نأتي الآن إلى أهمّ سؤال من وجهة النظر الإداريّة: ما الّذي يمكن فعله للحدّ من ظاهرة الشِدّة والتوتّر المرتبطين بالعمل؟ ناقشنا العديد من الاقتراحات للتعامل مع الشِدّة. ومع ذلك يمكن تلخيص العديد من الإجراءات المهمّة الّتي يمكن أن يتّخذها الموظفون والمديرون لتوفير بيئة عمل أكثر راحةً وتحسين تكيّف الموظف مع العمل.
الاستراتيجيّات الفرديّة
هناك العديد من الاستراتيجيات الّتي يمكن للناس نهجها للمساعدة في القضاء على الشِدّة أو للمساعدة في التعامل مع استمرار الشِدّة العالية على الأقلّ. ما يلي بعض منها:
- تنمية الوعي الذاتيّ. يمكن للأفراد أن يَعوا تصرفاتهم وعيًا أكبر في العمل. يمكنهم تعلّم التعرّف على حدودهم الخاصّة وعلى علامات المشاكل المُحتملة قبل حدوثها. يجب أن يعرف الموظّفون متى ينسحبون من موقف ما (يمكن للبعض أخذ "يوم إجازة للصحّة النفسيّة" بدلاً من التغيّب) ومتى يطلبون المساعدة من الآخرين في العمل في محاولة لتخفيف عبء العمل.
- تطوير الاهتمامات الخارجيّة. يمكن أيضًا للأفراد تطوير اهتمامات خارجيّة لإبعاد فكرهم عن العمل. هذا الحل مهمّ خاصّةً للشخصيّات من النمط (أ)، الّذين تعتمد صحتهم الجسديّة على تخفيف حدّة سعيهم للنجاح. يمكن للموظّفين الحصول على تمرين بدني منتظم لتخفيف الشِدّة المكبوتة. ترعى العديد من الشركات الأنشطة الرياضيّة وتبني بعضها منشآت رياضيّة في مباني الشركة لتشجيع نشاط الموظّفين.
- مغادرة المنظمة. قد لا يتمكّن الموظّف أحيانًا من تحسين وضعه وقد يجد نتيجةً لذلك أنّه من الضروري (والصحّيّ) مغادرة المنظّمة والعثور على عمل بديل. من الواضح أنّ هذا القرار صعب الاتّخاذ، إلّا أن هنالك أوقات يكون فيها الحلَّ الوحيد.
- إيجاد حل شخصيّ فريد. يمكن للأفراد التعامل مع الشِدّة أيضًا من خلال مجموعة متنوعة من الحلول الشخصيّة. إليك مثلًا كيف وصف أحد المديرين ردّ فعله على موقف مُرهق: "إذا ضايقني أحدهم فسأغلق الهاتف بأدب ثمّ أتناول الآلة الكاتبة وأكتب كلّ ما أردت قوله لهذا الشخص على الهاتف. تعمل هذه الآليّة كلّ مرّة. ثمّ أقوم بتمزيق الورقة ورميها في سلة المهملات. إذا لم يتمكّن الموظّف من ترك موقف مرهق فقد تكون الحلول الفرديّة الخاصّة وسيلة مؤقتة جيّدة للخروج منه.
- التمرين الجسديّ. يمكن أن يكون التمرين وسيلة فعّالة لتمكين الجسم من التعامل بفعاليّة مع الآثار الجسدية للشِدّة لأنّ ردّ الفعل الجسديّ للجسم هو أحد أسباب الإرهاق الناتجة عن الشِدّة. يمكن أن يكون التمرين المنتظم استراتيجيّة فرديّة مهمّة وفعّالة.
- المنظور المعرفيّ. أخيرًا، يمكن أن يكون التحكّم في المنظور المعرفيّ للأحداث استراتيجيّة فعّالة لأنّ أحد عناصر الشِدّة الأساسيّة هو كيفيّة فهم الأحداث وتفسيرها. على الرغم من أنّ المرء لا يرغب في الذهاب إلى حدّ الفهم المقلوب للأحداث، إلّا أن تأطير المواقف تأطيرًا إيجابيًّا، بالإضافة إلى العوامل المميّزة التي تقع داخل وخارج نطاق سيطرتك وتأثيرك، يمكن أن يكون وسيلة فعالة لتخفيف آثار الشِدّة.
الاستراتيجيّات التنظيميّة
نظرًا لأنّ المديرين عادةً ما يكون لديهم سيطرة على بيئة العمل أكثر من المرؤوسين فمن الطبيعي أن يكون لديهم فرصة أكبر للمساهمة في الحدّ من الشِدّة المرتبطة بالعمل. يمكن للمديرين اتّباع الاستراتيجيّات الثمانية التالية لتخفيف الشدّة والتوتر في بيئة العمل:
- اختيار الموظّفين. أولاً، يمكن أن يولي المديرون المزيد من الاهتمام لعملية الاختيار والتناسب بين المتقدّمين للوظيفة والوظيفة ذاتها ومكان العمل. تُكرّس إجراءات الاختيار الحاليّة لمنع التحميل النوعيّ الزائد للدور من خلال ضمان حصول الأفراد على التعليم اللازم والقدرة والخبرة المطلوبة للوظيفة. يمكن للإداريين توسيع معايير الاختيار هذه لتشمل النظر في مدى تحمّل المتقدّمين للغموض والإبهام في بيئة العمل والقدرة على التعامل مع تضارب الأدوار والتحدّيات المُعاصرة في المؤسسة. وبعبارة أخرى، يمكن للمديرين أن يكونوا متيقّظين أكثر (في مقابلات العمل وعمليّة التوظيف اللاحقة) للمشكلات المحتملة المرتبطة بالشِدّة وقدرة مقدّم الطلب على التعامل معها بنجاح.
- تدريب المهارات. ثانيًا، يمكن تقليل الشِدّة في بعض الحالات من خلال التدريب على المهارات المتعلّقة بالوظائف تدريبًا أفضل، حيث يتعلّم الموظّفون كيفيّة أداء وظائفهم بفعاليّة أكبر مع تقليل الشِدّة والإجهاد. قد يتعلّم الموظّف مثلًا كيفيّة تقليل الحمل الزائد عن طريق استخدام اختصارات أو مهارات جديدة موسّعة. ومع ذلك لن تكون هذه التقنيّات ناجحة إلّا إذا اتّبعت الإدارة إجراءات ملائمة لها. يمكن أن يُكرّس المديرون جُهدًا ووقتًا أكبر لتحديد وتوضيح واجبات الوظيفة للحدّ من الإبهام وتضارب الأدوار. يمكن تدريب الموظّفين أيضًا على مهارات العلاقات البشريّة من أجل تحسين قدراتهم الشخصية ليواجهوا نزاعات أقلّ بين الأفراد والمجموعات.
- إعادة تصميم الوظيفة. ثالثًا، يمكن للمديرين تغيير جوانب معينة من الوظائف أو طرق أداء الأشخاص لهذه الوظائف. هنالك العديد عن فوائد إعادة تصميم الوظائف. قد يؤدّي إثراء الوظيفة إلى تحسين الاستقلاليّة والمسؤوليّة وتبادل الآراء. ستشكّل هذه الوظائف تحدّيًا مُرحبًّا به بالنسبة للكثير من الأشخاص، وهذا النهج من شأنه أن يحسّن من ملاءمة الفرد لوظيفته ويقلل من الشِدّة في العمل. تجدر الإشارة إلى أنّ معظم الأفراد لا يتوقّعون الحصول بالضرورة على الوظيفة المثالية المُتكاملة من كل الجوانب، يكفي أن تُلبي احتياجاتهم وطموحاتهم الأساسيّة. إن إثراء وظيفة شخص ذو حاجة منخفضة للإنجاز أو موضع خارجيّ للتحكّم قد يزيد فقط من القلق والخوف من الفشل لديه. يجب توخّي الحذر في إثراء العمل لمطابقة هذه الجهود مع احتياجات ورغبات الموظّفين. هناك تقنية ذات صلة أيضًا تهدف إلى تقليل الشِدّة وهي التناوب الوظيفيّ. التناوب الوظيفيّ هو في الأساس وسيلة لتقليل التوتّر بين الموظّفين وتوفير فترة راحة -وإن كانت مؤقّتةمن الوظائف الُمسبّبة للشِدّة خاصّةً. يُعدُّ تناوب الوظائف شائعًا في اليابان لكونه وسيلة لتوزيع المهامّ الأكثر مللًا أو رتابةً بين مجموعة كبيرة من الموظّفين بحيث تُقلّل مدّة تقلّد ذلك المنصب أو العمل المُمل أو المُسبب للتوتر على الفرد، ويتوّزع بالتالي الأثر السلبي لطبيعة ذلك العمل على الأفراد كلّهم بدلًا من تركّزه لدى عاملٍ واحد. تعمل اليابان أيضًا على تخفيض عدد أيّام أسبوع العمل من أجل الحدّ من الشِدّة والتوتر في العمل.
- برامج الاستشارة الّتي ترعاها الشركة. بدأت العديد من الشركات تجربة برامج الاستشارة كما تقترح الاستراتيجيّة الرابعة هذه. يتضمّن البرنامج التنفيذيّ بجامعة ستانفورد (Stanford University) مثلًا وِحدةً حول التعامل مع الشِدّة، في حين تدير مؤسسة (Menninger Foundation)، على سبيل المثال، ندوة لمدّة أسبوع لمكافحة الإجهاد في مدينة توبيكا الأمريكيّة. أُجريت تجربة بين رجال الشرطة تهدف إلى دراسة وإدارة الشِدّة التي يعاني منها أفراد الشرطة في العمل، في البرنامج (الذي يتألّف من ستّ جلسات مدّتها ساعتين) شُرِح للشرطيّين عن طبيعة وأسباب الشِدّة وعن تمارين استرخاء مفيدة ووُضِعوا في محاكاة للعديد من المواقف المُجهِدة (مثل أنشطة لعب دور تحاكي عمليّة اعتقال الأفراد الجُناة). ركّز البرنامج طوال الوقت على تعزيز ثقة الضباط بقدرتهم على التعامل بنجاح مع الشِدّة أثناء العمل. وأظهرت نتائج البرنامج أن رجال الشرطة الّذين اجتازوا البرنامج كان أداؤهم أفضل وأظهروا قدرًا أكبر من ضبط النفس وشهدوا ضغوطًا أقلّ من رجال الشرطة الّذين يشغلون مناصب مماثلة لكن لم يُشاركوا في هذا البرنامج. أظهر برنامجٌ مماثل نتائج متوافقة في مجموعة متنوّعة من المنظّمات الأخرى. يمكن تقليل الكثير من الشِدّة المرتبطة بالعمل ببساطة عن طريق تشجيع المديرين على توفير الدعم الكافي والأدوات اللازمة للأفراد العاملين من أجل التعامل الأمثل مع الشِدّة والتوتّر.
- زيادة المشاركة والتحكّم الشخصيّ. خامساً، يمكن للمديرين السماح للموظّفين بقدر أكبر من المشاركة والتحكّم الشخصيّ في القرارات الّتي تؤثّر على طبيعة عملهم. تزيد المشاركة من انخراط الموظفين في العمل وتقلّل من الشِدّة في نفس الوقت، عن طريق تخفيف الإبهام وتضارب الأدوار لدى الأفراد العاملين. وعلى الرغم من أنّ فوائد المشاركة كثيرة، تجدر الإشارة إلى أن اعتماد تلك الاستراتيجية وتحويلها إلى واقع ليست بالمهمّة السهلة بالنسبة لبعض المشرفين. وجدت إحدى الدراسات مثلًا اختلافات كبيرة في المدى الّذي يسمح فيه المشرفون المختلفون لمرؤوسيهم بالمشاركة في صنع القرار. وُجد أنّ الإناث يُسمح لهنَّ بمشاركة أكبر من الذكور. وأظهرت النتائج أيضًا ميل المشرفين ذوو احتياجات الإنجاز العالية والمستويات العالية من الثقة في قدرات مرؤوسيهم والمشاعر المنخفضة للتهديد، أظهرت ميلهم إلى مشاركة الموظفين في صنع القرارات التي تتعلّق بهم. لا يبدو أن مسألة المشاركة هي ما إذا كان المرؤوسون يرغبون فيها، بل فيما إذا كان الرؤساء سيسمحون بذلك في بادئ الأمر.
- تماسك مجموعة العمل. سادسًا، يمكن للمديرين محاولة بناء تماسك أكبر لمجموعة العمل. جهود بناء الفريق شائعة في عالم الإعلام اليوم. تركّز هذه الجهود على تطوير مجموعات أكثر إنتاجيّة بدعم متبادل أكبر. من العناصر الحاسمة في مدى الشِدّة في العمل هو مقدار الدعم الاجتماعيّ الذي يتلقّاه الموظّفون. يمثّل بناء الفريق المُتماسك طريقةً ممتازةً لتحقيق هذا الدعم.
- تحسين التواصل. يمكن للإداريين فتح قنوات التواصل حتّى يكون الموظّفون أكثر اطّلاعًا على ما يحدث في المنظّمة. ينخفض مستوى إبهام الدور وتضارب الأدوار مع زيادة المعرفة لدى الموظّفين. يجب أن يدرك المديرون مع ذلك أنّ التواصل هو طريق ذو اتّجاهين، إذ يجب على المديرين أن يسمحوا ويتقبّلوا النقد من المرؤوسين وأن ينخرطوا في حوارٍ مُتبادلٍ من الطرفين لا من طرفٍ واحد، بحيث يشعر المرؤوسون بأن المديرين يعيرون اهتمامًا جيّدًا لمشكلاتهم وشكاويهم، والنتيجة ستكون تقليل الشِدّة وتفادي أي سلوك عدواني أو سلبي على المؤسسة ناتج عن التوتر وضغط العمل الكبيرين دون أي اهتمامٍ من الإدارة.
- برامج تعزيز الصحّة. أخيرًا، بدأت العديد من الشركات مؤخّرًا باتّباع نهج أكثر منهجيّة وشمولًا للحدّ من الإجهاد ورفع مستوى الرفاه في مكان العمل. عادة ما يُشار إلى هذه البرامج باسم برامج تعزيز الصحة (health promotion programs)، وهي تمثّل مزيجًا من أنشطة التثقيف وتعديل السلوك الّتي تهدف إلى تحقيق الصحّة الجيدة لدى الأفراد والحفاظ عليها.
يتضمّن برنامج تعزيز الصحّة النموذجيّ تقييمًا للمخاطر ودروسًا تعليميّة واستشارات وإحالات. تعالج برامج تعزيز الصحّة مجموعة واسعة من المخاوف المتعلّقة بالصحّة، بما في ذلك اللياقة البدنيّة ومراقبة الوزن والاستشارات الغذائيّة والإقلاع عن التدخين ومراقبة ضغط الدم ومشاكل الإدمان وتعديل نمط الحياة العامّ.
الشكل 18.9 كرة التوتّر استُخدمت كرات التوتّر لقرون خاصّة في الثقافة الصينيّة للمساعدة في تخفيف القلق وتحسين تنسيق اليد. لا يزال الناس الآن يلجؤون إليها لتخفيف القلق. (حقوق الصورة: Katy Warner / Flickr / Attribution 2.0 Generic (CC BY 2.0))
سُرعان ما تُلاحظ الشركات المشاركة في مثل هذه البرامج أنّ التكاليف المُستثمرة لتشغيلها تأتي أُكُلها من خلال تحسّن الحالة النفسيّة والبدنية للموظفين، الذي ينعكس إيجابيًّا على مستويات الإنتاجيّة، بالإضافة إلى تقليل التغيّب عن العمل والأمراض المرتبطة بالشِدّة. وجدت العديد من الشركات أيضًا أنّ توفير مثل هذه الخدمات يمثّل حافزًا مهمًّا عند البحث عن موظّفين في سوق عمل ضيّقة.
ينتج الإجهاد عن بيئة العمل وكيفية تلقّي الفرد لظروف العمل ومُستجدّاته وتفسيره وتأويله الشخصي لها. يشارك كل من الجسم والعقل في العملية. من المهمّ لكل من الشركات والأفراد اتّخاذ إجراءات وقائيّة قبل أن تظهر الآثار التراكميّة للإجهاد بطرق تكلّف الفرد والشركة.
الشِدّة المثاليّة (Eustress) هو مصطلح يشير إلى مستوى الشِدّة النافعة إمّا نفسيًّا أو جسديًّا. صيغ هذا المصطلح باستخدام البادئة اليونانية "eu" الّتي تعني "جيّد" وكلمة الشِدّة "stress" بمعنى حرفيّ "الشِدّة الجيّدة". اُستُكشفت الشِدّة المثاليّة في الأصل في نموذج الشِدّة لريتشارد لازاروس (Richard Lazarus). إنّ طبيعة الاستجابة المعرفيّة الإيجابيّة للتوتر هي العامل الأساسي الذي يمنح المرء شعوراً بالرضا أو المشاعر الإيجابيّة الأخرى.
ترجمة -وبتصرف- للفصل (Stress and Well Being) من كتاب Organizational Behavior
أفضل التعليقات
لا توجد أية تعليقات بعد
انضم إلى النقاش
يمكنك أن تنشر الآن وتسجل لاحقًا. إذا كان لديك حساب، فسجل الدخول الآن لتنشر باسم حسابك.