اذهب إلى المحتوى

سنتابع في سلسلة مقالاتنا المميّزة عن السلوك التنظيمي في بابها السادس عن أحد الأسس الإدارية السلوكيّة الجوهريّة وهي الإدراك وآلية وضع واتّخاذ القرارات الإداريّة، سنستعرض خلال مقالاتنا القادمة الخصائص الأساسية في عميّة اتخاذ القرار الإداري وآليات الدماغ الرئيسية في اتخاذ القرارات، كما سنتطرّق إلى القرارات المبرمجة وغير المبرمجة والفرق بينهما، وسنخوض كذلك في العوائق التي تصعّب من اتخاذ القرارات الناجحة، وسنختم هذا الجُزء من السلسلة بمحاسن ومساوئ اتخاذ القرارات الجماعيّة.

استكشاف المهن الإدارية

عاليًا وبعيدًا.. كيف أسّست ستيفاني كوري وجين روبيو شركة الحقائب خاصتهم

واجهت جين وستيفاني عددًا من القرارات الجوهريّة خلال تأسيسهما لشركتهم “Away” بدءًا بقرار التأسيس، حيث ظهر هذا القرار بعد أن انكسرت حقيبة جين خلال إحدى رحلاتها. أرهقها أنّها لم تجد خيارات لشراء حقيبة جديدة سوى شراء حقيبة رخيصة نسبيًّا (أقل من 100$)، لكنّها سيّئة النوعيّة، أو شراء حقيّبة جيّدة لكن مُكلِفة للغاية (أكثر من400$). لم تتوفّر أيّ خيارات وسطيّة.

لذا بحثت جين مع صديقتها ستيفاني حول صناعة الحقائب ووجدتا في خضمّ هذا البحث أنّ السبب الرئيسيّ لارتفاع سعر الحقائب الجيّدة هو طريقة توزيعها وبيعها عن طريق متاجر التجزئة والمراكز التجاريّة. لكن إن قامت إحدى العلامات بافتتاح محلّات خاصّة بها فستتمكّن من توفير حقائب ذات جودة مرتفعة بسعر وسطيّ (200-300$). اقتنعت جين وستيفاني بعد بحثهما المطوّل أنّ لديهم فكرة تستحق السعي خلفها، وقرّرتا أن تسمّيا شركتهما (Away)، في إشارة إلى متعة السفر.

امتلكت المؤسِّستان خبرة سابقة في مجال الشركات الإلكترونيّة الناشئة (شركة Warby Parker)، الأمر الذي ساعدهما على اتّخاذ قراراتهما بدقّة وحكمة. كانت خبرة جين في مجال التسويق، في حين كانت خبرة ستيفاني أكثر في مجال إدارة الإنتاج والعمليّات، لذا كانت خبرتهما المتنوّعة مناسبة لمشروعهما الجديد. جمعتا المال في البدء من الأصدقاء والأقرباء لكن بعد عدّة أشهر سعتا لجلب رأس مال مساهم لتضمنا كفاية المال لتحقيق بداية ناجحة.

كانت جين وستيفاني أمام قرار كبير منذ بداية مشوارهما، وهو تحديد تصميم مبدئيّ لمنتجهما. تطلّب هذا القرار الكثير من التسويق ودراسة السوق لفهم حاجات ورغبات الزبائن. سألتا مئات الأشخاص عن أكثر ما يُحبّون في حقائبهم الحاليّة وأكثر ما يُزعجهم فيها. كما تعاقدتا مع فريق تصميم مؤلّف من شخصين ليساعدهما في تصميم النموذج الأوليّ. قاد البحث والتطوير إلى التصميم الأولي للحقيبة والذي تميّز بصلابته وخفّة وزنه.. كما أنّ نموذج الحقيبة تضمّن 4 عجلات (ليس 2 فقط) عالية الجودة وسحّابات عالية الجودة أيضًا.

كان على المؤسِّستين أن تختارا شريكًا للقيام بعمليّة التصنيع. اكتشفتا حينها أنّ الإنتاج في الولايات المتّحدة ليس خيارًا ممكنًا وذلك بسبب كون المنتج يمتلك غطاءً صلبًا مصنوعًا من البولي كاربون وأغلبيّة المصانع المنتجة لهذه المادة آسيويّة، لذا عمدتا إلى البحث والاستفسار حول العديد من الشركاء المُرشحة للتعامل معها.

بالإضافة إلى ذلك زارتا جميع المصانع الّتي كانت على قائمتها النهائيّة لرؤيتها على أرض الواقع. كان هذا جزءًا مهمًّا من بحثهما؛ لأنّ الشركات الّتي كانت تبدو جيّدة على الورق لم تكن دائمًا كذلك في الحقيقة. في نهاية الأمر وقّعتا شراكةً مع مصنع صينيّ ينتج أيضًا حقائب لعلامات تجاريّة أخرى عالية الجودة، وكان التعامل مع هذه الشراكة ممتازًا. استمرّتا في تخصيص الوقت لبناء والمحافظة على العلاقات الطيبة مع هذه الشركة، الأمر الذي ساعدهما على تجنّب الكثير من المشاكل والعقبات التي تواجه الشركات عادةً عند وجود مشاكل مع شُركائها في الخارج.

طوّرتا منتجهما الأوّل في نهاية عام 2015. لم يكن بالإمكان تحضير الحقائب قبل موسم الأعياد للمتسوّقين؛ لذا قامتا بالسماح بالطلب المسبق على الحقائب. ولرفع التشويق والاهتمام حول منتجهما الجديد، سوّقتا لمنتجهما بأسلوب متميّز، حيث قامتا بمقابلة 40 عضوًا محترمًا من المجتمع المبدع حول تجارب سفرهم، وقامتا بعدها بصنع كتاب من مذكّرات الأسفار وسمّتاه الأماكن الّتي نعود لها (The Places We Return To).

لم يكن الكتاب شيّقًا فحسب بل استطاع أيضًا نشر موضة حقائب (Away) بين أفراد المجتمع. توفّر الكتاب بدءًا من شهر نوفمبر عام 2015 بالمجّان عند شراء بطاقة هديّة يمكنك استرداد قيمتها عند شراء حقيبة في شهر فبراير عام 2016. أثار الكتاب اهتمامًا كبيرًا بالمنتج، وبِيعَت 1200 حقيبة، وهو العدد الكامل الذي أُنتج حينها. وولّدت (Away) مبيعات بمقدار 12 مليون دولار في سنتها الأولى.

واجهت ستيفاني كوري وجين روبيو قرارات مهمّة وحسّاسة في بداية تطويرهما للشركة الجديدة. وكان سبب جزء من نجاحهما هو اعتمادهما على الخبرة والمعرفة والبحث قبل اتّخاذ القرارات. ستستمران في مواجهة العديد من القرارات الصغيرة والكبيرة. لقد توسّع عملهما من نموذجٍ ونوعٍ واحدٍ من الحقائب إلى أربعة أنماطٍ مختلفة ومميزة، مع المزيد من التوسّع في الحقائب ومستلزمات السفر في المستقبل.

نمت شركتهما المُؤسَّسة في نيويورك لتضمّ أكثر من 60 موظّفًا خلال العامين الأولّين، ومن ضمنهم فريق التصميم الّذي ساعدهما في منتجهما الأوليّ، فقد عرضت روبيو وكوري وظيفةً كاملة لهم بعد أن أُعجبتا بعملهم جدًّا. يمثّل كلّ توظيف جديد قرارًا جديدًا حول العمل الجديد الذي يجب أن يتمّ ومن يجب عليه أن يقوم به. كما يجلب كلّ منتج جديد المزيد من القرارات الّتي يجب اتّخاذها، لكن يبدو أنّ روبيو وكوري وضعتا أنفسهما وشركتهما على الطريق الصحيح نحو المستقبل.

يتّخذ المديرون وأصحاب الأعمال، مثل روبيو وكوري القرارات بشكل يوميّ، بعضها كبير مثل قرار إنشاء عمل جديد، لكنّ أغلبها صغير ضمن نطاق عمل الشركة، وهي ضرورية للنجاح طويل المدى. بعض القرارات مٌتوقّعة وبعضها مُفاجئ. في مقالاتنا القادمة سنلقي نظرة على معلومات مهمّة حول أساسيات اتّخاذ القرارات، والتي ستساعدك على اتّخاذ قرارات أفضل والإرتقاء في أسلوب الإدارة لديك.

نظرة عامة على اتخاذ القرارات الإدارية

اتّخاذ القرارات هو فعل أو عمليّة التفكير بالخيارات المطروحة واختيار أحدها. من المهمّ أن نعلم أنّ المديرين يتّخذون القرارات باستمرار، وأنّ نوعيّة هذه القرارات تؤثّر -بشكل كبير أحيانًا- على كفاءة المنظّمة وأصحاب المصلحة. أصحاب المصلحة (stakeholders) هم كلّ الأفراد أو المجموعات المُتأثّرة بالمؤسسة (مثل الزبائن والموظّفين وحاملي الأسهم وغيرهم).

يتّخذ أعضاء الفريق الإداريّ للشركة بانتظام قرارات تؤثّر على مستقبل الشركة وكلّ أصحاب المصلحة، مثل العمل بتقنيّة جديدة أو الخروج بمنتجٍ جديد. قد يُمكِّن قرار جيّد الشركة من النموّ والبقاء على المدى الطويل، في حين قد تقود القرارات السيّئة الشركة نحو الإفلاس. يمتلك المديرون الأصغر في الشركة أثرًا أقلّ على بقاء الشركة بأكملها، لكنّهم يمتلكون في المقابل أثرًا كبيرًا على قسمهم والعاملين فيه.

تخيّل على سبيل المثال مُشرفًا من الدرجة الأولى مسؤولًا عن جداول الموظّفين وطلب المواد الأولية الازمة لعملية الإنتاج للقسم. من المستبعد أن يؤثّر قرار مدير كهذا على الشركة ككلّ لكنّه قد يؤدّي لنتائج سلبيّة عديدة مثل:

  • خفض الإنتاجيّة إن كان هناك موادّ أو موظّفين أقلّ من اللازم.
  • زيادة النفقات إن كان هناك موادّ أو موظّفين أكثر من اللازم، خاصّة إن كانت هذه المواد محدودة الصلاحيّة أو ذات كلفة تخزينية مُرتفعة.
  • الإحباط والمعنويات المنخفضة وزيادة معدّل الدوران بين العاملين (ما قد يكون مكلفًا للمنظّمة) إن كانت القرارات تتضمّن إدارة وتدريب العاملين.

تحديد متى يجب اتخاذ القرار

تكون بعض القرارات بسيطة، لكن غالبًا ما تكون قرارات المدير معقّدة وتتضمّن خيارات واسعة ونتائج غير معروفة. عند الانتقاء بين خيارات متعدّدة ونتائج غير معروفة يحتاج المديرون إلى جمع المعلومات؛ ما يقودهم لقرار مهمّ آخر وهو: كم من المعلومات ضروريّ لاتّخاذ قرار سليم؟ يتّخذ المديرون القرارات كثيرًا بدون معلومات كاملة؛ أحد العلامات الواسمة للمدير الناجح هي قدرته على تحديد متى يجب عليه جمع معلومات إضافيّة قبل اتّخاذه للقرار، ومتى يتّخذ القرار بالمعلومات المتوفّرة فقط. قد يساوي ضرر القرار المتأخرّ ضرر القرار المُتسرّع.

قد يؤدّي عدم التصرّف بالسرعة المطلوبة إلى تضييع المدير الفرصَ المُتاحة، لكن قد يقود التسرّع لسوء استغلال موارد الشركة في مشاريع لا فرصة لها في النجاح. يجب أن يقرّر المديرون الناجحون متى تكون المعلومات الّتي تمّ جمعها كافية، وأن يكونوا على جاهزيّة لتغيير مسار خُططهم إن ظهرت معلومات جديدة تثبت سوء القرار المُتّخذ. قد يكون تغيير الخطط والعدول عن القرارات صعبًا للمديرين ذوي الكبرياء المُفرَط، لأنّ ذلك يعني اعترافهم باتّخاذ قرارًا خطأ. في حين يعرف المديرون الناجحون أنّهم يمتلكون مهام معقدّة وعديدة وأنّ فشل بعضها هو أمرٌ حتميّ وواردٌ جدًا. كما يدركون أنّه من الأفضل الحدّ من أثر القرار السيّء على المنظّمة وأصحاب المصلحة عبر التعرّف عليه وتصليحه بأسرع ما يمكن.

ما هو الجواب المناسب (الصحيح)؟

من الجدير بالذكر أيضًا أنّ اتّخاذ المدير للقرارات لا يشبه على الإطلاق أسئلة الاختيار من متعدّد: ففي هذا النمط من الأسئلة هناك دائمًا إجابة صحيحة واحدة، ولكن قلّما يكون هذا صحيحًا في القرارات الإداريّة؛ إذ يختار المدير أحيانًا بين عدّة خيارات جيّدة ولكنّه لا يعلم أيّها هو الأفضل. في حالات أخرى عليه أن يختار من بين عدّة خيارات سيّئة بغرض تخفيف الأضرار. كما يمكن أن يكون هناك أفراد في المنظّمة بمصالح متضاربة، ويجب على المدير اتّخاذ القرار مع أخذه بالحسبان أنّه سيترتّب على هذا القرار إزعاج أحد الأطراف أيًّا كان هذا القرار.

ما هو الجواب المناسب (الأخلاقي)؟

يُطلب من المديرين في بعض الأحيان أن يتّخذوا قرارات لا تؤدّي إلى إنزعاج طرفٍ ما فحسب بل قد تؤدّي لإيذاء الآخرين. هذه القرارات لها أبعاد أخلاقيّة أو أدبيّة. تشير الأخلاق والآداب إلى معتقداتنا فيما يخصّ ما هو صحيح أو خطأ، الخير والشر، النقيّ والفاسد، تتعلّق الأخلاق والآداب ضمنيًّا بعلاقاتنا وتأثيرنا على الآخرين، فإن لم نكن بحاجة للتعامل مع الآخرين فلن نفكّر أبدًا كيف تؤثّر سلوكيّاتنا على الأفراد الآخرين أو المجموعات. على أيّ حال، يتّخذ كلّ المديرين قرارات تؤثّر على الآخرين، ولذا من المهمّ أن يعرفوا إن كان ذلك الأثر سلبيًّا أم إيجابيًّا. يُستخدم مفهوم "تحقيق المنفعة القصوى لحاملي الأسهم" كمبدأ عقلانيّ لتقديم الربح قصير المدى على حاجات الآخرين ممّن قد يتأثرون بالقرار، من موظّفين أو زبائن أو حتى سكّان محليّين (الّذين قد يتأثّرون بالقرارات البيئيّة على سبيل المثال).

على أيّة حال فإنّ تحقيق المنفعة القصوى لحاملي الأسهم هو غالبًا قرار ينمّ عن قصر نظر؛ لأنّه قد يضرّ بالاستقراريّة الماليّة للمنظّمة مستقبلًا. من الآثار السلبيّة على إنتاجيّة المنظّمة على المدى الطويل عند اتّخاذ المديرين مثل هذه النوع من القرارات: الدعاية السيّئة للشركة ومقاطعة الزبائن والغرامات الحكوميّة، كذلك فإنّ زيادة ربح أصحاب الأسهم ليس سببًا مقبولًا للتسبّب بأذية الآخرين.

كما ترى من هذه الأمثلة المُختصرة فإنّ الإدارة ليست لضِعاف القلوب، لكن من الممكن على أيّ حال أن تكون مُكافِئةً للذات عندما تكون في منصب تتّخذ فيه قرارات ذات أثر إيجابيٍّ على المنظّمة وحاملي أسهمها. نرى مثالًا مهمًّ على ذلك في قسم الإدارة المسؤولة والاستمراريّة.

الإدارة المسؤولة والاستمرارية: صناعة النجاح المستمر

بشكل عام يركّز أي مدير أو صاحب عمل في المقام الأول على النجاح (تحقيق الأرباح).

يسعى القادة التنظيميّون في بعض الأحيان إلى تحقيق هدفين كبيرين في الوقت ذاته وهما أن يكون العمل جيّداً (تحقيق الأرباح) وأن يكون العمل نافعاً (إفادة المجتمع بشكلٍ ما). والسبب بالعموم يعود لاعتقادهم بأن هذا النهج هو النهج الصائب. يؤمّن العمل فرصة لتحقيق هدفٍ آخر يكون المؤسسون أو الملَّاك أو المديرون شغوفين به.

في حالة شركة (New Belgium Brewing) فإنَّ الشريكين المؤسِّسَين كيم جوردان وجيف ليبيش كان لديهما شغف بشيئين اثنين فقط، وهما صنع منتج جيد وحماية البيئة؛ لذلك من المنطقيّ أن يكون مصنعهم مصمّمًا للعمل على التقليل من آثاره السلبية على البيئة. وقد تبنّى المصنع ثقافة تؤسّس استمراريّة في حماية البيئة بمجال واسع من الطرق. يقوم المصنع على سبيل المثال بإهداء الموظّفين دراجات هوائية احتفالاً بإتمامهم السنة الأولى في العمل، كمحاولة لتشجيعهم على استخدام الدراجة للقدوم للعمل.

وتهتمُّ المنظّمة أيضاً بالحملات المناصرة للبيئة، على سبيل المثال حملة "أنقذوا نهر الكولورادو"، كما تعمل المنظّمة بجدّ لتنمية حسّ المسؤوليّة عند اتّخاذ القرارات المتعلّقة بقضايا البيئة. في عام 1999، وبناءً على اقتراح أحد الموظفين، بدأ المصنع بالحصول على كل احتياجاته من الكهرباء من طاقة الرياح. على الرغم من أنّ ذلك أكثر كلفةً بالمقارنة مع محطات توليد الطاقة من حرق الفحم وذلك يعني الحصول على أرباح أقلّ ومكافآت أقلّ للموظفين.

وعلى الرغم من أن المصنع لا يزال يعتمد بالدرجة الأولى على طاقة الرياح، إلا أنه بدأ الآن بتوليد جزء من احتياجاته من الكهرباء عن طريق ألواح للطاقة الشمسيّة على سطح المصنع، والمزيد من الطاقة من الوقود العضويّ، فغاز الميتان منتج ثانويّ لعمليّة معالجة المياه في المصنع. تقوم الشركة بتنظيف المياه الناتجة عن عمليّة التصنيع، وأثناء ذلك يتولد هذا الوقود الطبيعيّ، الذي يُحفظ ويُستخدم كطاقة لعمل المصنع.

إنّ عمل المصنع يستهلك الكثير من المياه ولذلك فإن (New Belgium) تعمل على تقليل استهلاكها وإعادة استخدام المياه الّتي تستهلكها. كما تعمل الشركة على تقليل الأشكال الأخرى من الإسراف عن طريق بيع الحبوب المستخدمة وبعض النباتات والخميرة لأصحاب المزارع المحليين لإطعام قطعانهم. وكذلك تعمل الشركة (المملوكة من قبل موظفيها منذ عام 2013) مع المرافق والسلطات المحلية، من خلال برنامج العدادات الذكية (Smart Meter program)، تعمل على تقليل استهلاكهم للطاقة في أوقات الذروة.

يجب أن يكون لجهود حماية البيئة هذه ثمن أليس كذلك؟ لكن في الحقيقة تُظهر الأبحاث أنَّ الشركات التي تلتزم بهذه المبادئ يكون متوسّط أدائِها الماليّ أعلى من الشركات الأخرى. يجد الموظفون غالباً طرائق للتوفير (مثل استخدام الوقود العضويّ) في محاولات لابتكار وسائل لتقليل الاستهلاك وإعادة الاستخدام وإعادة التصنيع. بالإضافة لذلك فإنّ المنظمات التي تسعى للقيام بأشياء نافعة تُعتبر غالباً أماكن مرغوبة للعمل فيها (خاصة بالنسبة للأشخاص الذين يمتلكون نفس القيم التي تناضل المنظمة لأجلها)، وتكون موضع تقدير من قبل المجتمعات المحيطة أيضاً.

بالنتيجة يميل الموظّفون الذين يعملون في هذا النوع من المنظمات لأن يكون لديهم ولاء تامّ لشركاتهم، مع مستويات عالية من الارتباط والتحفيز والإنتاج. وبالتأكيد فإنّ الموظّفين في (New Belgium Brewery) شغوفون بطبيعة ومكان عملهم. ويولِّد هذا الشغف التقدير للمنظمة ويثبت أنه من الممكن أن تحقّق الأرباح وفي نفس الوقت تحقّق النفع للآخرين والمجتمع عمومًا. وفي حالة (New Belgium Brewery) يعني هذا أن تعمل للحفاظ على البيئة وبنفس الوقت أن تصنع مُنتجاً لذيذاً.

كيف يعالج الدماغ المعلومات من أجل اتخاذ القرارات: الآليات الانعكاسية والتأملية

يُعالج الدماغ البشريّ معلومات اتّخاذ القرارات عبر إحدى آليّتين: آليّة انعكاسيّة (تفاعليّة) وآليّة تأمّليّة. الآليّة التأمّليّة (reflective system) هي آليّة تفكير منطقيّة تحليليّة متعمّدة ومنهجيّة أمّا الآليّة الانعكاسيّة (reactive system) فهي سريعة مندفعة وحدسيّة وتعتمد على المشاعر أو العادات للاستدلال على الخطوة التالية. تقترح أبحاث في علم النفس والأعصاب أنّ الدماغ يمكنه معالجة المعلومات باستخدام آليّة واحدة في كلّ مرّة (حسب Darlow & Sloman) وأنّ الآليّتين يوجّههما جزآن مختلفان من الدماغ. القشرة خلف الجبهيّة أكثر تحكّمًا بالآليّة التأمّليّة أمّا الآليّة التفاعليّة فيتحكّم بها بشكل أكبر العُقد القاعديّة واللّوزة الدماغيّة(basal ganglia and amygdala).

اتخاذ القرارات الانعكاسي

معظمنا يميل لافتراض أنّ الطريقة المنطقيّة التحليليّة تؤدّي لقرارات أفضل، لكنّ صحّة هذا الاعتقاد تعتمد على الظروف التي تُتّخذ فيها هذه القرارات. الطريق السريع الحدسيّ قد يكون منقذًا للحياة؛ فعند شعورنا بخطرٍ مٌحدق مفاجئ تتفعّل استجابة المحاربة أو الفرار (fight or flight) لردّ فعل فوريّ بدون الانتظار لحساب كل المعطيات الممكنة ونتائجها.

علاوةً على ذلك، يستطيع المديرون الخبيرون أن يتّخذوا قرارات بسرعة لأنّ خبرتهم علّمتهم ما يجب فعله في مثل هذا الظرف. قد لا يكون هؤلاء المديرين قادرين على تفسير المنطق الكامن خلف قرارهم وسيكتفون بالقول أنّهم اتّبعوا "غريزتهم" أو فعلوا ما "ظنّوه" صائبًا. ولأنّ المدير واجه موقفًا مشابهًا في الماضي وتعلّم كيف يتعامل معه، ينتقل الدماغ إلى آليّة اتّخاذ القرارات الانعكاسيّة السريعة والحدسيّة.

اتخاذ القرارات التأملي

الطريق السريع العفوي في اتخاذ القرار قد لا يكون الخيار الصائب دائمًا. عندما تواجهك مواقف جديدة ومعقّدة فمن الأفضل أن تٌعالج المعطيات منطقيًّا وتحليليًّا ومنهجيًّا. يجب على المدير أن يفكّر فيما إذا كان الموقف لا يتطلّب استجابة سريعًا "غريزيًّا" بل يحتاج للتفكير الجدّيّ قبل اتّخاذ القرار. في هذا النوع من آليّات اتخاذ القرار من الضروري ضبط المشاعر بشكل جيّد، لأنّ المشاعر القويّة قد تُصعّب من معالجة المعلومات بعقلانيّة.

يميّز المديرون الناجحون آثار المشاعر ويعلمون أنّ عليهم الانتظار لتهدأ مشاعرهم قبل أن يتصرّفوا ويشرعوا في اتخاذ قرارهم. المشاعر القويّة -إيجابيّةً كانت أم سلبيّة- تميل لأن تقودنا تجاه الطريق السهل الانعكاسيّ في اتّخاذ القرار. ألم تقم يومًا بشراء "عفوي ومتسرّع" لأحد المُنتجات الباهظة جعلك تندم عليه لاحقًا؟ هذا يعبّر عن مدى التأثير الذي تمتلكه عواطفنا على قراراتنا؛ لذلك فإن القرارات الكبرى لا يجب اتّخاذها اندفاعيًّا وعفويًّا بل تأمّليًّا، بعد جولةٍ طويلة من التفكير والدراسة والتمحيص.

دور المشاعر

لا يعني وعينا بدور المشاعر في اتّخاذ القرارات أنّه يجب علينا تجاهلها. قد تكون المشاعر مؤشّرات قويّة على ما يجب علينا فعله، وخاصّةً في المواقف التي تتطلّب اتخاذ قرارات ذات أبعاد أخلاقيّة وتؤثّر على الآخرين. يمكنك أن تقرأ المزيد عن هذا النوع من اتّخاذ القرار في مقالة (تطبيق الأخلاقيّات) لاحقًا في السلسلة. يمكن للتفكير بشعورنا تجاه الخيارات المطروحة أمامنا، وادراكنا لسبب ميلنا أو شعورنا بالراحة تجاه قرار محدّد دون سواه، يمكن لذلك أن يحسّن من اتّخاذنا للقرارات تحسينًا كبيرًا. يعتمد اتّخاذ القرار الفعّال حينها على كلّ من المنطق مع المشاعر. ولهذا السبب أصبح مفهوم الذكاء العاطفيّ مشهورًا كخاصّيّة لكفاءة المديرين. الذكاء العاطفيّ (emotional intelligence) هو القدرة على تمييز مشاعر الفرد والآخرين وفهمها والاهتمام بها وإدارتها، ويتضمّن الوعي الذاتي والتحكّم بالذات، وهي تمثّل التأرجح بين العاطفة والمنطق لكي نفهم ونحلّل مشاعرنا بحيث نتحكّم بها كما يجب لإدارتها بما يناسب الموقف. يتضمّن الذكاء العاطفيّ أيضًا التعاطف، وهي القدرة على فهم مشاعر الآخرين (وإبداء الاهتمام تجاهها).

أخيرًا يتضمّن الذكاء العاطفيّ المهارات الاجتماعيّة لإدارة الجوانب العاطفيّة في العلاقات مع الآخرين. يمكن للمديرين المدركين لمشاعرهم أن يفكّروا بما تعنيه مشاعرهم في سياق موقف معيّن وأن يستخدموا تلك المعلومات لإرشادهم في اتّخاذ القرار، كما يمكن لهؤلاء المديرين أن يستخدموا هذه المعلومات لمساعدة المجموعات في العمل بكفاءة أكبر والانخراط في اتّخاذ قرارات جماعيّة أفضل. على الرغم من أن بعض الأشخاص يمتلكون ذكاءً عاطفيًّا فطريًّا، إلا أنه مهارةٌ يمكنّنا تطويرها وتحسينها عبر الممارسة. يُعرض نموذج للذكاء العاطفي في الشكل 6.2.

Emotional Intelligence.png

الشكل 6.2 الذكاء العاطفيّ (حقوق النشر: جامعة Rice، منظّمة OpenStax، مرخّصة برخصة المشاع الإبداعيّ CC-BY 4.0).

ترجمة -وبتصرف- للفصل (Perception and Managerial Decision Making) من كتاب Organizational Behavior


تفاعل الأعضاء

أفضل التعليقات

لا توجد أية تعليقات بعد



انضم إلى النقاش

يمكنك أن تنشر الآن وتسجل لاحقًا. إذا كان لديك حساب، فسجل الدخول الآن لتنشر باسم حسابك.

زائر
أضف تعليق

×   لقد أضفت محتوى بخط أو تنسيق مختلف.   Restore formatting

  Only 75 emoji are allowed.

×   Your link has been automatically embedded.   Display as a link instead

×   جرى استعادة المحتوى السابق..   امسح المحرر

×   You cannot paste images directly. Upload or insert images from URL.


×
×
  • أضف...