اذهب إلى المحتوى

الآثار المؤسساتية على الشدة


يمان نعساني

سننظر الآن إلى العوامل المؤثّرة على الإحباط والقلق والمُحفّزة لها. سنُقدّم نموذجًا عامًا للشِدّة، بما في ذلك أسبابها الرئيسية ونتائجها. سوف نستكشف بعد ذلك الآليّات التي يتعامل من خلالها الموظفون ومديروهم مع الضغوط في المنظّمات أو يقللون من وقوعها. يعتمد النموذج المعروض هنا بشكل كبير على دراسات وأبحاث علماء النفس الاجتماعي في معهد البحوث الاجتماعية بجامعة ميشيغان، بما في ذلك جون فرينش (John French) روبرت كابلان (Robert Caplan) روبرت خان (Robert Khan) ودانيال كاتز (Daniel Katz). يحدد النموذج المُقترح مصدرين رئيسيّين للشِدّة والتوتر، وهما: المصادر المؤسّساتيّة والمصادر الفرديّة، كما يأخذ هذا النموذج في الحسبان الآثار المعتدلة للدعم الاجتماعيّ وقدرة التحمّل. تظهر هذه التأثيرات في الشكل 18.3.

Exhibit 18.3.png

الشكل 18.3 الآثار الكبرى للشِدّة المتعلّقة بالعمل (حقوق النشر: جامعة Rice، منظّمة OpenStax، مرخّصة برخصة المشاع الإبداعيّ CC-BY 4.0).

سنبدأ بالتأثيرات المؤسّساتيّة على الشِدّة. على الرغم من أنّ العديد من العوامل في مكان العمل تؤثّر على مدى تعرّض الناس للشِدّة، فقد أظهرت الدراسات ذات الصلة أنّ أربعة من هذه العوامل قويّة بشكل خاصّ، وهي (1) الاختلافات المهنيّة (2) إبهام الدور (3) تضارب الأدوار (4) الحِمل الزائد للدور أو قلّة المهام. سننظر في كلّ من هذه العوامل كلًّا على حدا.

الاختلافات المهنية

التوتر والشِدّة في العمل منتشرتان في مجتمعنا المعاصر ويمكن ملاحظة التوتر في طائفةٍ واسعة ومتنوعة من الوظائف. لنأخذ على سبيل المثال الاقتباسات التالية من المقابلات مع العاملين. الأوّل من سائق حافلة:

اقتباس

"هناك توتّر في هذا العمل. في بعض الأحيان يزعجك اقترابك من حادث مروريّ وقد تنجو منه بمقدار شعرة لا أكثر. في بعض الأحيان قد تحصل على راكبٍ ساخطٍ يبدأ مشكلةً كبيرة معك. حركة المرور والزحام أيضًا لا تكاد تخلو من توترٍ كبير. شخص يزاحمك في الطريق أو يتوقّف أمام الحافلة. هناك الكثير من التوتر وراء ذلك… في معظم الأحيان عليك أن تسعى لتجنّب صدم السيّارات الأخرى. والنتجية أنك تُراكمُ كلَّ ذلك التوتر والإرهاق النفسي وتجلبه معك إلى المنزل. سيعاني معظم السائقين من البواسير ومشاكل في الكلى وما شابه ذلك. كان لدي حالة من القرحة بسبب هذه المهنة."

الاقتباس الثاني من محاسبة في أحد المصارف:

اقتباس

"في بعض الأيام عندما يُزعِجك شيء ما فإنّك تحمله معك بعد نهاية العمل.يُعكّر الكثير من المراجعين صفو يومك بأكمله بموقفٍ سلبي واحد. مثل الشخص الذي يدخل يقول: "سيارتي متوقفة في صفّ ثانٍ في الخارج. هلّا أسرعتي؟"… تريد أن تقول له حينها "مرحبًا، لماذا أوقفت سيارتك في صفّ ثانٍ؟ أستلومني الآن إن حصلت على مخالفة مروريّة لأنّك كنت غبيًا بما يكفي لتركها هناك؟" لكنك لا تستطيع قول ذلك. هذه إحدى المتاعب الّتي أصادفها. لا يمكنك قول أي شيء. العميل على حقّ دائمًا." توجد الشِدّة لدى العاملين في العديد من الوظائف مثل المساعدين الإداريين وعمال خطوط التجميع والمشرفين والنادلات والمديرين. يصعب حقيقةً العثور على وظيفة خالية من التوتر والشِدّة. فنحن نادرًا ما نتحدث عن أيّ الوظائف بلا ضغوط، بل نتحدث عن درجة أو حجم الضغط في كلّ وظيفة.

تؤثّر أدوار العمل التي يلعبها الأشخاص تأثيرًا كبيرًا على درجة معاناتهم من الشِدّة لا تتبع هذه الاختلافات الانقسام التقليدي بين العمال اليدويّين والموظّفين المكتبيّين. تُشير الأدلة المتاحة عمومًا إلى أنّ المهن ذات التوتر النفسي العالي هي تلك التي يكون شاغلو الوظائف فيها قليلي السيطرة على وظائفهم أو يعملون تحت ضغوط زمنية لا هوادة فيها أو تحت ظروف خطيرة أو يتحمّلون مسؤوليّات كبيرة (سواءً بشريّة أم ماليّة).

حاولت دراسة حديثة تحديد المهن الأكثر (والأقلّ) إجهادًا. ترد نتائج الدراسة في الجدول 18.1. كما هو موضّح، فإنّ المهن عالية الشِدّة (رجال الإطفاء وسائقو سيارات السباق وروّاد الفضاء) صُنّفت على أنها من أكثر المهن تسبّبًا للتوتر والشدّة النفسيّة كما ذُكِر. في حين أنّ المهن منخفضة الشِدّة (فنّي إصلاح الآلات الموسيقيّة وفنّي السجلات الطبيّة وأمينة المكتبة) ليست كذلك. يمكن بذلك استنتاج وجود مصدرٍ رئيسيّ للشِدّة العامّة ينبثق من طبيعة مهنة المرء نفسه.

الوظائف الأكثر والأقلّ إجهادًا
الأعلى إجهادًا مواقف ملائمة
1. رجل الإطفاء 1. فّني تصليح آلات موسيقيّة
2. سائق سيارة السباق 2. فنّي تصليح آلات صناعيّة
3. رائد الفضاء 3. فنّي سجلّات طبيّة
4. طبيب جرَاح 4. صيدليّ
5. لاعب كرّة قدم أمريكيّة محترف 5. مساعد طبيب
6. رجل شرطة في المدن 6. كاتب على الآلة الكاتبة
7. مقوّم العظام 7. أمين مكتبة
8. رجل شرطة في الولايات 8. عامل تنظيفات
9. مراقب ملاحة جويّة 9. محاسب
10. عمدة بلدة / رئيس بلديّة منطقة 10. سائق رافعة مشبكيّة
المصدر: مقتبس من The Jobs Rated Almanac by Les Krantz. 1988 Les Krantz.

الجدول 18.1 (حقوق النشر: جامعة Rice، منظّمة OpenStax، مرخّصة برخصة المشاع الإبداعيّ CC-BY 4.0).

درست إحصائيّة أخرى من قبل جمعية علم النفس الأمريكية أسباب الشِدّة. أظهرت نتائج الدراسة أن الأسباب الأكثر شيوعًا للشِدّة بين الموظّفين الإداريّين هي مُتطلّبات العمل غير المحدّدة (38%) والتدخّل في الوقت الشخصيّ (36%) وانعدام الأمن الوظيفيّ (33%) وعدم القدرة على المشاركة في صنع القرار (33%).

أخيرًا، وجدت دراسة أُجريت بين المديرين أنّهم يخضعون لضغوط كبيرة أيضًا ناشئة عن طبيعة العمل الإداريّ وتحدّياته المختلفة. إنّ مسبّبات الشِدّة الأشيع لدى المديرين تظهر في الجدول 18.2.

مسبّبات الشِدّة لدى المديرين
المسبّب مثال
إبهام الدور واجبات غير واضحة
تعارض الأدوار كون المدير مسؤولًا عن الغير ومرؤوسًا في ذات الوقت
فرط المهامّ الكثير من العمل في قليل من الوقت
توقّعات غير منطقيّة يُطالب المدير بفعل المستحيل
قرارات صعبة على المديرين اتّخاذ قرارات تؤثّر على مرؤوسيهم
فشل إداريّ فشل المدير في تحقيق النتائج المرجوّة
فشل المرؤوسين خذلان المرؤوسين لمديرهم في أداء مهامهم
المصدر: مقتبس من D. Zauderer and J. Fox, “Resiliency in the Face of Stress,” Management Solutions, November 1987, pp. 32–33.

الجدول 18.2 (حقوق النشر: جامعة Rice، منظّمة OpenStax، مرخّصة برخصة المشاع الإبداعيّ CC-BY 4.0).

تتراوح هذه المسبّبات من إبهام المهمّة وتضارب الأدوار إلى العمل الزائد وإمكانية الفشل. تمثّل المسؤولية عن الآخرين العامل ذو أثر الشِدّة والتوتر النفسيّ الأكبر على الإطلاق بالنسبة للمديرين. تشير الدراسات في الولايات المتحدّة وخارجها إلى أنّ المديرين والمشرفين يعانون من القرحات الهضميّة ومن ارتفاع ضغط الدم أكثر من مرؤوسيهم. وُجِد أنّ مسؤوليّة المديرين عن الآخرين لها تأثيرٌ أكبر على الشِدّة من المسؤولية عن العوامل الأخرى غير البشريّة، مثل الميزانيّات والمشاريع والمعّدات والممتلكات. كما قال فرينش وكابلان:

اقتباس

"إن كان هناك أيّ حقيقة في مقولة " أكبر عدوّ للإنسان هو نفسه "يمكن العثور عليها في هذه البيانات؛ فالمسؤولية التي يتحمّلها الأفراد الإداريين في المنظّمة عن أعضاء المنظّمة الآخرين تُشكّل سببَ الشِدة المؤسّساتيّة الأكبر وليست المسؤولية عن الجوانب غير الشخصية للمنظّمة".

وبالتالي فإنّ مهنة الشخص تمثّل سببًا رئيسيًّا للمشاكل المرتبطة بالتوتّر في العمل. تكمن المشكلة أيضًا في توقّعات المرء لدوره في المنظّمة. سنخوض في ثلاث عناصر مترابطة، وهي : إبهام الدور وتضارب الأدوار والحمل الزائد أو قلّة المهامّ.

إبهام الدور

أول ما سيُناقَش هنا هو إبهام الدور (role ambiguity). عندما يمتلك الأفراد معلومات غير كافية بشأن أدوارهم فإنّهم يعانون من إبهام الدور. لإبهام الدور عدة أشكال، بما في ذلك عدم معرفة مستوى الأداء المتوقّع وعدم معرفة كيفيّة تلبية تلك التوقعات وعدم معرفة عواقب التقصير الوظيفيّ. يؤثّر إبهام الدور خاصّةً على الوظائف الإدارية حيث تفتقر تعريفات الدور وتحديد المهام إلى الوضوح (راجع الجدول 18.2). على سبيل المثال، قد لا تمتلك مديرة الحسابات معايير الجودة والكمية المطلوبة الواجب على فسمها إنتاجه. إن عدم اليقين بشأن المستوى المطلوب لمعايير الأداء أو أهميّتهما النسبية يجعل التنبؤ بالنتائج (تقييمات الأداء أو زيادة الرواتب أو فرص الترقية) أمرًا صعبًا.

يساهم كلّ هذا في زيادة الضغط والشِدّة على المدير. يمكن أن يوجد إبهام الدور أيضًا بين الموظّفين غير الإداريّين. يوجد على سبيل المثال الأفراد الّذين يفشل مشرفوهم في تخصيص الوقت الكافي لتوضيح توقّعات الأدوار ومستوى الأداء المطلوب، الأمر الذي يجعلهم غير متأكّدين من أفضل طريقة للمساهمة في أهداف الإدارة والتنظيم والوصول إلى المطلوب.

ما مدى انتشار إبهام الدور في العمل؟ وُجِد -في دراستين إحصائيتين مستقلتين- أنّ 35% من أوّل عيّنة (عيّنة عشوائية من الموظّفين الذكور في الولايات المتّحدة) و 60% من العيّنة الأخرى (في المقام الأول علماء ومهندسون) عانوا من شكل من أشكال إبهام الدور. لذا نرى أنّ إبهام الدور ليس حدثًا فريدًا أو نادرًا في بيئات العمل المختلفة.

يؤدّي إبهام الدور إلى العديد من النتائج السلبيّة المتعلقة بالشِدّة. لخّص فرينش وكابلان نتائج دراستهما على النحو التالي:

إنّ إبهام الدور -الّذي يبدو أنّه منتشر على نطاق واسع- (1) ينتج عنه إجهاد نفسي واستياء ذاتي (2) ويؤدّي إلى سوء استغلال الموارد البشريّة (3) ويؤدّي إلى مشاعر مُتضاربة حول كيفية التعامل أو توجيه السلوك القويم مع مكان العمل.

وبعبارة أخرى، فإنّ إبهام الدور له نتائج بعيدة المدى تتجاوز الشِدّة، بما في ذلك معدّل دوران الموظّفين وغيابهم عن العمل وسوء التنسيق واستخدام الموارد البشريّة وزيادة تكاليف التشغيل بسبب عدم الكفاءة.

تجدر الإشارة إلى أنّ الجميع لا يستجيبون بالطريقة نفسها لإبهام الدور. وقد أظهرت الدراسات أن بعض الناس لديهم درجة أعلى من تحمّل الإبهام (tolerance for ambiguity) وهم أقلّ تأثرًا به (من حيث الشِدّة أو الأداء المنخفض أو الميل إلى ترك العمل) من أولئك ذوي التحمّل المنخفض له. يمكننا بذلك أن نرى مجدّدًا دور الفروق الفرديّة في التخفيف من آثار المؤثّرات البيئيّة على السلوك والأداء الفرديّ.

تضارب الأدوار

العامل الثاني المتعلق بالشِدّة هو تضارب الأدوار (role conflict). ويُعرّف بأنّه وجود مجموعتين (أو أكثر) من الضغوط أو التوقّعات في وقتٍ واحد، بحيث يؤدي الامتثال لأحدهما إلى عرقلة الامتثال الآخر. يحدث تضارب الأدوار مثلًا عندما يُوضع موظّف في موقف تُطلب فيه مطالب مُتناقضة منه. قد يجد عامل المصنع نفسه مثلًا في موقف يَطلبُ فيه المشرف إنتاجًا أكبر لكن مجموعة العمل تطالب في الوقت نفسه بتقييد الإنتاج. وبالمثل فإنّ السكرتير الذي يرفع تقاريره إلى أكثر من مُشرف قد يواجه نزاعًا حول أوّلويات العمل لكلّ مُشرف.

قدّم روبرت خان وزملاؤه في جامعة ميشيغان إحدى أشهر الدراسات حول تضارب الأدوار والشِدّة. حيث درس خان 53 مديرًا ومرؤوسيهم (ما مجموعه 381 شخصًا) ودرس طبيعة دور كل شخص وكيف أثّر في السلوك اللاحق. أثمرت هذه الدراسة الاستنتاجات التالية:

تؤدّي التوقّعات المتناقضة للدور إلى ضغوط متعارضة (تضارب الأدوار)؛ والّتي تولّد التأثيرات التالية على مشاعر الشخص المعنيّ: الصراعات الداخلية المكثّفة وزيادة التوتّر حول مختلف جوانب الوظيفة، بالإضافة إلى انخفاض الرضا عن الوظيفة وانخفاض الثقة في الرؤساء وفي المنظّمة ككلّ. يؤدّي الإجهاد الذي يعاني منه أولئك الأفراد في حالات الصراع إلى استجابات مختلفة وانسحاب اجتماعيّ ونفسيّ (انخفاض في التواصل) بينهم.

أخيرًا، يميل وجود التضارب في دور المرء إلى تقويض ردود فعله مع من حولها وإنتاج روابط ثقة واحترام هشّة. من الواضح تمامًا أن تضارب الأدوار مُنهك للفرد من الناحية العاطفيّة والشخصيّة. كما قد يكون مكلفًا للمنظمة الّتي تعتمد على التنسيق والتعاون الفعّالين داخل أجزائها وفيما بينها من أجل النجاح في سوق العمل.

توصلّت دراسات أخرى إلى نتائج مماثلة فيما يتعلق بالآثار الجانبيّة الخطيرة لتضارب الأدوار على الأفراد والمنظّمات. يجب أن نلاحظ من جديد بأنّ الاختلافات الشخصيّة قد تعمل على تخفيف تأثير تضارب الأدوار على الشِدّة. وُجِد تحديدًا أن الانطوائيّين والأشخاص الذين يفتقرون إلى المرونة الاجتماعيّة يستجيبون استجابةً سلبيّةً أكثر لتضارب الأدوار.

يجب أن يكون المديرون بأيّة حال على دراية بمشكلة تضارب الأدوار والبحث عن طرق تجنّب عواقبها وتداعياتها السلبيّة على المؤسسة. إحدى الطرق التي يمكن من خلالها تحقيق ذلك هي التأكد من عدم وضع المرؤوسين في مواقع مُتناقضة داخل المنظمة، بمعنى أنّه يجب أن يكون لدى المرؤوسين فكرةٌ واضحة عن توقّعات عمل المدير ولا يجب وضعهم في مواقف "ربح-خسارة" أبدًا.

الحمل الزائد أو الناقص

بالإضافة إلى تضارب الدور وإبهامه، فقد وُجد أيضًا وجود جانب ثالث يؤثّر على الشِدّة والتوتّر في العمل، ألا وهو مدى شعور الموظفين بالحمل المفرط عليهم أو شُحّ المهامّ. الحمل الزائد للأدوار (Role Overload) هو حالة يشعر فيها الأفراد بأنّه يُطلب منهم إنجاز أكثر ممّا يسمح لهم الوقت أو ما يفوق قدرتهم على القيام بالعمل. غالبًا ما يعاني الأفراد من الحمل الزائد للدور على شكل تضارب بين كميّة ونوعيّة الأداء المطلوب.

يتكون الحمل الزائد الكمّيّ عندما يكون هنالك مهامُّ عملٍ أكثر مما يمكن القيام به في فترة زمنية معيّنة (مثل محاسب يُطلب منه معالجة 1000 طلب في اليوم، في حين تتّسع قدرته ووقته لمعالجة 850 فقط). يمكن تصوّر الحمل الزائد على أنه سلسلة متصلة تتراوح بين القليل من العمل والكثير منه. من ناحية أخرى، يتكوّن الحمل الزائد للدور النوعيّ من طلب مهامّ تتجاوز مهارات الفرد وقدراته ومعرفته.

يمكن النظر له على أنه سلسلة متصلة تتراوح من العمل السهل للغاية إلى العمل الصعب للغاية. على سبيل المثال، المدير الذي يُطلب منه أن يزيد المبيعات وهو لا يدري ما هو سبب انخفاض المبيعات في المقام الأوّل، أو ما يجب فعله لزيادة المبيعات، هؤلاءُ الإداريين يمكن أن يواجهو زيادة في حمل الدور النوعي. من المهم أن نلاحظ أن كِلا حالتيّ زيادة الحمل الكمّيّة والنوعيّة تمثّلان سوء توافقٍ بين قدرات الموظف ومتطلّبات بيئة العمل. يحدث التوفيق الجيّد في أوامر العمل (في كلا نوعي الحمل، النوعي والكمّي) عندما تتوافق قدرات الفرد نسبيًّا مع متطلبات الوظيفة.

هناك أدلة على أن زيادة حمل الدور الكمّيّ والنوعيّ منتشران في بيئة العمل الحاليّة. تشير دراسة إلى أنّ ما بين 44% و73% من الموظّفين الإداريّين يعانون من شكل من أشكال الحمل الزائد. ما الذي يسبّب هذا الحمل الزائد؟ خلُص فرينش وكابلان - نتيجةَ سلسلةٍ من الدراسات- إلى أنّ العامل الرئيسي الذي يؤثّر على الحمل الزائد هو مُتطلّبات وحاجات الإنجاز العالية لدى العديد من المديرين. ترتبط الحاجة إلى الإنجاز ارتباطًا كبيرًا للغاية مع عدد ساعات العمل في الأسبوع ومع الحمل الزائد للدور. وبعبارة أخرى، يبدو أن سبب الحمل الزائد في كثيرٍ من الحالات مردّه دوافع ذاتيّة من قبل الفرد عينه.

وبالمقابل، ينبغي الاعتراف بمفهوم الحمل الناقص للدور (role underutilization) بدوره مسبّبًا للشِدّة والتوتر أيضًا في العمل. يحدث نقص استخدام الأدوار عندما يُسمح للموظفين باستخدام القليل فقط من مهاراتهم وقدراتهم، على الرغم من أنهم مُطالبون باستخدام مقدار أكبر أو بإمكانهم بذل جُهدٍ أكبر والحصول على رضا وظيفي أو نفسي أو مادي أكبر. السِمة الأكثر شيوعًا لنقص استخدام الدور هي الرتابة؛ أي عندما يؤدي العامل نفس المهمّة الروتينيّة (أو مجموعة المهامّ) مرارًا وتكرارًا. المواقف الأخرى التي تمثّل نقص الاستخدام تشمل الاعتماد الكلّي على الآلات لتحديد سرعة العمل. وقد وجدت العديد من الدراسات أن نقص الاستخدام يؤدّي إلى تدنّي احترام الذات وانخفاض الرضا عن الحياة وزيادة تواتر الشكاوى والأعراض العصبية.

ثَبُت أن كلًّا من حمل الدور الزائد والناقص يؤثّران على التفاعلات النفسيّة والفيزيولوجيّة للأفاد في عملهم. يوضّح الشكل 18.5 العلاقة (الممثّلة على شكل حرف U مقلوب) بين مدى استخدام الدور والشِدّة. يكون هناك أقلّ توتّر في العمل عندما تكون قدرات الموظف ومهاراته متوازنة مع متطلبات الوظيفة، كما هو موضّح في الشكل. هذه هي الحالة الّتي يكون فيها الأداء في أعلى مستوياته.

يجب أن يكون الموظّفون مندفعين للغاية ويجب أن يتمتّعوا بمستويات طاقة عالية وإدراك حادّ. ولُحسن الحظ فإن العديد من الجهود الحاليّة لإعادة تصميم الوظائف وتحسين جودة العمل تهدف إلى تقليل الحمل الزائد أو الناقص في مكان العمل وتحقيق توازن أفضل بين القدرات التي تمتلكها والمهارات المستخدمة في العمل. عندما يعاني الموظفون من نقص في الاستخدام سيُعانون من شعور عارمٍ بالملل وانخفاض الدافع واللامبالاة والاستهتار أو الغياب الوظيفي. في حين يمكن أن يؤدّي الحمل الزائد للدور إلى أعراض مثل الأرق والتهيّج وزيادة الأخطاء والتردّد وعدم الثقة بالنفس أثناء أداء المهام.

تمتلك العوامل الوظيفيّة وعوامل حمل الدور مجتمعةً تأثيرًا كبيرًا على إمكانيّة معناة الموظّف من مستويات شِدّة وتوتّر عالية أم لا. تمثّل مراقبة الملاحة الجويّة مثالًا على وظيفة تشكّل فيها المهنة وأدوارها المطلوبة ضغوطًا كبيرة. فكّر للحظة ما إذا كنت تريد الحصول على هذه الوظيفة.

Exhibit 18.5.png

الشكل 18.5 نتائج التحكّم الشخصيّ العالي (حقوق النشر: جامعة Rice، منظّمة OpenStax، مرخّصة برخصة المشاع الإبداعيّ CC-BY 4.0).

التوسع حول العالم

هل يفني اليابانيون أنفسهم في العمل؟

تعني كلمة "كاروشي" (Karoshi) اليابانيّة حرفيًّا الموت بسبب العمل الزائد. تشير التقديرات غير الرسميّة إلى أن عدد الّذين يموتون كل عام بسبب ذلك يساوي عدد الّذين يموتون بسبب حوادث المرور في اليابان سنويًّا (ما يقارب 10000 حالة وفاة سنويًّا). ارتفعت الادعاءات القانونيّة لحالات "كاروشي" في عام 2016 إلى مستوىً قياسيّ بلغ 1456 حالة وفقًا للأرقام الحكوميّة. أُبلِغ أيضًا عن ما يقرب 2000 حالة انتحار مرتبطة بالعمل. أحدث وفاة لموظّف ضجّةً إعلاميّة كبيرة في وسائل الإعلام، والتي حدثت في أكتوبر من عام 2017 للصحافّية ميوا سادو (Miwa Sado) البالغة من العمر 31 عامًا، وقبل ذلك قفزت ماتسوي تاكاهاشي (Matsui Takahashi) البالغة من العمر 24 عامًا -وهي موظّفة تعمل في وكالة دنتسو للإعلان (Dentsu advertising agency)- من سطح أحد المباني في الخامس والعشرين من ديسمبر عام 2015.

هاتان الحادثتان ليستا سوى اثنتين من العديد من الحوادث التي تحدث بتكرار في اليابان بسبب ثقافة العمل الإضافيّ والشِدّة داخل بيئة العمل. سجّلت كلًّا من هاتين المرأتين أكثر من 100 ساعة عمل إضافيّ على مدار شهر واحد. غالبًا ما تشمل أسباب الوفاة قصور القلب والسكتة الدماغية والانتحار بسبب الشِدّة وقلّة النوم والحرمان من النوم الناجم عن العمل الزائد. غرّدت تاكاهاشي على تويتر مرّةً: "الساعة الرابعة صباحًا الآن. يرتجف جسدي، سأموت. أنا متعبة جدًّا." استقال رئيس (Dentsu) من منصبه بعد وفاتها بفترة وجيزة.

تشير العديد من التقارير إلى أنّ مراجعات الأداء تأتي سلبيّةً لمن لا يعمل كثيرًا من الوقت الإضافيّ، في حين يقترح البعض الآخر أن الموظّفين يجب أن يسعوا دائمًا لترك انطباعات جيّدة لدى رؤسائهم. ويُعدٌّ البقاء متأخّرًا أو العمل الإضافيّ بمثابة ولاء لوظائفهم وشركاتهم.

خَطَت الحكومة اليابانيّة خطوات واسعة مُذ تلك الحادثتين لتطبيق سياسات للمساعدة على محاربة ظاهرة "كاروشي". إحدى المحاولات التي نُفِّذت في عام 2016 هي خطة (Premium Friday) وتضمّنت السماح للعمّال اليابانيّين بفرصة المغادرة الساعة 3 مساءً في يوم الجمعة الأخير من كل شهر. لقد جعل هذا بعض الموظفين أكثر انشغالاً؛ لأنّ بعض الشركات نظّمت خططها الماليّة الشهريّة لتحقيق أهداف المبيعات في فترة ما قبل نهاية الشهر. وقد لوحظ نجاح ضئيل فقط من هذه المبادرة.

أجبرت إحدى الشركات الرائدة في خدمات تكنولوجيا المعلومات في طوكيو الموظّفين على ارتداء قبّعات أرجوانيّة يوم الأربعاء الثالث من الشهر إذا عملوا لوقت متأخّر، وهو أسلوب جريء ومرئي للغاية لبيان أنّ "العمل المتأخّر ليس شيئًا جميلًا". نجح هذا الأسلوب المُحرِج ممّا قلّل العمل الإضافيّ بنسبة 50% في الشركة. نفّذت بعض الشركات تغييرات فرديّة مثل عروض الإفطار والسماح بإجازة حسب الحاجة.

سيستغرق تغيير ثقافة العمل اليابانيّة بعض الوقت. وعلى الرغم من أنّ خطوات التغييرات الصغيرة هذه لم يكن لها وقعٌ كبير حتى الآن، إلّا أّن هذه الخطط الرامية لتقليل الإجهاد والتوتّر الوظيفي آخذة في الاتساع، وأصبحت أماكن العمل أكثر وعيًا بالحاجة إلى تغييرات جذريّة في السياسة لمواجهة مشكلة الشِدّة المتزايدة في مكان العمل.

Exhibit 18.4.png

الشكل 18.4 متتاليّة الحمل المفرط والناقص في العمل المصدر: مقتبسة من Behavior, Structure, Processes 14th edition by James L. Gibson, John M. Ivancevich, and Robert Konopaske, McGraw Hill, 2013. (حقوق النشر: جامعة Rice، منظّمة OpenStax، مرخّصة برخصة المشاع الإبداعيّ CC-BY 4.0).

ترجمة -وبتصرف- للفصل (Stress and Well Being) من كتاب Organizational Behavior


تفاعل الأعضاء

أفضل التعليقات

لا توجد أية تعليقات بعد



انضم إلى النقاش

يمكنك أن تنشر الآن وتسجل لاحقًا. إذا كان لديك حساب، فسجل الدخول الآن لتنشر باسم حسابك.

زائر
أضف تعليق

×   لقد أضفت محتوى بخط أو تنسيق مختلف.   Restore formatting

  Only 75 emoji are allowed.

×   Your link has been automatically embedded.   Display as a link instead

×   جرى استعادة المحتوى السابق..   امسح المحرر

×   You cannot paste images directly. Upload or insert images from URL.


×
×
  • أضف...