سَعِدت البارحة سعادةً بالِغةً بكتابٍ جديدٍ يُثري المكتبة العربيَّة طرحه الزَّميل والصَّديق عبَّاد ديرانيَّة في اليوم العالميِّ للغة العربيَّة، وعُنوانه "فنُّ التَّرجمة والتَّعريب"، وهمَّمت بقراءته بشغفٍ فأنهيته في أَقلَّ مِن يومٍ.
يُناقِش هذا الكتاب مسألةً جوهريَّةً تمسُّ كُلَّ مَن يَعمَل على الحدود بين حضارتين أو ثقافتين مُتباينتين، فيَنقُل مِن فكر إِحداها إُِلى الأخرى، ويَأخذ مِن لغة الأُخرى إِلى الأُولى، وهذه المسألة هي: متى يَكُون هذا النَّقل ترجمةً وتعريباً ومتى لا يَكُون كذلك؟ وما هي المعايير اللازمة لضبطه فيُصبِح عملاً موضوعياً معياريَّاً بعيداً عن الذاتية والفوضى؟
يَبتدِئ هذا الكتاب بمُقدِّمةٍ أَدبيَّةٍ بحثيَّةٍ رفيعة المُستوَى، فيها نقاشٌ مُطوَّلٌ عن أَصل اللُّغة والمَعنى الكامِن فيها، ثُمَّ يَنتقل إِلى تعريف التَّرجمة وتَوضِيح معناها ليُبيِّن كيف استُعملت هذه الأَداة تاريخيَّاً حتَّى مَطلَع القرن العشرين في نقل المَعارِِف والعُلُوم بين الحضارات والأُمم، ويلي ذلك عرضٌ لدور العرب والمُسلمين في هذه الحركة الإِنسانيَّة، خاصَّةً في العصر الذَّهبيِّ لِلحضارة الإِسلاميَّة الذي كانت جوهرته بغدادُ وواسطة عقده بيت الحكمة، وتُغطِّي هذه المواضيع فُصُولاً ثلاثاً في مَطلَع الكِتاب.
يأخذنا المُؤَلِّف بعد ذلك في باب جديد هو نظرية الترجمة فيعرض لنا الصراع التاريخيِّ بين القائلين بحرفيَّة التَّرجمة والقائِلين بالنَّقل بتصرفٍ ويَعُود بنا إِلى جذور هذا الجدال غير المنتهي، ثُمَّ يَستعرِض عَدَداً وافِراً مِن آفات التَّرجمة الحديثة على اللُّغة العربيَّة وتأثيرها الكبير على الفهم والمَعنَى ويَختُم هذا الباب بفصلٍ مُخصَّصٍ لِلمُعجَمات مِن لسان العرب إِلى أُكسفورد، لِيُبيِّن لنا فيها ضعف العمل المُعجميِّ العربيِّ، لا بل توقُّفه شبه التَّام، والحاجة الماسة إِلى تطويره وتحديثه، وهذه مَسألةٌ مُلِّحة، وعلى مجامع اللُّغة والخُبراء العرب في المَجالات كافةً التَّصدِّي لها والردَّ عليها بما يَلزَم مِن مُعجَماتٍ ومساردَ للأََلفاظ الحديثة.
ويَنتقِل المُؤَلِّف بعد ذلك إِلى الجانب التَّعليميِّ، فيَطرَح في فصولٌ مُتلاحِقةٍ كيفيَّة تعريب المُفرَدة والتَّركيب والجملة ثُمَّ يَنتهِي بفصلٍ شيق لتعريب الثَّقافة نفسِها، وهذا الباب، بفصوله كُلِّها، مِن أَمتع ما قرأت، فهو مُختصرٌ في طُوله، كثير المعلومات، فيه عصارة العصارة وخلاصة الخلاصة وخبرةٌ كبيرةٌ تفاجأت بوجُودها لدى المُؤَلِّف الَّذي لم يُكمِل عقده الثَّالِث بعدُ.
ومع أني أتفق اتفاقاً عاماً مع أغلب ما جاء في الكتاب، لكني أختلف اختلافاً كبيراً معه في درجة التشدد في منهج العمل المقترح، وأرى أن المُؤَلِّف يَتساهل في كثير من الأمورٌ ويُخفِّف فيها عن عاتِق المُترجِم، ويَترُك باب الاجتهاد له مُوارَباً، وإِِن كان يُحذِّر مِن مَغبَّته، وذلك لأني أجد بعد عملي لعقدٍ مِن الزَّمن في التَّرجمة والتَّعريب أَنَّ التَّشدُّد في هذا الباب شرٌّ لا بُدَّ مِنه، والالتزام بالفصيح والبليغ أَمرٌ لا يَلزَم التَّساهل فيه أَبداً، ولكن هذا يَبقى رأينا الشَّخصيَّ في مسألةٍ تَحتمِل الاختلاف.
يَسدُّ هذا الكِتاب عموماً ثغرة كبيرة في المكتبة العربية، فلم أقع من قبلُ على كتاب يُناقِش هذه المسائِل كُلَّها في إِطارٍ واحِدٍ جامِعٍ مانِعٍ، وهُو زادٌ ضروريٌ لِكُلِّ مَن يَبتدِئ العمل في التَّرجمة والتعريب لِيُعينه على شقِّ طريقه بيده وليُجيب على أَسئلته الَّتي قد يَحتاجُ، مِن غير هذا الكتاب، إلى أَعوامٍ ليَصِل إِلى إِجابتها الوافِية.