني لست بالجودة الكافة." ساعده شغفه ودافعه على تحقيق مكانته الحاليّة. (حقوق الصورة: Brook Ward/ flickr/ Attribution 2.0 Generic (CC BY 2.0)).
بشكل مبسّط: دافعيّة العمل (work motivation) هو المجهود الّذي يبذله الشخص لتحقيق مستوى معيّن من الأداء في العمل. بعض الأشخاص يحاولون بشدّة أن يؤدّوا جيّدًا، يعملون لساعات طويلة حتّى لو تعارض ذلك مع حياتهم الشخصيّة، بمعنى آخر، الأشخاص ذوي الدوافع القويّة يخطون "الخطوة الإضافيّة". ذوو العلامات المرتفعة في الامتحانات يحرصون على أن يدرسوا مواد الامتحان بأقصى قدرتهم مهما تطلّب ذلك من ليالٍ ساهرة، أما الطلاب الآخرون الذين لا يؤدّون بهذه الجودة قد تكون رغبتهم النجاح فحسب وليس التفوّق، ففي النهاية هم يستمتعون أكثر بالحفلات ومتابعة الرياضة.
من المهمّ جدًا بالنسبة للمديرين وجود الحافز لدى موظّفيهم، يرغب جميع المديرون أن يؤدّي موظّفوهم أقصى ما لديهم. فيبذلون عناءً كبيرًا عند التوظيف لاختيار الطلب الأنسب لمن يمتلك القدرات الضروريّة والدافعيّة اللازم لأداءٍ أفضل. كما يسعون لتوفير كل الموارد اللازمة وتوفير بيئة عمل جيّدة. وبالرغم من ذلك تبقى الدافعيّة شرطًا صعب التوفير في الموظفين. وكنتيجة لذلك تمتلك الدافعيّة الاهتمام الأكبر من المنظّمات ومن الباحثين، حيث يحاولون الإجابة عن السؤال "ما الّذي يدفع الأشخاص للأداء الجيّد؟"
سنلقي في مقالاتنا التالية نظرة على الإجابات الحالية لهذا السؤال. ما هي ظروف العمل المثاليّة لتوليد الدافع لدى الموظفين؟ كيف تساعدنا نظريات الدوافع على فهم المبادئ العامّة الّتي تقود السلوك الإنسانيّ؟ بدلًا من تحليل سبب دراسة طالب باجتهاد لامتحان ما، سننظر إلى المبادئ الأساسية لسلوكيّاتنا العامّة في مجموعة من المواقف (من ضمنها المرور بامتحان)، كما سنناقش النظريات الأساسيّة للدوافع بالإضافة إلى تطبيقاتها في الإدارة والسلوك المؤسّساتيّ. ستمتلك عند نهاية هذا مقالات هذا الباب من سلسلتنا فهمًا أفضل عن السبب وراء امتلاك بعض الأشخاص دافعًا أكثر من غيرهم. يدرك الموظّفون الناجحون ما يرغبون في تحقيقه (الاتّجاه) ويواظبون ويسعّون بجدّ من أجل تحقيق أهدافهم (الشدّة).
يدلّ نقاشنا حتّى هذه اللحظة على أنّ الدافعيّة تخصّ المجهود فقط. في الواقع هذا صحيح جزئيًّا، تتألف الدافعيّة من مكوّنين أساسيّين: الاتّجاه والشدّة. الاتّجاه (direction) هو ما يرغب الشخص في تحقيقه أو ما يعزُم على إكماله، بمعنى آخر الهدف الذي يسعى الفرد "لإصابته"، قد يكون الهدف أداءً جيّدًا في امتحان ما أو أن تؤدّي أفضل من الآخرين في مجموعة عمل ما. الشدّة (intensity) هي المجهود الذي يبذله لتحقيق هذه الأهداف، ومقدار التزامه ببذل ذلك المجهود. الشدّة هي ما نراه على شكل مجهود مبذول، كما تمثّل الطاقة التي نصرفها لتحقيق شيء ما. فإن لم تكن جهودنا مثمرة، هل نحاول اتّباع وسائل أخرى للنجاح؟ (الأشخاص ذوي الدوافع عالية الشدّة مثابرون!)
من المهمّ التمييز بين اتّجاه الدافعيّة وشدّته. إن نَقُص أحد هذين العاملين سينخفض الأداء. فالشخص الذي يعرف ما يرغب بتحقيقه (اتّجاه) لكنّه لا يبذل مجهودًا كافيًا (شدّة) لن ينجح. (تحقيق علامة المئة 100 -هدفك- في امتحان ما لن يحدث ما لم تدرس!) وبالعكس فإنّ الأشخاص غير المتوجّهين (لا يعرفون ما يرغبون بتحقيقه) لن ينجحوا غالبًا. (عليك أن تحدّد الاختصاص الّذي ترغب في متابعة دراستك به مهما كنت مجتهدًا في كافّة موادك).
لا تتوافق أهداف الموظّفين دائمًا مع رغبات المديرين، مثال مهمّ على ذلك هو معدّل الغياب عن العمل (أو ما يسمّيه الموظّفون "الإجازة غير المَرَضيّة"). فممارستك لهوايتك المفضّلة (هدفك أنت) في وقت العمل (هدف المدير) يشكّل تضاربًا في الاتّجاهات. سنناقش لاحقًا بعض النظريّات الّتي تبحث أسباب حدوث هذه التضاربات.
هنالك سبب آخر لتعاكس أهداف الموظّفين والمديرين أحيانًا، في بعض الأحيان لا يتأكدّ المديرون من فهم الموظّفين الكامل لما هو مطلوب منهم. قد يمتلك الموظّفون شدّة عالية لكن اتّجاهها خطأ، ومهمّة المدير هنا أن يزوّد الموظّفين بالاتّجاه الّذي ينبغي عليهم اتبّاعه، هل يجب أن نهتمّ بالكمّ أم بالنوعيّة؟ نعمل منفردين أم ضمن فريق؟ نلتزم بالمواعيد أم نخفف المصاريف؟ يتخبّط الموظّفون عندما لا يجدون اتّجاهًا. توضيح الاتّجاه ينتج إدراكًا دقيقًا للدور، أي السلوكيّات التي يعتقد الموظّفون أنّه يجب عليهم اتّباعها كونهم جزءًا من هذه المؤسسة. يفهم الموظّفون ذوي الإدراك الدقيق للدور الهدف من وجودهم في المنظّمة وكيف يساهم أداؤهم الوظيفيّ في تحقيق أهدافها. يفترض بعض الباحثون في الدوافع أنّ بعض الموظّفين يعلمون الاتّجاه الصحيح لوظائفهم في حين يجهله آخرون. ستُوَضّح هذه الاختلافات عند مناقشة نظريّات الدوافع.
عند هذه النقطة ونحن نبدأ النقاش في نظريّات الدوافع المختلفة، من المنطقيّ أن نتساءل "لم ليس هنالك نظريّة دوافع واحدة فحسب؟" الجواب هو أن النظريّات المختلفة نابعة من فلسفات مختلفة للدوافع. بعض الباحثين يرون أن البشر مسيّرون بحاجاتهم وغرائزهم أكثر من الأفعال العقلانيّة. حيث تركّز نظريّات محتوى الدوافع (content motivation theories) على ما يدفع الأشخاص، في حين يركّز باحثون آخرون على الآليّة الّتي تحفّز الأشخاص. تسلّط النظريّات المنهجيّة للدوافع (process motivation theories) الضوء على كيفيّة دفع الأشخاص؛ أي كيف يدرك الأشخاص المواقف وكيف يفكّرون بها. تسعى نظريّات المحتوى والنظريّات المنهجيّة إلى توقّع الدافعيّة في مواقف متنوّعة. عل أيّة حال لا تستطيع أيٌّ من هذه النظريّات أن تتوقّع ما يحفّز الفرد في موقف معيّن في جميع الحالات 100%. فبالنظر لتعقيد السلوك البشريّ، من غير الممكن أن يكون هناك "نظرية شاملة" للدوافع.
"أيّ نظريّة هي الأفضل؟" هو سؤال آخر منطقيّ. ولو كانت الإجابة سهلة لكان هذا الباب من سلسلة مقالاتنا قصيرًا. الإجابة البسيطة هي لا يوجد "نظريّة واحدة أفضل". كل نظريّة دُعِمت ببحث في السلوك المؤسّساتي. وكلّ منها تمتلك نقاط قوّة ونقاط ضعف. على أيّة حال فإنّ فهم جزء من كل نظريّة هو خطوة مهمّة تجاه التطبيق الإداري الناجح.
نظريّات المحتوى للدوافع
تركّز النظريّات المطروحة في هذا المقال على أهمّيّة الحاجات البشريّة. تشترك النظريّات جميعها في أنّ الأشخاص جميعهم يمتلكون حاجات متنوّعة. الحاجة (need) هي حالة بشريّة "تتنشّط" عندما يشعر الأشخاص بنقص في مجال ما. عندما نكون جائعين -على سبيل المثال- تتنشّط حاجتنا للطعام. من المهم فهم خاصّيّتين أساسيّتين لفهم الدوافع البشريّة.
أولًّا: عندما تتنشّط حاجة ما نندفع لتلبيتها ونسعى لأن تختفي الحاجة. واحدة من نظريّات الدوافع الأولى اللذّة (Hedonism) تفترض أن الأشخاص يُدفعون لإرضاء حاجاتهم الخاصّة (البحث عن المتعة وتجنّب الألم). وضّحت نظريّة اللذّة أنّ الحاجة توفّر اتّجاهًا للدفع، وذلك قبل أن تُستبدل بنظريّات محسّنة أحدث.
ثانيًا: حالما نشبع حاجة ما تتوقّف عن دفعنا. فعندما نأكل حتى الشبع مثلًا، لا نبقى مدفوعين للبحث عن الطعام، وتغلب حاجات أخرى على سعينا. الحاجات الظاهرة (manifest needs) هي الحاجة التي تدفعنا في وقت معيّن وتطغى على الحاجات الأخرى.
نظرية الحاجات الظاهرة
واحدة من كبرى المشكلات في مقاربة الدوافع على أساس الحاجة هي إمكانيّة اختلاق حاجة لكل سلوك بشريّ. هل "نحتاج" للحديث أم للصمت؟ الاحتمالات لانهائيّة. في الحقيقة -في العشرينيّات من القرن الماضي- عرّف علماء السلوك حوالي 6,000 حاجة إنسانيّة!
لاحظ هنري موراي (Henry A. Murray) هذه المشكلة واختصر القائمة إلى بعض الحاجات الغريزيّة والمتعلّمة فحسب.تضمنّت الغرائز -الّتي سمّاها موراي الحاجات الأساسيّة (primary needs)- الطعام والماء والجنس (التكاثر) والتبوّل وغيرها. أمّا الحاجات المتعلّمة -الّتي سمّاها موراي الحاجات الثانويّة (secondary needs)- فيتمّ تعلّمها على مدى حياة الشخص وهي نفسيّة بطبيعتها، تتضمّن هذه الحاجات حاجة الفرد للإنجاز والحبّ والانتماء (راجع الجدول 7.1).
أمثلة من قائمة الاحتياجات لموراي | |
---|---|
الدافعيّة الاجتماعيّة | تعريف مختصر |
الانصياع | الخضوع بشكل فعّال لقوّة خارجيّة. تقبّل الأذيّة واللوم والنقد والعقاب والاستسلام. |
الإنجاز | إنجاز شيء صعب. التمكّن والتحكّم وتنظيم الأشياء المادّيّة أو الأفكار أو البشر. |
الانتماء | أن تشكّل تشاركًا أو تبادلًا ممتعًا مع شخص آخر (شخص يعبّر عن فكرة ما أو مُعب بفكرة ما). وأن تطمح لجذب انتباه هدف مطلوب. وأن تبقى وفيًّا لصديق ما. |
العدوان | أن تتغلّب على المعارضة بالقوّة. أن تقاتل. أن تنتقم. أن تهاجم أو تصيب أو تقاتل شخصًا آخر. أن تعارض بقوّة أو تعاقب الآخرين. |
الاستقلال | أن تتحرّر وتتخلّص من القيود وأن تتغلّب على الحجر. |
رد الفعل | أن تعوّض خسارة حدثت لك عن طريق المُضي قُدمًا. |
الدفاع | أن تدافع عن نفسك ضدّ الاعتداء أو النقد أو اللوم. أن تخفي أو تبرّر عملًا سيّئًا أو خيبةً أو مهانةً. أن تنتقم لغرورك. |
السيطرة | أن تتحكّم ببيئتك الخاصّة. أن تؤثّر أو توجّه سلوك الآخرين عبر الاقتراحات أو الإغراءات أو الإقناع أو الأمر. |
العرض | أن تترك انطباعًا. أن تُسمع وتُرَى. أن تمتّع أو تسلّي أو تحفّز أو تصدم الآخرين. |
تجنّب الأذى | أن تتجنّب الألم أو الأذى الجسديّ أو المرض أو الموت. أن تهرب من وضع خطير. أن تتّخذ إجراءات احتياطيّة. |
التجنّب | أن تتجنّب الإهانة. أن تترك المواقف المخجلة أو تتجنّب الظروف المسيئة أو الازدراء أو اللامبالاة. |
التعاطف | أن تبدي العطف والمسرّة لشخص غير ذي حيلة: رضيع أو شخص ضعيف أو ذوي احتياجات أو متعب أو واهن أو مهزوم أو مُهان أو وحيد أو مرفوض أو مريض أو مشوّش عقليًّا. أن تساعد شخصًا في خطر. وأن تطعم أو تساعد أو تدعم أو تواسي أو تحمي أو تريح أو تعالج. |
الترتيب | أن تضع الأشياء في ترتيبها الصحيح. أن تحقّق النظافة والترتيب والتنظيم والتوازن والتدبير والدقّة. |
اللعب | أن تتصرف بداعي "المرح" فحسب. أن ترغب بالضحك وإلقاء النكات. أن تسعى للراحة من التوتّر. |
الرفض | أن تفصل نفسك من أشياء سلبية القيمة. أن تستثني أو تهجر أو تطرد أو تتجاهل شخصًا أو شيئًا أدنى. أن تزدري أو تنبذ شخصًا أو شيئًا. |
الإحساس | أن تسعى وتستمع بتعابير الإحساس. |
الجنس | أن تشكّل وتستمر في علاقة مع شخص ما. |
الغوث | أن تُرضى حاجات الشخص بالعطف من الآخرين. |
التفهّم | أن تسأل أو تجيب أسئلة عامّة. أن تهتمّ بنظريّة ما. أن تخمّن وتحلّل وتعمّم |
المصدر: مقتبس من C. S. Hall and G. Lindzey, Theories of Personality. Sample items from Murray’s List of Needs. Copyright 1957 by John Wiley & Sons, New York. |
الجدول 7.1 افتراض موراي الأساسي هو أنّ الأشخاص يمتلكون حاجات متنوّعة، لكن فقط البعض منها يُعبَّرُ عنها في وقت معيّن. أسمى موراي الحاجة ظاهرةً عندما يتصرّف الشخص لتلبيتها. تفترض نظريّة الحاجات الظاهرة (manifest needs theory) أنّ السلوك الإنسانيّ مدفوع برغبة تلبية الحاجات. فالثرثرة تدلّ غالبًا على الحاجة للانتماء، فتكون هذه حاجة ظاهرة، لكن ماذا لو كان لدى الفرد أيضًا الحاجة للتحكّم بالآخرين؟ هل يمكننا أن نستشف ذلك من سلوك الفرد الحاليّ؟ إن لم يكن ذلك ممكنًا، يسمّي موراي ذلك حاجةً كامنةً. لا يمكن رؤية الحاجة الكامنة (latent need) من تصرّفات الشخص في وقت معيّن ولكنّ الشخص يمتلك هذه الحاجة رغم ذلك. قد لا يمتلك الشخص الفرصة للتعبير عن هذه الحاجة، أو قد لا يكون في بيئة يمكنه فيها تطبيق السلوكيّات الّتي تلبّي تلك الحاجة.
أسّست نظريّة الحاجات الظاهرة أرضيّة لنظريّات لاحقة أثرّت كثيرًا على دراسة السلوك المؤسّساتي، وأبرزها نظريّة الحاجات المتعلّمة لماك كليلاند. التطبيق الأهمّ في الإدارة هو فهم أن حاجات بعض العاملين تكون كامنة. يعتقد المديرون عادةً أن الموظّفين لا يمتلكون حاجات محددة عند عدم رؤيتهم يتصرّفون بشكل يلبّيها، لكن هذه الحاجات قد تكون موجودة (كامنة)، قد تكون بيئة العمل غير ملائمة لإظهارها ببساطة (الحاجة الظاهرة). ربّما لم تسنح الفرصة للمحاسب المنعزل بأن يظهر حاجته ودافعه للنجاح بسبب عدم تلقّيه أيّ مهمّة مُتحدّية تلبي رغباته في العمل والاجتهاد.
نظرية الحاجة المتعلمة
بنى وطوّر دافيد ماكليلاند (David C. McClelland) وشركاؤه (خاصّة جون أتكينسون John W. Atkinson) عمل موراي لأكثر من 50 عامًا. درس موراي العديد من الحاجات المختلفة لكنّه لم يتعمق سوى في تفاصيل القليل منها. يختلف بحث ماك كليلاند عن بحث موراي في أن ماك كليلاند درس ثلاث حاجات بعمق وهي: الحاجة للإنجاز والحاجة للانتماء والحاجة للسلطة (واختصاراتها على الترتيب (nAch) أو (ح ـ ج) و(nAff) أو (ح - ن) و(nPow) أو (ح - س)). يعتقد ماك كليلاند أن هذه الحاجات الثلاث مُتعلّمة، وبشكل رئيسيّ خلال الطفولة، لكنّه يعتقد أيضًا أنّه يمكن تعلّمها، سيّما حاجة الإنجاز (ح - ج). تعود أهميّة بحث ماك كليلاند إلى كون التفكير الحاليّ حول السلوك المؤسّساتيّ مبنيًّا عليه.
الحاجة للإنجاز
الحاجة للإنجاز (need for achievement (ح - ج) هي كم يندفع الشخص للتميّز في المهمّة الّتي يؤدّيها، خاصّةً المهام الصعبة. ومن بين الحاجات الثلاث التي درسها ماك كليلاند تمتلك هذه الحاجة الأثر الأكبر. تتنوّع الحاجة للإنجاز في شدّتها بين الأفراد، وهذا ما يجعل الحاجة للإنجاز سمةً شخصيّةً كما هي صفة للدافعيّة. عندما يُعبّر عن الحاجة للإنجاز -فتصبح حاجة ظاهرة- يحاول الشخص بشدّة أن ينجح في المهمّة الّتي يؤدّيها. فنقول أنّ هذا الشخص لديه دافعٌ عالٍ للإنجاز. الدافع (motive) هو مصدر الدافعيّة وهو الحاجة الّتي يرغب الشخص في تلبيتها. تصبح حاجات الإنجاز ظاهرةً عندما يختبر الأفراد ظروفًا معيّنة.
من المفيد وصف وتحليل الأشخاص ذوي الدافع العالي للإنجاز من أجل فهم الحاجة للإنجاز بشكل أفضل. وأنت غالبًا تعرف بعض هؤلاء الأشخاص، يحاول هؤلاء الأفراد أن ينجزوا شيئًا ما باستمرار. أحد الكتّاب لديه قريب يفضّل أن يقضي نهاية الأسبوع وهو يعمل على إصلاحات إضافيّة في المنزل (لأسباب متعددة) بدلًا من أن يذهب في رحلة لصيد السمك. لماذا؟ لأنّه يحصل على نتيجة فوريّة عندما يعمل في المنزل، وعلى النقيض ففي صيد السمك قد يبذل الكثير من الجهد بدون أن يصطاد شيئًا، وأن لا يحصل على النتيجة يعني بأنّه قد فشل.
يصف ماك كليلاند ثلاث خصائص للأشخاص ذوي الدافع العالي للإنجاز:
- يشعرون بالمسؤوليّة المباشرة عن إكمال المهام المكلّفين بها. يقبلون اللوم عند الفشل والمديح عند النجاح.
- تعجبهم المواقف التي يكون احتمال نجاحها متوسّطًا. فهم لا يميلون إلى المهام السهلة جدًّا أو الصعبة للغاية. بل يرغبون بالنتائج غير المعروفة، ولكن يؤمنون بأنّهم يستطيعون النجاح فيها. فيتجنّبون المواقف البسيطة والمستحيلة علىحدٍّ سواء.
- لديهم رغبة شديدة لتلقّي ردود الفعل والانطباعات حول جودة أدائهم فيسعون لذلك دائمًا. لا يهمهم إن كان ردود الفعل هذه إيجابيّة أم سلبيّة بل هم يريدون معرفة إن كانوا قد حقّقوا هدفهم أم لا. يسألون بشكل مستمرّ عن أدائهم، إلى درجة الإزعاج أحيانًا.
ما أهميّة الحاجة للإنجاز بالنسبة للسلوك المؤسّساتي؟ الجواب في الواقع هو أن نجاح العديد من المنظّمات يعتمد على مستوى الحاجة للإنجاز لدى موظّفيها. وهذا صحيح خاصّةً في الوظائف الّتي تتطلّب دافعًا ذاتيًّا وإدارة للآخرين، وذلك لأن الموظّفين المُحتاجين لأن يُراقَب عملهم باستمرار يتطلّبون فريق إدارة أكبر، والمستويات المتعدّدة من الإدارة تشكّل عائقًا في سوق العمل الحاليّ، فمنظّمات اليوم المرنة والحذرة ماديًّا لا مكان فيها للبنى الإداريّة المعقّدة، حيث يؤدي موظّفوها ذوي الحاجة للإنجاز (ح -ج) المرتفعة عملهم بأدنى مراقبة عليهم.
تدير العديد من المنظّمات حاجة موظّفيها للإنجاز بشكل سيّء. إدراك شائع عن الأشخاص الّذين يؤدّون أعمال لا تتطلّب مهارة بأنّهم غير محفّزين وراضون بما يفعلونه فحسب. لكن إن كان لديهم حاجة الإنجاز فإنّ هذا العمل اللامهاريّ نفسه سيوجد لهم دافعًا لإنجازه. هذا سهل للغاية. ليس هناك عدد كافٍ من الموظّفين الّذين يشعرون بالرضى الذاتيّ لامتلاكهم أنظف طابق في المبنى. أعمال التصميم الّتي ليست صعبة للغاية ولا سهلة للغاية أساسيّة لإدارة الدوافع. إغناء العمل آليّة فعّالة وهي تستوجب تدريب الموظّفين وتدويرهم في مناصب مختلفة أو إضافة تحدّيات جديدة لهم.
الشكل 7.4 عمال مترو نيويورك حاملين لافتة طبّقت هيئة النقل في مدينة نيويورك مقاربةً جديدةً حول كيفيّة أداء تفتيش وصيانة الأقسام الرئيسيّة من مترو الأنفاق لتقديم خدمة موثوقة. وبدلًا من أن تجري الهيئة هذه الاستقصاءات خلال ساعات العمل الطبيعيّة، استشارت عمال الصيانة واقترحوا إجراءها خلال إغلاق أجزاء من السكّة لمدة سبع ساعات متواصلة. تمّ تبنّي هذه العمليّة ونجحت في أن تكون طريقة أسلم وأنجح للحفاظ على قطار أنفاق نيويورك فعّالًا ونظيفًا. فقد تمكّن الموظّفون من التحقّق من الإشارات والسكك والتقاطعات وأرضيّات السكك عند خلوّ المنطقة المستقصاة من القطارات، كما نظّفوا المحطّات وطَلَوا مناطق كان يصعب الوصول إليها أثناء عمل القطارات. كما انتهز العمّال الفرصة لتنظيف أدوات الإنارة واستبدال المصابيح وتصليح حواف المنصّات خلال التنظيف. (حقوق الصورة: Patrick Cashin/ flickr/ Attribution 2.0 Generic (CC BY 2.0)).
الحاجة للانتماء
هذه هي ثاني الحاجات ضمن حاجات ماك كليلاند المُتعلّمة. تعكس الحاجة للانتماء (need for affiliation ح - ن) الرغبة في تأسيس علاقات ودودة وحميمة مع الآخرين والحفاظ عليها. وكما هو الحال مع (ح - ج) فإنّ الحاجة للانتماء تختلف في شدّتها بين الأشخاص. الأشخاص ذوي حاجة الانتماء العالية هم اجتماعيّون أكثر بطبيعة الحال. هم يفضلون الخروج مع زملائهم بعد انتهاء عملهم على أن يعودوا لمنازلهم ليتابعوا التلفاز. وهنالك أشخاص آخرون يمتلكون حاجة ضعيفة للانتماء، هذا لا يعني بالضرورة أنّهم يتجنبون الأشخاص الآخرين أو لا يحبّونهمن، ولكن هم ببساطة لا يبذلون مجهودًا في هذا المجال مقارنة بذوي الحاجة المرتفعة للانتماء.
تمتلك الحاجة للانتماء آثارًا مهمّة على السلوك المؤسّساتي. الأشخاص ذوو ح - ن المرتفعة يحبّون أن يكونوا بصحبة الآخرين في العمل، فهم ينجزون نتيجةً لذلك بشكل أفضل عند العمل ضمن فريق. من المهمّ بالنسبة لهم الحفاظ على علاقات جيّدة مع باقي أعضاء الفريق. لذا يسعون بشدّة لأن يجعلوا مهمّة الفريق ناجحة وذلك بسبب خوفهم من الرفض. أي أن الأشخاص مرتفعي ح - ن يندفعون خاصّةً للأداء الأفضل إن كان الآخرون يعتمدون عليهم. على النقيض فإن عمل الأشخاص مرتفعي ح - ن بانفراد من شأنه أن يفقدهم الدافع للإنجاز. فالأداء الجيّد في هذه المهمّة لن يلبّي حاجتهم للانتماء.
المديرون الناجحون يقيّمون مدى حاجة كلّ موظّف للانتماء، فيخصّصون مرتفعي ح - ن للمهمّات التي تتطلّب أو تسمح باتصالات أكبر مع باقي الموظّفين، في حين يخصّصون المهمّات التي تُجرى بشكل فرديّ للموظّفين منخفضي ح - ن الذين يكونون أقلّ عرضة للإرهاق من هكذا مهمّة.
الحاجة للسلطة
الحاجة الثالثة من حاجات ماك كليلاند المُتعلّمة. الحاجة للسلطة (need for power حـ-سـ) هي الحاجة للتحكّم بالأشياء وخاصّة بالآخرين. تعكس هذه الحاجة دافعًا للتأثير على الآخرين وتحمّل مسؤوليّتهم. الموظّف الذي يكثر التحدّث عادة ويعطي الأوامر ويجادل كثيرًا هو شخص مدفوع بواسطة حاجته للسلطة على الآخرين.
قد يكون الموظّفون مرتفعو حـ-سـ مفيدين للمنظّمة. فهم يمتلكون سمات الموظّف المثالي، لكنّهم معرقلون أحيانًا. قد يحاول شخص مرتفع حـ - سـ إقناع الآخرين بالقيام بأفعال ضارّة للمنظّمة. إذًا متى تكون هذه الحاجة جيّدة ومتى تكون سيّئة؟ مجدّدًا، ليس هناك إجابة مباشرة. يسمّي ماك كليلاند هذا "وجها القوّة". يسعى الباحث عن السلطة الشخصيّة إلى التحكّم بالآخرين وغالًا بهدف السيطرة عليهم. فهم يريدون أن يستمع الآخرون لما يقولونه وينفذوه سواء كان جيّدًا أم سيّئًا للمنظّمة. فهم "يبنون إمبراطوريّات" ومركز سلطة خاصًّا بهم ويحمونه.
عرّف ماك كليلاند أيضًا الباحث عن السلطة الاجتماعيّة على أنه الفرد الذي يلبّي حاجاته بالسلطة عبر التأثير على الآخرين كما هو الحال مع الباحث عن السلطة الشخصيّة. يختلف الباحث عن السلطة الاجتماعيّة عن الآخر بأنّه يسعى لأن يؤثّر على الفريق ليحقّقوا أهداف العمل وليس أهدافه الشخصيّة. يهتمّ الباحثون عن السلطة الاجتماعيّة بالأهداف التي تضعها المجموعة لنفسها وهم مدفوعون لأن يؤثّروا على الآخرين للوصول إلى هذه الأهداف. هذه الحاجة موجّهة نحو تلبية مسؤوليّات المدير وليس المسؤوليّات الشخصيّة.
قال ماك كليلاند أنّ الحاجة المرتفعة للسلطة الاجتماعيّة هي أهم دافع للمديرين الناجحين. يميل المديرون الناجحون لامتلاك حاجة مرتفعة للسلطة، قد تكون الحاجة المرتفعة للإنجاز مهمّة ولكنّها قد توجّه الاهتمام نحو النجاح الشخصيّ أكثر من نجاح المؤسّسة. تساهم الحاجة للانتماء في النجاح الإداريّ فقط في المواقف التي يكون فيها الحفاظ على علاقات طيّبة بين أعضاء الفريق بنفس أهميّة جعل الجميع يعمل في سبيل تحقيق الهدف.
فحوى بحث ماك كليلاند هو أنّه يجب على المنظّمات أن تحاول تعيين الأشخاص مرتفعي حـ - سـ في مواقع الإدارة. لكن من المهمّ أن تسمح هذه الوظائف الإداريّة للمدير بتلبية حاجته بالسلطة الاجتماعيّة، وإلّا فإنّ المدير مرتفع حـ - سـ سيحوّل العمل إلى ضرر الشركة عبر نيله سلطته الشخصيّة.
تطبيق الأخلاقيات
مسؤوليَّة الشركات الاجتماعية كقوة دافعة
بغض النظر عن وجهة نظرهم، فإنَّ معظم الناس يمتلكون قضيّة شغوفين بها. البيتكوين أو حيادية الانترنت أو مستويات سطح البحر أو الزراعة في المصانع وغيرها، كل هذه القضايا والتوجّهات ليست إلا أسباب اجتماعيّة تربطنا بسياق أكبر أو لنفترض أنَّها تربطنا بهدف أسمى لحياة أفضل.
إذًا ما الشيء الذي يحفِّز الموظفين لتقديم كل عملهم بإبداع ويدفعهم للانخراط به بالكامل؟ وفقًا لباتاتشاريا (CB Bhattacharya) (وهو مسؤول الاستدامة لبيترو فيريرو لدى المدرسة الأوروبيّة والإدارة والتقنيّة في برلين في ألمانيا) كان الانخراط الوظيفيّ، أو مدى شعور الموظّفين الإيجابيّ إزاء عملهم الحاليّ، في أدنى مستوى له عالميًّا عام 2016 بنسبة وصلت إلى 13%. لكن لا تعاني كل الشركات من هذه المعدّلات المنخفضة. تمتلك (Unilever) أكثر من 170,000 عاملًا حول العالم وتمتلك معدّل انخراط وظيفيّ يقارب 80%. كيف؟ يعزو باتاتشاريا الفضل في ذلك لدى (Unilever) وغيرها من الشركات إلى التركيز على "نموذج العمل المستدام". ويحدّد ثماني خطوات تتّخذها الشركات لتنقل استدامتها ومسؤوليّتها الاجتماعيّة من بحر العبارات الطنّانة إلى مهمّة حقيقيّة للشركة لدفع موظفيها.
وفقًا لباتاتشرايا يجب على الشركات أن تحدّد هويّتها و أهدافها طويل المدى ومن ثمّ توازي ما بين أهدافها الاقتصاديّة وأهداف استدامتها. بعد ذلك يجب أن تثقّف القوى العاملة لديها حول طرق مستديمة لإيجاد المعرفة والكفاءة. يجب إيجاد "أبطال" الجهد في أرجاء المنظّمة وليس في القمّة فقط. يجب تشجيع المنافسة بين الموظّفين لإيجاد الأهداف الجديدة وتقبّلها. يجب أن تكون الاستدامة واضحة جليّة داخل وخارج الشركة. ويجب أن تُربط بهدف أسمى وأن تتبنّى حسًّا موحّدًا ليس فقط بين الموظّفين بل أيضًا على مستوى المجتمع.
جعلت شركات أخرى من المسؤوليّة الاجتماعيّة جزءًا من عملها اليوميّ. في 2013 أطلق راندي غولدبيرغ (Randy Goldberg) ودافيد هيث (David Heath) شركة (Bombas). اكتشف غولدبيرغ وهيث أنّ الجوارب هي أكثر قطع الملابس طلبًا في مآوي المشرّدين. فأطلق الاثنان استجابةً لذلك خطّ إنتاج للجوارب لا يقوم "بإعادة اختراع" الجوارب فحسب -على حدّ زعمهم- بل يساعد المحتاجين أيضًا. فلكلّ قطعةٍ يبيعها هذا الخطّ ستتبرّع الشركة بزوج من الجوارب إلى المحتاجين (Mulvey 2017). ووفقًا لموقع الشركة "تهدف شركة (Bombas) إلى حلّ هذه المشكلة ودعم مجتمع المشرّدين ورفع الوعي حول مشكلة مُهمّشة في الولايات المتّحدة". وبالرغم من أنّ الشركة، الّتي مقرّها نيويورك، لا تزال في طور النموّ إلّا أنّها حتّى أكتوبر 2017 تبرّعت بأكثر من أربعة ملايين زوجًا من الجوارب (Bombas 2017).
في عام 2016 أطلق المصرف الملكيّ الاسكتلنديّ (the Royal Bank of Scotland RBS) برنامجًا رائدًا يدعى (Jump) وفيه يشارك الموظّفون في تحدّيات حول الترشيد من استهلاك المياه والكهرباء وحول مواضيع مستدامة أخرى. في نهاية البرنامج أقرّ 95% من الموظّفين أنّهم شعروا أنّ البرنامج ساهم في زيادة الانخراط الوظيفيّ وبناء الفريق واستقرار بيئة المنظّمة. وبفضل نجاح البرنامج توسّع في عام 2017 ليشمل كلّ مواقع RBS وشمل أيضًا تطبيقًا على الهواتف الذكيّة. (Barton 2017).
إن وضع شركة في السياق الأشمل وإضافة هدف لها بالإضافة إلى أهدافها الأساسيّة من شأنه أن يدفع الموظّفين للحرص على أن تصبح الشركة الأفضل عالميًّا. تنتفع الشركات من تخفيض النفايات وزيادة الانخراط الوظيفيّ. والعديد من الشركات تدفع موظّفيها بنجاح وتعمل تجاه سلوكيّات أكثر استدامةً.
ترجمة -وبتصرف- للفصل (Work Motivation for Performance) من كتاب Organizational Behavior
اقرأ أيضًا
- المقال التالي: هرمية ماسلو للاحتياجات
- المقال السابق: القيادة التبادلية والتحويلية والكاريزمية
أفضل التعليقات
لا توجد أية تعليقات بعد
انضم إلى النقاش
يمكنك أن تنشر الآن وتسجل لاحقًا. إذا كان لديك حساب، فسجل الدخول الآن لتنشر باسم حسابك.