اذهب إلى المحتوى

نظرية السمات في القيادة


هيفاء علي

كان العلماء اليونانيون والرومانيون والمصريون والصينيون القدماء مهتمين كثيرًا بمفهوم القادة والقيادة؛ إذ إنَّ كتاباتهم كانت تُصوِّر القادة على أنَّهم أبطال. على سبيل المثال، صوَّر هوميروس -في قصيدته الأوديسة- أوديسيوس أثناء حرب طروادة وبعدها على أنَّه قائد عظيم ذو رؤية وثقة بالنفس. ذُكر في الأوديسة أيضًا أنَّ تليماخوس (ابن أوديسيوس) قد اكتسب على يد معلمه- شجاعة ومهارات قيادية مثل والده. لقد نشأت من هذه القصص نظرية «الرجل العظيم» في القيادة والتي شكَّلت نقطة انطلاق للدراسات المعاصرة للقيادة.

تنصُّ نظرية الرجل العظيم في القيادة على أنَّ بعض الناس يُولَدون وهم يحملون سِمات تُمكنِّهم من أن يصبحوا قادةً عظماء. يُعدُّ الخلفاء الراشدون وصلاح الدين الأيوبي ومحمد الفاتح من القادة العظماء الذين كانوا يتمتَّعون منذ نعومة أظفارهم بمجموعة من السمات والمؤهّلات الشخصية التي ساهمت في أن يُصبحوا قادة مؤثِّرين. والجدير بالقول إنه ما يزال الاعتقاد بأنَّ القادة العظماء يُولدون كذلك (بمهاراتهم القياديّة الفطريّة) منتشرًا حتى يومنا هذا. على سبيل المثال، ذكر الكاتب كينيث لابيك في مجلة فورتشن: «يبدو أنَّ أفضل القادة يمتلكون هبة إلهية».

لقد بذل العلماء والباحثون في أوائل القرن العشرين جهودًا لفهم القادة والقيادة، وسعوا إلى أن يعرفوا الخصائص المشتركة بين القادة بُغية تحديد الأشخاص الذين يتمتَّعون بهذه الخصائص وتعيينهم في مناصب رئيسية في المؤسسات، وقد نتج عن هذه الجهود البحثية واحدة من أوائل النظريات القيادية، وهي نظرية السمات في القيادة. لقد أدَّت نظرية الرجل العظيم في القيادة والرغبة في فهم ماهيّة القيادة إلى تركيز الباحثين على دراسة القائد وطرح عدد من التساؤلات مثل: من هو القائد؟ ما هي الخصائص التي تُميِّز القادة العظماء والمؤثِّرين؟

الأبحاث حول سمات القادة

يُعدُّ الباحث رالف ستوجديل -الذي عمل في جامعة ولاية أوهايو- رائدًا للدراسات الحديثة في القيادة (أواخر القرن العشرين). حاول الباحثون الذين تبنّوا نظرية السمات تحديد الخصائص التي يتمتَّع بها القادة والتي تشمل:

  • السمات الفسيولوجية، مثل: المظهر، والطول، والوزن.
  • السمات الديموغرافية، مثل: العمر، والتعليم، والخلفية الاجتماعية والاقتصادية.
  • السمات الشخصية، مثل: الميل إلى السيطرة، والثقة بالنفس، والقوة.
  • السمات الفكرية، مثل: الذكاء، والحسم، وحُسن التقدير، والمعرفة.
  • السمات المرتبطة بالمهام، مثل: الدافعية للإنجاز، وروح المبادرة، والإصرار.
  • السمات الاجتماعية، مثل: الأُلفة والتعاون.

اطّلع ستوجديل على بضع مئات من الدراسات المتعلِّقة بسمات القائد، ثمَّ وصف القائد الناجح في عام 1974 كما يلي:

اقتباس

يتميَّز القائد [الناجح] برغبة كبيرة في تحمُّل المسؤولية وإنجاز المهام، وبالحيوية والإصرار على تحقيق الأهداف، بالإضافة إلى تحلّيه بروح المغامرة والإبداع في حل المشكلات، والرغبة في المبادرة في المواقف الاجتماعية، والثقة بالنفس ومعرفة الذات، والاستعداد لتقبُّل عواقب قراراته وأفعاله، والاستعداد لتهدئة وحلّ النزاعات بين الأشخاص، والاستعداد لتحمُّل إحباطات الموظفين وتقصيرهم، والقدرة على التأثير على سلوك الآخرين، والقدرة على تنظيم التفاعلات الاجتماعية لتحقيق الأهداف المنشودة.

استمرَّت الدراسات خلال العقود الثلاثة الأخيرة من القرن العشرين لتحديد العلاقة بين نشأة القادة وفعاليتهم من جهة والسمات التي يمتلكونها من جهة أخرى، ومن هؤلاء الباحثين إدوين لوك، من جامعة ميريلاند، وعدد من زملائه الذين لاحظوا أنَّ القادة الناجحين يمتلكون مجموعة من السمات الأساسية المُشتركة والتي تختلف عن سمات الآخرين. على الرغم من أنَّ هذه السمات لا تكفي لوحدها لتحديد ما إن كان الفرد مؤهّلًا ليغدوَ قائدًا ناجحًا أم لا، إلَّا أنَّها بمثابة أساسات تُزوِّد الأشخاص بمعرفة الإمكانيّات المطلوبة للقيادية الفعّالة، وتتضمَّن هذه السمات الأساسية ما يلي:

  • الحافز: جهود كبيرة ورغبة شديدة في الإنجاز ومستويات عالية من الطموح والنشاط والمثابرة والمبادرة.
  • الدافعية القيادية: رغبة شديدة في قيادة الآخرين.
  • الأمانة والنزاهة: الالتزام بالحقيقة وتجنُّب الخداع بحيث تتطابق الأقوال مع الأفعال.
  • الثقة بالنفس: إيمان الشخص بذاته وأفكاره وقدراته.
  • القدرة الإدراكية: امتلاك مهارات فكرية وقدرة على إصدار الأحكام الصائبة وقدرة عالية على التحليل والتفكير الاستراتيجي الشامل.
  • الإلمام بشؤون العمل: مستوى عالٍ من الفهم والخبرة في القضايا المتعلِّقة بالشركة ومجال العمل والقضايا التقنية.
  • سمات أخرى: مثل الكاريزما والإبداع والمرونة في التعامل.

على الرغم من أنَّ القادة هم أفرادٌ يمتلكون المؤهلات القياديّة المناسبة، إلَّا أنَّ القيادة الفعَّالة تتطلَّب أكثر من مجرَّد امتلاك الدوافع والسمات المناسبة؛ فامتلاك المعرفة والمهارات والقدرات اللازمة، وتحديد الرؤية والاستراتيجية وتنفيذها بطريقة فعَّالة، جميع هذه الأمور ضرورية للفرد الذي يمتلك المؤهلات المناسبة لكي يتمكَّن من الاستفادة من إمكانياته القيادية. لقد أشار إدوين لوك إلى أنَّ الأشخاص الذين يتمتَّعون بهذه السمات يُمارسون سلوكيات ذات طابع قيادي. ينجذب الناس (الأتباع) إلى الأفراد الذين يُظهرون سمات، مثل: الأمانة والنزاهة والثقة بالنفس والدافعية القيادية، ويميلون إلى اتّباع توجيهات هؤلاء الأفراد.

يُنبِّهنا علماء النفس إلى أنَّ السلوك هو نتيجة التفاعل بين الشخص والموقف الذي يكون فيه، ويُضيف عالم النفس والتر ميشيل ملاحظة مهمة وهي أنَّ معالم شخصية الفرد تظهر على سلوكه في المواقف الضعيفة، في حين أنَّها تُحجب في المواقف القوية.

يُقصد بالموقف القوي: الموقف الذي تتوفَّر فيه معايير وقواعد سلوكية ثابتة، وحوافز قوية، وتوقُّعات واضحة، ومكافآت على التصرُّف بطريقة معينة. على سبيل المثال،إنَّ الهياكل التنظيمية الميكانيكية التي تُحدِّد التسلسل الهرمي للسلطة والوظائف وإجراءات التشغيل القياسية في الشركة تُشكِّل موقفًا قويًا، في حين أنَّ الهياكل التنظيمية العضوية تُشكِّل موقفًا ضعيفًا. تجدر الإشارة إلى أنَّ سمات القائد تؤثِّر تأثيرًا كبيرًا على سلوكه القيادي ومن ثمَّ على فاعليته في المواقف التي تُتيح له التصرُّف وفق سجيته وطباعه، وهذا يعني أنَّ سمات الشخصية تتحكَّم بدرجة كبيرة في سلوك القائد في المواقف الضعيفة.

فيما يتعلَّق بصحة نظرية الرجل العظيم في القيادة، فإنَّ الملاحظات التي جُمعت حتى الآن لا تدعم بقوة فكرة الصفات القياديّة الفطريّة للقادة (أي فكرة أنَّ الأفراد يمكتلكون سمات قياديّة معينة منذ ولادتهم)، ولكنَّ الدراسة التي أُجريت على التوائم في جامعة مينيسوتا تشير إلى احتمالية أن يكون الأمر متعلِّقًا جُزئيًا بالجينات. لقد وُجد أنَّ العديد من السمات الشخصية والاهتمامات المهنية (التي قد تكون مرتبطة برغبة الشخص في أن يكون مسؤولًا عن الآخرين وفي أن يقودهم) ترتبط بالجينات وبالتجارب والخبرات الحياتية أيضًا. يُرجع أصل نشأة معظم السمات الأساسية التي حدَّدها الباحث إدوين لوك وزملاؤه،يُرجع إلى التجارب الحياتية التي نمرُّ بها، وهذا يعني أنَّ الشخص لا يُولد وهو يحمل ثقةً قويّة بنفسه. الحقيقة هي أنَّ الثقة بالنفس يُمكن تطويرها، وإنَّ تحلِّي الفرد بالأمانة والنزاهة ينبع من اختياره الشخصي لسلوك الطريق القويم، وأنَّ الدافعية القيادية تنبثق من رغبة الفرد وتقع ضمن نطاق سيطرته، وأنَّ المعرفة بشؤون العمل يُمكن اكتسابها وتعلُّمها.

بالإضافة إلى ذلك، فإنَّ القدرة الإدراكية التي ترتبط بالجينات بحاجة إلى التنمية والتطوير، كما أنَّ دوافع الفرد وميوله قد ترتبط أيضًا بالعوامل الوراثية، ويمكن أيضًا أن تتأثَّر بإرادة الشخص وتشجيع الآخرين له (الوسط الاجتماعي المحيط به). ومما لا شكَّ فيه أنَّ اكتساب تلك السمات أو تطويرها لا يحدث بين ليلة وضحاها.

سمات أخرى مرتبطة بالقيادة

تؤثِّر كلٌّ من أدوار الجنسين والميول والرقابة الذاتية على نشأة القادة وأساليبهم القيادية كما سنوضِّح فيما يلي.

أدوار الجنسين

لقد أُجريت العديد من الدراسات بهدف فهم أثر نوع الجنس على عملية القيادة، وقد تناولت الدراسات موضوعين أساسيين هما: تحديد العلاقة بين نشأة القادة ونوع الجنس أو الأدوار التي حدَّدها المجتمع لكل جنس، وتحديد ما إذا كانت هناك اختلافات في الأساليب القيادية التي يستخدمها كلا الجنسين.

تؤكِّد الملاحظات أنَّ عدد الرجال الذين يُصبحون قادة أكثر من عدد النساء اللاتي يُصبحن قادة؛ إذ لم يكن على مرّ التاريخ سوى عدد قليل من النساء اللاتي تقلَّدن مناصب قيادية. تجدر الإشارة إلى أنَّ امتلاك النساء للخبرة في المجتمع المعاصر يُمكن أن يؤهلهنَّ للدور القيادي في البُنى المؤسساتيّة في الوقت الراهن.

على الرغم ممَّا سبق، فإنَّ معرفة الأدوار الاجتماعية للجنسين تزيد من إمكانية التنبؤ بالأفراد الذين سيُصبحون قادة، إذ تزداد احتمالية أن يتولَّى الأفراد الذين يمتلكون خصائص ذكورية (مثل: الحزم، العدوانية، حب المنافسة، الاستعداد للتعبير عن الرأي بصراحة) مناصبًا قيادية، مقارنةً بالأفراد الذين يمتلكون خصائص أنثوية (مثل: المرح، الحنان، التعاطف، اللطف). في معظم المجتمعات تُبنى شخصيّة الذكور في العمليّة التربويّة على أساس امتلاك الخصائص الذكورية، بالمقابل تتعمد عمليّة التنشئة والتربية للإناث على امتلاك الخصائص الأنثوية.

لقد حاول الباحثون معرفة ما إذا كانت هناك اختلافات بين الذكور والإناث من حيث استخدام الأساليب القيادية الموجَّهة نحو المهام أو الموجَّهة نحو العلاقات، وما إذا كانت هناك اختلافات جوهريّة بينهم من حيث استخدام الأساليب الاستبدادية أو الديمقراطية، ووجدوا أنَّ الاختلافات بينهم هامشية فيما يتعلَّق بالاهتمام بالعلاقات أو المهام؛ فالنساء أكثر اهتمامًا إلى حدٍّ ما بالتفاعل والعلاقات الاجتماعية، في حين أنَّ الرجال أكثر اهتمامًا إلى حدٍّ ما بإنجاز المهام وتحقيق الأهداف. أمَّا فيما يتعلَّق باستخدام أساليب القيادة الاستبدادية أو الديمقراطية، فهناك اختلافات كبيرة بين الرجال والنساء؛ إذ يميل الرجال إلى استخدام الأساليب القيادية الاستبدادية أو التوجيهية أثناء قيادة مجموعاتهم، في حين تميل النساء إلى استخدام الأساليب القيادية الديمقراطية أو التشاركية عند إدارة فرق العمل. في الحقيقة، قد يكون السبب في زيادة أعداد الرجال الذين يُصبحون قادة مقارنة بالنساء هو أنَّ الرجال أكثر ميلًا إلى تقديم التوجيهات أو إصدار الأوامر ومن ثمَّ يكون لهم دور كبير في تحقيق الأهداف المنشودة.

الميول الفردية

غالبًا ما يستخدم علماء النفس مُصطلحي الميول والمزاج لوصف حالات الأفراد وتمييزهم عن بعضهم بعضًا. على سبيل المثال، يميل الأفراد الذين يتصِّفون بحالة شعورية إيجابية إلى أن يكونوا نشيطين وأقوياء ومتحمِّسين ومفعمين بالحيوية ومبتهجين. إذا كان القائد يتصِّف بهذه الحالة المزاجية، فإنَّه سيبثُّ روح الثقة والتفاؤل لدى فريقه أو مجموعة عمله وسيستمتع ومن حوله من الأأفراد بالأنشطة المرتبطة بالعمل.

بيّنت دراسة أُجريت حديثًا في جامعة كاليفورنيا بيركلي أنَّ القادة والمديرين ذوي الحالة المزاجية الإيجابية غالبًا ما يكونون أكثر كفاءة في التفاعل وتكوين العلاقات ضمن مجموعات العمل، ويُساهمون مساهمةً إيجابيّة في الأنشطة الجماعية، ويكونون أكثر فاعلية في تأدية مهامهم القيادية. يبدو أنَّ حماسهم ونشاطهم الكبير ينتقل منهم إلى الأتباع، لذلك فإنَّ هؤلاء القادة يعزِّزون من تماسك المجموعة وإنتاجيتها. تساهم هذه الحالة المزاجية أيضًا في انخفاض معدل دوران الموظفين، كما وترثّر في اندماج الأتباع وانخراطهم في المبادرات الذاتيّة التي تصبُّ في مصلحة المجموعة.

الرقابة الذاتية

الرقابة الذاتية هي سمة شخصية ترتبط بمدى قدرة الفرد على إدراك الإشارات اللفظية وغير اللفظية وتغيير سلوكه من أجل ضبط نفسه والمحافظة على الصورة التي يراه الآخرين بها. يُعدُّ الأفراد ذوو الرقابة الذاتية المرتفعة بارعين جدًّا في إدراك الإشارات الاجتماعية وتقديم أنفسهم للآخرين وفق ما تقتضيه المواقف المختلفة. في المقابل، يُعدُّ الأفراد ذوو الرقابة الذاتية المنخفضة أقل انتباهًا للإشارات الاجتماعية وقد يفتقرون إلى الدافع أو إلى القدرة على إدارة تفاعلهم مع الآخرين.

تشير بعض الدلائل إلى أن فُرص القيادة تكون أفضل لدى الأفراد الذي يمتلكون مستوى رقابة داخليّة مرتفع، ويبدو أنَّ تأثيرهم على قرارات المجموعة وهيكليتها أكبر مقارنةً بالأفراد ذوي الرقابة الذاتية المنخفضة. قد يرجع سبب ذلك إلى أنَّ الأفراد ذوو الرقابة الذاتية المرتفعة يحاولون عادةً تنظيم التفاعلات التي تحدث داخل المجموعة وتحديد دور كل عضو فيها من أجل دفعها نحو تحقيق الأهداف المنشودة.

النظريات السلوكية في القيادة

لقد كانت محصلة الأبحاث والدراسات التي استمرَّت لأربعة عقود بهدف تحديد السمات الشخصية المرتبطة بنشأة القادة وفعاليتهم، كانت محصلة هذه الأبحاث ملاحظتين أساسيّتين. الملاحظة الأولى هي أهمية السمات التي يتحلَّى بها القائد؛ إذ تزداد احتمالية أن يُصبح الأفراد الذين يمتلكون الخصائص المناسبة (مثل: الحافز والثقة بالنفس والأمانة والنزاهة) قادة فعَّالين مقارنةً بالأفراد الذين لا يمتلكون هذه الخصائص. الملاحظة الثانية هي أنَّ السمات ليست سوى عامل واحد من العوامل التي تساهم في ارتقاء الفرد لمنصبٍ قياديّ وهل ستكون قيادته فعّالةً أم لا.

استمرَّ الباحثون -متأثرين بنظرية الرجل العظيم في القيادة- في دراسة القادة لمحاولة فهم العوامل التي تُسهم في نشأة الكوادر القيادية والعوامل المؤهّبة لتشكُّل القيادة الفعَّالة، وبدؤوا يفكِّرون في أنَّهم قد يستطيعون التوصُّل إلى فهم أشمل من خلال دراسة أفعال القادة. سوف نسلِّط الضوء في هذا القسم على سلوكيات القادة وسوف نبيِّن النظريات السلوكية في القيادة.

حاليًا تُركّز الدراسات والأبحاث أثناء تحديد وتقييم عناصر القيادة الفعَّالة على تصرّفات وأفعال القادة ذاتها. يتفق الرؤساء التنفيذيون والمستشارون الإداريون على أنَّ القادة الفعَّالين يثقون بالموظفين، ويُحدِّدون الرؤية، ويحافظون على رباطة جأشهم، ويُشجِّعون على خوض المجازفات، ويوفِّرون الخبرة العملية اللازمة، ويُرحبِّون بالآراء المخالفة، ويُوجِّهون انتباه الجميع إلى القضايا المهمة.

أشار ويليام أرودا في مقالٍ نُشر في مجلة فورتشن إلى أنَّ المؤسسات التي تتبنّى سياسة توجيه ودعم موظفيها تحصد إيراداتٍ أعلى من المتوسط مقارنةً بنظيراتها، كما أنَّ 65% من الموظفين الذين يعملون في المؤسسات ذات سياسة الدعم والتوجيه قد وصفوا أنفسهم بأنَّهم مندمجون كثيرًا في العمل مقارنةً بـِ 13% من الموظفين في مختلف أنحاء العالم.

بالإضافة إلى ذلك، يَعدُّ جوناثان أنتوني نفسه من روَّاد الأعمال الداخليين الذين يُنفِّذون أفكارًا مبتكرة داخل المؤسسات التي يعمل فيها، وذلك لأنَّ الممارسات والإجراءات القديمة بدأت تتلاشى وتندثر. لقد كان ستيف جوبز -مؤسس شركة أبل- يرى أنَّ أفضل القادة هم الذين يدرِّبون فِرق عملهم ويوجِّهونهم ويُشجِّعونهم، وقد أعرب المستشار الإداري توم بيترز عن آراء مماثلة. ممَّا سبق يمكننا القول بأنَّ القادة الفعَّالين يُقدِّمون التوجيهات والتدريبات ويُشجِّعون على الابتكار والإبداع.

سنتطرَّق فيما يلي إلى البرنامجين البحثيين الرئيسيين اللذين نُفِّذا خلال أواخر الأربعينيات من القرن العشرين بواسطة جامعة ولاية أوهايو وجامعة ميشيغان، حيث كانت دراسة القيادة من وجهة نظر سلوكية وفهمها فهمًا أعمق هو الهدف ومقصد هذه الدراسة.

دراسات جامعة ولاية أوهايو

أجرى عدد من الباحثين في جامعة ولاية أوهايو (الولايات المتحدة الأمريكية) تحت إشراف رالف ستوكديل، أجروا سلسلةً من الدراسات الشاملة والمنهجية من أجل تحديد السلوكيات القيادية التي تُسهم في تحسين فعالية أداء المجموعة، وقد نتج عن هذه الدراسات تحديد مجموعتين رئيسيتين من السلوكيات القيادية، وهي: الاهتمام بفريق العمل وتحديد هيكل العمل.

ترتبط سلوكيات الاهتمام بفريق العمل (Considration) بسلوكيات القائد الموجَّهة نحو العلاقات؛ إذ إنَّها تساهم في بناء علاقات جيدة مع أعضاء المجموعة والحفاظ عليها (أي تحقيق متطلَّبات ترابط المجموعة)، وتتضمَّن هذه السلوكيات أن يكون القائد داعمًا وودودًا ومراعيًا لمصالح وظروف الآخرين، بالإضافة إلى التواصل الفعّال والمستمر مع أعضاء المجموعة وتقدير جهودهم واحترام أفكارهم والاهتمام بمشاعرهم.

ترتبط سلوكيات تحديد هيكل العمل (Initiating structure) بسلوكيات القائد الموجَّهة نحو المهام؛ إذ إنَّها تساهم في الاستخدام الفعَّال للموارد لتحقيق الأهداف التنظيمية، ومن ثمَّ تحقيق متطلَّبات المهمة التي تؤدِّيها المجموعة، وتتضمَّن هذه السلوكيات جَدولُة الأعمال، وتحديد ما يجب فعله وكيف ومتى، وتقديم التوجيهات لأعضاء المجموعة، والتخطيط، والتنسيق، وحل المشكلات، والتأكُّد من الالتزام بمعايير الأداء، والتشجيع على استخدام الإجراءات الموَّحدة.

بعد أن حدَّد الباحثون مجموعة السلوكيات المرتبطة بالاهتمام بفريق العمل وتلك المرتبطة بتحديد هيكل العمل، أصبح العديد من القادة يميلون للتوجّه وفق إحدى هاتين المجموعتين دون الأخرى؛ أي اعتقدوا أنَّهم لو قرَّروا تأدية سلوكيات تحديد هيكل العمل فلا يمكنهم تأدية سلوكيات الاهتمام بفريق العمل، والعكس صحيح. لكن سُرعان ما تبيَّن أنَّ بإمكان القادة ممارسة مزيج من مجموعتي السلوكيات في الوقت نفسه.

تُعدُّ دراسات ولاية أوهايو مهمة لأنَّها حدَّدت مجموعتين رئيسيتين من السلوكيات التي تميِّز قائدًا عن آخر. يمكن أن تؤثِّر كلٌّ من سلوكيات تحديد هيكل العمل وسلوكيات الاهتمام بفريق العمل إلى حدٍّ كبير على المواقف والسلوكيات المرتبطة بالعمل، ولكن -لسوء الحظ- آثار هذه السلوكيات تختلف من موقف لآخر ولا يمكن اعتماد نمط نتائجٍ واحد لكل المواقف.

على سبيل المثال، أدَّت الممارسة الكبيرة لسلوكيات تحديد هيكل العمل في بعض المؤسسات إلى زيادة الأداء، في حين أنَّها لا لم تُحدث فرقًا كبيرًا في مؤسسات الأخرى. بالإضافة إلى ذلك، على الرغم من أنَّ معظم أعضاء المؤسسات صرَّحوا بأنَّهم يشعرون برضا أكبر عندما يتعامل القادة معهم باهتمام، إلَّا أنَّ نتائج الدراسات والإحصائيات قد بينَّت أنَّ ذلك الاهتمام ليس له تأثير واضح على الأداء.

كانت هذه النتائج المُربكة مخيبة لآمال الباحثين والمديرين على حدًّ سواء، فقد كان من المتوقَّع أن تقدِّم هذه النتائج صورة عن سلوكيات القادة الأكثر فاعليّةً وتأثيرًا، لكي يتمكّن الباحثون من وضع خطط تدريب لقادة المستقبل على التصرُّف بأفضل الأساليب، ولكن اتضَّح من الدراسات أنَّه لا يوجد أسلوب سلوكي واحد مُعتمد يجعل القائد فعَّالًا في جميع المواقف.

دراسات جامعة ميشيغان

بدأ باحثون في جامعة ميشيغان في دراسة سلوكيات القادة في نفس الوقت الذي كانت تُجرى فيه دراسات جامعة ولاية أوهايو. وكما هو الحال في جامعة ولاية أوهايو، فقد حاول الباحثون في جامعة ميشيغان تحديد السلوكيات التي تُميِّز القادة الفعَّالين عن نُظرائهم غير الفعَّالين.

خلُصت دراسات جامعة ميشيغان إلى فئتين من السلوكيات القيادية، وهي: السلوكيات المتمركزة على الوظائف والسلوكيات المتمركزة على أعضاء المؤسسة. تتضمَّن السلوكيات المتمركزة على الوظائف (job-centered behaviors) الأعمال الإشرافية مثل: التخطيط وجدولة الأعمال وتنسيق أنشطة العمل وتوفير الموارد اللازمة لأداء المهام، في حين تتضمَّن السلوكيات المتمركزة على الموظفين (employee-centered behaviors) الاهتمام بأعضاء المؤسسة ودعمهم.

يبدو جليًّا أنَّ هناك ترابطًا كبيرًا بين هذه السلوكيات وسلوكيات تحديد هيكل العمل والاهتمام بفريق العمل التي حدَّدها الباحثون من جامعة ولاية أوهايو، ويدلُّ هذا التشابه في النتائج التي استخلصتها مجموعتان مستقلتان من الباحثين إلى صحتها ومصداقيتها. اكتشف الباحثون في جامعة ميشيغان أيضًا أن بإمكان القادة ممارسة مزيج من السلوكيات التي تتضمَّنها الفئتان في الوقت نفسه، وهو ما اكتشفه أيضًا الباحثون في جامعة ولاية أوهايو كما ذكرنا سابقًا.

تُعدُّ دراسات جامعة ميشيغان مهمة لأنَّها تؤكِّد على أهمية السلوكيات التي يُمارسها القائد، وتُشكِّل هذه الدراسات أيضًا أساسًا للنظريات اللاحقة التي تربط بين مواقف العمل والسلوكيات القيادية الفعَّالة التي تلائمها. بالإضافة إلى ذلك كشفت الدراسات اللاحقة التي أُجريت في جامعة ميشيغان ومراكز بحثية أخرى عن مجموعة سلوكيات أخرى ترتبط بالقيادة الفعالة، وهي: الدعم، وتسهيل العمل، والتأكيد على أهمية الهدف، وتسهيل عمليات التفاعل.

تُعدُّ هذه السلوكيات الأربعة مهمة لنجاح عمل المجموعة؛ إذ يُساهم الدعم وتسهيل عمليات التفاعل في الحفاظ على ترابط أفراد المجموعة، ويُساعد في التأكيد على أهمية الهدف وتسهيل عمل المجموعة من أجل إنجاز المهام المطلوبة. وجد الباحثون في جامعة ميشيغان أيضًا أنَّ وظيفة القائد الحقيقية ليست فرض هذه السلوكيات الأربعة داخل المجموعة؛ وإنما تمهيد الطريق وتهيئة المناخ الملائم الذي يضمن تطبيق هذه السلوكيات ضمن المجموعة.

الشبكة القيادية

يعود الفضل الكبير في نشر المعرفة المتعلِّقة بسلوكيات القائد المهمة إلى الباحثيَن روبرت بليك (Robert R. Blake) وجين موتون (Jane S. Mouton) اللذين وضعا نموذجًا لتصنيف أساليب القيادة، يُدعى الشبكة القيادية (Leadership Grid)، ينسجم هذا النموذج مع العديد من الأفكار والنتائج التي انتهت إليها الدراسات التي أُجريت في كلٍّ من جامعة ولاية أوهايو وجامعة ميشيغان. يحتوي هذا التصنيف على محورين، هما:

  1. محور الاهتمام بالإنتاج الذي يُركِّز على النتائج، وفعالية التكلفة، والاهتمام بالأرباح (في المؤسسات الربحية).
  2. محور الاهتمام بالأفراد الذي يُركِّز على تعزيز علاقات العمل والاهتمام بالقضايا التي تهم أعضاء المجموعة.

ينتج عن اتحاد هذين المحورين خمسة أساليب قيادية كما هو موضَّح في الشكل التالي الذي يُبيِّن نموذج الشبكة القيادية.

Managerial-Grid.jpg

الشبكة الإدارية لبليك وموتون (المصدر: مقتبس من كتاب «The Power to Change»، راشيل ماكي وبروس كارلسون، 1999. ص 16)

يؤكِّد الباحثان بليك وموتون أنَّ أسلوب القيادة الراشدة (القائد الذي ينهج الأسلوب 9،9 من الشبكة الإدارية السابقة) هو الأسلوب الأكثر فاعلية على مستوى العالم، ويهتم القائد الذي يتبنَّى هذا الأسلوب بالإنتاج والأفراد إلى حدٍّ كبير. لكن على الرغم من أنَّ الشبكة الإداريّة السابقة مثيرة للاهتمام ومنظمة تنظيمًا جيِّدًا، إلَّا أنَّه تُشير الدراسات إلى عدم وجود أسلوب قيادة فعَّال يُمكن تعميمه حتى الآن، وحتى أسلوب القيادة الراشدة لا يكون فعَّالًا في بعض المواقف.

على سبيل المثال، يتوجَّب على القائد الذي يتعامل مع أفراد المؤسسات التي تسمح بمشاركة الموظفين (الذين أتقنوا مهامهم الوظيفية) على نطاق وِاسع، يتوجّب عليه أن يُقلِّل من توجيه اهتمامه نحو القضايا المرتبطة بالإنتاج، كما أنَّ المواقف الطارئة لا تتيح للقائد إلَّا وقتًا محدودًا للاهتمام بالأفراد. لقد بيَّنت الملاحظات أنَّ أسلوب القيادة الراشدة يُمكن أن يكون فعَّالًا عندما يتطلَّب الموقف تحديد هيكل العمل والتفاصيل المتعلِّقة بالمهام المُراد إنجازها؛ فاستخدام هذا الأسلوب في هذه الحالة يزيد من تقبُّل الأتباع لمخطط العمل المحدَّد ويؤثِّر إيجابيًا على رضاهم وأدائهم؛ إذ يكون القائد ودودًا وداعمًا ومراعيًا لمصالحهم.

ترجمة -وبتصرف- للفصلين The Trait Approach to Leadership وBehavioral Approaches to Leadership من كتاب Principles of Management

اقرأ أيضًا


تفاعل الأعضاء

أفضل التعليقات

لا توجد أية تعليقات بعد



انضم إلى النقاش

يمكنك أن تنشر الآن وتسجل لاحقًا. إذا كان لديك حساب، فسجل الدخول الآن لتنشر باسم حسابك.

زائر
أضف تعليق

×   لقد أضفت محتوى بخط أو تنسيق مختلف.   Restore formatting

  Only 75 emoji are allowed.

×   Your link has been automatically embedded.   Display as a link instead

×   جرى استعادة المحتوى السابق..   امسح المحرر

×   You cannot paste images directly. Upload or insert images from URL.


×
×
  • أضف...