كيف يمكن للإداريين والمؤسسات تقليص سلوك الموظفين غير المرغوب به مع تعزيز السلوك المرغوب به؟
عند تطبيق المبادئ و الأساليب المذكورة أعلاه في مكان العمل، نرى عمومًا أحد هذين النهجين: تعديل السلوك أو الإدارة الذاتية للسلوك. يعتمد كلا المنهجين على مبادئ التعلم التي ذكرناها آنفًا. يجب علينا مراجعة هذين الأسلوبين نظرًا لأن لهما تبعات واسعة في الشركات. أولًا، سنلقي نظرة على الجوانب الإيجابية والسلبية لتعديل السلوك.
تعديل السلوك هو استخدام مبادئ الإشراط الاستثابي لقولبة السلوك البشري ليتوافق مع المعايير المرغوبة من الرؤساء. طُبّق تعديل السلوك في السنوات الأخيرة في مجموعة واسعة من المؤسسات، وفي معظم الحالات حصلت الشركات على نتائج إيجابية. هناك اهتمام متزايد بهذه الطريقة كأداة إدارة إيجابية لتحسين الأداء وتخفيض التكاليف.
نظرًا لتركيز أساليب تعديل السلوك على قولبة السلوك بحد ذاته، سيكون من الأفضل لنا لو نظرنا إلى هذا النهج على أنّه أسلوب لتحفيز الموظفين بدلًا عن كونه نظرية عن دوافع العمل. إذ أنّه لا يحاول تقديم نموذج شامل عن العوامل المتغيرة التي تساهم في التحفيز في الشخصية ومجال العمل. عوضًا عن ذلك، فإنه توجه تعديل السلوك الإداري هو حول كيفية التحفيز، هذا التركيز هو الذي أدّى إلى شعبية منهج تعديل السلوك الحالي بين بعض الإداريين. مع ذلك، يجب أن نحذر من القبول المطلق لأي أسلوب حتى نفهم الافتراضات والأسس التي يُبنى عليها. إذا بدى أنّ الافتراضات الأساسيّة للنموذج غير مؤكدّة أو غير مناسبة في موقف أو مؤسسة معيّنة، فمن الواضح أنّ استخدامه سيكون موضع تساؤل.
التوسع حول العالم
مخيم الجحيم الياباني
هناك مقولة في اليابان مفادها أنّ (الظفر الناشب يُقص)، وتعني أنّه في الشركات اليابانية من المفترض أن يتصرف الموظفون معًا وأن يعملوا بانسجام تام، ولا تُشجّع الفردية. على الرغم من أنّ الشركات اليابانيّة تستخدم الكثير من الأساليب لتدريب موظفيها على العمل بجد وتخطّي العقبات كمجموعة، إلا أنه بعض الأساليب البارزة التي تستخدمها العديد من الشركات اليابانية تنحرف بعض الشيء عن ذلك المنهج، وتُعرف باسم مخيم الجحيم Hell Camp.
الهدف من مخيم الجحيم هو تطوير الموظفين ليتمكّنوا من "التركيز تحت الضغط".
يمثل مخيم الجحيم مزيجًا ما بين تدريبات الهواء الطلق التي تقوم بها منظمة Outward Bound والتدريب على تأكيد الذات، وهو مصمم لتقوية الموظفين من خلال وضعهم في العديد من المواقف المحرجة والصعبة (على سبيل المثال، جعلهم يصرخون أغنية الشركة في محطة قطار محليّة). إذا نجحوا في كل تمرين (مثلًا إذا صرخوا بصوتٍ عالٍ وبقدرٍ كافٍ من المشاعر)، يُسمح لهم بإزالة واحدة من "شارات العار" العديدة. تُترك معايير إزالة الشارة غامضة وغير معروفة من قبل الموظفين المشتركين، لذا يستخدم البرنامج نظام تعزيز متغير المعدل الذي ذكرناه سابقًا. لا يعلم الموظف أبدًا متى سيقول له المدرب أنّك نجحت، لذلك سيُرجّخ الموظف أنّ مستوى الأداء الذي سيؤدي إلى إزالة شارة العار هو أعلى أداء يمكن أن يبذله. إذا نجح الموظف خلال البرنامج الذي يستمر أسبوعًا بإزالة جميع الشارات وإظهار صدقه والتزامه، فإنّه يتخرج. أمّا في حال لم يتمكّن من ذلك، يجب عليه إعادة البرنامج.
يُقدّر أنّ 50000 مدير ياباني خاضوا هذا البرنامج، والذي تنهجه الشركات لأنّها تعدّه طريقة لمنع الإداريين من أن يصبحوا لينين أو متراخين في إدارتهم. كما قال أحد المديرين التنفيذيين: "أصبحت الشركات لينة جدًا وضعيفة جدًا في طريقتها للمطالبة بالتميّز". يعتقد أنّ المضايقات والصعوبات التي يتعرّض لها الموظفون أثناء مخيم الجحيم والتعزيز التالي لإنجاز مهمة مُرضية يُعزّز الشخصية، ولا تبدي الشركات اليابانيّة أي علامة على فقدان الاهتمام بهذا البرنامج.
المصادر:
Richarz, Allan, “ The Intense Corporate ‘Hell Camps’ of 1980s Japan,” Atlas Obscura, May 30 2017, https://www.atlasobscura.com/articles/hell-camp-japan-80s; Phallon, R., “Hell Camp,” Forbes, June 18, 1984; Neill, Michael and Lustig, David, “ A 13-Day Japanese Boot Camp Shows U.S. Executives How to Succeed in Business Through Suffering,” People, May 30, 1988, https://people.com/archive/a-13-dayjapanese- boot-camp-shows-u-s-executives-how-to-succeed-in-business-through-suffering-vol-29-no-21/.
افتراضات تعديل السلوك
يقوم منهج تعديل السلوك -كأحد أساليب الإدارة- على ثلاثة أفكار. أولًا، يؤمن مناصرو تعديل السلوك أنّ الفرد في الأساس منفعل وتفاعلي (عوضًا عن كونه فاعلي)، ويميل إلى الاستجابة إلى المنبهات في بيئته المحيطة ومتابعة سلوك خارجي، بدلًا من تحمّل المسؤولية في بدء السلوك ابتداءً منه. يتناقض هذا التأييد مباشرة مع نظريات التحفيز المعرفية (مثل نظرية التوقع\التكافؤ)، والتي تنص على أنّ الفرد يصنع قرارات واعية بشأن سلوكياته الحاليّة والمستقبلية ويأخذ دورًا نشطًا وفاعلًا في تشكيل بيئته المحيطة.
ثانيًا، يركّز مناصرو تعديل السلوك على السلوك الملاحظ والقابل للقياس، عوضًا عن الاحتياجات أو التوجّهات أو الأهداف أو مستويات التحفيز التي لا يمكن ملاحظتها. في المقابل، تركّز النظريات المعرفية على العوامل الملحوظة وغير الملحوظة على أنها مرتبطة بالتحفيز. تجادل نظرية التعلم الاجتماعي على أنّه يمكن للأفراد تغيير سلوكهم ببساطة من خلال مراقبة الآخرين وملاحظة العقوبات أو المكافآت التي تنتج عن سلوكياتهم وتصرّفاتهم.
ثالثًا، يشدّد تعديل السلوك على أنّ التعزيز وحده كافٍ لتحقيق التغييرات الدائمة. السلوكيات المعزّزة إيجابيًا ستتكرّر (أي ستُتعلّم)، في حين أنّ السلوكيات غير المعزّزة ستتراجع (وفقًا لقانون التأثير الذي ناقشناه سابقًا).
تصميم برنامج تعديل السلوك
لتنجح أساليب تعديل السلوك، يجب أن يكون تطبيقها مصمّمًا جيدًا ومطبّق بشكل منهجي. تمر المحاولات المنهجية لتطبيق هذه البرامج عادة عبر خمس مراحل (انظر إلى الشكل 4.8).
الشكل (4.8): خطوات تطبيق برنامج تعديل السلوك (حقوق النشر لجامعة رايس Rice ، OpenStax، تحت الرخصة CC BY-NC-SA 4.0).
وضع معايير سلوكيّة واضحة. أولًا، تحاول الإدارة تحديد الجوانب السلوكيّة للأداء المقبول بشكل واضح. يجب أن تكون الإدارة قادرة على تحديد ما يشكّل سلوكًا مقبولًا بحيث يمكن للموظفين فهمه، وأن يكون وفقًا لشروط موضوعية وقابلة للقياس. من الأمثلة على المعايير السلوكية: الحضور الجيّد (الأناقة) والوصول إلى العمل بالوقت المحدّد وإتمام المهام في الموعد المحدّد. يصعب أحيانًا تحديد مؤشرات موضوعية مناسبة للأداء الناجح، على سبيل المثال طرحت إحدى المديرات المسؤولات عن برامج تدريب مُضيفات الطيران في شركة طيران عالمية هذا التساؤل "كيف يمكن قياس أو تقييم التصرّفات المقبولة من قبل المُضيفات وتفريقها عن التصرّفات غير المقبولة؟ هل يمكننا وضع معايير موضوعية وثابتة للأداء الناجح في هذا المجال؟". مع ذلك، فإنّ الكثير من المواقف وسلوكيات العمل يمكن إدراجه وتصنيفها تحت خانة مقبول أو مرفوض بسهولة.
تدقيق الأداء. يمكن إجراء تدقيق وفحص للأداء بمجرد تحديد المعايير السلوكيّة المقبولة. نظرًا لأنّ الإدارة تهتم بمدى تلبية الموظفين للمعايير السلوكيّة بنجاح، فإنّ التدقيق يهدف إلى تحديد المواقف أو الحالات التي لا تُنفّذ فيها السلوكيات المرغوبة. مثلًا يمكن أن تكشف سجلات الحضور في مختلف الأقسام وجود قسم معيّن يُظهر على نسبة تغيّب أو تأخير مرتفعان ارتفاعًا واضحًا. يمكن بعدها اتخاذ الإجراءات المناسبة لإصلاح المشكلة. بالمختصر، يهدف تقييم الأداء إلى تحديد الاختلافات بين ما تراه الإدارة كسلوك مرغوب أو مقبول والسلوك الفعلي.
وضع أهداف سلوكيّة محدّدة. ثالثًا، يجب وضع أهداف سلوكيّة معيّنة لكل موظف. عدم القدرة على تحديد أهداف سلوكيّة ملموسة هو السبب الرئيسي لفشل العديد من برامج تعديل السلوك. من الأمثلة على هذه الأهداف: تخفيض معدّل الغياب أو التأخر، وتقليل عيوب المنتج على خط التجميع، وتلبية جداول الإنتاج. يجب أن تكون الأهداف واقعيّة (أي يمكن تحقيقها من قبل الموظف بطريقة معقولة) ومقبولة من قبل الموظفين، وإلّا ستفتقر هذه الأهداف إلى الأهمية والجهد المبذول سيتراجع حتمًا.
تقييم النتائج. بعد ذلك، يحتفظ الموظفون والمشرفون بسجل أداء الموظفين ومُقارنات هذا السجل مع المعايير والأهداف السلوكيّة المحدّدة سابقًا، وتُلاحظ عندها الفروقات وتُناقش. على سبيل المثال، يمكن للسجل أن يزوّد الموظفين بتعليقات مستمرّة عن كفاءة أداءهم فيما يتعلّق بتقليل العيوب في المُنتجات.
تقديم الملاحظات والمكافآت. أخيرًا، على أساس تقييم سجل أداء الموظف، يُعطي المشرف ملاحظاته والثناء حيثما يُستحق للموظف. يمكن أن يعزّز الثناء جهود الموظفين لتقليل العيوب (تعزيز إيجابي). إنّ الامتناع عن الثناء في حال كان مستويات العيوب في الإنتاج أكبر من الحد الأدنى الموضوع أو دون الأهداف المحدّدة، إن ذلك يمكن أن يؤدي إلى توقف الموظفين عن السلوك الذي أدى إلى العيوب أو العمل بجد أكبر لتقليل العيوب ( منهج الزوال).
محور هذه المرحلة من العملية هو فكرة القولبة، وهي عملية تحسين الأداء تدريجيًا خطوة بخطوة. لنفترض أنّ موظف غائب في 30% من الوقت خلال شهر واحد. لتحسين الحضور، سنضع هدفًا للتغيّب فقط 5% من الوقت. بعد تطبيق العملية أعلاه، سنجد أنّ نسبة التغيّب ستنخفض إلى 20% في الشهر الثاني. رغم أنّ هذا ليس المستوى المطلوب من الحضور، إلّا أنّه بوضوح تحسّن ويُكافئ على هذا النحو. في الشهر التالي، ستنخفض إلى 15% ومرة أخرى يُكافئ هذا التحسّن التدريجي، وبالتالي، من خلال هذا الأسلوب التدريجي سيصبح الموظف أقرب إلى المستوى المطلوب من السلوك. وبمعنى آخر، "قولبنا" سلوكه.
تعديل السلوك في الممارسة
يوجد عدّة طرق لرؤية كيف يمكن تطبيق مبادئ تعديل السلوك في المؤسسات. يمكن العثور على أحد أفضل الأمثلة في الدراسة الكلاسيكيّة التي أجراها لوثن (Luthans) وكريتنر (Kreitner). حيث أجرى هذان الباحثان تجربة ميدانية في معمل متوسط الحجم لتصنيع الإضاءة. استُخدمت مجموعتين منفصلتين من المشرفين في هذه الدراسة. في إحدى المجموعتين (المجموعة التجريبيّة)، دُرِّبَ المشرفون على أساليب تعديل السلوك. سُمي هذا البرنامج إدارة الطوارئ السلوكية (BCM)، ويتضمن عشر محاضرات عن استراتيجيات تعديل السلوك مدة كل منها 90 دقيقة على مدى عشرة أسابيع. المجموعة الثانية من المشرفين (مجموعة الضبط) لم تتلقّى أي تدريب. بعد ذلك، طُلب من المشرفين المتدربين تطبيق ما تعلموه على مجموعاتهم، وبالطبع لم يُعطى لمشرفي مجموعة الضبط أي تعليمات كهذه.
دُرس أداء كلا المجموعتين بعد عشرة أسابيع، وجُمع نوعين من البيانات. أولًا، اهتم الباحثون بإيجاد أي تغيّرات سلوكيّة محتملة بين مختلف العمال في المجموعات التجريبيّة (بالموازنة مع مجموعات الضبط) كنتيجة لبرامج تعديل السلوك التي خضعوا لها. لوحظ تغيرات واضحة للمجموعات التدريبية في المجالات التي اسستُهدفت للتغيير، تمثّلت في: (1) انخفاض تواتر الشكاوى ما بين أفراد المجموعة (2) انخفاض معدل المخلّفات (3) ارتفاع مؤشرات الجودة في المجموعة (4) انخفاض تواتر مشاكل الأداء الفرديّة. لم تُسجل تغيرات مماثلة في مجموعات الضبط التي لم تتعرّض لتعديل السلوك. ركّز القياس الثاني على معدلات الأداء الإجماليّة لمختلف المجموعات، حُسب هذا المعدّل على أساس قياس فعالية العمل المباشرة لكل مجموعة. مرة أخرى، تحسّن الأداء الجماعي الإجمالي (أي معدّلات فعالية العمل) تحسّنًا ملحوظًا في المجموعات التجريبيّة، لكن لم يتغيّر في مجموعات الضبط، يمكن رؤية ذلك في الشكل (4.9). استنتج الباحثون أنّ إدخال برنامج تعديل السلوك أدّى إلى تحسّنات جوهريّة في أداء المصنع.
الشكل (4.9): موازنة الأداء ما بين المجموعات باستخدام برنامج إدارة الطوارئ السلوكيّة (حقوق النشر لجامعة رايس Rice ، OpenStax، تحت الرخصة CC BY-NC-SA 4.0).
الإدارة الذاتية للسلوك
كيف يمكن تدريب الموظفين على تحمّل المزيد من المسؤولية عن التطوّر الذاتي والأداء الوظيفي بهدف تأسيس بيئة عمل تتميّز بالتعلّم الذاتي المستمر وتطوير الموظفين؟
النهج الإداري الثاني لقولبة السلوك المتعلّم في مكان العمل هو الإدارة الذاتيّة للسلوك (Behavioral Self-Management BSM). الإدارة الذاتية للسلوك هي عملية تعديل الفرد لسلوكه ذاتيًا من خلال إدارة المعطيات والعمليات الإدراكيّة والنتائج اللاحقة بصورة منهجيّة مستمرّة. BSM هي أحد أساليب التعلم وتغيير السلوك والتي تعتمد على الفرد لأخذ زمام المبادرة في التحكم بعملية التغيير. إنّ التأكيد هنا هو على "السلوك" (لأنّ تركيزنا هو على تغيير السلوكيات) وليس على المواقف أو القيم أو الشخصية. رغم أنّ الإدارة الذاتية للسلوك شبيهة بتعديل السلوك، إلّا أنّها تختلف عنه في أحد الجوانب المهمة وهي: التركيز الكبير على العمليات الإدراكيّة، والذي يعكس نظرية التعلم الاجتماعي لباندورا Bandura.
عملية التنظيم الذاتي
أساس الإدارة الذاتيّة للسلوك هو الاعتقاد الراسخ بأنّ الأفراد قادرون على تحصيل الضبط الذاتي إذا أرادوا تغيير سلوكهم (سواء للقدوم إلى العمل في الوقت المحدد أو الإقلاع عن التدخين أو خسارة الوزن …إلخ)، وإنّ ذلك ممكن من خلال عملية تسمّى التنظيم الذاتي (Self-regulation)، كما هو موضّح في الشكل (4.10). وفقًا لهذا النموذج، يميل الأشخاص إلى ممارسة أنشطتهم اليومية بصورة روتينية إلى أن يحدث شيء غير اعتيادي أو غير متوقّع، عند هذه النقطة يبدأ الفرد عملية التنظيم الذاتي من خلال الدخول في مرحلة المراقبة الذاتية (المرحلة 1). في هذه المرحلة، يحاول الفرد تحديد المشكلة. على سبيل المثال، إذا أخبرك المشرف أنّ اختيارك للملابس غير مناسب للمكتب، فإنّك ستوجّه انتباهك إلى ملابسك بشكل أكبر عند القدوم إلى العمل.
الشكل (4.10): نموذج التنظيم الذاتي لكانفر Kanfer. (حقوق النشر لجامعة رايس Rice ، OpenStax، تحت الرخصة CC BY-NC-SA 4.0).
في المرحلة الثانية (مرحلة التقييم الذاتي) ستفكّر فيما عليك ارتداءه. ستوازن هنا بين ما تمتلكه من ملابس والمعايير المقبولة التي تعلمتها من زملائك أو من الإعلانات مثلًا. أخيرًا، بعد تقييم الوضع والقيام بإجراءات تصحيحيّة إذا لزم الأمر، فإنّك ستطمئن نفسك أنّ التأثير السلبي مرّ وأنّ كل شيء على ما يرام الآن، تسمى هذه المرحلة مرحلة التعزيز الذاتي (المرحلة 3). وستصبح الآن قادرًا على العودة إلى روتينك الطبيعي. تشكّل عملية التنظيم الذاتي هذه أساس الإدارة الذاتيّة للسلوك.
الإدارة الذاتية في الممارسة
عندما نجمع بين نموذج التنظيم الذاتي في الأعلى ونظرية التعلم الاجتماعي (التي ناقشناها سابقًا)، يمكننا رؤية آلية عمل الإدارة الذاتية. كما هو موضّح في الشكل (4.11)، يجب أخذ أربع عوامل تفاعلية في الحسبان، وهي المعطيات الظرفية والشخص والسلوكيات والنتائج. 20 (لاحظ أنّ الأسهم في الرسم البياني هي ذات اتجاهين لتبين أن العملية ثنائية الاتجاه بين هذه العوامل الأربعة).
الشكل (4.11): نموذج الإدارة الذاتية لنظرية التعلم الاجتماعي (حقوق النشر لجامعة رايس Rice ، OpenStax، تحت الرخصة CC BY-NC-SA 4.0).
المعطيات الظرفية. في محاولة لتغيير أيّ سلوك، يستجيب الأشخاص للمعطيات المحيطة بهم. أحد الأسباب التي تجعل الإقلاع عن التدخين صعبًا للغاية بالنسبة لبعض الأشخاص هو الوابل المستمر من الإعلانات المتعلقة بالتدخين على اللوحات وفي المجلات وما إلى هنالك، إذ إنّ هناك الكثير من المعطيات والمنبهات التي تذكّر الأشخاص بالتدخين. لكن يمكن تحويل المعطيات الظرفية إلى مصلحتنا عند استخدام الإدارة الذاتية للسلوك. من خلال استخدام الأنواع الستة من المعطيات الموضّحة في الشكل (4.11). في العمود الأول، يمكن للأشخاص وضع سلسلة من التذكيرات الإيجابية والأهداف المرتبطة بالسلوكيات المرغوبة. تعمل هذه التذكيرات على توجيه تركيزنا نحو ما نحاول تحقيقه. وبالتالي إنّ الشخص الذي يحاول الإقلاع عن التدخين سوف: (1) يتجنب أي اتصال مع المدخنين أو إعلانات التدخين (2) يبحث عن معلومات عن مخاطر التدخين (3) يضع هدفًا شخصيًا للإقلاع (4) يتتّبع استهلاكه للسجائر. تهدف هذه الإجراءات إلى توفير المعطيات الظرفية الصحيحة لتوجيه السلوك نحو لهدف المطلوب (الإقلاع عن التدخين.)
الدعم الإدراكي. بعد ذلك، يستخدم الشخص ثلاثة أنواع من الدعم الإدراكي لمساعدته في عملية الإدارة الذاتية. يمثّل الدعم الإدراكي معطيات ذات طابع نفسي (على عكس المعطيات البيئية المحيطة). يمكن تحديد ثلاثة أنواع منها:
- الترميز. أولًا، يمكن أن يستخدم الأشخاص الترميز من خلال محاولة ربط المنبه الكلامي أو البصري مع المشكلة. على سبيل المثال، يمكن أن نخلق في عقلنا صورة لمدخن يسعل ويبدو عليه المرض، وبالتالي في كلّ مرّة نفكر فيها بالسجائر سنربطها مع المرض.
- التدرّب. ثانيًا، يمكن أن يتدرّب الأشخاص على حل المشكلة. على سبيل المثال، يمكن أن نتخيّل كيف سنتصرّف في موقف اجتماعي بدون السجائر، من خلال هذا التخيّل سنطوّر صورة ذاتية عن كيف سنبدو ضمن الظرف المرغوب.
- التحدّث مع النفس. أخيرًا يمكن للأشخاص أن يجروا أحاديث حماسية مع أنفسهم ليستمروا بسلوكهم الإيجابي. نعلم من الأبحاث السلوكية أنّ الذين يملكون نظرة سلبية للأشياء (لا أستطيع القيام بذلك)، يميلون إلى الفشل أكثر من الأشخاص الذين يملكون نظرة أكثر إيجابية (نعم، أستطيع القيام بذلك). لذلك، من خلال التحدّث مع النفس يمكننا إقناع أنفسنا أنّه بإمكاننا الوصول إلى الهدف والنتيجة المرجوّة.
المعضلات السلوكية. تُستخدم الإدارة الذاتية بشكل أساسي لحمل الأشخاص على القيام بأشياء التي لا نميل إليها، إذ أنّنا بحاجة إلى القليل من الحافز للقيام بالأمور الممتعة، بخلاف الأمور غير الممتعة (كالإقلاع عن التدخين) والتي تحتاج حافزًا قويًّا. وبالتالي نستخدم الإدارة الذاتية لحمل الأفراد على التوقف عن المماطلة في عمل، أو الميل إلى الأعمال البسيطة والتي تفتقر إلى عامل التحدي، أو لتقبّل أنفسهم وإلى ما هنالك. هذه هي "المعضلات السلوكية" المشار إليها في الشكل (11.4). باختصار، يتمثّل التحدي بحمل الأشخاص على التخلي عن السلوكيات ذات احتمال الحدوث المنخفض (مثل الالتزام بجدول زمني أو التخلي عن الإشباع الفوري لتدخين سيجارة واحدة) من أجل تجنّب السلوكيات عالية الاحتمالية (مثل المماطلة أو الإصابة بسرطان الرئة). على المدى الطويل، من الأفضل للفرد -ومسيرته المهنية- تغيير سلوكياته، لأنّ الفشل في ذلك سيؤدي إلى عقاب ما أو أسوء من ذلك. نتيجة لذلك، يستخدم الأشخاص عادةً الإدارة الذاتية لتغيير سلوكياتهم قصيرة الأمد وغير المقبولة إلى سلوكيات مفيدة طويلة الأمد. إنّ هذا الصراع ما بين السلوكيات قصيرة الأمد وطويلة الأمد هو ما يُشار إليه بالمعضلة السلوكيّة.
التعزيز الذاتي. أخيرًا، يمكن للأشخاص الثناء على أنفسهم وأن يدركوا أنّهم أنجزوا ما كانوا يهدفون إلى القيام به. وفقًا لباندورا، يتطلّب التعزيز الذاتي ثلاثة شروط ليكون فعّالًا: (1) يجب وضع أهداف أداء واضحة لتحديد كمية ونوعية الهدف المطلوب (2) يجب أن يملك الشخص السيطرة على المعززات المرغوبة (3) يجب تطبيق المعزّزات على أساس مشروط فقط، أي أنّ الفشل في تحقيق الأداء المعياري يجب أن يؤدي إلى الحرمان من المكافأة. وبالتالي، من خلال العمل على تغيير بيئة الفرد المحيطة وتولي الفرد مسؤولية سلوكه، تسمح أساليب الإدارة الذاتية للأفراد بتحسين سلوكهم بحيث ينعكس أثر ذلك التغيير إيجابيًا عليهم وعلى الأشخاص المحيطين بهم.
الحد من التغيب من خلال الإدارة الذاتية
وُجِّهت الجهود في دراسة حديثة إلى الحدّ من غياب الموظفين من خلال استخدام بعض أساليب الإدارة الذاتية للسلوك. كان الموظفين في الدراسة عمال نقابيين من موظفي الحكومة مع تاريخ مُلفتٍ من الغياب والتأخّر عن العمل. أُعطي لهؤلاء الموظفين تدريب عن الإدارة الذاتية. قُدّم التدريب على مدى ثمانية جلسات مدّة كل منها ساعة لكل مجموعة، مع ستة جلسات فرديّة مع كل مشترك مدّة كل منها 30 دقيقة.
تضمّنت هذه الجلسات: (1) تعليم المشاركين كيفية وصف السلوكيات المسببّة للتغيّب (مثلًا خلافات مع زملاء في العمل) (2) تحديد الأسباب التي أدّت إلى تشكّل السلوكيات واستمرارها (3) تطوير استراتيجيات للتغلّب عليها. حدّد المشاركون أهدافًا قصيرة وطويلة الأمد لتعديل سلوكياتهم. بالإضافة إلى ذلك، وُضِّح لهم كيفية تسجيل غياباتهم في السجّلات بما في ذلك تواترها وأسبابها وعواقبها. أخيرًا، حدّد المشاركون المعزّزات والعقوبات المحتملة والتي يمكن تطبيقها ذاتيًا عقب تحقيق الهدف أو الفشل في تحقيقه.
بعد تسعة أشهر من الدراسة، أظهرت النتائج أنّ طريقة الإدارة الذاتية أدّت إلى انخفاض كبير في معدّل الغياب (مقارنة مع مجموعة الضبط). استنتج الباحثون أنّ طريقة كهذه لها تطبيقات مهمّة على مجموعة واسعة من المشاكل السلوكيّة في مكان العمل ضمن المؤسسة.
ترجمة -وبتصرف- للفصلين Behavior Modification in Organizations و Behavioral Self-Management من كتاب Organizational Behavior
أفضل التعليقات
لا توجد أية تعليقات بعد
انضم إلى النقاش
يمكنك أن تنشر الآن وتسجل لاحقًا. إذا كان لديك حساب، فسجل الدخول الآن لتنشر باسم حسابك.