اذهب إلى المحتوى

التأثيرات الشخصية على الشدة في العمل


يمان نعساني

يمكن إيجاد المؤثّر الرئيسيّ الثاني على الشِدّة المرتبطة بالعمل في الموظّفين أنفسهم. سوف نفحص هنا ثلاثة عوامل فرديّة من شأنها أن تؤثّر على الإجهاد في العمل، وهي: (1) التحكّم الشخصيّ (2) الشخصية من النوع (أ) (3) معدل تغيّر نمط الحياة.

التحكم الشخصي

يجب أن نعترف بدايةً بأهميّة عامل التحكّم الشخصيّ (personal control) في الشِدّة ضمن العمل. يُشير التحكّم الشخصيّ إلى مدى سيطرة الموظّف على العوامل المؤثّرة على الأداء الوظيفيّ الفعّال. إذا كُلّف الموظّف بمسؤوليّةٍ ما (هبوط طائرة أو إكمال تقرير أو الالتزام بموعد نهائيّ) ولكن لم يُمنح فرصة كافية (وقتًا أو دعمًا) لإنجاز تلك المهمّة (بسبب كثرة الطائرات أو عدم كفاية المعلومات أو الوقت غير الكافي) يفقد الموظف السيطرة الشخصيّة على العمل ويرتفع مستوى الشِدّة والتوتر لديه.

يبدو أن التحكّم الشخصيّ يعمل من خلال عملية مشاركة الموظّف؛ أي أنّه كلما سُمح للموظّفين بالمشاركة في الأمور المتعلقة بالوظيفة، زاد شعورهم بالتحكّم في إنجاز المشروع. من ناحية أخرى، إذا استُبعدت آراء الموظّفين ومعرفتهم ورغباتهم وتجاهلها الإداريون من عمليّات المؤسّسة فإنّ غياب بالإحساس بالمساهمة الفعّالة لدى الفرد لا يؤدي إلى زيادة الشِدّة فحسب بل إلى انخفاض الإنتاجيّة أيضًا.

تنعكس أهميّة مشاركة الموظّفين في تعزيز التحكّم الشخصيّ وتقليل الشِدّة في دراسة فرينش وكابلان المذكورة سابقًا. وبعد جهد كبير للكشف عن سوابق الشِدّة المتعلّقة بالعمل، خلُص الباحثون إلى ما يلي:

"نظرًا لارتباط المشاركة بانخفاض إبهام الدور ارتباطًا وثيقًا والعلاقات الجيدة مع الآخرين وانخفاض الحمل الزائد؛ فمن الممكن أن تنتشر حالة المُساهمة على نطاق واسع وأن نتمكّن من الربط بين مدى مشاركة الشخص بالعلاقات وبين مختلف مسبّبات الشِدّة في العمل.

هذا الاستنتاج غدا واقعًا مُعاشًا، عندما نتحكّم أو نثبّت مقدار مشاركة الشخص -نعني تثبيت إحصائيّ- ستنخفض الارتباطات بين جميع مسبّبات الشِدّة المذكورة أعلاه والرضا الوظيفيّ والتهديد المرتبط بالوظيفة انخفاضًا ملحوظًا. هذا يعني أنّ المشاركة المنخفضة تولّد هذه الضغوط وأنّ زيادة المشاركة هي وسيلة فعّالة للحدّ من الضغوط الأخرى الّتي تؤدّي أيضًا إلى الشِدّة والتوتّر النفسيّ في العمل.

استنادًا إلى هذه الدراسة والدراسات الأخرى ذات الصلة، يمكننا أن نستنتج أنّ زيادة المشاركة والتحكّم الشخصيّ على وظيفة الفرد ترتبط بالعديد من النتائج الإيجابيّة، بما في ذلك إنقاص الشِدّة النفسيّة والتوتّر وزيادة استخدام المهارات وتحسين علاقات العمل وتطوير مواقف عمل أكثر إيجابيّة مستقبلًا. تساهم هذه العوامل بدورها في زيادة الإنتاجيّة. يعرض الشكل 18.5 هذه النتائج. يتعلّق مفهوم موضع التحكّم (locus of control) بموضوع التحكّم الشخصيّ (تخفيف أثره تحديدًا). يمتلك بعض الناس مركزًا داخليًّا للتحكّم ويشعرون أنّ الكثير مما يحدث في حياتهم تحت سيطرتهم. يمتلك البعض الآخر مركزًا خارجيًا للتحكّم ويشعرون بأن العديد من أحداث الحياة خارجة عن سيطرتهم. يؤثّر هذا المفهوم على كيفيّة استجابة الناس لمقدار التحكّم الشخصيّ في مكان العمل. أي أنّه من المرجّح أن ينزعج الشخص من التهديدات الداخليّة للتحكّم الشخصيّ أكثر من التهديدات الخارجيّة. تشير الدلائل الحديثة إلى أنّ الأشخاص ذوي مركز التحكّم الداخليّ يتفاعلون بعدوانيّة مع المواقف التي يتحكّمون بها قليلًا أو لا يتحكّمون بها على الإطلاق، وذلك في محاولة لإعادة بسط السيطرة على الأحداث الجارية. من ناحية أخرى، يميل الأفراد ذوو مركز التحكّم الخارجيّ إلى الاستسلام أكثر للسيطرة الخارجيّة، وهم أقلّ مشاركة بكثير في بيئة العمل المقيّدة، ولا يتأثرون بمسبّبات الشِدّة والتوتر المؤسّساتيّة. لذا يجب تحديد طبيعة مركز التحكّم كونه وسيطًا مهمًّا ومُحتملاً لآثار التحكّم الشخصيّ من حيث صلته بالشِدّة والتوتّر في بيئة العمل.

Exhibit 18.5.png

الشكل 18.5 نتائج التحكّم الشخصيّ العالي (حقوق النشر: جامعة Rice، منظّمة OpenStax، مرخّصة برخصة المشاع الإبداعيّ CC-BY 4.0).

نمط الشخصية (أ)

ركزت الأبحاث على ما قد يكون التأثير الشخصي الأخطر على الشِدّة في العمل والضرر الجسدي اللاحق لها. قُدّمت هذه الخاصية لأوّل مرة بواسطة فريدمان (Friedman) وروزنمان (Rosenman) وسُمّيت بنمط الشخصيّة (أ) (Type A personality). تعدُّ أنماط الشخصيّة (أ) و(ب) مستقرّة نسبيًّا.

تتميّز الشخصية من النمط (أ) بالصبر القليل والأرق والعدوانيّة والقدرة التنافسيّة والأنشطة متعددة الأطوار (أي القدرة على إنجاز عدّة مهامّ في آنٍ واحد) وتحمّلها لضغوط عمل طويلة. تهمّ أنشطة العمل الأفراد من النمط (أ)، وهم يميلون إلى قضاء ساعات طويلة في العمل بغية الالتزام بالمواعيد النهائية الملحّة (والمتكرّرة).

من ناحية أخرى، يعاني الأشخاص من النمط (ب) من عجزهم على الالتزام بمواعيد العمل النهائيّة أو النزاعات الأصغر وهم لا يرتبطون بالوقت أو العداء، ويكونون بشكل عام أقلّ قدرة على المنافسة في العمل. يلخّص الجدول 18.3 هذه الاختلافات.

صفات أنماط الشخصيّة (أ) و(ب)
النمط (أ) النمط (ب)
تنافسيّة عالية يفتقر للتنافسيّة
مدمن عمل العمل أحد اهتماماته لا أكثر
رغبة عارمة ومُلحّة توجّه زمنيّ أكثر راحة
تعدّد المهام يُنجز بمهمّة واحدة كلّ مرّة
موجّه نحو الهدف بقوّة توجّه أخف نحو الهدف

الجدول 18.3 (حقوق النشر: جامعة Rice، منظّمة OpenStax، مرخّصة برخصة المشاع الإبداعيّ CC-BY 4.0).

توجد شخصية النمط (أ) كثيرًا لدى المديرين. وجدت إحدى الدراسات في الحقيقة أنّ 60% من المديرين ينتمون بوضوح للنمط (أ) في حين انتمى 12% فقط منهم للنمط (ب). من المقترح أنّ الشخصيّة من النمط (أ) تساعد الشخص على الصعود في المناصب الوظيفيّة.

يتجلّى دور شخصية النمط (أ) في إنتاج الشِدّة من خلال العلاقة بين هذا السلوك وأمراض القلب. درس روزنمان وفريدمان 3500 رجلًا على مدى 8 سنوات ونصف، ووجدا أنّ الأفراد من النمط (أ) أكثر عُرضة بمرتين للإصابة بأمراض القلب وبخمس مرات لنوبة قلبيّة ثانية وبمرتين للنوبات القلبيّة المميتة عند مقارنتهم بـالأفراد من نمط الشخصيّة (ب). وبالمثل، درس جنكنز (Jenkins) أكثر من 3000 رجل ووجد أنّ من بين 133 مصابًا باضطرابات القلب التاجيّة هنالك 94 ينتمون للنمط (أ). يشير الارتفاع السريع للنساء في المناصب الإداريّة إلى أنّهن قد يعانين من المشكلة ذاتها في المستقبل القريب. أي أنّ نمط الشخصيّة (أ) هو محفّز قويّ وواضح لواحدة من أخطر نتائج الشِدّة والتوتّر في العمل، الأمراض القلبيّة الوعائية.

إحدى المفارقات في النمط (أ) هي أنّه على الرغم من أن هذا السلوك مفيد في تأمين الترقية السريعة إلى قمّة الهرم الإداري للمؤسس، إلا أنه قد يغدو سلبيًّا بمجرد وصول الفرد للمستويات الإدارية العليا. أي أنّه على الرغم من كون الموظفين من النمط (أ) يشكّلون خامةً جيّدة لمديرين ناجحين (ومندوبي مبيعات متميّزين)، إلا أنّ معظم المديرين التنفيذيّين اللامعين يميلون إلى أن يكونوا من النمط (ب).

فهم يظهرون صبرًا واهتمامًا واسعًا بتداعيات القرارات. يقول الدكتور إلمر غرين (Dr. Elmer Green)، عالم النفس في مؤسسة (Menninger) الّذي يعمل مع المديرين التنفيذيّين، يقول: "هذا الزميل -القائد من النمط (أ)- لا يمكنه الاسترخاء بما يكفي للقيام بعمل عالي الجودة في المكتب أو في المنزل؛ قد يصل إلى مستوى عالٍ بعمله الشاق ودأبه المستمر، ولكن لن يصل في كثير من الأحيان إلى ذروة عمله أو إنجازه، لأن ذلك يتطلّب تفكيرًا رصينًا وهادئًا ومتوازنًا. إذًا المفتاح هو معرفة كيفيّة تحويل السلوك من النمط (أ) إلى النمط (ب).

كيف يحقّق المدير ذلك؟ الجواب الواضح هو الهدوء والاسترخاء. ومع ذلك يرفض العديد من مديري النمط (أ) الاعتراف بالمشكلة أو الاعتراف بالحاجة للتغيير لأنّهم يشعرون أنّه قد يُنظر إلى ذلك على أنّه علامة ضعف. يمكن في هذه الحالات اتّخاذ العديد من الخطوات الصغيرة، بما في ذلك جدولة أوقات محدّدة كل يوم لممارسة الرياضة وتفويض أعمال تحمل طابع التحدّي والرضا النفسي للمرؤوسين وإلغاء الأنشطة الاختياريّة من الجدول اليومي.

بدأت بعض الشركات بتجربة المُعتَزَلات (retreats) حيث يخرج المديرين من بيئة العمل وينخرطون في العلاج النفسيّ الجماعيّ حول المشاكل المرتبطة بشخصية النمط (أ). تبدو النتائج الأوليّة من هذه البرامج واعدة. يجب مع ذلك القيام بالمزيد إذا أردنا تقليل الشِدّة المرتبطة بالوظيفة وآثارها الصحّيّة الخطيرة.

معدل تغير الحياة

التأثير الشخصيّ الثالث على الشِدّة في العمل هو درجة استقرار الحياة أو اضطرابها، بمعنى آخر مستوى رتابة حياة الفرد. حاول مشروع بحثيّ طويل الأمد من قبل هولمز (Holmes) وراه (Rahe) توثيق مدى معدّل تغيّر الحياة (rate of life change) الّذي يولّد الشِدّة لدى الأفراد ويؤدّي إلى ظهور المرض. حُدّدت مجموعة متنوعة من الأحداث في الحياة نتيجة لعملهم وخُصّصت نقاط لهذه الأحداث بناءً على مدى ارتباط كل حدث بالشِدّة والمرض.

يُعدُّ وفاة الزوج أو الزوجة المسبّب الأكبر للشِدّة وخُصّص له 100 نقطة. قيست الأحداث الأخرى بشكل يتناسب مع ذلك من حيث تأثيرها ووقعها على الشِدّة والمرض. وقد وُجد أنه كلّما زادت شدّة وتواتر الأحداث الأخيرة زاد احتمال إصابة الفرد بالمرض. ينجُم تأثير تغييرات مُجريات الحياة على الشِدّة والمرض، ينجم عن نظام الغدد الصمّ.

يوفّر هذا النظام الطاقة اللازمة للتعامل مع المواقف الجديدة أو غير العادية. عندما يتجاوز معدّل التغيير مستوى معيّنًا يعاني النظام الغدّي من الحمل الزائد ولا يتمكّن من التوفيق وموازنة الحالة الهرمونيّة وبالتالي النفسيّة للفرد. والنتيجة هي مناعة منخفضة ضد الفيروسات والأمراض.

ترجمة -وبتصرف- للفصل (Stress and Well Being) من كتاب Organizational Behavior


تفاعل الأعضاء

أفضل التعليقات

لا توجد أية تعليقات بعد



انضم إلى النقاش

يمكنك أن تنشر الآن وتسجل لاحقًا. إذا كان لديك حساب، فسجل الدخول الآن لتنشر باسم حسابك.

زائر
أضف تعليق

×   لقد أضفت محتوى بخط أو تنسيق مختلف.   Restore formatting

  Only 75 emoji are allowed.

×   Your link has been automatically embedded.   Display as a link instead

×   جرى استعادة المحتوى السابق..   امسح المحرر

×   You cannot paste images directly. Upload or insert images from URL.


×
×
  • أضف...