سنتعرف في هذا المقال من سلسلة مقالات مدخل إلى عالم الأعمال على كيفية تعزيز التجارة العالمية، مع ذكر أبرز الوسائل القانونية ومؤسسات التجارة الدولية البينية المخصصة لذلك.
المفاوضات التجارية، ومنظمة التجارة العالمية
تمثّل جولةُ المفاوضات التجارية المعروفة بجولة الأوروغواي، اتفاقيةً من شأنها تخفيف القيود التجارية على مستوى العالم، وقد جرى تبنّيها في العام 1994، ووقعت عليها 148 دولة حتى تاريخه، وقد خفضتِ اتفاقيةُ الأوروغواي -التي تعد أكثر الاتفاقات التجارية طموحًا- التعرفاتِ بمقدار الثلث على مستوى العالم، وهي خطوة يُتوقَّعُ أن تزيد الدخل العالمي بمقدار 235 مليار دولار سنويًا، ولعلَّ أكثر ما يلفت الانتباه في تلك الاتفاقية هو اعترافُها بوقائع عالمية جديدة؛ فلأول مرة تشملُ اتفاقيةٌ الخدماتِ، وحقوقَ الملكية الفكرية، وإجراءات الاستثمار المتعلقة بالتجارة مثل الرقابة على سعر الصرف.
واستكمالًا لجولة الأوروغواي، فقد بدأت جولة مفاوضاتٍ جديدة في العاصمة القطرية في العام 2011، وسميت جولة الدوحة التي لم تحرز سوى تقدُّمٍ طفيفٍ في دفع التجارة الدولية قُدُمًا، هذا وتعمل الدول المتقدمة على تخفيض الدعم الحكومي لقطاع الزراعة كما هو الحال في الولايات المتحدة، وأوروبا، واليابان، وتقول الدول الفقيرة إنّ من شأن الدعم الحكومي تحفيز الإنتاج الزائد، والذي بدوره يخفّض أسعار المنتجات الزراعية على مستوى العالم، ولأن السلع الزراعية تمثل الصادراتِ الرئيسة للدول النامية، فإن انخفاض أسعارها يعني أنها غير قادرة على المنافسة في السوق العالمية، ومن جهة أخرى، ترغب الولايات المتحدة، وأوروبا في تخفيض القيود التجارية فيما يخص الخدمات، والتصنيع، وقد كانت المحادثاتُ المستمرة محل انتقادٍ من قبل المتظاهرين الذين يدَّعونَ أن منظمة التجارة العالمية (WTO) تخدم مصالح الشركات المتعددة الجنسيات، وتهتم بتعزيز التجارة على حساب الحفاظ على البيئة، وأنها تعامل الدول الفقيرة بإجحاف.
وقد حلَّت منظمة التجارة العالمية محل الاتفاقية العامة للتعرفات، والتجارة (جات) التي أُبرمَت في العام 1948، والتي اشتملت على ثغراتٍ عديدة، مكَّنتِ الدولَ من الالتفاف على اتفاقات تخفيف القيود التجارية، أما اليوم، فعلى الأعضاء في منظمة التجارة العالمية الالتزام التام بجميع الاتفاقات التي عُقدت بموجب جولة الأوروغواي. كما أن لدى منظمة التجارة العالمية نظامَ تسويةِ منازعاتٍ فعالًا، يحدد الوقت الذي على يجب على الأطراف المتنازعة تسويةُ نزاعاتهم خلاله.
وقد برزت منظمة التجارة العالمية بوصفها المؤسسة الدولية الأقوى لتحرير التجارة، وتخفيف القيود المفروضة عليها، وتمتاز تلك المنظمة بأن شرط العضوية فيها يحتم على الدول الأطراف تخفيف القيود التجارية فيما بينها، أما الدول غير الأطراف فيها، فعليها التفاوض لإبرام اتفاقاتٍ فردية مع كل من شركائها التجاريين، وتعد الدول غير الأطراف في منظمة التجارة العالمية، قليلة جدًّا، ومنها: كوريا الشمالية، وتركمانستان، وإريتريا.
الصورة 3.4: تُعدّ شركة إيرباص، ومقرُّها مدينة تولوز الفرنسية، واحدة من الشركات الرائدة عالمًّا في مجال تصنيع طائراتٍ تجارية، ولديها منشآتُ تصميمٍ، وتصنيع في كل من أوروبا، واليابان، والصين، والولايات المتحدة، وتضمُّ تشكيلةُ الطائرات التي تملكها إيرباص اثنَي عشر طرازًا، تتراوح سعتها من 100 إلى 600 مقعد، وهي في تنافسٍ محموم مع شركة بوينغ الأمريكية الرائدة في مجال صناعة الطائرات. وبينَ الشركتين نزاعاتٌ قائمة، وتتعلق بالمساعدات الحكومية التي تتهم كل منهما الأخرى بتلقّيها.
لقد تنوعتِ النتائجُ التي خرجت بها الولايات المتحدة من تقديمها دعاوى إلى منظمة التجارة الدولية، حول النزاعات التي كانت طرفًا فيها، فحتى اليوم، ربحت أقل بقليل من نصف القضايا التي تقدمت بها أمام تلك المنظمة، كما أنها ربحت حوالي ثلث القضايا التي رفعتها ضدها دولٌ أخرى، ومن القضايا التي خسرتها مؤخرًا تلك التي ادعت فيها أن سمك التونة المستورد من المكسيك لا يراعي معايير "سلامة الدولفين" والتي تعني ألا يكونَ قد جرى قتلُ دلافين أثناء عملية اصطياد أسماك التونة، وقد أصدرت منظمة التجارة قرارها لمصلحة المكسيك، ومؤخرًا، رفعتِ الولايات المتحدة قضايا ضد أوروبا، والهند، وكوريا الجنوبية، وكندا، والأرجنتين. وقد تراوحت النزاعات من الممارسات الأوروبية المتعلقة بالطيران، إلى القيود التجارية الهندية التي تؤثر في مصنّعي السيارات الأمريكيين.
ومن أكبر النزاعات التي أُثيرت أمام منظمة التجارة الدولية؛ تلك التي كان طرفاها الاتحاد الأوروبي، والولايات المتحدة، إذِ ادعت فيه هذه الأخيرة أن أوروبا قدمت مساعدةً لشركة إيرباص بلغت 15 مليار دولار؛ لتطوير طائراتها، وادعى الاتحاد الأوروبي أن حكومة الولايات المتحدة قدمت 23 مليار دولار في شكل أبحاث عسكرية لصالح قطاع الطائرات، الخاص بشركة بوينغ، وأن ولاية واشنطن (التي تقع فيها مصانع شركة بوينغ) منحت تخفيضاتٍ ضريبية غير عادلة لتلك الشركة بلغت 3.2 مليار دولار.
البنك الدولي، وصندوق النقد الدولي
هناك مؤسستان ماليتان دوليتان تلعبان دورًا رئيسًا في تعزيز التجارة الدولية؛ الأولى: هي البنك الدولي الذي يمنح قروضًا منخفضة الفائدة للدول النامية، وفي الأصل، كان الهدف من تلك القروض مساعدة الدول المذكورة في إعمار بنيتها التحتية مثل الطرق، ومحطات توليد الطاقة، والمدارس، ومشروعات الصرف الصحي، والمستشفيات، أما اليوم، فيقدم البنك الدولي قروضًا لمساعدة الدول النامية على تخفيف أعباء ديونها، وعلى الدول إذا ما أرادتِ الحصولَ على قروض من البنك الدولي، التعهّدُ بتخفيف القيود التجارية، ودعم المشاريع الخاصة. وإلى جانب تقديمه القروض، يعد البنك الدولي مصدرًا للمشورة، والمعلومات بالنسبة للدول النامية، وقد منحتِ الولاياتُ المتحدةُ البنكَ الدولي الملايين لإنشاء قاعدة بيانات معرفية حول التغذية، وتحديد النسل، وهندسة البرمجيات، وتقديم منتجاتٍ عالية الجودة حول الأنظمة المحاسبية الأساسية.
والمؤسسة الثانية هي: صندوق النقد الدولي (IMF) الذي تأسس في العام 1945، أي بعد عام واحد من تأسيس البنك الدولي، وكان الغرض من إنشائه تعزيز التجارة عبر التعاون المالي، وتخفيف القيود التجارية بالتوازي مع ذلك، ويمنح صندوق النقد الدولي قروضًا قصيرة الأمد للدول غير القادرة على تحمل مصروفات ميزانياتها. ويمثل الصندوق بوصفه جهةً مُقرِضة، الملاذَ الأخير للدول التي تعاني من مشكلات مالية، وفي مقابل تلك القروض الإسعافية التي يقدمها الصندوق، تلتزم الدول التي تتلقى القروض، أمام الدول المُقرِضة الأعضاء في الصندوق، باتخاذ تدابير لمواجهة المشكلات التي كانتِ السببَ في أزماتها المالية، التي دفعتها إلى الاقتراض، ويمكن أن تتضمن تلك التدابيرُ تقليصًا للواردات، أو حتى تخفيضًا لقيمة عملتها.
وقد لا تجد بعض المشكلات المالية الدولية حلولًا سهلة لها، وأحد الخيارات المطروحة في مثل هذه الحالة، يكون عبر ضخِّ كثير من المال إلى صندوق النقد، وتزويده بالموارد اللازمة لتقديم الإعانات المالية للدول التي تعاني من تلك المشكلات، ومساعدتها في الوقوف على قدميها، وفعليًّا، فإنه يجري تحويل صندوق النقد الدولي إلى مقرض حقيقي، يمثل الملاذ الأخير للاقتصاد العالمي.
وتبرز مشكلةٌ -قد يقف خلفها الاتكالُ على صندوق النقد الدولي- تُعرَف ب مجازفة سوء النية (Moral Hazard)، إذ يَفترِضُ المستثمرون أن الصندوق سوف ينقذهم من المشكلات المالية، مما يشجعهم على المجازفة، أكثر فأكثر في الأسواق الناشئة، وقد يؤدي ذلك إلى الوقوع في أزماتٍ مالية أكبر في المستقبل.
نرجمة -وبتصرف- للفصل (Competing in the Global Marketplace) من كتاب introduction to business
أفضل التعليقات
انضم إلى النقاش
يمكنك أن تنشر الآن وتسجل لاحقًا. إذا كان لديك حساب، فسجل الدخول الآن لتنشر باسم حسابك.