اذهب إلى المحتوى

في مسعًى منها لتعزيز الأداء المؤسسي، وتحقيق أهدافها بعيدة المدى، تسعى بعضُ المؤسسات إلى إعادة تنظيم عملياتها التجارية وهندستها، لاستخدام تقنيات حديثة تفتح المجال للعديد من خيارات التصميم المؤسسي.

في هذا المقال من سلسلة مقالات مدخل إلى عالم الأعمال سنتعرف على أهم التوجهات الحديثة في الهيكلة المؤسسية، وإعادة هندستها بالتطرق إلى أبرزها مثل: الشركات، وفِرَق العمل الافتراضية، ومن التوجهات الحديثة الأخرى التي تسود بقوة مؤسساتِ اليوم -التعهيدُ، أو التعاقد الخارجي (Outsourcing)، وإدارة مشاريع تجارية عالمية.

إعادة هندسة الهيكلية المؤسسية

على الشركات كافة من فترة لأخرى إعادة تقييم الطريقة التي تمارس فيها العمل التجاري، ويتضمن ذلك تقييمَ فاعلية الهيكلية المؤسسية، وفي محاولة من الشركات لمواجهة التحديات المستقبلية الجسيمة، فإنها تتجه اتجاهًا متزايدًا إلى ما يسمى إعادة الهندسة، ويُقصَدُ بها إعادة تصميم كامل، لهيكلية المؤسسة، وعملياتها، بهدف تطوير عملها، وثمة تعريفٌ أبسط لإعادة هندسة هيكلية المؤسسة، وهو: "البدء من جديد"، وفي الواقع، يبدو الأمر وكأن مديري الإدارة العليا يطرحون سؤالًا مفاده: "لو كنا شركةً جديدة، فكيف سندير هذا المكان؟" ويتمثل الهدف من إعادة هندسة المؤسسة في تحديد القواعدِ التي لم تعد صالحة للتطبيق في ذلك الوقت، والافتراضاتِ الأساسية التي توجّه عمليات المؤسسة الحالية، ومن ثم التخلّي عنها، ولكل شركة عددٌ من القواعد الرسمية، وغير الرسمية القائمة على الافتراضات المتعلقة بالتقنية، والأشخاص، والأهداف المؤسسية، ولذلك، يتمثل الهدف من إعادة هندسة هيكلية المؤسسة في إعادة تصميم عملياتها التجارية لتحقيق تقدُّمٍ في ضبط النفقات، وزيادة جودة المنتجات، وتعزيز خدمة الزبائن، وتحقيق سرعة في إنجاز كل ذلك، وينبغي أن ينتج عن عملية إعادة الهندسة هيكليةٌ مؤسسية أكثر فاعلية، وكفاءة، وتناسُبًا مع المناخ التنافسي الحالي (والمستقبلي) للمجال التجاري الذي تعمل فيه المؤسسة.

الشركة الافتراضية

يُمثّلُ التكيُّف مع التغيرات القنية -التي باتت تطول اليوم بتأثيرها المجالات التجارية كافة- أحدَ أكبر التحديات التي تواجه الشركاتِ في وقتنا الحالي، فاليومَ تسعى المؤسسات جاهدةً نحو إيجاد هيكلياتٍ مؤسسية جديدة، تساعدها في تحويل التقنية إلى ميزة تنافسية، ومن البدائل التي باتت تسودُ بتزايد؛ الشركةُ الافتراضية (Virtual Corporations)، وهي شبكةٌ من الشركات المستقلة (مورّدين، وزبائن، وحتى منافسين) المتصلة ببعضها عبر تقنية معلومات، بهدف مشاركة المهارات، والنفقات، والوصول إلى أسواق أخرى، وتسمح هيكليةُ الشبكة لتلك الشركات بالتحالف، لغرض الاستغلال السريع للفُرص المتغيرة، وفيما يلي عرضٌ للصفات الرئيسة للشركة الافتراضية:

  • التقنية: تُساعد تقنيةُ المعلومات الشركاتِ المتباعدة جغرافيًا على تكوين تحالفاتٍ، والعمل معًا.
  • انتهاز الفرص: تتميز التحالفاتُ بكونها أقلَّ استمراريةً، ورسميةً، من الشراكات التقليدية، وأكثرَ انتهازًا للفرص السانحة.
  • الامتياز: يقدِّمُ كلُّ شريكٍ مهاراته، وكفاءاته الأساسية، لصالح التحالف الذي يجمعه بشركاتٍ أخرى، ولذا يزدادُ احتمال إنشاءِ مؤسسة بجودةٍ أعلى في كل تخصصٍ وظيفي، وزيادةِ المزايا التنافسية.
  • الثقة: تجعلُ هيكليةُ الشبكة، الشركاتِ أكثرَ اعتمادًا على بعضها، وتدفعها -كذلك- إلى تقوية علاقاتها بالشركاء.
  • لا يحدُّها حدٌّ: توسِّعُ هيكليةُ الشبكةِ المتمثلةِ في الشركة الافتراضية، الحدودَ التقليدية للمؤسسة.

وفقًا للمفهوم بشكله الأفقى، تتجرد كلُّ شركةٍ ترتبط بالشركات الأخرى في الشركة الافتراضية من عناصرها التقليدية كافة، إذ يفترض الوضعُ المثالي للشركة الافتراضية ألا يكون لها مكتبٌ مركزي، ولا مخططٌ تنظيميّ، ولا هرميةٌ إدارية، ولا اندماجٌ رأسيّ، فلا تساهم الشركةُ في التحالف الذي يجمعها مع سواها إلا بما لديها من مهاراتٍ، وكفاءات، أو إمكاناتٍ أساسية، فتضمُّ ما تبرعُ في عمله إلى المهارات، والكفاءات الأساسية للشركات الأخرى، وروّاد الأعمال في ذلك التحالف، التي هي جزءٌ منه، فعلى سبيل المثال: يقتصر عملُ شركةٍ مُصنِّعة على التصنيع، بينما توكَلُ مهمةُ تحديد ما سيُصنَع لشركةِ تصميم منتَجات، في حين تتولى شركةُ تسويقٍ بيعَ المُنتَج النهائي.

وعلى الرغم من أنَّ المؤسساتِ الافتراضية كاملةً، ما تزالُ نادرةً نسبيًا، نجد شركاتٍ كثيرةً تتبنى العديد من خصائص الهيكلية الافتراضية، ومنها شركة سيسكو سيستمز (Cisco Systems)، التي تستخدم العديد من المعامل لتصنيع منتجاتها، ولكنها لا تملك أيًا منها، بل تعتمد في الواقع على مُصنِّعين للتعاقد معها، يوفرون لها كل مستلزمات التصنيع التي تحتاجها، إذ لا تمسُّ الأيدي سوى ما نسبته أقل من 10% من طلبات الزبائن كافة، كما يُعالَج أقلُّ من نصف طلباتهم من قبل موظف واحد لدى تلك الشركة، فبالنسبة للزبون الاعتيادي، يجعل اعتمادُ مورّدي شركة سيسكو سيستمز، ونُظُم الجرد لديها على بعضهما بعضًا، مما يجعلها تبدو شركةً ضخمة، وسلسة لا فواصل بينها.

فرق العمل الافتراضية

تُمكِّنُ التقنيات الحديثة الشركات من إنشاء فِرَقِ عملٍ افتراضية -أيضًا- إذ لم تعد الجغرافيا تمثل قيدًا يمنع الموظفين من الانتظام ضمن فريق عملٍ واحد، ففِرَقُ العمل الافتراضية تساعد في توفير الوقت، وتخفيض نفقات السفر، ونقل المقرات، وإعادة التوطين، وتساعد -كذلك- في الاستفادة من المهارات التخصصية، بصرف النظر عن مكان الموظف.

وعندما يحتاج المديرون إلى تشكيلِ فريقٍ عمل لمشروع ما، فكل ما عليهم فعله هو إعدادُ لائحة بالمهارات المطلوبة، ولائحة عامة بالموظفين الذين تتوفر لديهم تلك المهارات، وعندما يغدو تجمُّعُ الموظفين ذاك معلومًا، فما على المدير سوى اختيارِ مجموعة الموظفين الأفضل، التي تُشكِّل فريقَ العمل الافتراضي، ومن التحديات الخاصة التي ترتبط بفرق العمل الافتراضية؛ إبقاءُ أعضاء تلك الفرق مركِّزين على عملهم، ومتحفِّزين، ومتواصلين تواصلًا إيجابيًّا، بصرف النظر عن أماكن وجودهم الجغرافية، ومن شأن عَقدِ لقاءٍ واحد على الأقل وجهًا لوجه بين أعضاء فريق العمل الافتراضي، خلال المرحلة الأولى لتشكيل الفريق، في حال كان ذلك ممكنًا -أن يساعد في معالجة تلك المشاكل المحتملة.

التعهيد (التعاقد الخارجي)

من التوجهات الحديثة التي لا تنفكُّ تؤثّر في المديرين هذه الأيام؛ الاستعانةُ بمصادرَ خارجية، أو ما يسمى التعهيد، ولعقودٍ من الزمن، كانت الشركات، وما تزال، تلجأ إلى التعهيد بخصوص العديد من الوظائف، فعلى سبيل المثال: كان، ولا يزال، يجري التعامل مع الوظائف الخاصة بكشوف مرتَّبات الموظفين من قبل أطراف ثلاثة، ومنها تسجيل ساعات العمل التي يقضونها، وإدارة مستحقاتهم، ومعدلات أجورهم، وإصدار الشيكات الخاصة بمرتَّباتهم، أما اليوم، فقد بات التعهيد يشمل مجموعة واسعة من الوظائف الخاصة بمجال الأعمال التجارية، مثل: خدمة الزبائن، والإنتاج، والهندسة، وتقنية المعلومات، والمبيعات والتسويق، وغيرها من الوظائف.

وقد لجأتِ الشركاتُ تاريخيًا إلى التعهيد لسببين رئيسين، هما: تخفيض النفقات، وتلبية مقتضيات العمل، ولتحقيق الشرطين المذكورين، غالبًا ما تستعين الشركاتُ بشركاتٍ تقع في دول أجنبية، وفي العام 2017، لا تزال الاستعانةُ بالتعهيد عنصرًا أساسًا للعديد من العمليات التجارية، ولكنها لا تقتصر على الأعمال ذات المستوى المنخفض، وتدعمُ ذلك بعضُ الأفكار التي أُلقيَ عليها الضوءُ في دراسة حديثة أجرتها شركة ديلويت حملت اسم دراسة حول التعهيد العالمي (Global Outsourcing Survey). فوفقًا لخاضعين لتلك الدراسة من 280 مؤسسة عالمية، لا يزال التعهيد يحقق نجاحًا، بسبب تكيُّفِه مع بيئات عالم الأعمال المتغيِّرة، وبحسب الدراسة المذكورة، يتابع التعهيد نموَّه عبر الوظائف التقليدية، مثل: مجال الموارد البشرية، وتقنية المعلومات، ولكنه لم يقف عند ذلك، بل انتقل بنجاح ليشمل وظائف تجارية غير تقليدية، مثل: إدارة المنشآت، وعمليات البيع، والعقارات، وبالإضافة إلى ما سبق، تنظرُ بعض الشركات إلى التعهيد بوصفه سبيلًا إلى رفدِ عملياتها التجارية بالابتكار، وتوظيفه، للمحافظة على ميزة تنافسية، وليس وسيلة لتخفيض النفقات فحسب، وحيث إنَّ الشركات تنظر إلى التعهيد بوصفه أبعد من مجرد خطط، وسياسات لخفض النفقات، فستنتظر من البائعين التابعين لها المزيد بخصوص مَدِّها بالابتكارات، وبمزايا أخرى.

وهناك نوعٌ آخر من التعهيد الذي أصبح سائدًا على مدى السنوات العديدة الماضية، والذي عُدَّ في جزء منه نتيجةً للتعافي الاقتصادي البطيء من الكساد العالمي بين عامَي 2007 و2009. ففي حين كانت شركاتٌ أمريكية عديدة، مترددةً في توظيف عمال بدوامٍ كامل على الرغم من أنها كانت قد بدأت تشهد نموًا تدريجيًا، بدأ بعضُها بتقديم عقود عمل للمستقلين العاملين عن بُعد، الذين لم يُعَدّوا موظفين بدوام كامل، ومؤهلين للاستفادة من المزايا التي تقدِّمها تلك الشركات، ولنهج العمل هذا، المسمّى اقتصاد العربة (gig economy)، مزايا، وعيوب، إذ يفضِّلُ بعض العاملين في ظله الاستقلالية التي يوفرها لهم كونُهُم موظفين مستقلين، بينما يعترف آخرون بأنَّهم ينفذون مشاريع صغيرة متعددة، لعجزهم عن إيجاد عملٍ بدوام كامل، مثل: موظفي الشركات، وثمة مجموعة أخرى من الأشخاص الذين يعملون بدوام كامل، ولكنهم مع ذلك قد يمارسون وظائف تنتمي إلى اقتصاد العربة، مثل: العمل في قيادة السيارات لدى شركة أوبر (Uber)، ولايفت (Lyft)، لتعزيز دخلهم، وتشير تقديراتٌ حديثة إلى أنَّ اقتصاد العربة قد يؤثر في أكثر من ثلث القوة العاملة الأمريكية، على مدى السنوات القليلة القادمة.

وعلى الرغم من التحديات الماثلة، يمكن لبرامج التعهيد أن تكون فعالة، وعلى المديرين القيام بما يأتي لإنجاح الجهود الخاصة بالتعهيد:

  • تحديد مشكلة تجارية ما.
  • أخذُ الحلول الممكنة كلها بالحسبان.
  • تقرير ما إذا كان تعهيد العمل هو الحل المناسب للمشكلة.
  • تطويرُ شراكةِ تعهيد طويلة الأمد مع البائعين، وإطارِ عملٍ متين يعزز التواصل، والتعاون السلس.
  • الانخراط مع شركاء تعهيد انخراطًا منتظمًا لزرع الثقة بين الكيانَين.
  • التحلّي بالمرونة فيما يخص العمل مع جهات التعهيد المزوِّدة عبر استيعاب الطلبات، وتعديل الاحتياجات عند الضرورة في محاولة لبناء شراكة طويلة الأمد تحقق مصلحة الطرفين.

الهيكلة لغرض الاندماج العالمي

تطرح عملياتُ الاندماج الحديثةُ بين شركات كبرى (مثل الاندماج بين شركتي مايكروسوفت (Microsoft) ولينكد إن (Linkedin) وبين أمازون (Amazon) وهول فودز (Whole Foods)، وبين فيرايزون (Verizon) وياهو (Yahoo)، تطرحُ بعضَ الأسئلة المهمة المتعلقة بالهيكلية المؤسسية، ومن تلك الأسئلة:

  • كيف يأمل المديرون تنظيمَ الأجزاء العالمية لتلك الشركات الجديدة العملاقة والمعقدة، في إطارٍ متماسكٍ، وناجح؟
  • وهل يجب جعلُ سلطة اتخاذ القرارات فيها مركزية، أم غير مركزية؟
  • وهل يجب تنظيم الشركة على أساس الأسواق الجغرافية، أم خطوط الإنتاج؟
  • وكيف يمكن للمديرين دمجُ الثقافات المختلفة في الشركة بطريقة منفصلة؟

يجب العثور على حلول لتلك المشاكل، وغيرها كثير، إذا ما أُريد للاندماج بين الشركات العالمية تحقيقَ النجاح.

وبعيدًا عن تصميم هيكلية مؤسسية جديدة، فإن أصعبَ التحديات التي تواجه عملية دمج شركتين كبيرتين هو توحيد الثقافات، وإنشاءُ شركة واحدة، وينطبق ذلك على الاندماج الذي حصل بين شركتي الأدوية فايزر (Pfizer) وفارماسيا (Pharmacia)، المُصنِّعتين لدوائَي درامامين (Dramamine) وروجين (Rogaine). إذ يمكن للفشل في توحيد ثقافات الشركات المندمجة مع غيرها أن يأتيَ بنتائج خطيرة على الكفاءة المؤسسية.

وبوصفه جزءًا من خطتها البعيدة الأمد، الخاصة بالاندماج الضخم، جمعت شركةُ الأدوية فايزر (Pfizer) بين 14 مجموعة، مهمَّتُها وضعُ توصياتٍ تخص الشؤون المالية، والموارد البشرية، وتطوير رأس المال، والتخزين، والرقابة على الجودة، وتقنية المعلومات. ووظفت مستشارًا من خارج الشركة لتسهيل تلك المهمة، وإحدى أولى المهام التي كان على تلك المجموعات تنفيذها هي التعامل مع الاتجاهات، والعقلية الخاصة بالشركة المستحوِذة (فايزر)، مقابل تلك الخاصة بالشركة المُستحوَذ عليها (فارماسيا)، وقد أراد مديرو الشركة ضمانَ إدراكِ جميع الموظفين أنَّ أفكارهم قيِّمةٌ، وأنَّ من هم في مستوى الإدارة العليا يستمعون إليهم، ويولون أفكارهمُ الاهتمامَ الكافي.

ومعَ تحقُّقِ المزيد من الاندماجات، وأحيانًا بين شركات مختلفة عن بعضها إلى أبعد حد، فعلى الشركات الحرصُ على أن تشمل خطةُ الاندماج سياسات، وأصولًا هدفها التعامل مع الاختلافات الثقافية، وإنشاء هيكليات قيادة عقلانية، وفتحُ قنوات تواصل فعالة ذاتِ اتجاهين على مستويات المؤسسة كافة، وإعادة صياغة رؤية الشركة "الجديدة"، ومهمتها، وقِيَمَها، وثقافتَها.

ترجمة -وبتصرف- للفصل (Designing Organizational Structures) من كتاب introduction to business


تفاعل الأعضاء

أفضل التعليقات

لا توجد أية تعليقات بعد



انضم إلى النقاش

يمكنك أن تنشر الآن وتسجل لاحقًا. إذا كان لديك حساب، فسجل الدخول الآن لتنشر باسم حسابك.

زائر
أضف تعليق

×   لقد أضفت محتوى بخط أو تنسيق مختلف.   Restore formatting

  Only 75 emoji are allowed.

×   Your link has been automatically embedded.   Display as a link instead

×   جرى استعادة المحتوى السابق..   امسح المحرر

×   You cannot paste images directly. Upload or insert images from URL.


×
×
  • أضف...