اذهب إلى المحتوى

تعريب تراكيب اللغة


عباد ديرانية

الحل الواضح والسهل نادر في الترجمة، وإنما الغالب فيها أن يبحث المترجم في عدد من الحلول، فيوظف رأيه وخبرته في الاختيار بينها مرات متوالية خلال عمله اليوم.[1] وتصعب هذه الاختيارات -خصوصًا- في التراكيب اللغوية، حتى ولو كانت تراكيب عادية وطبيعية جدًّا في اللغة، ذلك لأن عقل الإنسان الذي يتقن لغتين؛ يعتاد على ترجمة هذه التراكيب إلى مكافئ عربي لها دون تفكير، فتأتي بصيغة حرفية جدًّا دون إدراك ولا إحساس منه، وهذه آفة تلزم -لتجاوزها- كثير من الممارسة.

معنى الكلام وأسلوبه

ربما يجد المترجم نفسه شارد الذهن -أحيانًا- فينقل ما أمامه من كلمات دون تفكير أو تمعّن كافٍ بمعانيها، إذ اعتاد كل مترجم من تجربته في اللغة على مزاوجة كثير من الكلمات والتعابير الإنكليزية؛ مع كلمات تشبهها بالمعنى -الحرفيّ غالبًا- باللغة العربية، ولو فقد تركيزه فقد يقفز إلى هذه المكافئات الحرفية دون وعي منه، فيظن أنه احترف الترجمة سرعة وإتقانًا[2] بينما يكون نتاج يديه أقرب لعمل برنامج آلي.

قد نجد مثالًا جيدًا في كلمة Individual الإنكليزية، التي تُحيّر المترجم الجيد، بينما يستسهلها المترجم غير المتمكن: فهي كلمة لا مرادف لها في وقعها ولا في معناها باللغة العربية، ومن ثم تختلف ترجمتها -حسب السياق- اختلافًا جمًّا. وقد يختار المترجمون العرب في أغلب الأحوال ترجمة هذه الكلمة حرفيًا إلى "فَرْد"، دون بذل أي جهد إضافي بالتفكير في دلالتها، ولكن هذه ترجمة تتناسى أن كلمة "فَرْدٍ" باللغة العربية نادرة الاستخدام وتعطي انطباعًا مختلفًا عن مقابلها الإنكليزيّ. فلننظر إلى المثال الآتي، وهو قول مأثور من العالمة الأمريكية "جين غودول":

  • Every individual matters. Every individual has a role to play. Every individual makes a difference.
  • [حرفيًا] كل فرد له أهميته. كل فرد له دور ليلعبه. كل فرد يصنع فرقًا.
  • [بتصرّف] كل إنسان له قيمته. كل إنسان له دور يؤدّيه. كل إنسان له قيمة.

نقلت في الترجمة الأولى الكلمات الإنكليزية واحدة تلو الأخرى إلى العربية دون تغيير في ترتيبها ولا هيئتها، فكلمة individual ترجمتها الحرفية "فرد"، وplay a role "يلعب دورًا"، وmakes a difference "يصنع فرقًا". وأما في الترجمة الثانية فقد غُيّرت الكلمات لتناسب السياق: فمن الواضح أن هذا الاقتباس لا يتحدث عن أي "فردٍ" محدد، بل هو يصف كل شخص يعيش على الأرض؛ سواء أكان رجلًا أو امرأة أو طفلًا ومن أي بلد أو انتماء، والمفردة المألوفة في اللسان العربي لهذا المعنى هي "الإنسان". وأما كلمتا "يصنع فرقًا" فهما ترجمة حرفية لتعبير تقصد به أن للشيء أهمية (إذ ثمة "فرق" بين وجوده أو عدمه)، وهذه الدلالة واضحة في كلمة "القيمة" أكثر من "الأهمية"، فنحن لا نتحدث عن "أهمية" الإنسان لغرض بعينه، وإنما عن قيمة وجوده بذاته. وأخيرًا فإن عبارة "يلعب دورًا" هي صيغة إنكليزية يقصد بها التشبيه بأداء دور على المسرح، فاستبدلنا كلمة "اللعب" بـ"الأداء"،وهذه مشكلة سنتناولها من جذورها فيما بعد.

المفاضلة والإبداع

تقودنا المقاربة بين الترجمات التي يدخل فيها التصرّف أو الحرفية (مثل "فرد" و"إنسان") إلى مشكلة جوهرية من مشاكل الترجمة. إذ لا تنحصر معضلات ترجمة المصطلحات والتراكيب في المفردات الأكاديمية الصعبة (والتي تناولناها في الفصل السابق)، وإنما يصطدم المترجم -كثيرًا- بمصطلحات لها في الحياة اليومية معانٍ وإيحاءات متشابكة، فتصعب ترجمتها سواء بكلمة أم بجملة كاملة. وهذه مشكلة عالمية تقع لجميع المترجمين،[3] ولها عدة حلول مُتبَّعة.

الحل الأسهل في هذه الحالات هو التعريب إلى كلمة أوسع في معناها،[4] مثل قولنا في العربية: "حشرة" ترجمة لـ"bug" (وهي كلمة لا ترجمة لها، فتقصد بها مجموعة محددة من أنواع الحشرات غير الطيارة)،[5] فيُستعاض عنها بكلمة "الحشرة" الأعم في معناها لافتقار مرادف عربي لها. وتشبه هذه طريقة ثانية، هي لجوء المترجم إلى كلمة أقل دقة في معناها من الأصل،[6] مثل تعريب "relatable" إلى "مألوف" (ويقصد بها شيء أو تجربة يألفها الإنسان، فيشعر وكأنه ربما مرّ أو قد يمرّ بما يشابهها أو يماثلها،[7] وهو معنى دقيق تستعصي ترجمته).

على أن هذه الحلول لها نقطة ضعف واضحة؛ هي أنها تُضيّع جُلّ المعاني الدقيقة للكلمات التي يختارها الأديب بعناية، فيقصد بكلّ كلمة فكرة واضحة في ذهنه، على أن مفرداته الدقيقة تنمسخ بالتعريب إلى تعابير فضفاضة، حتى تختفي منها صبغة الأديب وقلمه.[8] ولهذا يبحث بعض المترجمين عن حلول أصعب منها "الإبدال ثقافيًا"، وهو أن يأتي المترجم بمعنى جديد أقرب إلى ثقافة القارئ فيألفه ويفهمه، ولو أن هذا التصرف يسلتزم تصرّفًا كبيرًا -من جهته- بالنص.[9]

8.1.jpg

خريطة لبلدان العالم بحسب مواعيد العطلة الأسبوعية فيها. يظهر من الخريطة أن للعطلة الأسبوعية بُعدًا ثقافيًا دينيًا، إذ يُخصّص لها يوما الجمعة والسبت في كثير من البلدان الإسلامية (ومعظم البلدان العربية)، ويوما السبت والأحد في معظم البلدان المسيحية. - منشورة تحت ترخيص المشاع الإبداعي CC-BY. المصدر: ويكيميديا كومنز

فمن الجائز -مثلًا- ترجمة كلمة "Friday" إلى يوم "الخميس" بدلًا من "الجمعة"، وذلك إن جاءت في سياق الخروج مساءً للاحتفال بنهاية الأسبوع، وهي في معظم البلاد العربية يوما الجمعة والسبت، بينما هي يوما السبت والأحد في البلاد الغربية، مما يعني أن المقصود هنا باسم اليوم هو معنى يختلف حسب البلد والثقافة، وليس معنى "اليوم" بالمُطلق. ومن الجائز -أيضًا- التلاعب بترجمة أصناف الطعام (مثل: القمح والدخن و"البفرة") إن كان ذلك ضروريًّا للفهم. ومن أصناف الكلام التي يرى بعض أساتذة الترجمة نفعًا في إبدالها بما هو أقرب للقارئ؛ الكلمات الدالّة على سمات ثقافية (مثل: nerd أو geek بالإنكليزية العامية)، والمصطلحات التي تختلف إيحاءاتها بين الشعوب (مثل: "يساري" و"يميني"، فربّما لا يفهمها كثير من القُرّاء العرب)، والتراكيب الغريبة نحويًّا، والتشبيهات والاستعارات، والأمثال، والأقوال الشعبية، وألاعيب الكلمات، والموسيقى والشعر.[10]

ويأتي إبراهيم زكي خورشيد في كتاب "الترجمة ومشكلاتها" بمثالٍ على الإبدال الثقافي من جملة أعطاها لطلاّبه لترجمتها:

  • Writers are passionate about the jam of fiction.
  • الكُتّاب شغوفون بمُربَّى الخيال.

ويشكو إبراهيم زكي من أن على طلابه أن يتمعّنوا أكثر بالمعنى المقصود من هذه الجملة وليس بكلماتها، إذ كان من الأجدر بهم تعريبها إلى: "الكُتّاب شغوفون بحُلو الخيال" أو "بحلاوة الخيال"، فذلك أبلَغ وأوضَح.

وهذه المعادلات الثقافية مفيدة للمتلقي؛ لأنها تأتي سهلةً وطبيعية على لسانه وتحفز استجابة عاطفية منه (عكس الترجمة الحرفية)، ولهذا فإن لها أفضلية على التعميم[11] الذي ورد أعلاه، لكنها تظل قليلة الدقة؛ لأنها تستعيض عن رمز أو مصطلح ثقافي، له جذور عريقة من ثقافة أجنبية؛ ببديل عربي تختلف أصوله تمامًا، وهذه تضحية كبيرة بقسم من المعنى.

حتمية التضحيات

اقتباس

"ليس من المستطاع ولا من المرغوب أن ينقل المترجم كل معنى لكل كلمة من لغة إلى لغة".

— منى بيكر، في كتابها In Other Words.

تعود بنا هذه الحكمة الخالدة من منى بيكر إلى مسألة "المساومة" في الترجمة (من الفصل الثاني): فكل مفردة في كل لغة تغص بمعانٍ كثيرة كما رأينا مرارًا، وربَّما تحتفظ مفردة عربية واحدة بمعظم هذه المعاني، وربما يحتاج بعضها إلى جملة أو جمل لتفسيرها، وما نسأله هنا هو: متى تستحق هذه المعاني عناء ترجمتها؟

على المترجم أن يصب اهتمامه دومًا على نقل معنى الكلمة الجوهري؛ والذي يحتاجه القارئ لفهم النصّ، بينما عليه أن يضحي بكثير من المعاني الهامشية التي يصح الفهم دونها،[12] بل ومن المسموح والمقبول للمترجم أن يحذف كلمات وجملًا كاملة إن خمن أنها لا تنفع القرّاء.[13] وقد يعود في الحذف إلى واحد من تبريرين:

  1. أن يختزل الكلام المحذوف فكرةً ثقافيةً لا تعني جمهور القرّاء ولا تضيف قيمة للنص بنظرهم.
  2. أن ترجمة أو تفسير هذا الكلام يستوقف النصّ ويعترض تدفّقه فيعرقل القراءة[14] (ولا يعني هذا أن يكون نقل الكلام صعبًا أو متعِبًا للمترجم، وإنما المهم هو الصعوبة على القارئ).

على سبيل المثال، تُميز اللغة الإنكليزية بين كلمتي "sound" (وهو أي صوت من الأصوات) و"voice" (وهو الصوت الذي يخرج من الفم حصرًا، وخصوصًا صوت وكلام الإنسان)، والأصل أن معنى كلا هاتين الكلمتين في العربية هو "صوت"، لكن يحدث -أحيانًا- أن تأتي الكلمتان في سياق واحد. فعنوان إحدى حلقات سلسلة "ستار ترك" الشهيرة للفضاء عنوانها: "The Sound of Her Voice"، وهي جملة ليست نادرة جدًّا في الإنكليزية، وقد يجاهد المترجم في البحث عن تعريب لها بالمعاجم، فيأتي بشيء مثل: "صوت عقيرتها"، على أنه يكفي -تبسيطًا- أن يقال: "صوتها" مع إسقاط المعنى الزائد، فلو كان هذا المعنى ضروريًا في اللغة العربية لوُجد فيها من المفردات ما يصفه.

ويورد محمد عناني في كتابه "فن الترجمة" مثالًا على ظاهرة التعميم التي ذكرناها أعلاه، فيتحدث عن ثلاث كلمات أجنبيَّة لها معنى واحد عام بالعربية هي: hides وskins وleather، وجميعها تعني جلد الحيوان.[15] وهو يستشهد هنا بجملة صادفها في تقرير كان يترجمه لليونسكو:

«Some developing countries trade hides and skins for leather».

وفي هذه الجملة حيرة شديدة، لأنها تحتاج للتمييز بين ثلاث كلمات لها معان متماثلة في لساننا، ويقول محمد عناني في ذلك: «وردت هذه العبارة في سياق نص اقتصادي وبالذات في الاقتصاد الزراعي كنت أترجمه لمنظمة الأغذية والزراعة بالأمم المتحدة، فسألت أحد الزملاء المتخصصين فشرح لي أنهم يقولون: الجلود الكبيرة والجلود الصغيرة؛ للكلمتين الأوليين، والجلود المصنعة للكلمة الثالثة. وسرّني هذا التصرف أو التحايل لأن فيه اختصارًا للمعنى وهو "جلود الحيوانات الكبيرة" (hides) و"جلود الحيوانات الصغيرة" (skins) وتبيانًا للمعنى الكامن في كلمة leather، إذ إنها تشير إلى الجلد بعد إعداده لصناعة الأشياء الجلدية».[16]

وهكذا، تصير ترجمة الجملة: إنّ «بعض البلدان النامية تستبدل بالجلود الكبيرة والصغيرة الجلود المصنّعة».

8.2.jpg

جلود للعجل في المغرب، وهي تسمى بالإنكليزية "Calfskins" أو "جلود العجل الصغيرة" حرفيًا، على أن المألوف في العربية هو أن يقال لها "جلود" بغض النظر عن حجمها. - منشورة تحت ترخيص المشاع الإبداعي CC-BY. المصدر: ويكيميديا كومنز

ولكن السؤال الذي تجاوزه محمد عناني هو: هل نحن بحاجة للتمييز بين هذه الكلمات الثلاث؟ في الإنكليزية ثلاث مفردات تختص بالجلود لأن قراء التقرير الإنكليزي -المتخصصين بالمجال- يعرفون بدقّة مصطلحات جلود الحيوان في لغتهم، ولذلك يرون اختلافًا (بفضل خلفيتهم الثقافية واللغوية) بين جلود الحيوانات الكبيرة، مثل: النمر أو التمساح، والصغيرة مثل: الفئران والسناجب. ولكن هذا الأمر سيان عند القارئ العربي: لا لأنه غير مختص بالضرورة، وإنما لأن جلود الحيوانات -بكبيرها وصغيرها- لها اسم واحد في لغته؛ هو "الجلود"، وأما "الجلود الكبيرة" و"الجلود الصغيرة" فهما تركيبتان مبتدعتان لا تضيفان معنى ضروريًا.[17] وبناءً على هذا نُعدّل الجملة نفسها إلى صيغة أوجز فنقول:

  • «بعض البلدان النامية تستبدل بالجلود الخام الجلود المصنعة».

وفي مثال من كتاب متخصّص عن تاريخ الأدب الإنكليزي:[18]

  • Major innovations in staging resulted principally from continental influences on the English artists, who accompanied the court of Charles II into exile in France.

ويمكننا هنا أن نلتزم بتقديم المعنى كاملًا للقارئ فنقول عن "continental influences" أنها "التأثيرات القارية من أوروبا" (أي من بلدان أوروبا المتصلة برًّا بها، والتي يُستثنى منها هنا الكتاب الإنكليز لأنهم يسكنون الجزر البريطانية)، لكننا نبتدع في ذلك مصطلحًا جديدًا يجهله القارئ العربي ويدخله في حيرة مريرة، يمكن تجاوزها إن تغاضينا عن شيءٍ من الأمانة وحوّلنا المصطلح إلى "التأثير الفرنسي"؛ وهو المعنى المقصود غالبًا، أو "التأثير الأوروبي" التزامًا بعمومية المصطلح الأصلي.

وكما يقول "بيتر نيومارك"، فإن الترجمة الجيّدة (مثلها في ذلك مثل الكتابة الجيدة) تسير على نهج الإيجاز والاختصار، فالفقرة التي تُفسّر الفكرة أبلغ من الفقرتين، والكلمة أبلغ من الكلمتين إذا لم يختلفا في الفائدة والمعلومة.[19] وهذا ما عبرت عنه القاعدة العربية القديمة: "البلاغة الإيجاز".

حذف وزيادة

يقول الباحث "نيومارك" -أيضًا- أن العامل الأهمّ في الإتقان بالترجمة هو أن تؤدي غرضها الضروري. فلنأخذ -مثلًا- جملة: "يتكون الماء من الهيدروجين والأكسجين"، فهدف هذه الجملة -كما يبدو- هو إيصال معلومة؛ وليس إيصال جمال أو بديع لغوي كما في الشعر وغيره، وبناءً عليه فليست كل عناصرها ضرورية، إذ لنا أن نستعيض -مثلًا- عن كلمة "يتكون" فيها ببدائل كثيرة دون أن يخل ذلك بمقصد الجملة، منها: "يتركب" أو "يتألف" أو "يحتوي" وغير ذلك.[20] وقد تعجز الترجمة عن نقل معنى الكلام غير الضروري؛ أو قد تتجنّبه عمدًا في أحيان كثيرة.

قد تقول فتاة بالفرنسية حين دخولها إلى المنزل: "Je suis arrivee"، وهي جملة بسيطة تعني: "وَصَلْتُ"، لكن هذه الجملة تُخبرنا كذلك -بالفرنسية- أن الذي وصل هو امرأة، لأن تصريف الفعل مؤنث. ويضيع هذا المعنى في الترجمة العربية. فهل هو معنى ضروري للترجمة؟[21]

تختلف عناصر الصرف والنحو اختلافًا جمًّا بين اللغات، وهذه مشكلة تبدو جذورها لغوية، لكنها جزء من هوية الأمم وميولها. ومن أمثلة ذلك: العدد (كما رأينا في المقال الأول) فالعربية واحدة من لغات نادرة تميز في المعدود بين المثنى وما زاد عن اثنين (وهي سمة سقطت في صيغ الأفعال عن اللهجات العامية)، بل إن بعض اللغات النادرة[22] تميّز بين المثنى والثلاثة وما زاد عليهما.[23] وبعض اللغات لا تلزم العد أصلًا مثل: الصينية واليابانية، فلك أن تقول أن لك "أخ" دون أن تحدد ما لو كان أخًا أم أخوين أم إخوة. ولنا أن نستنتج من هذا الاختلاف أمرًا مهمًّا، وهو أن من يتحدّثون لغة ليس فيها تصريف للعدد لا يكترثون -عادةً- بمعرفة عدد الأشياء؛ إلا إن كان ضروريًّا في سياقه.

ليس من السهل على العربي تقبّل هذه الفكرة الغريبة؛ لأنه معتاد على تصريف الكلمات مفردًا أو مثنى أو جماعة. لكن يمكننا القول -من جهة أخرى- أن العربي لا يهمه أن يعرف في تصريف الفعل إن كان المقصود به ثلاثة أم أربعة أشخاص؛ فكلاهما "جماعة" (أو "أشخاص") في لغته، وهذا اختلاف بين لغتنا وبين لغة فيجي التي فيها مثنّى ومثلّث؛ وهو يُوضّح حدود اهتمام القارئ العربي. وفي هذه الحالة، لا يجب أن نستغرب من أن الصيني لا يهتم لأن يعرف إن كان عدد الأشخاص المقصودين واحدًا أم اثنين أم أكثر؛ إن لم يتطلب السياق ذلك، مثلما أن الإنكليزي لا يهمه أن يعرف إن كان المقصود اثنين أم ثلاثة.

إذًا: ما تهمله قواعد الصرف في اللغة قد يكون نتيجةً لا سببًا. فالعدد هنا هو خاصية من خصائص البناء الصرفي والنحوي في اللغة،[24] وعلى المترجم أن يُفرِّق بين ما يقال إلزامًا في اللغة لأن قواعدها تفرضه (مثل العدد)، وما يختار الكاتب قوله بمشيئته: لأن الأولى هي سمةٌ لغوية يسهل التغاضي عنها؛ وأما الثانية فهي أساس كل ترجمة.

تختلف درجة التفصيل المعجمي في كل مجال بين اللغات، مثلما مر علينا من كلام الجاحظ؛ الذي يرى صعوبة الترجمة من لغة أجنبية في موضوع غير مطروق، فيقول: «وكلما كان الباب من العلم أعسر وأضيق، والعلماء به أقل، كان أشد على المترجم، وأجدر أن يخطئ فيه». ونرى ذلك في كثير من المصطلحات الحداثية التي تحرص اللغة الإنكليزية على الدقة والتحديد في معانيها، إذ إن "الهيئة" غير "اللجنة" و"اللجنة" غير "المؤسسة" و"المؤسسة" غير "الدائرة"، وأما الكلمات العربية التي تقابلها فقد تحمل معانٍ فضفاضة غير واضحة (وتسمّى هذه: "المظلات الدلالية") فتميل إلى قلة التحديد وزيادة المقاصد المحتملة، وذلك أنها اقتبست هذه المصطلحات بالنقل فجاءت مجرّدة من الأفكار الثقافية التي وراءها.[25] ومن الحري -بل والجدير أحيانًا- بالمُعرّب أن يُهمِل هذه التراكيب الإنكليزية المتيمة بالدقة؛ إن لم يرَ ضرورة لها، فهناك سبب لأن تصريف العربية مختلف عن تصريف اللغات الأوروبية؛ وما يهتم المؤلف الأجنبي بتحديده ليس مهمًّا دومًا للقارئ العربي.[26]

تميل اللغة الإنكليزية إلى أن تصف الأفعال بأسلوب غير مألوف بالعربية، فهو وصف يفرض على المتكلم تمييز فرصة "حدوث الأشياء" أو "عدم حدوثها" (وهو ما يسمى في علم اللغة: Modality)،[27] فيقول: إن هذا الفعل أكيد "certainly, definitely" أو راجح "probably" أو محتمل "likely, maybe" أو ممكن "possibly, potentially" أو مستبعد "unlikely" أو مستحيل "impossibly"، وتدل درجات التفرقة الكثيرة هذه على تحرّز الشعب الإنكليزي من الجزم بالأمور، وعلى اهتمامه بالتدرج بين كلمتي "الأكيد" و"المستحيل". وقد لا يتفق هذا تمامًا مع ما جرت عليه العادة في التعبير العربي، فهو لا يستوجب مثل هذه الدقة وقد يتساهل المتحدثون فيه بالتعظيم من الأشياء والإكثار من الألفاظ الجازمة والحاسمة، ولنا -لذلك- أن ننصح بإسقاط بعض هذه الكلمات أو معظمها في الترجمة،[28] فهي لا -غالبًا- تهمّ القارئ العربي؛ مثلما أن التفصيل في وصف المفرد والمثنى والجمع لا يعني القارئ الآسيوي في شيء.[29]

يمكن أن يمتد الحذف والأقلمة إلى أي مكون في الكلام إن لم يلزم، فمن مكوّنات اللغة التي يغفل المترجم عن إسقاطها في العربية الضمائر، وهي تكثر في اللغة الإنكليزية لأن أفعالها لا تعبر عن جنس وعدد الفاعل،[30] فيُقال "I went home" لأن ضمير الفاعل لا يتضح بالإنكليزية إلا إن جاء مستقلًّا، وترجمتها "ذهبتُ إلى المنزل" (وليس: "أنا ذهبتُ إلى المنزل")، لأن ضمير المفرد المتكلم مقدّر على التاء في "ذهبتُ".[31]

تتطلب الترجمة -إلزامًا، لا اختيارًا- محاكاة[32] للنص الأصلي إلى ثقافة القارئ، وقد تضيع في ذلك بعض التفاصيل "المهمة" في ثقافة أخرى على صعيد المعنى والمفردات. فليس من الضروري -على سبيل المثال- ترجمة أسماء الأحزاب السياسية في البلدان الأخرى أو الإشارات الضمنية إليها؛ إلا إذا كانت جوهرية للفهم، فقارئ الترجمة لن يعرفها في معظم الحالات،[33] ولو قال شخص في رواية "إن جاري ديمقراطي جدًّا" (أي يشبه في آرائه الحزب الديمقراطي) فمن المستبعد جدًّا أن يفهم القارئ العربي معنى ذلك أو يستنتج شيئًا مفيدًا منه. ومن أمثلة الزيادات الثقافية التمييز بين "المنزل" و"الشقة" أو "الغرفة" في مجمّع سكني فيُقال: "ذهبتُ إلى شقتي" أو "عدتُ إلى غرفتي"، لكن الناطق العربي قد يُفضّل أن يقول "عدتُ إلى منزلي" لأن المعتاد هو أن يكون "المنزل" شقة.

والحالة المعاكسة للحذف (أي الأمثلة السابقة) هي الزيادة، أي أن تجبرك اللغة العربية على إضافة تركيب نحوي غير موجود باللغة الإنكليزية، مثل التذكير والتأنيث ومسميات الأقارب، ومثال على ذلك من رواية North and South الشهيرة لـ"إليزابيث غاسكيل":

  • “With my aunt,” replied Margaret, turning towards Mrs. Shaw.
  • “My niece will reside with me in Harley Street.

ولا سبيل هنا لمعرفة ما إذا كان المقصود "عمة" أم "خالة" و"ابنة أخ" أم "ابنة أخت" -لسوء الحظ- إلا بقراءة باقي النص حتى يتوثّق المترجم من هوية الشخصية المقصودة. والدقة في الألفاظ أفضل دومًا، لكن من المبرر (وربما من الحكمة) أن يختار المترجم -هنا- عشوائيًا بين كلمة "عمة" أو "خالة"، وذلك لأن النص الإنكليزي لم يُعن بالتفريق بينهما، مما يعني أن اختلاف هذين اللفظين ليس مهمًا في هذه الرواية ولا في اللغة التي كتبت بها؛ ومن ثم يجوز التغاضي عن فروقاتها.

وتسهل الزيادة والاستعاضة عن أي تراكيب نحوية ناقصة في اللغة بإضافة مفردات إضافية إليها، فمن ذلك جملة: "This word is translatable"؛ وفيها تصريف ناقص من اللغة العربية، لكننا نعوضه بزيادة مفردة فنقول: "ترجمة هذه المفردة ممكنة"، ولو أن في هذا تصريحًا عن معنى زائد لأن تحويل لاحقة نحوية (-able) من الإنكليزية إلى كلمة عربية قائمة بذاتها ("ممكنة") قد يضيف توكيدًا لم يقصده الكاتب الإنكليزي.[34]

يأتي علينا التساهل بالحذف والزيادة بمشكلة أخرى: فبما أن المترجم هو من يقرر أي معنى يُسقِط وأي معنى يَصون، فهل يجب عليه أن ينقل المعنى الواضح للنص، أم المعنى الذي يفهمه بناءً على استيعابه وتحليله وخبرته باللغة؟ وسنعود للإجابة عن هذه المعضلة لاحقًا.[35]

التصاحب اللفظي

لو صادفت (في رواية رومنسية صفراء، ربما) جملة تقول: "وقعت فتاة وسيمة في حب فتى جميل"، فقد تشعر بمشكلة فيها ولو لم تستطع وصف هذه المشكلة ضمن إطار قواعد اللغة، فهي صحيحة نحوًا وصرفًا ودلالةً (أي في ثلاثة من أقسام علم اللسانيات الخمسة)؛ على أنها تفشل في ما يسمى "التواصل الخطابي" أو تحليل الخطاب. فكلمتا "الجمال" و"الوسامة" تكادان تترادفان في المعنى، لكنهما تأتيان -عادةً- مع الجنس الأنثوي للفظ الأول والذكوري للثاني،[36] وتسمى هذه الظاهرة "الضَّميمة" أو "التصاحب اللفظي"، ولها أهمية كبيرة في شتى تطبيقات اللغة؛ بما فيها الترجمة.

تُسمّى -على سبيل المثال- المطاعم المتخصصة ببيع الوجبات السريعة بالإنكليزية: "Fast food outlets"، أي -حرفيًا-: "محلات الطعام السريع". ولمعنى المقصود هنا هو "السرعة" في إعداد الطعام، ولذا قد يبدو من المنطقي أننا نستطيع استبدال كلمة "fast" بكلمات شبيهة بها بدون إخلال بالمعنى، فقد نقول: "Quick food" أو "Rapid food"، ولكن الناطق بالإنكليزية -كلغة أم- يعرف أن هذه التراكيب غير صحيحة، مع أنها تخلو من أي خطأ نحوي أو دلالي, فالسبب الوحيد في خطئها هو أن العُرف السائد يقتضي الحديث عن "المأكولات السريعة" بكلمة "fast" دونًا عن غيرها، وبالتالي فإن كلمتي "fast food" متصاحبتان لفظًا.

لو نظرنا إلى اللغة بعمومها، فسوف نجد أن أساس كل لغة هو كلمات نرتبها في جمل مختلفة: فلنا أن نمزج هذه الكلمات ونركبها بجملٍ لامعدودة لوصف معانٍ وأفكار معدودة، على أننا -فعليًّا- لا نصوغ كلامنا بحُريّة مطلقة؛ بل نكرر عددًا محدودًا من تسلسلات الكلمات والتراكيب المألوفة. وقد تسمح لنا اللغة بابتداع تراكيب جديدة كثيرة تدل على المعاني التي نريدها بدقة تامة، إلا أن التراكيب غير المألوفة تصبح ركيكة بسهولة؛ لأن لها وقعًا مزعجًا ومخالفًا للسليقة، ومن أكثر المشكلات عند المترجمين المبتدئين؛ عجزهم عن إدراك وقع ترجمتهم الركيكة في نفس القارئ أو المستمع، وهي مشكلة يواجهونها كثيرًا مع الضميمة.

فالضميمة -إذًا- ليست مجرد كلمتين صدف أنهما جاءتا معًا، بل هما كلمتان قصد المؤلف والكاتب أن يأتيا معًا لأن لتصاحبهما وقعًا ومعنى خاصًا في نفوس قرّائه. ولهذا السبب، وربما يجد المترجم نفسه في حيرة بين أمرين أمام ترجمة الضّميمة: فإما أن يستعيض عنها بضميمة عربية يعرفها القارئ العربي وتثير وقعًا قريبًا في نفسه؛ ولو أخلّت بشيء من المعنى، أو أن يستعيض عنها بضميمة ركيكة في وقعها ودقيقة بمعناها. ويتعارض هذان الأمران -غالبًا- لأن الضمائم العربية غير الإنكليزية، ونرى مثالًا في جملة: "There's a good law and a bad law"، فترجمتها الحرفية هي: "ثمة قانون جيد وقانون سيئ"، على أن ترجمتها إلى ضميمة عربية مألوفة سوف تكون: "ثمة قانون عادل وقانون غير عادل"؛ والجملتان تدلان على معنى قريب أو متماثل، لكن الأولى اقتبست الضميمة الأجنبية والثانية جاءت عربية.[37]

8.3.png

موازنة تاريخية لكثرة استعمال كلمتي "native language" موازنة مع "mother language"، والتي تظهر منها غلبة الأولى على الثانية (الرسم مستخرج من قاعدة بيانات "كتب غوغل") - منشورة تحت ترخيص المشاع الإبداعي CC-BY. المصدر: Google Books Ngram Viewer

وتكثر الأخطاء في ترجمة التصاحبات اللفظية،[38] وخصوصًا إذا كان المترجم قليل الاطلاع في اللغة التي ينقل إليها. فمثلًا: من الأسئلة المعتادة لمن يتعرف إلى شخص أجنبي أن يقول: "What is your native language؟"، ويكثر أن تترجم هذه الضميمة إلى العربية فيقال: "ما هي لغتك الأصلية؟". قد يبدو معنى هذه الجملة واضحًا، لكنها غريبة لأن جملة "اللغة الأصلية" جاءت مكان اللفظ المألوف في العربية، وهو "اللغة الأم"؛ وضميمة "اللغة الأصلية" -هنا- صحيحة نحوًا ودلالةً، لكنها تخالف العُرف السائد.

وتتضح مشكلة الركاكة بالضميمة في ترجمة المبتدئين من العربية إلى الإنكليزية، إذ قد يلمس المترجم المختص الركاكة بالعربية لأنها لغته الأم التي يعي دقائقها وتفاصيلها، لكن الإلمام بلغة -بهذا القدر- ليس ممكنًا إلا عندما يستخدمها المرء في حياته اليومية لسنين: والسبب هو أن استعمالنا للغة -كما سلف- لا يقتصر على وصف المعاني الصحيحة؛ وإنما على اختيار الكلمات الصحيحة في وصف هذه المعاني، وذلك بناءً على خبرة طويلة تراكمية. ونعود هنا إلى المثال السابق؛ فنلاحظ أن من يترجم من العربية كثيرًا ما يقول عن اللغة الأم "mother language"؛ مع أن ترجمتها الصحيحة إلى الإنكليزية هي إما "mother tongue" أو "native language"، فالأخيرتان ضميمتان مألوفتان للمتحدث بالإنكليزية؛ والأولى نادرة (كما يظهر في الرسوم البيانية)، رغم تساويهم جميعًا في المعنى.

8.4.png

موازنة تاريخية لكثرة استعمال كلمتي "mother tongue" موازنة مع "mother language" (الرسم مستخرج من قاعدة بيانات "كتب غوغل") - منشورة تحت ترخيص المشاع الإبداعي CC-BY. المصدر: Google Books Ngram Viewer

كما قد تتغير معاني بعض الكلمات جذريًّا بحسب تصاحبها اللفظي دون أن يعي المترجم ذلك، فعليه أن يحرص على مراجعتها والتدقيق فيها، مثال ذلك أن كلمة dry (ومعناها المعتاد "جاف" أي "ليس فيه ماء") يتغير معناها تمامًا إن جُمعت مع لفظ آخر فيُقال:[39]

  • Dry voice: صوت بارد (خال من المشاعر)
  • Dry country: بلد يحظر بيع الخمور
  • Dry run: اختبار للأخطاء أو المشاكل

من الأصح -عمومًا- ألا يكتب المترجم بأسلوب لا يألفه قُرّاء اللغة، إن لم يقصد بذلك غاية واضحة، فالتراكيب الجديدة أو غير المعتادة تلفت النظر وتعطل تدفق النص، بل وقد تضيف هذه العرقلة وقعًا جديدًا في الترجمة لم يُرده المؤلف فليس من الأمانة زيادته.[40] ولو احتجت للتأكد من استعمالك لكلمتين معًا بتصاحبهما الصحيح أو للتوثق من معنى ضميمة، فلكَ أن تراجع معاجم إنكليزية متخصصة بالتصاحبات اللفظية، ومرتبة بحسب ما يتصاحب مع كل مفردة في اللغة، وهي أدوات مفيدة جدًا للكاتب والمترجم.[41]

الاستعارة

لعلك سمعت في فلم إنكليزي جملة تقول: إن عمل كذا مثل "تناول قطعة من الحلوى" أو "خطف حلوى من طفل"، وهذا نوع من المجاز أو الاستعارات المعروفة، ومعناها بالأساس أن هذا "أمر يسير" أو "سهل المنال"، لكن الأدباء وكتّاب المسرح والسينما يحبون التفنن بهذه الأمثال (وهو ما يسمى إحياء "المجاز الميت")،[42] ومن أمثلتها قول ألفريد هتشكوك:

  • For me, the cinema is not a slice of life, but a piece of cake.
  • حرفيًّا: بالنسبة لي، السينما ليست قطعة من الحياة [لصعوبة الانخراط بها] بل قطعة من الكعك [لسهولتها].

وهذه الأقوال عسيرة لأن وقع الاستعارة بالعربية يأتي غريبًا إن تُرجمت بمعناها الحرفي، فعلى المترجم أن يختار بين: 1. ترجمتها حرفيًّا، أو 2. الاستعاضة عنها بمثل عربي قريب في معناه،[43] أو 3. الإبداع في تعريبها (مثلما أبدع الكاتب في سبكها). الطريقة الأولى ظاهرة أعلاه، والثانية غير محبذة لأنها تذهب بجمال الاستعارة وتأتي بما ليس له صلة بالأصل، والثالثة قد تكون الأنسب و-كذلك- الأصعب في تطبيقها. وفيما يأتي أمثلة متواضعة على الطريقة الثالثةـ والتي فيها دومًا مجال للإبداع من المترجم:

  • السينما بنظري مثل طريق معبد لا طريق وعر.
  • السينما بنظري ليست طريقًا معبدًا بالحصى وإنما بالحلوى.

يرى بعض أساتذة الترجمة أن من الجائز نقل الاستعارات والتشبيهات بصورتها الحرفية؛ إن كان النص المعني أدبيًّا أو شعريًّا أو جماليًّا في طابعه، وأما لو كان نصًّا علميًّا أو معرفيًّا فإن الأرجح هو ترجمة الاستعارة إلى بديل متعارف عليه في لغة القارئ، وهو معيار يمكن الاحتكام إليه في الاختيار من طرف الترجمة أعلاه.[44]

الإحالة [45]

بطل فلم "شريك" (Shrek، صدر سنة 2001) هو غول مرعب يخشاه الجميع؛ يرافقه حمار قصير ومحط سخرية في مهمة لإنقاذ أميرة حبسها تنين في قلعته، وتنتمي قصة هذا الفلم إلى فئة تسمى "المحاكاة الساخرة"،[46 وهي مثال ممتاز على الإحالة التي تتوقع من القارئ (أو المشاهد؛ في هذه الحالة) اطلاعًا سابقًا على قصص أو نصوص أخرى؛ "فيحال إليها" لفهم المعنى المقصود، فحبكة فلم شريك ليست مضحكة إلا لو عرف المشاهد شيئًا من الحكايات المشهورة الكثيرة من العصور الوسطى؛ التي ينقذ فيها فارس مغوار فتاة أو أميرة في مأزق،[47] ومكمن السخرية هو أن غولًا حلّ -في هذا الفلم- مكان الفارس وحمارًا مكان فرسه. ومن المستبعد جدًّا وربما المستحيل أن يُكتب نص أو قصة (سواء أكانت رواية أم مسرحية أم فلمًا أم كرتون أطفال) بمعزل عن غيره، فكل الإنتاجات الثقافية بينها علاقات متشابكة وثيقة بالإحالة والإشارة إلى بعضها بعضًا.

8.5.jpg

تُصوّر هذه اللوحة مشهدًا نموذجيًا لفارس العصور الوسطى الذي يُنقذ فتاة في خطر، ويحارب فيها القديس "جرجس" تنينًا يهاجم إحدى الأميرات (رُسمت سنة 1407م). - منشورة تحت ترخيص الملكية العامة. المصدر: ويكيميديا كومنز

تأتي الإحالات الثقافية على صورتين، فإما أن تكون: 1. اقتباسًا صرفًا من نص ما، مثل اقتباس آية من القرآن الكريم أو قول لشخص مشهور (وترجمة الإحالة يسيرة في هذه الحالات)، أو 2. تلميحًا ضمنيًّا لنصّ يألفه قارئ الأصل، وذلك بتقليد أسلوبه وهيئة النص الذي يريد الكاتب التلميح إليه (كحال المحاكاة الساخرة أعلاه)،[48] وهذه الإحالات عسيرة على الترجمة جدًّا، فهي تأتي خلال تلميحات مبطنة ربما يسهو عنها المترجم، أو لا يفهمها أساسًا إن لم يكن له اطلاع واسع على ثقافة الأصل. ثم إنه حتى لو فهمها فقد يجد ترجمتها شبه مستحيلة، فكيف يمكنه أن ينقل تلميحًا من الثقافة البريطانية -مثلًا- لقارئ عربي دون أن تضيع الفكرة؛ أو دون إفساد هذا التلميح الخفي بشرح طويل ومفصل؟

يفهم المرء ما يقرؤه أو يسمعه بإسقاطه على معرفته واطلاعه، فحينما يسمع مزحة يسقطها على ما سمعه سابقًا من مزحات أو ما يعرفه من أمور؛ ليفهم مكمن الفكاهة فيها، لكن هذه المزحة لن تضحكه في شيء إن كانت خارج إطار معرفته أصلًا.[49] ولذا يتعامل المترجم مع الإحالات الثقافية بحسب جمهوره، فلو توقع أن معظم الجمهور عارف بالإحالة؛ أمكنه أن يترجمها حرفيًّا دون قلق، وأما لو توقع أن الجمهور لا يعرف الإحالة لخصوصيتها الثقافية فعليه أن يفسرها بطريقة أو بأخرى.[50] ومن الأصح أن يفترض أن القارئ أجهل منه، فإن لم يفهم المترجم الإحالة فمن الأرجح أن القارئ العربي العادي لن يفهمها كذلك، حتى ولو كانت إحالة مشهورة بين الأدباء والمفكرين.[51]

8.6.jpg

كثيرًا ما يُحال إلى قصة قابيل وهابيل في الأدب العربي (في أشعار بدر شاكر السياب مثالًا) كمثال على الخير والشر. - منشورة تحت ترخيص المشاع الإبداعي CC-BY. المصدر: ويكيميديا كومنز

ومن المسائل الشائكة هنا؛ إن كان من الأجدر بالمترجم أن يضيف تفسيرًا للإحالات في متن النص (مما يعني أنه قد يتقولها على لسان المؤلف، وهو غير محبذ)، أو أن يكتبها في الحاشية لمن أراد الرجوع إليها. وينصح اللغوي "ثومسون" بأن كل معلومة لها ضرورة في استيعاب النص يجب أن تكون في المتن، حتى ولو كانت زيادة زادها المترجم، فهذه ضرورة للحفاظ على تماسك وتتابع الأفكار، وأما الحواشي فتخصص للاستزادة فحسب، وينطبق ذلك على تعريب العناصر الغريبة عن القارئ كافة.[52]

الأفعال المركبة والأمثال

تمتد فائدة المعاجم لمراجعة معاني الأمثال والأقوال المأثورة، فربما تقابل -أحيانًا- تعابير إنكليزية في سياق غريب لا يتوافق مع معناها المعتاد، فتحار في ترجمتها، وتكثر هذه المشكلة مع نوعين من التعابير الإنكليزية: هما الأفعال المركبة (Phrasal verbs) والأمثال أو الأقوال الشائعة (Idioms).

الأفعال المركبة كثيرة في اللغة الإنكليزية وهي تتألف من فعل معه حرف جر، فمن أمثلتها "Take off" و"Take on" و"Take out" و"Take down" وما شابهها، ومن الشائع أن يخطئ المترجمون المبتدئون في ترجمة هذه الأفعال؛ لأنهم لا يستوعبون أن الفعل المركب -بعد ارتباطه بحرف الجر- يكتسبُ معنى جديدًا قد لا تكون له علاقة واضحة بمعناه الأصلي. فلنأخذ الفعل Put (بمعنى "يضع") وأشكال المركبة الآتية كمثال:

  • Put on: بمعنى ارتداء الشيء، مثل: "Rami put on his shirt"، أي: "رامي ارتدى قميصه".
  • Put off: بمعنى تأجيل الشيء، مثل “Sara put off her homework”، أي: “سارة أجلت إنجاز فروضها المنزلية”.
  • Put out: بمعنى إطفاء الحريق، مثل: “Hala put out the fire”، أي: "أطفأت هالة الحريق".

ومن الواضح أن معاني هذه الأفعال لم تعد ذات صلة بعضها ببعض بعد تعريبها، ولذلك يقول محمد عناني: إن المترجم إذا وجد معنى الكلمة غريبًا فهذا يعني أنها جاءت في معنى جديد على المترجم،[53] وفيما يلي مثال ترفيهي من بداية عهدي بالترجمة، وهو بالأصل عنوان فصل من فصول موسوعة أطفال:[54]

  • Did Dinosaurs Baby-sitt?
  • [ترجمتي الحرفية] هل كانت تجلس الديناصورات الصغيرة؟
  • [ترجمة سليمة] هل اعتنت الديناصورات بأطفالها؟

وتأتي الأقوال المأثورة[55] -على عكس الفعل المركب- واضحة في النص لأنها ذات وقع غريب عادة، والمهم هو أن يحرص المترجم على مراجعة معنى القول المأثورة في معجم، وليس أن يقفز إلى استنتاج متسرع أو تخمين لمعنى هذا القول، فمن المرجح أن يخطئ تخمينه تمامًا. وفيما يلي أمثلة على عدد من الأقوال الإنكليزية المعروفة، التي قد لا يكون معناها واضحًا لمن لم يألفها:

  • "It’s raining cats and dogs". الترجمة الحرفية: "إنها تمطر قططًا وكلابًا"، المعنى القصود: "المطر غزير".
  • "To feel a bit under the weather": الترجمة الحرفية: "الإحساس بأنك تحت الطقس بعض الشيء"، المعنى المقصود: "شعور بالمرض".
  • "To give the benefit of the doubt": الترجمة الحرفية: "إعطاءُ منفعة الشك"، المعنى المقصود: "قبول حجة أو فكرة دون دليل قاطع على صحتها".
  • “Every cloud has a silver lining”: الترجمة الحرفية: “لكل غيمة بطانة فضية”، المعنى المقصود: “في كل مصيبة خير".
  • "Diamonds cut diamonds": الترجمة الحرفية: "الألماس يقطع الألماس"، المعنى المقصود: "لا يفل الحديد إلا الحديد".

وفي الأقوال المأثورة مذهبان: 1. إما نقل فحواها ومعناها (كالأمثلة الثلاثة الأولى أعلاه)، أو 2. تقريبها إلى قول مأثور معروف في لغة الترجمة (كالمثالين الأخيرين). ويحذر المترجمون المحترفون من المبالغة في البحث عن قول مأثور في الترجمة يقابل كل قول أجنبي، فهذه الأقوال ليست ضرورية دائمًا، بل غرضها جمالي في كثير من الأحيان، وأما الحاجة إلى ترجمتها فتعود إلى كيفية توظيفها في النص وإذا ما كان الكاتب مهتمًّا بالإحالة إليها في باقي كتابه.[56]

ومن الطرق المتبعة في التعويض عن هذه الخصائص الجمالية للأقوال المأثورة؛ الاستعاضة عن الأمثال الإنكليزية في الأصل بأمثال عربية في مواضع جديدة (أي تبديل مكان الأقوال المأثورة في النصّ، كأن يحذف أحدها من الصفحة السادسة ويضيف غيره إلى الصفحة العاشرة)، وذلك للحفاظ على الهوية الأدبية عامةً، ولو لم يحفظها بدقتها. وهذا حل متبع في استراتيجيات الترجمة، ومنه ما طبقه مترجمو قصص أستريكس المصورة من الفرنسية إلى الإنكليزية.[57]

والمبالغة في التركيز على ترجمة الأمثال والتشبيهات وغيرها من جماليات النص؛ ليست ذات شأن إلا إذا جمعها المترجم بإخلاص وإتقان في صياغة النثر العادي، فهذه كماليات تزين الترجمة، وأما الجوهر والأساس فهو معنى النص وما يصفه من أحداث القصة أو هدف المقال والكتاب. والمفارقة هي أن نقل المعنى ممكن في معظم الأحوال، مع بعض الشرح والتفصيل والإبداع، وأما نقل الأسلوب وجماليات اللغة فهو محال لاختلاف اللغات في أسلوبها وبلاغتها،[58] وهذه أمر أساسي يجدر بالمترجم أن يتعايش معه حين يحول اهتمامه من ترجمة الكلمات والتراكيب -منفردة- إلى جمل كاملة ومتناسقة في اللغة.

_____

اقتباس

ملاحظة: إذا أردت مراجعة المراجع والمصادر المشار إليها فيمكنك ذلك من خلال قراءة هذا الفصل من كتاب فن الترجمة والتعريب والرجوع إلى فصل المصادر فيه.

اقرأ أيضًا


تفاعل الأعضاء

أفضل التعليقات

لا توجد أية تعليقات بعد



انضم إلى النقاش

يمكنك أن تنشر الآن وتسجل لاحقًا. إذا كان لديك حساب، فسجل الدخول الآن لتنشر باسم حسابك.

زائر
أضف تعليق

×   لقد أضفت محتوى بخط أو تنسيق مختلف.   Restore formatting

  Only 75 emoji are allowed.

×   Your link has been automatically embedded.   Display as a link instead

×   جرى استعادة المحتوى السابق..   امسح المحرر

×   You cannot paste images directly. Upload or insert images from URL.


×
×
  • أضف...