أصبحت الشركات مؤخرًا تولي المزيد من الانتباه للمصادر المفتوحة. كان ثمَّة خطرٌ حقيقيٌ منذ عشرة أعوام يتمثَّل في توسيع «مايكروسوفت» لاحتكارها ليشمل الخوادم؛ يبدو من السليم القول الآن إن المصادر المفتوحة قد منعت حدوث ذلك. إذ وجد مسحٌ حديث أن 52% من الشركات تستبدل خوادم «لينكس» بخوادم «مايكروسوفت».(1)
أعتقد أن الأهم من ذلك هو أي 52% من الشركات تفعل ذلك. على من يقترح تشغيل «ويندوز» على الخوادم في هذه المرحلة أن يشرح ما يعرفه عن الخوادم ولا يعرفه كل من «غوغل»، و«ياهو»، و«أمازون».
ولكن الأمر الأكبر الذي على عالم الأعمال أن يتعلَّمه من المصادر المفتوحة لا يتعلق بـ«لينكس» أو «فيرفكس»، وإنما بالقوى التي أنتجتهما؛ إذ ستؤثر تلك القوى في نهاية الأمر على ما هو أكثر بكثير من أي برنامج تستخدم.
ربما نتمكَّن من فهم تلك القوى الأساسية من خلال الربط بين المصادر المفتوحة والتدوين الإلكتروني؛ فهما يتشاركان في الكثير من الأمور كما قد لاحظتَ على الأرجح.
إن التدوين الإلكتروني، مثل المصدر المفتوح، هو أمرٌ يفعله الناس بأنفسهم مجانًا لأنهم يستمتعون به. ويتنافس المدوِّنون الإلكترونيون، مثل قراصنة المصادر المفتوحة، مع من يعملون من أجل المال، وغالبًا ما يفوزون. كما أن طريقة كل منهما في ضمان الجودة واحدة؛ وهي الداروينية. تضمن الشركات الجودة بقواعد لمنع الموظَّفين من الإخفاق، ولكن لا تكون ثمَّة حاجة إلى ذلك عندما يستطيع الجمهور التواصل مع بعضه البعض. فالناس ينتجون ما يرغبون فيه أيًا ما كان؛ وتنتشر الأشياء الجيدة بينما تتعرض السيئة للتجاهل، وفي الحالتين يساعد تقييم الجمهور على التطور إلى الأفضل.
من العوامل المشتركة الأخرى بين التدوين الإلكتروني والمصدر المفتوح هو الإنترنت. لطالما رغب الناس في القيام بأعمالٍ رائعةٍ مجانًا، ولكن قبل ظهور الإنترنت كان من الأصعب الوصول لجمهورٍ أو التعاون في مشاريع.
الهواة
أعتقد أن المبدأ الجديد الأهم الذي على عالم الأعمال تعلُّمه أن الناس يعملون بجِدٍ أكبر على الأشياء التي يحبونها، ليس ذلك جديدًا لأي شخصٍ، فكيف أزعم أن على عالم الأعمال تعلُّمه؟ عندما أقول أن عالم الأعمال لا يعرف ذلك، أعني أن بنية عالم الأعمال لا تعكسه.
ما زال عالم الأعمال يعكس نموذجًا أقدم، مُمثَّلًا في الكلمة الفرنسية travailler التي تعني «العمل»؛ فشبيهتها في اللغة الانجليزية كلمة travail والتي تعني «التعذيب».(2)
ويتضح أن هذه ليست آخر كلمة متعلقة بالعمل؛ فكلما ازدادت المجتمعات غنىً، عرفَت شيئًا عن العمل يشبه كثيرًا ما تعرفه عن النظام الغذائي. نعلم أن أكثر الأنظمة الغذائية صحةً هو ذلك الذي اضطر أسلافنا الفلاحين إلى تناوله لأنهم كانوا فقراء. فالبطالة، مثلها مثل طعام الأغنياء، لا تبدو مرغوبةً سوى عندما لا تحصل على قدرٍ كافٍ منها. أعتقد أننا مُهيأون للعمل، تمامًا كما أننا مهيأون لتناول قدرٍ محددٍ من الألياف، وتتوعَّك صحتنا إن لم نفعل.
هناك اسم يُطلق على أولئك الذين يعملون لأنهم يحبون العمل؛ الهُواة. تحمل الكلمة الآن دلالةً سيئةً للغاية لدرجة أننا ننسى اشتقاقها، برغم أنه أمام أعيننا. كانت كلمة «هاوٍ» في الأصل مجامِلةً، ولكن كان الاتجاه السائد في القرن العشرين أن يكون المرء احترافيًا؛ وهو ما لا يكون عليه «الهواة» بحسب التعريف.
لذا تفاجأ عالم الأعمال كثيرًا بالدرس الذي لقَّنه إياه المصدر المفتوح؛ وهو أن من يعملون لأنهم يحبون ما يفعلون غالبًا ما يتفوقون على أولئك الذين يعملون لأجل المال. فالمستخدمون لا ينتقلون من استخدام متصفح إكسبلورر لاستخدام متصفح فيرفكس لأنهم يريدون اختراق المصدر، ولكن لأنه متصفحٌ أفضل.
ليس الأمر أن «مايكروسوفت» لا تحاول، فهي تعرف أن التحكم في المتصفح هو أحد المفاتيح الرئيسية للإبقاء على الاحتكار، ولكن المشكلة هي ذات التي تواجهها في أنظمة التشغيل؛ أنها لا تستطيع دفع ما يكفي من المال للناس لينشئوا شيئًا أفضل مما قد تنشئه مجموعةٌ من القراصنة الشغوفين مجانًا.
أشك أن الاحترافية كانت دائمًا مُبالغًا في تقديرها؛ ليس بالمعنى الحرفي لها فقط وهو العمل من أجل المال، وإنما أيضًا بالدلالات المرتبطة بها مثل الرسمية والانفصال. أعتقد أن الاحترافية -بقدر ما كانت ستبدو مستحيلة في عام، لنقُل، 1970- كانت موضة بدرجةٍ كبيرة، مدفوعةً بالظروف التي تصادف وجودها في القرن العشرين.
كان أحد أقوى تلك الظروف وجود «القنوات»، وكان يُستخدم المصطلح نفسه لكلٍ من المنتجات والمعلومات؛ فكانت هناك قنوات توزيع، وقنوات تليفزيونية وإذاعية.
كان ضيق مثل تلك القنوات هو ما جعل الاحترافيين يبدون أفضل من الهواة، كانت هناك وظائف خالية قليلة للصحفيين المحترفين على سبيل المثال، ولذا ضمنت المنافسة أن يكون الصحفيون العاديون جيدين نوعًا ما. بينما كان أي شخص يمكنه التعبير عن آرائه في الأحداث الجارية في إحدى الحانات، وهكذا كان الشخص العادي الذي يعبر عن آرائه في إحدى الحانات يبدو أحمقًا مقارنةً بالصحفي الذي يكتب عن الموضوع.
إن الحاجز أمام نشر أفكارك على الإنترنت أقل انخفاضًا، فليس عليك أن تبتاع شرابًا، كما أنه مسموح للأطفال بالمشاركة. ينشر الملايين من الناس كتاباتهم على الإنترنت، ومتوسط مستوى ما يكتبونه ليس جيدًا للغاية كما قد تتوقع، مما أدى ببعض العاملين في الإعلام أن يستنتجوا أن المدونات الإلكترونية لا تمثل تهديدًا كبيرًا، أن المدونات الإلكترونية مجرد موضة.
إن الموضة في الحقيقة هي كلمة «مدونة إلكترونية»؛ على الأقل على النحو الذي يستخدمها به الإعلام الآن، فمن يعنينه بكلمة «مدوِّن» ليس من ينشر في صيغة مدونة إلكترونية، وإنما أي شخص ينشر على الإنترنت. ستصبح تلك مشكلةً عندما يصبح الإنترنت هو الوسيلة الاعتيادية للنشر، لذا أود أن أقترح كلمةً بديلةً لمن ينشر على الإنترنت، ماذا عن كلمة «كاتب»؟
هؤلاء العاملون في الإعلام المطبوع الذين يستبعدون الكتابة على الإنترنت بسبب جودتها العادية المنخفضة غافلون عن نقطةٍ هامةٍ؛ هي أن لا أحد يقرأ مدونةٍ عادية. في عالم القنوات القديم، كان للحديث عن الجودة العادية أهمية؛ لأن هذا ما كنت ستحصل عليه سواء أعجبك أم لم يعجبك. ولكن الآن يمكنك القراءة لأي كاتبٍ تريد، ولذا فإن الجودة العادية للكتابة على الإنترنت ليست ما ينافسه الإعلام المطبوع، وهو يخسر، مثل «مايكروسوفت».
أعلم ذلك من خبرتي الخاصة باعتباري قارئًا، فبرغم أن معظم الإصدارات المطبوعة متاحة إلكترونيًا، إلا أنني أقرأ مقالين أو ثلاث مقالات على الأرجح على المواقع الشخصية في مقابل كل كاتبٍ أقرأ له على موقع مجلةٍ أو صحيفة.
وعندما أقرأ مواضيع صحيفة نيويورك تايمز على سبيل المثال، لا أصل إليها عبر الصفحة الرئيسية للصحيفة أبدًا، وإنما أجد معظمها من خلال اواقع تجميع الأخبار؛ مثل أخبار «غوغل» أو «سلاش دوت» أو «ديليشوس»، توضح مواقع تجميع الأخبار أن بإمكانك الحصول على ما هو أفضل كثيرًا من القنوات. الصفحة الرئيسية لصحيفة «نيويورك تايمز» عبارة عن قائمةٍ بمقالاتٍ كتبها أشخاص يعملون لصالح «نيويورك تايمز»، أما موقع «ديليشوس» فهو عبارة عن قائمةٍ بمقالاتٍ مثيرة للاهتمام، ولم تُكن لتلاحظ مدى قِلّة تداخل الاثنين إلا الآن بعد أن أمكنك رؤيتهما جنبًا إلى جنب.
إن معظم المقالات في الإعلام المطبوع مملة، مثل أن الرئيس لاحظ أن أغلبية الناخبين يعتقدون الآن أن غزو العراق كان خطأً، ومن ثم يُلقي خطابًا للأمة ليولِّد دعمًا. ما الأمر المثير في ذلك؟ أنا لم أسمع الخطاب ولكن بإمكاني على الأرجح أن أخبرك ما قال تمامًا. فخطبة مثل هذه ليست خبرًا؛ ليس فيها ثمَّة جديد. (3)
كما أنه ليس هناك جديدًا في معظم الأخبار عن الحوادث - باستثناء الأسماء والأماكن -، مثل اختطاف طفلٍ، أو وجود إعصار، أو غرق عبَّارة، أو عض قرشٍ لشخص، أو ارتطام طائرة صغيرة. ماذا عرفت عن العالم من تلك القصص؟ لا شيء على الإطلاق، فهي نقاط بيانات بعيدة، وما يجعلها جذابة يجعلها كذلك غير ذات صلة بنا.
وكذلك في مجال البرامج، فعندما ينتج المحترفون مثل ذلك الهراء، لا يكون مفاجئًا أن يُبلي الهواة أفضل منهم. القنوات هي ما تميتك وتحييك؛ إذا اعتمدت على احتكار الأقلية ستغرق في عاداتٍ سيئة من الصعب التغلب عليها عندما تجد أمامك منافسًا فجأةً. (4)
أماكن العمل
هناك أمر آخر يتشارك فيه كلٌ من المدونات والمصادر المفتوحة؛ وهو أن من يصنعهم عادةً أشخاص يعملون من المنزل، قد لا يبدو ذلك مفاجئًا ولكن عليه أن يكون كذلك. فهو مماثل لإسقاط طائرة مصنوعة في المنزل لطائرة F-18. تنفق الشركات الملايين لبناء مبانٍ للمكاتب لغرضٍ واحدٍ فقط؛ أن تكون مكانًا للعمل، ومع ذلك ينتهي الأمر بكون من يعملون في منازلهم الخاصة – والتي ليست مُعدة لتكون أماكن للعمل - أكثر إنتاجيةً.
يثبت ذلك أمرًا قد توقعه العديد منا، أن المكتب العادي مكانٌ تعيس لا يصلح للانتهاء من العمل، والكثير مما يجعل المكاتب سيئة هو الصفات التي نربطها بالاحترافية. فمن المفترض أن يوحي عُقم المكاتب بالفعالية، ولكن الإيحاء بالفعالية يختلف عن تحقق الفعالية.
إن الجو العام لمكان العمل العادي يمثل للإنتاجية ما تمثله ألسنة اللهب المرسومة على جانب السيارة للسرعة، وليس مظهر المكاتب فقط هو الكئيب، وإنما طريقة تصرف الناس أيضًا سيئة بنفس القدر.
تختلف الأمور عن ذلك في الشركات الناشئة، غالبًا ما تبدأ الشركة في شقةٍ، ويمتلك أصحابه مجموعةٍ من الأثاث القديم بدلًا من المكاتب المتماثلة البيج، ويعملون في أوقاتٍ غريبة ويرتدون ملابس غير رسمية على الإطلاق. يتصفحون ما يرغبون في تصفحه على الإنترنت دون القلق بشأن ما إذا كان «ملائمًا لمكان العمل»، وينتشر المزاح بدلًا من لغة المكتب الكيِّسة البشوش. أتعرف؟ ستكون الشركة في هذه المرحلة على الأرجح في أكثر حالاتها إنتاجيةً على الإطلاق.
ربما الأمر ليس صدفة، ربما بعض جوانب الاحترافية بالفعل خسارة صافية.
أرى أن الجانب الأكثر إحباطًا في العمل التقليدي بالمكتب أنك من المفترض أن تكون هناك في أوقاتٍ محددة، عادةً ما يكون هناك القليل من الأشخاص في الشركة الذي عليهم فعلًا الذهاب في أوقاتٍ محددة، ولكن سبب عمل معظم الموظفين لساعاتٍ محددة أن الشركة لا تستطيع قياس إنتاجيتهم.
إن الفكرة الأساسية وراء ساعات العمل هي أنك إذا لم تكن تستطيع حمل الناس على العمل، فبإمكانك أن تمنعهم عن الاستمتاع على الأقل. إذا كان الموظفون ملزمين بالتواجد في المبنى لعددٍ محددٍ من الساعات في اليوم، وممنوعين من القيام بأي شيء غير متعلق بالعمل أثناء وجودهم هناك، فلابد أن يعملوا إذًا، من الناحية النظرية. أما من الناحية العملية فهم يقضون الكثير من وقتهم في منطقة محايدة حيث لا يعملون ولا يستمتعون.
إذا كان بإمكانك قياس كم العمل الذي قام به الموظفون فلن تحتاج الكثير من الشركات ساعات عمل ثابتة، فيمكنك القول فقط: هذا ما عليك فعله، افعله وقتما شئت أينما شئت، إذا كان عملك يتطلب الحديث مع موظفين آخرين بالشركة فربما تحتاج للتواجد هنا لفترةٍ ما، أما فيما عدا ذلك فلا يهمنا الأمر.
ربما يبدو ذلك حالمًا، ولكن هذا ما أخبرنا للناس الذين جاءوا للعمل في شركتنا، لم تكن هناك ساعات عمل ثابتة، ولم أذهب إلى الشركة قبل الساعة 11 صباحًا قط. ولكننا لم نكن نقول ذلك لنبدو كرماء، بل كنا نقول لهم: إذا عملتم هنا فنحن نتوقع أن تنتهوا من الكثير من الأعمال، فلا تحاولوا خداعنا بالتواجد هنا كثيرًا فقط.
إن مشكلة نموذج ساعات العمل ليست كونها محبِطة فقط، ولكن أن من يدَّعون أنهم يعملون يقاطعون من يعملون بالفعل. إنني مقتنعٌ أن نموذج ساعات العمل هو السبب الرئيسي لعقد المنظمات الضخمة العديد من الاجتماعات، تنجز المنظمات الضخمة القليل جدًا من العمل للفرد الواحد، ومع ذلك على كل هؤلاء الناس التواجد في مكان العمل لثماني ساعات على الأقل يوميًا. عندما يُبذَل الكثير من الوقت ولا يُنتج سوى القليل جدًا من الإنجازات فإن كفة أحدهما راجحة، والاجتماعات هي الآلية الرئيسة لإنجاز العمل الذي لم يُنجَز.
عملتُ لعامٍ واحدٍ في وظيفة عادية مواعيدها من التاسعة حتى الخامسة، وأذكر جيدًا الإحساس الغريب المريح الذي ينتاب المرء خلال الاجتماعات. كنت أعي جيدًا أنني أتلقى أجرًا مقابل البرمجة، بسبب الإبداع، بدا الأمر مذهلًا وكأن كانت هناك آلة على مكتبي تخرج دولارًا كل دقيقتين مهما كان ما أفعل، حتى عندما أكون في الحمّام! ولكن بما أن الآلة الخيالية كانت تعمل دائمًا، شعرتُ أن عليّ أن أعمل دائمًا، ولذا كانت الاجتماعات مريحة بصورةٍ رائعة، إذ كانت تُعتبر عملًا، مثل البرمجة تمامًا، إلا أنها كانت أسهل كثيرًا جدًا، فكان كل ما عليّ فعله هو أن تجلس وتبدو منتبهًا.
الاجتماعات كدواءٍ منوِّم له تأثير شبكي، وكذلك البريد الإلكتروني، ولكن على نطاقٍ أصغر. وبالإضافة إلى التكلفة المباشرة من حيث الوقت، هناك أيضًا التكلفة من حيث التجزئة؛ أي تقسيم يوم الموظفين إلى أجزاءٍ صغيرة للغاية لدرجة أنها لا تصبح مفيدة.
يمكنك أن ترى إلى أي مدى أصبحتَ معتمدًا على شيءٍ ما من خلال إزالته فجأة، لذا أقترح على الشركات الكبيرة إجراء التجربة التالية؛ حددوا يومًا تُمنَع فيه الاجتماعات، ويكون على كل شخص الجلوس أمام مكاتبهم طوال اليوم والعمل دون مقاطعةٍ على أشياء يمكنهم القيام بها دون الحديث لأي شخصٍ آخر. القليل من التواصل ضروري في معظم الوظائف، ولكنني متأكد أن العديد من الموظفين بإمكانهم العثور على أشياءٍ يمكنهم فعلها وحدهم لثماني ساعات. يمكنكم أن تطلقوا على هذا اليوم «يوم العمل».
المشكلة الأخرى في العمل المزيف أنه يبدو غالبًا أفضل من العمل الحقيقي. عندما أكتب أو أخترق شيئًا ما، أقضي في التفكير فقط وقتًا مماثلًا لما أقضيه في الكتابة فعلًا، وأقضي نصف الوقت جالسًا أتناول كوبًا من الشاي، أو أتجول في الحي. هذه مرحلة حاسمة – من هنا تنبع الأفكار - ومع ذلك أشعر بالذنب للقيام بذلك في معظم المكاتب عندما يبدو الآخرون جميعًا مشغولين.
من الصعب معرفة مدى سوء بعض الممارسات حتى تجد ما تقارنها به، وهذا أحد الأسباب التي تجعل المصادر المفتوحة، وحتى التدوين، هامين للغاية، فهم يروننا كيف يبدو العمل الحقيقي.
نحن نمول ثماني شركات ناشئة حاليًا، سألني صديقٌ عما سيفعلونه بشأن المكتب، وبدا متفاجئًا عندما أخبرته أننا نتوقع منهم أن يعملوا من أي مكانٍ يقيمون فيه، ولكننا لم نقترح ذلك لتوفير المال، وإنما اقترحناه لأننا نريد لبرامجهم أن تكون جيدة. العمل في مساحاتٍ رديئة غير رسمية أحد الأمور التي تقوم بها الشركات الناشئة على نحوٍ صحيح دون أن تدرك ذلك. بمجرد أن تدخل إلى المكتب، يبدأ كل من العمل والحياة في الافتراق عن بعضهما.
هذا أحد المباديء الرئيسة للاحترافية؛ من المفترض أن يكون كل من العمل والحياة منفصلان، ولكنني مقتنع أن ذلك الجزء خطأ.
المنهج التصاعدي
الدرس الكبير الثالث الذي يمكننا تعلمه من المصادر المفتوحة والتدوين الإلكتروني أن الأفكار يمكن أن تتصاعد من الأسفل، بدلًا من أن تنحدر من أعلى إلى أسفل. يعمل كلٌ من المصادر المفتوحة والتدوين الإلكتروني بمنهج تصاعدي يتحرَّك من أسفل إلى أعلى؛ فالناس يصنعون ما يرغبون فيه، وأفضل ما صنعوه هو ما يحظى بالانتشار.
هل يبدو ذلك مألوفًا؟ إنه مبدأ اقتصاد السوق. من سخرية القدر أن المصادر المفتوحة والمدونات الإلكترونية يمثلان اقتصاديات السوق برغم أنهما مجانيان، بينما تُدار معظم الشركات داخليًا مثل الدول الشيوعية رغم كل حديثها عن قيمة الأسواق الحرة.
هناك قوتان تدفعان التصميم معًا؛ الأفكار حول ما يجب فعله بعد ذلك، وتطبيق الجودة. كانت تلك القوتان تتدفقان من الأعلى في حقبة القنوات، فكان المحررون على سبيل المثال يُكلفون المراسلين بأخبارٍ ثم يحررون ما كتبه المراسلون.
توضح لنا المصادر المفتوحة والمدونات الإلكترونية أنه ليس على الأمور أن تعمل بتلك الطريقة، فالأفكار وحتى تطبيق الجودة قد يتدفقان من الأسفل إلى الأعلى، وفي الحالتين لا تكون النتائج مقبولة فقط، بل تكون أفضل! فالبرنامج مفتوح المصدر على سبيل المثال موثوق به لأنه مفتوح المصدر، إذ يمكن لأي شخصٍ أن يعثر على الأخطاء الموجودة فيه.
يحدث الأمر نفسه مع الكتابة، فكلما كنتُ أقترب من ميعاد النشر كنت أجد أنني قلقٌ للغاية بشأن المقالات في كتاب «Hackers & Painters» والتي لم تكن قد نُشِرَت إلكترونيًا من قبل. بمجرد أن يحصل مقالٌ ما على ألفي مشاهدةً أشعر بالثقة فيه إلى حدٍ معقول. أما تلك المقالات فكانت لها أرقام تقريبية أقل خضوعًا للفحص، فكنتُ أشعر وكأنني أصدر برنامجًا دون اختباره أولًا.
هكذا كان النشر قديمًا، كان محظوظًا من يجعل عشرة أشخاص يقرؤون مخطوطًا. ولكنني اعتدتُ جدًا على النشر الإلكتروني، حتى أن الطريقة القديمة أصبحت الآن غير موثوق بها بصورةٍ مقلقة، مثل الملاحة بواسطة الحساب لتعيين الموقع بعد أن تكون قد اعتدتَ على النظام العام لتحديد المواقع (GPS).
الأمر الآخر الذي يعجبني في النشر الإلكتروني أن بإمكان المرء كتابة ما يريد ونشره متى يريد، في وقتٍ سابق من هذا العام كتبتُ شيئًا بدا مناسبًا للنشر في مجلة، لذا أرسلته إلى محررٍ أعرفه، وبينما كنت أنتظر الرد من المجلة وجدتُ –لدهشتي- - أنني أتمنى أن ترفضه، كي أستطيع نشره على الإنترنت على الفور. إذا قبلته المجلة فلن يقرأه أحدٌ قبل أشهرٍ، وخلالها سأضطر إلى الجدال بشأن كل كلمة لكي أنقذ المقال من أن يشوهه محررٌ شاب في الخامسة والعشرين. (5)
يحب العديد من الموظفين صنع أشياء رائعة للشركات التي يعملون بها، ولكن غالبًا ما لا تسمح لهم الإدارة بذلك، كم منا قد سمع قصصًا عن موظفين يذهبون للإدارة ويقولون: «رجاءً دعونا نصنع لكم هذا الشيء لكي نجني لكم مالًا» وترفض الشركة؟ إن «ستيف ووزنياك» هو على الأرجح المثال الأشهر؛ وهو من أراد أساسًا صنع حواسب آلية صغيرة لشركته في ذلك الوقت HP»»، ورفضت عرضه. يُصنَّف ذلك على مقياس الأخطاء الحمقاء مع قبول شركة IBM لنسخة غير حصرية من نظام «DOS». ولكنني أعتقد أن هذا الأمر يحدث طوال الوقت، إلا أننا لا نسمع عنه عادةً لأنه لكي يثبت المرء كونه محقًا عليه أن يستقيل ويُنشء شركته الخاصة كما فعل «ووزنياك».
الشركات الناشئة
إذًا هذه هي الدروس الثلاث الكبرى التي أعتقد أن باستطاعة المصادر المفتوحة والتدوين الإلكتروني تلقينها لعالم الأعمال:
أن الناس يعملون بجِدٍ أكبر على الأشياء التي يحبونها؛
أن بيئة المكتب العادية غير مثمرة كثيرًا؛
أن المنهج التصاعدي من الأسفل إلى الأعلى غالبًا ما ينجح أكثر من المنهج الفوقي من الأعلى إلى الأسفل.
يمكنني أن أتخيل المديرين يقولون الآن: ما الذي يتحدث عنه هذا الرجل؟ بِمَ تفيدني معرفة أن المبرمجين الذين يعملون لصالحي سيكونون أكثر إنتاجيةً عندما يعملون من المنزل على مشاريعهم الخاصة؟ إنني بحاجة إلى وجودهم هنا ليعملوا على النسخة 3/2 من برنامجنا، وإلا لن ننهيها قبل تاريخ الإصدار.
وهذا صحيح، فالفائدة التي ستعود على مديرٍ محدد من القوى التي وصفتها هي تقريبًا صفر. عندما أقول أن عالم الأعمال يمكنه التعلم من المصادر المفتوحة، لا أقصد أي مجالٍ محددٍ من الأعمال، بل أعني أن عالم الأعمال يمكنه معرفة الظروف الجديدة تمامًا كما تفعل تجميعة الجينات. لا أزعم أن الشركات بإمكانها أن تصبح أكثر ذكاءً، بل أزعم فقط أن الشركات الغبية ستندثر.
إذًا كيف ستبدو الشركات عندما تستوعب دروس المصادر المفتوحة والتدوين الإلكتروني؟ أعتقد أن العقبة الكبرى التي تمنعنا من رؤية مستقبل الأعمال هي افتراض أن الناس الذين يعملون لصالحك عليهم أن يكونوا موظفين. ولكن فكِّر فيما يحدث تحت السطح؛ الشركة تمتلك مالًا، وتدفعه للموظف على أمل أن يصنع شيئًا يساوي أكثر مما دفعت له. حسنًا، هناك طرق أخرى لتنظيم تلك العلاقة، فبدلًا من دفع المال للشخصٍ على هيئة راتب، لِمَ لا تعطه إياه على هيئة استثمار؟ ثم بدلًا من أن يأتي إلى مكتبك للعمل على مشروعاتك، يمكنه العمل أينما يرغب على مشروعاته الخاصة.
ليست لدينا أي فكرة عمّا يمكننا فعله أفضل كثيرًا من العلاقة التقليدية بين الموظف وصاحب العمل، لأن القليل منا يعرفون أي بدائل. تتطور مثل تلك العادات ببُطء، ولكن ما زالت العلاقات بين أصحاب الأعمال والموظفين تحتفظ بجزءٍ كبيرٍ من سمات العلاقة بين السيد والحاشية. (6)
لا أحب أن أكون أي طرف من أطراف تلك العلاقة؛ فسأبذل قصارى جهدي لصالح العميل ولكنني أكره أن يخبرني رئيسٌ بما عليَّ فعله. كما أن من المحبط للغاية أن تكون رئيسًا، فمن الأسهل في نصف الأوقات أن تفعل الأشياء بنفسك بدلًا من أن تجعل أحدًا آخر يفعلها نيابةً عنك. أفضل أن أفعل أي شيءٍ تقريبًا على أن أُقدِّم تقييمًا للأداء أو أتلقَّى واحدًا.
وعلاوةً على الأصول غير الواعدة للتوظيف، فقد جمع الكثير من الغبار عبر السنين، فقائمة الأسئلة التي لا يمكنك طرحها في مقابلات الوظائف أصبحت الآن طويلة للغاية لدرجة أنني أفترض أنها لا نهائية، وعليك أن تسير على أطراف أصابعك داخل المكتب لكي لا يقول أحدٌ أو يفعل شيئًا قد يوقع الشركة فريسةً لدعوى قضائية، وأعانك الله إذا قررت فصل أحدهم.
ليس هناك ما يُظهر أن التوظيف ليس علاقة اقتصادية طبيعية بوضوحٍ أكثر من الشركات التي تُقاضَى بسبب فصل الموظفين، ففي علاقة اقتصادية بحتة تكون حرًا لفعل ما تشاء، إذا أردت التوقف عن شراء أنابيب فولاذية من أحد الموردين والبدء في شرائها من مُورِّدٍ آخر، ليس عليك توضيح السبب، ولا يستطيع أحد اتهامك بتغيير مُورِّد الأنابيب تعسفيًا. تستلزم العدالة نوعًا من الالتزام الأبوي الذي لا تستلزمه المعاملات بين المتكافئين.
تهدف معظم القيود القانونية على أصحاب العمل إلى حماية الموظفين، ولكن لا يمكن أن يكون هناك فعل بدون رد فعل مساوٍ له في القوة ومضاد له في الاتجاه، لا يمكنك أن تتوقع أن يتحمل أصحاب العمل نوعًا من المسئولية الأبوية تجاه الموظفين دون وضع الموظفين في مرتبة الأطفال، ويبدو هذا اتجاهًا سيئًا.
عندما تكون في مدينة كبيرة نسبيًا اذهب إلى مكتب البريد الرئيس وشاهد لغة جسد العاملين هناك، ستجدهم يتسمون بنفس الاستياء العابس الذي يتسم به الأطفال الذين يُجبَرون على فعل شيءٍ لا يرغبون في فعله. لقد انتزع اتحادهم زيادات في الأجور وقواعد للعمل كانت ستحسدهم عليها الأجيال السابقة من عمال البريد، ومع ذلك لا يبدون أكثر سعادةً بذلك. فمن المحبط أن يكون المرء طرفًا مستقبلًا من علاقة أبوية، مهما كانت الشروط مريحة، واسأل أي مراهقٍ عن ذلك.
أنا أرى عيوب علاقة أصحاب العمل بالموظفين لأنني كنتُ على طرفي علاقةٍ أفضل؛ علاقة المستثمر بالمؤسس، ولن أزعم أنها ليست مؤلمة. عندما كنتُ أدير شركة ناشئة كان التفكير في مستثمرينا يصيبني بالأرق، والآن بعد أن أصبحتُ مستثمرًا، فإن التفكير في شركاتنا الناشئة يصيبني بالأرق. ما يزال الألم المرتبط بأي مشكلةٍ أحاول حلها موجودًا، ولكن الألم يكون أقل عندما لا يمتزج بالاستياء.
شاركتُ، لسوء الحظ، فيما أصبح تجربةً ضابطة تثبت ذلك، فبعد أن اشترت شركة «ياهو» شركتنا الناشئة، ذهبتُ للعمل لديهم. كنتُ أقوم بنفس العمل بالضبط، إلا أن ذلك كان بوجود رؤساء، ومما أرعبني أنني بدأتُ أتصرف مثل الأطفال، فالموقف حفّز في جوانب كنت قد نسيتُ وجودها.
إن الميزة الكبيرة التي يتفوق بها الاستثمار على التوظيف كما توحي أمثلة المصادر المفتوحة والتدوين الإلكتروني، أن الناس الذين يعملون على مشاريعهم الخاصة يكونون أكثر إنتاجيةً بدرجةٍ هائلة، والشركة الناشئة هي مشروع المرء الخاص من ناحيتين كليهما هام؛ فهو مشروعه الخاص من الناحية الإبداعية، كما أنه مشروعه الخاص من الناحية الاقتصادية.
تُعد شركة «غوغل» مثالًا نادرًا على شركةٍ كبيرةٍ متناغمة مع القوى التي وصفتها، فقد حاولت بجِدٍ جعل مكاتبها أقل عُقمًا من المكاتب المكعبة الاعتيادية. وتمنح موظفيها الذين يقومون بعملٍ رائع منحًا كبيرةً من الأسهم ليكافئوا الشركة الناشئة، كما أنهم يدعون القراصنة يقضون 20% من وقتهم في مشروعاتهم الخاصة.
لِمَ لا تدع الناس يقضون وقتهم كاملًا في مشروعاتهم الخاص، وتمنحهم قيمة السوق الفعلية بدلًا من محاولة تقريب قيمة ما يصنعونه؟ هل هذا مستحيل؟ هذا هو في الحقيقة ما يفعله الرأسماليون المغامرون.
إذًا هل أزعم أن ليس هناك من سيعمل موظفًا بعد ذلك، أو أن على الجميع أن يؤسس شركة ناشئة؟ بالطبع لا، ولكن يمكن للمزيد من الناس أن يفعلوا ذلك. حتى هذه اللحظة يتخرج حتى أذكى الطلاب من الجامعة معتقدين أن عليهم الحصول على وظيفةٍ. إن ما يحتاجون إلى فعله في الحقيقة هو صنع شيءٍ قيِّم، والوظيفة طريقةٌ واحدة للقيام بذلك، ولكن الأفراد الأكثر طموحًا سيبلون أفضل إذا حصلوا على المال من مستثمرٍ بدلًا من صاحب عمل.
يميل القراصنة الإلكترونيون إلى الاعتقاد بأن الأعمال التجارية خاصة بحملة ماجستير إدارة الأعمال، ولكن ما تفعله في شركةٍ ناشئة ليس إدارة الأعمال، وإنما صنع العمل. والمرحلة الأولى من ذلك هي على الأغلب خلق المنتَج؛ أي الاختراق. وذلك هو الجزء الصعب، فصنع شيءٍ يحبه الناس أصعب كثيرًا من محاولة معرفة كيف تجني مالًا من شيءٍ يحبه الناس بالفعل.
هناك أمرٌ آخر يُبعد الناس عن تأسيس الشركات الناشئة؛ وهو المخاطرة، فالشخص الذي لديه أطفال وقرض عقاري عليه التفكير مليًا قبل فعل ذلك، ولكن معظم القراصنة الشباب ليس لديهم أي من ذلك.
وستستمتع بالأمر أكثر حتى إذا فشلت، كما يوحي مثال المصادر المفتوحة والتدوين الإلكتروني. فستعمل على مشروعك الخاص بدلًا من الذهاب إلى مكتبٍ ما والقيام بما يُملى عليك، ربما يكون هناك المزيد من الألم في شركتك الخاصة ولكنه لن يوجِعك بنفس القدر.
ربما يكون ذلك هو الأثر الأكبر للقوى الأساسية للمصادر المفتوحة والتدوين الإلكتروني على المدى البعيد؛ وهو التخلص أخيرًا من العلاقة الأبوية بين صاحب العمل والموظف، واستبدال علاقة اقتصادية بحتة بين متكافئين بها.
هذا المقال مأخوذ عن خطبةٍ في «مؤتمر المصدر المفتوح» (Oscon) لعام 2005
هوامش:
1: مسحٌ أجرته مؤسسة فورستر للأبحاث ونُشِر خبرًا رئيسيًا في عدد 31 يناير 2005 بمجلة «بيزنس نيوزويك». من الواضح أن البعض اعتقدوا أن على المرء تغيير الخادم لكي يستطيع تغيير نظام التشغيل.
2: وهي مشتقة من الكلمة اللاتينية tripalium؛ وهو أداة تعذيب تُدعى كذلك لأنها تتكون من ثلاث عُصيّ، لا أعرف كيف كانت تستخدم تلك العُصيّ. كلمة Travel لها نفس الجذر.
3: كانت ستصبح خبرًا أهم كثيرًا إذا كان الرئيس قد تلقى أسئلة مُرتجلة عبر إقامة مؤتمرٍ صحفي.
4: أحد مقاييس عدم كفاءة الصحف أن العديد منها ما زال يجبرك على التسجيل لكي تقرأ المواضيع، لم أجد بعد مدونةً تفعل ذلك.
5: لقد قبلت المجلةُ المقال ولكن استغرقني إرسال النسخة النهائية لهم وقتًا طويلًا، حتى أنني عندما فعلتُ ذلك كان القسم من المجلة الذي قبلوا المقال للنشر فيه قد اختفى بعد التجديد.
6: كلمة boss التي تعني «رئيس العمل» مشتقة من الكلمة الألمانية baas والتي تعني «السيد».
ترجمة -وبتصرّف- للمقال What Business Can Learn from Open Source لصاحبه بول جراهام (Paul Graham) مُؤسس حاضنة مشاريع واي كومبيناتور (Y Combinator). اقرأ المزيد من مقالات بول جراهام بالعربية
أفضل التعليقات
لا توجد أية تعليقات بعد
انضم إلى النقاش
يمكنك أن تنشر الآن وتسجل لاحقًا. إذا كان لديك حساب، فسجل الدخول الآن لتنشر باسم حسابك.