اذهب إلى المحتوى

حركة العلاقات الإنسانية


هيفاء علي

ما التأثيرات التي أحدثها إلتون مايو على نظرية الإدارة؟ وكيف أثَّرت حركة العلاقات الإنسانية على نظرية الإدارة الحالية؟ في الواقع كان ظهور حركة العلاقات الإنسانية استجابة طبيعية لبعض القضايا المرتبطة بالإدارة العلمية والنظرة الاجتماعية الدونية التي كان يُنظر بها إلى العاملين والتي تجاهلت الجوانب الاجتماعية للعمل. إنَّ الخصائص الأساسية المشتركة بين تايلور وفيبر وفايول هي الأفكار المتعلِّقة بزيادة الكفاءة الناتجة عن التحسينات الإداريّة أو القانونية، وكان التفكير العقلاني أحد أهم الركائز التي اعتمدت عليها توجّهاتهم؛ فوفقًا للإدارة العلمية، هناك منطق وراء إنجاز أي عمل، والسلطة الرسمية والمعرفة هما المحفِّزات كانت الحكم الفيصل والرئيسي في أماكن العمل. تميل الإدارة العلمية إلى التقليل من شأن تأثير الضغوطات الاجتماعية على التفاعلات الإنسانية. لقد حسَّنت حركة العلاقات الإنسانية من الإدارة العلمية لأنَّها أقرَّت بأنَّ اتجاهات الناس وتصوُّراتهم ورغباتهم تؤثِّر على أدائهم في العمل، وقد بدأ المديرون بعد ذلك يدركون بأنَّ تسوية النزاعات بين الموظّفين أصعب ممَّا كان يصوِّره أسلوب الإدارة العلمية.

إنَّ الاختلاف الأساسي بين الإدارة العلمية ونظرية العلاقات الإنسانية هو أنَّ نظرية العلاقات الإنسانية أدركت أنَّ العوامل الاجتماعية مصدر قوة وتأثير في أماكن العمل، في حين أنَّ تايلور حاول تقليل الضغوطات الاجتماعية عندما أدرك وجودها في المؤسسات من خلال تقديم تعويضات ومكافآت مالية للعاملين لكي ينتجوا على الرغم من أنَّ الضغوطات الاجتماعية كانت تجبرهم على تقليل الإنتاج. أدرك فايول وجود مشكلات اجتماعية أيضًا ولكنَّه ركَّز على ارتباط العاملين بالمؤسسة بدلًا من ارتباطهم ببعضهم البعض أو بمشرفهم، في حين ركَّز فيبر على سيادة القانون واعتقد أنَّ القوانين واللوائح التنظيمية سوف توَّجه المجتمع والشركات، ولكنَّه لم يبذل جهدًا كافيًا لدراسة التداعيات الناتجة عن كسر القوانين أو فشلها في التكيّف مع ظرف عملٍ معيّن. لم يدرك فايول وفيبر دور ثقافة الشركة ولم يدرسوا عن كثب الأسباب التي تجعل العاملين لا يطيعون الأوامر. لقد أضافت حركة العلاقات الإنسانية جانبًا اجتماعيًا أكبر للدراسات والنظريات المتعلِّقة بالعمل.

ربما لم يُسَأ فهم أي دراسات بحثية بقدر ما حدث مع تجارب هوثورن، إذ أنَّ تجارب هوثورن هي التجارب البحثية الأكثر تأثيرًا والتي تعرَّضت لأكبر قدر من سوء الفهم والانتقاد من بين جميع تجارب العلوم الاجتماعية. تشير القصة إلى أنَّ إلتون مايو (1880-1949) قام بدراسة ووضع وتطوير نظرية العلاقات الإنسانية بناءً على تجربة أجراها ما بين عامي 1924 و 1932 في مصنع هوثورن الخاص بشركة وسترن إلكتريك، والقصّة المُتداولة بين الناس تلتمس شيئًا ضئيلًا مما حدث حقًّا، إذ أنَّ الحقيقة كانت أكثر تعقيدًا وصعبة الفهم. تدَّعي معظم الكتب الدراسية بأنَّ إلتون مايو هو الذي أجرى الأبحاث والدراسات، ولكن هذا ليس صحيحًا، إذ أنَّ مجموعة من الباحثين من معهد ماساتشوستس للتكنولوجيا باشروا هذه الدراسات، ولم يُقحم إلتون نفسه فيها حتى عام 1927، ولكنَّ رؤية مايو بشأن تجارب هوثورن هي التي سادت المؤلَّفات.

هدفت المرحلة الأولى من تجارب هوثورن إلى قياس أثر الضوء على الإنتاج، ولم تؤدِّ هذه التجارب إلى نتائج حاسمة بسبب وجود العديد من المتغيِّرات التي من الممكن أن تؤثِّر على إنتاجية العاملين إلى جانب عامل الضوء، وقد واجه الباحثون صعوبة في فهم سبب زيادة الإنتاجية في تِلك التجربة. أجرى الباحثون تجارب المرحلة الثانية من تجارب هوثورن في غرفة اختبروا فيها أثر ظروف العمل مثل الاستراحات وطول أيام العمل ووجبات الغداء التي تقدِّمها الشركة وطريقة الدفع على الإنتاجية. لقد اختار الباحثون ست عاملات شابَّات وأسندوا لكل واحدة منهنَّ مهمة لكي تقوم بها، ووجد الباحثون أنَّ الإنتاجية تزداد بغض النظر عن المتغيِّر الذي يُدخلون عليه تعديلات، كما ازدادت الإنتاجية أكثر حتى بعد فصل عاملتين بسبب مشكلة صحية وبسبب الزواج. لقد تفاجأ الباحثون بالنتائج، إذ توَّقعوا حدوث إنخفاض في الإنتاجية ولكن ما لاحظوه هو زيادة مطَّردة.

توجَّه المسؤولون التنفيذيون إلى إلتون مايو -وقد كان عالم نفس أسترالي من جامعة هارفارد- لكي يشرح لهم تلك النتائج المحيِّرة. وقد بدأت الانتقادات تنهال على تجربة هوثورن مُذ انخرط فيها مايو. لاحظ مايو أنَّ الإنتاجية يمكن أن تزيد إذا أدركت الإدارة أهميّة نظر الأفراد العاملين تجاه العمل الذي يُنجزونه وإذا أخذت بعين الاعتبار تأثير المواقف الجماعية على السلوك. كان تفسير مايو هو أنَّ القضايا الاجتماعية والاهتمام الذي يوليه المشرفون لهذه القضايا لها دور في زيادة الإنتاجية. لقد مُنحت النساء في مصنع هوثورن حريّة العمل وتقديم اقتراحات بخصوص ظروف عملهنَّ، وشعرت العديد من النساء في مصنع هوثورن بأنَّهنَّ مميزات وأنَّهنَّ سيحصلن على معاملة أفضل من إدارة الشركة إذا كان أداؤهنَّ جيِّدًا، كما أنَّهنَّ أصبحن ودودات جدًّا تجاه بعضهنّ البعض. يبدو أنَّ علاقة النساء ببعضهنَّ كفريق واحد وارتفاع مستوى رضاهنَّ في العمل دفعهنَّ إلى تحسين أدائهنَّ، وقد بيَّنت التجارب بأنَّ الحوافز المالية أيضًا كانت محرّكًا رئيسيًّا لتحسين الأداء.

أُجريت تجارب المرحلة الثالثة من تجارب هوثورن بين عامي 1931 و1932. ولم يكن طاقم الموظّفين المشاركين في هذه التجربة جُددًا؛ بل كانوا مجموعة موجودة سابقًا وكان تاريخ عملهم مكتظًّا بالسلوكيات السيِّئة. لقد قرَّر أفراد المجموعة أن تكون كمية إنتاجهم ما بين 6000 إلى 6600 قطعة فقط في اليوم الواحد على سبيل الإضراب الجماعي. كان العاملون ينتجون كميات أكثر يُنبَذون أو يُضربون على أذرعهم لكي يقلِّلوا من إنتاجيتهم. لخَّص جورج هومانز الاختلاف بين نتائج تجارب المرحلة الثانية وتجارب المرحلة الثالثة كما يلي:

اقتباس

«لقد طوّرت كلتا المجموعتين تنظيمًا اجتماعيًا غير رسميٍّ، ولكنَّ المجموعة الثانية كانت معارضة للإدارة، بينما كانت المجموعة الأولى متعاونة مع الإدارة سعيًا إلى تحقيق هدف مشترك. أخيرًا، وكانت النتيجة أنِ استجابة المجموعة الثانية للظروف بالحدّ من الإنتاج، في حين كانت استجابة المجموعة الأخرى زيادةً الإنتاج وحماسٍ لتحسين العمل. هذه التناقضات تحمل درسًا مهمًّا في تحديد الاستراتيجيّة الصحيحة للإدارة.»

وجد الباحثون أنَّ المجموعات التي تشكَّلت فرضت قواعدًا غير رسمية على العاملين داخلها، وقد ذكر هومانز بأنَّ العاملين أنشؤوا علاقة مع أحد المديرين حتى يستطيعوا التحكم في كمية الإنتاج. إنَّ هذا الاكتشاف الذي أظهر بأنَّ الإدارة يمكن أن تتحالف مع القوى العاملة من أجل الحد من الإنتاج كان إسهامًا بارزًا في الفكر الإداري في ذلك الوقت، وهذا يشير إلى أنَّ السلطة الإدارية يمكن أن تنهار إذا عارض المدير سياسة الإدارة تجاه العاملين.

Hawthorne-Electric-Plant.jpg
مصنع هوثورن. درست تجارب هوثورن أثر ظروف العمل المختلفة (مثل التغيُّر في أوقات العمل وعدد الاستراحات) على الإنتاجية. أُجريت التجارب في مصنع هوثورن الموضَّح في الصورة، وقد أدَّت هذه الدراسات إلى انتشار الفكرة القائلة بأنَّ توجّهات وسلوكيّات العاملين الاجتماعيّة تؤثِّر على أدائهم. (مصدر الصورة: فليكر، هذا العمل يندرج تحت الملك العام الخاص بالولايات المتحدة لأنَّه نُشر في الولايات المتحدة بين عامي 1923 و1977 دون إشعار بحقوق النشر.)

ما المستفاد من تجارب هوثورن؟ لم يكن لها معنى إلى حد ما لأنَّها لم تبيِّن إلّا القليل، وقد وُصفت في الواقع بأنَّها عديمة الجدوى من الناحية العلمية. كان هناك الكثير من العوامل المؤثّرة التي تلاعب الباحثون بها، كما أن حجم العيِّنة كان صغيرًا جدًّا، وقد جُمعت الملاحظات بطريقة عشوائية، وقد درس الباحثون في مصنع هوثورن التجارب من خلال منظورهم الفكري الخاص. لقد ارتكب الباحثون خطأًعندما افترضوا أنَّ الأجور لم تشكّل عُنصرًا جوهريًّا بالنسبة للعاملين، في حين أنَّها كانت دافعًا مهمًا لهم للعمل. ومع ذلك فقد تجاهلت هذه الانتقادات حقيقتين رئيسيتين في تجارب هوثورن. الحقيقة الأولى هي أنَّ هذه هي التجارب الأولى من نوعها والتي ركّزت على حياة العمل الفعلية للعاملين، وكانت الحقيقة بحدِّ ذاتها نقلةً نوعيّةً في الدراسات الاجتماعية. الحقيقة الثانية هي أنَّ هذه الدراسات كانت تهدف إلى إجراء أبحاث مستقبلية، وهذه الأبحاث المستقبلية أظهرت أنَّ للسلوكيّات والتوجّهات الاجتماعيّة دورًا رئيسيًا في تحديد نتائج العمل، ومن النتائج المهمّة التي خرجت بها هذه الدراسة هي دور المُشرف الإداري الحسّاس في العمل، فقد وجد الباحثون أن تصرّفات وسلوكيّات وحتى مشاعر العاملين تعلّقت بشكل رئيسي بتصرّفات المشرفين عليهم وطريقة معاملتهم لهم. فقد وجدوا أن التوتُّر والإجهاد هما نتاج العلاقة وطبيعة التعامل بين المُشرفين والعاملين، ولا ينتجان فقط بسبب التعب الجسدي أو الظروف غير الملائمة. أخيرًا، بيَّنت تجارب هوثورن أنَّ الدافع للعمل يتأثَّر بعدد كبير من العوامل منها: الأجور، والعلاقات الاجتماعية ، والأهداف، والاهتمامات، وحتى التوجّهات.

برنارد و "نطاق تقبُّل السُلطة"

شيستر برنارد (1886-1961) كان رئيس شركة نيو جيرسي بيل للهواتف ، وقد أُعطي قدرًا استثنائيًا من الوقت لإجراء البحوث نظرًا لكونه رئيسًا. كان برنارد طالبًا في جامعة هارفارد، وقد تعرَّف على بعض البحوث الصناعية الجارية عبر علاقاته في الجامعة، وكان إسهامه البارز عبارة عن كتاب يُسمَّى وظائف الرئيس التنفيذي (The Functions of the Executive). يرى برنارد بأنَّ مهمّة المسؤول التنفيذي هي الحصول على النتائج المطلوبة من أعضاء المؤسسة عن طريق التأكُّد من أنَّهم يؤدُّون أعمالهم وأنَّ هناك تعاونًا بين المجموعات المختلفة داخل المؤسسة. الوظيفة البارزة الأخرى للمسؤول التنفيذي هي تعيين الموظفين الموهوبين والتمسّك بهم.عرَّف برنارد التنظيم الرسمي بأنَّه أنشطة منسَّقة بطريقة مدروسة بين شخصين أو أكثر، ولكنَّه لاحظ أنَّه من المستبعد أن يدوم هذا التنسيق طويلًا، وهذا قد يفسِّر سبب عدم استمرار العديد من الشركات لفترات طويلة من الزمن.

اعتقد برنارد أنَّ المسؤولين التنفيذيين يمارسون السلطة بطريقة أفضل من خلال التواصل واستخدام الحوافز، إذ ينبغي أن يتضمن التواصل داخل المؤسسة طُرقًا وأساليب اتصال محدَّدة، كما ينبغي أن ينبغي أن تُتاح الفُرصة للعاملين للوصول إلى مصادر البيانات والمعلومات بحيث يوظّفونها في عملهم. ينبغي أيضًا أن يكون التواصل واضحًا ومباشرًا وصادقًا لكي يدرك أعضاء المؤسسة الأمور التي يُتوقع منهم القيام بها.

لقد كانت بعض النتائج التي توصَّل إليها برنارد بخصوص الحوافز انعكاسًا لتركيز حركة العلاقات الإنسانية على النتائج الاجتماعية، ولكنَّه خفَّف من حدة هذا التركيز من خلال الإدراك بأنَّ العاملين يعملون مقابل الحصول على أجر. تتضمن الحوافز التي أكَّد برنارد على أهميتها والتي كان يرى أنَّ الجمع بينها سيكفل تعاون أعضاء المؤسسة ومساهمتهم، تضمّنت أربع محفّزات، الحافز الأول هو وجود محفِّزات مالية ومادية لتشجيع العاملين على تحسين الأداء والإنتاج، والحافز الثاني هو وجود محفِّزات غير مادية مثل التقدير.أما الحافز الثالث فيتمثّل بأن تكون ظروف العمل ملائمة وُمريحة للعامل. وأخيرًا الحافز الرابع ويتضمّن شعور العاملين بالاعتزاز والقيمة نتيجة العمل الذي يقومون به.

على الرغم من أهمية ما توصَّل إليه برنارد بشأن وظائف المسؤولين التنفيذيين وتأثير التواصل والحوافز، إلَّا أنَّ إسهامه الأكبر في مجال الإدارة كان فكرة «نطاق تقبُّل السلطة» التي تشير إلى أنَّ العاملين سوف يطيعون الأوامر إذا كانوا لا ينزعجون منها وأنَّ كون الأوامر أو التعليمات غير مُزعجة بالنسبة لهم كافٍ لإطاعتهم لها فطريًّا نتيجة ميل الأفراد الطبيعي إلى طاعة السلطة، وليس بالضرورة أن يؤيِّدونها أو يدعمونها ويكفي أن تكون غير سلبيّةٍ تجاههم. لقد شرح برنارد أسباب عدم إطاعة العاملين للأوامر في جميع الأحيان، وبيَّن أنَّه يجب الوصول إلى «نطاق تقبُّل السلطة» من خلال أربعة عوامل، أوّلها هي وجوب أن يكون العاملون قادرين على إطاعة الأوامر. ثانيها أن يفهم العاملون الأوامر بشكلٍ واضحٍ وكافٍ لاتّباعها. ثالثها أن تنسجم الأوامر مع أهداف المؤسسة، بمعنى أن تتماشى مصالح الإدارة مع مصالح العاملين لكي يتعاونوا معًا. رابعها ألَّا تتعدَّى الأوامر على معتقدات الأفراد الشخصية.

ماري فوليت وحل النزاعات

وجدت ماري باركر فوليت (1868-1933) طريقة لاستغلال مبادئ حركة العلاقات الإنسانية لحل بعض المشكلات المتعلِّقة بنموذج الإدارة العلمية. كانت فوليت باحثة في مجال العلوم السياسيّة من جامعة هارفارد، وقد انتهى بها الحال إلى العمل في مجال الخدمات الاجتماعية بعد تخرجها من الجامعة نتيجة محدودية فُرص العمل المتاحة للنساء آنذاك. استمرت فوليت في نشر أعمالها في مجال الفلسفة والعلوم السياسية، ولكنَّها سرعان ما وجدت نفسها تميل إلى رابطة تايلور وهي مجموعة مهتمَّة بمبادئ الإدارة العلمية. ثمَّ اتجهت ماري إلى مجال الأعمال التجارية لاحقًا خلال مسيرتها المهنية. أشار الباحثان رين وبيديان إلى أنَّ فوليت كانت تنتمي زمنيًا إلى عصر الإدارة العلمية، ولكنَّها كانت تنتمي فكريًا إلى عصر حركة العلاقات الإنسانية.

تمَّ تجاهل العمل الذي قدَّمته فوليت بدرجة كبيرة لعدة سنوات لأنَّه كان مبتكَرًا جدًّا ومختلفًا أو ربّما السبب يعود إلى كونها امرأة، وعلى الأغلب أنَّ كلا الأمرين كان لهما دور في ذلك، ولم تلقَ أفكارها رواجًا واهتمامًا كبيرًا في الفترة التي عاشتها لأنَّ الإدارة في تلك الفترة كانت تنظر إلى العاملين على أنَّهم مجرد أدوات. كان تركيز فوليت منصبًّا على تقليل النزاعات، وقد أشارت إلى أنَّ الإدارة ينبغي عليها أن تضع العوامل الاجتماعية في الحسبان عند تعاملها مع العاملين. لقد طرحت فوليت أسئلة إدارية عديدة مثل: كيف نصل إلى وحدة العمل؟ كيف نساعد العاملين على أن يعيشوا حياةً أفضل؟ كيف نساهم في نجاح المجموعة؟ كانت ترى أنَّ سلوك الفرد يتأثَّر ويؤثِّر على الآخرين في المجموعة، وبناءً على ذلك؛ بيَّنت ضرورة امتلاك قانون التنسيق الإداري لضوابط تجمع التفاعلات المُختلفة للعامل مع من حوله. وما كانت تقصده هو أنَّه ينبغي على كل من الإدارة والعاملين أن يكونوا قادرين على فهم وجهة نظر الطرف الآخر. لقد سعت فوليت إلى أن تجعل الإدارة والعاملين يتقاسمون السلطة فيما بينهم بدلًا من أن يمارس طرف سلطته على الطرف الآخر. لقد كانت ترى أيضًا بأنَّ امتلاك السلطة ينبغي أن يكون مبنيًا على المعرفة والخبرة، وهي بذلك خالفت ما يراه فيبر وكانت رؤيتها أكثر انسجامًا مع رؤية تايلور.

أشارت فوليت إلى أنَّ هناك عدة طرق لحل النزاعات. الطريقة الأولى هي السيطرة؛ أي أن يسيطر أحد الأطراف المتنازعة على الآخر ويملي عليه شروط الاتفاق، وقد لاحظت فوليت أنَّ ذلك لا يحدث إلَّا في حالات قليلة جدًّا في الحياة وأنَّ هذه الطريقة ستكبَّد الشركات تكاليفًا باهظة من الناحيّة الاجتماعيّة تتمثَّل في سخط القوى العاملة. الطريقة الثانية هي التسوية، لا يحصل أي من الطرفين على ما يريده بالضبط في هذه الطريقة، وأفضل ما يمكن الحصول عليه هو نتيجة يوافق عليها الطرفان. إنَّ مشكلة طريقة التسوية هي أنَّ كلا الطرفين يتنازلان عمَّا يريدانه حقًا ويختاران ما يمكنهما الاتفاق عليه، ولا يكون أي من الطرفين مسرورًا بالنتيجة في نهاية المطاف. الطريقة الثالثة لحل النزاعات هي الدمج أو التكامل وهي تحدث عندما يوضِّح كل طرف تفضيلاته وآرائه ويحاولون التوصُّل إلى اتفاق يُرض جميع الأطراف، وقد ذكرت فوليت مثالًا بسيطًا على هذه الطريقة:

في يومٍ من الأيام في إحدى الغرف الصغيرة في مكتبة جامعة هارفارد، أراد شخص ما أن تكون النافذة مفتوحة، ولكننَّي أردتها أن تكون مغلقة. وتوصّلنا إلى فتح نافذة الغرفة المجاورة التي لم يكن جالسًا فيها أحد.

قد يبدو أنَّ الحل في الموقف السابق كان يمثِّل تسوية، ولكن لننظر نظرة أعمق: كانت فوليت تريد أن تكون النافذة مغلقة، وكانت زميلتها في الدراسة تريد أن يكون هناك نافذة مفتوحة، ولم يكن بالضرورة أن تكون في نفس الغرفة. لقد استطاعتا أن تتوصَّلا إلى حل مرضٍ للطرفين لأنَّهما أعادتا صياغة المشكلة بطريقة ذكيّة.

الإدارة الموقفية وإدارة النُظم

كيف أدَّى ظهور المدرسة الموقفية ومدرسة النُظم إلى تغيير الفكر الإداري؟ لقد شهدت فترة الخمسينيات والستينيات من القرن العشرين نشوء مدرستين منافستين ومكمِّلتين لأساليب الإدارة العلمية وحركة العلاقات الإنسانية. المدرسة الفكرية الأولى هي مدرسة النُظم، ومن روَّادها كينيث بولدينج ودانيال كاتز وروبرت خان ولودفيج فون بيرتالانفي. كان هؤلاء الرجال ينتمون إلى تخصُّصات مختلفة (علم النفس، وعلم الاقتصاد، وعلم الاجتماع، وحتى علم الأحياء) وقد حاولوا تفسير كيف أنَّ العوامل الخارجية تحدِّد النتائج الإدارية. الغاية الرئيسية من أبحاث مدرسة النُظم هي إدراك الظروف الخارجية التي تواجه المؤسسات ومعرفة كيفية التعامل مع هذه الظروف. يرى الباحثون النظرييون في مدرسة النُظم أنَّ الشركة عبارة عن نظام مفتوح، والنظام المفتوح هو نظام يتفاعل مع بيئته. تتفاعل البيئة مع الشركة عن طريق استقبال وتقديم الموارد والمُنتجات من وإلى الشركة. على سبيل المثال، تجمع شركة أبل المواد الخام اللازمة لتصنيع جهاز الآيفون، وتستخدم هذه المواد لإنشاء شيء ذي قيمة للزبائن بالاستعانة بالمعرفة والإجراءات والأدوات والمصادر، ويقوم المستهلكون بعد ذلك بشراء المنتج النهائي. يزوِّد الزبائن الشركة بمعلومات -تحديدًا فيما يتعلَّق بما إذا كان المنتج قد أعجبهم لدرجة تدفعهم إلى شرائه- إلى جانب استفادة الشركة من العائدات المالية.

القضية التي تثيرها مدرسة إدارة النُظم هي أنَّ أفعال المديرين تعكس عوامل ومؤثرات خارجية. على سبيل المثال، إذا كنت مديرًا للموارد البشرية، فإنَّ الأفعال والقرارات التي تتخذها يحدَّدها قانون التوظيف، إذ يفرض القانون على المؤسسات أن يكون لديها اختبارات معياريّة وموثوقة. عندما ينتهك أحد المديرين هذا القانون، فقد تتعرّض الشركة للملاحقة القانونيّة والدعوات القضائية ضدها. على نحوٍ مماثل، تُحدِّد قوانين العرض والطلب مجال الرواتب الذي ستقدِّمها الشركة للمتقدِّمين للوظيفة لديها. إذا كانت الشركة تدفع أجرًا أكثر مما هو في السوق، فمن المتوقع أن تحصل على موظّفين ذوي كفاءات عالية. لكن إذا كانت تدفع أجرًا أقل مما هو في السوق، فقد تجد صعوبة في العثور على موظفين كُفُؤ. من الناحية الاستراتيجية، فإنَّ البيئة الخارجيّة والعوامل المُحيطة تلعب دورًا بارزًا في الطريقة التي تتنافس بها الشركات مع بعضها. على سبيل المثال، قدرة شركة أبل على بيع أجهزة الآيفون مقيَّدة بعوامل خارجية تتضمَّن: التكنولوجيا، والمورِّدين، والزبائن، والمنافسين. إنَّ كل عملية بيع لهاتف أندرويد تقلِّل عدد هواتف الآيفون التي يمكن لشركة أبل بيعها.

المدرسة الثانية التي قدَّمت إسهامات إلى الفكر الإداري في منتصف القرن العشرين هي المدرسة الموقفية. كان علماء الإدارة قبل ظهور هذه المدرسة يبحثون عن الطريقة الأفضل للإدارة، ولكنَّ المدرسة الموقفية غيَّرت هذا المفهوم من خلال اقتراحها القائل بأنَّه لا توجد قواعد معمَّمة في الإدارة، فقد تطرأ ظروف ومواقف، خارجيّة أو داخليّة، لم تكن بالحسبان، وكلُّ موقفٍ منها قد يتطلّب استجابةً مُختلفة للتعامل معه. الاستجابة الأفضل لموقفٍ ما قد لا تكون مناسبةً لموقفٍ آخر. العبارة الأساسية الخاصة بالمدرسة الموقفية هي «it depends»، وهذا يعني أنَّ الطريقة المناسبة للعمل أو الإدارة تعتمد على الموقف ولا تكون معيارًا واحدًا لكل الحالات. تعدُّ جوان وودوارد من الباحثين النظريين الرائدين للمدرسة الموقفية، وهي باحثة بريطانية أجرت أبحاثها خلال الخمسينيات والستينيات من القرن العشرين. لقد رأت أنَّ الأحداث غير المتوقعة -مثل التطوّر التكنولوجي المُتسارع- لها دور في تحديد مقدار التدريب الذي ينبغي أن يتلقَّاه العاملون. على سبيل المثال، يُعدُّ التدريب الجيّد للموظف لمعالجة المشاكل المُنتوّعة في الظروف المُختلفة أمرًا حسّاسًا وجوهريًّا في وقتنا الحالي، ومع لك فإن وودوارد ترى أنَّ ذلك النَّهج ليس ضروريًّا في الأعمال التي لا تخوض في التكنلوجيا والمُتغيّرات العصريّة المُعقّدة، أمَّا في حالة الوظائف التي تتطلَّب تعمّقًا كبيرًا في التكنلوجيا والعناصر الأخرى الأكثر تعقيدًا في التعامل، فإنَّ التدريب سيكون ضروريًا.

الإدارة الحديثة

منذ سبعينيات القرن العشرين وحتى وقتنا الحاضر، شهدنا نشوء واندثار العديد من مدارس الفكر الإداري المختلفة. إنَّ أحد أبرز أساليب الإدارة الحديثة هو تطوير النظريات الإدارية. عندما يسمع الناس كلمة «نظرية»، فإنَّهم عادةً ما يفترضون أنَّها تشير إلى شيء غير قابل للتطبيق ومنفصل عن الحياة الواقعية، ولكنَّ الحقيقة هي أنَّ النظرية عبارة عن تنبُّؤ وتفسير. لقد دخل مفهوم النظرية في الأدب الإداري منذ سبعينيات القرن العشرين وأدَّى إلى سلسلةٍ من الأبحاث المُتعاقبة. المعارف الموضَّحة في هذا الكتاب بخصوص بعض المفاهيم مثل الاستراتيجية والسلوك التنظيمي وإدارة الموارد البشرية والنظرية التنظيمية لها أصول علميّة تعود إلى السبعينيات من القرن العشرين . أثرت الإسهامات الكبيرة للمجالات العلميّة المرتبطة بالإدارة مثل علوم الاقتصاد و النفس وعلم الاجتماع، في الارتقاء بمفاهيم الإدارة وعلومها خلال الأربعين سنة الماضية.

اقترح الأستاذ في جامعة هارفارد جيفري فيفر، بناءً على الأبحاث النظريّة خلال الأربعين سنة الفائتة، فكرة الإدارة المستندة إلى دلائل. تشير هذه الفكرة إلى اتباع الممارسات الإدارية التي جرى اختبارها. هذه الفكرة تعيدنا إلى ما نادى به تايلور وهو الحاجة إلى وجود إدارة مستندة إلى العلم. مجددًا؛ يحاول الباحثون في مجال الإدارة استخدام الأبحاث الرسمية لاستبعاد الأساليب الإدارية السيئة التي كان يُوصى بها على مدى السنوات القليلة الماضية.

يبيِّن الشكل التالي كيفية ارتباط المفكِّرين الإداريين الذين تحدَّثنا عنهم في هذا المقال ببعضهم. وفيما يلي الأمور المستفادة من كل مفكِّر من هؤلاء المفكِّرين:

  • تايلور ومساعدوه: تحدَّثوا عن المخرجات الأساسية المتعلِّقة بإدارة الموارد البشرية والإشراف والرقابة وبعض الجوانب المتصلة بتحفيز العاملين.
  • فايول وبرنارد: وضعوا مفاهيمًا مرتبطة بالإدارة الاستراتيجية والسلطة.
  • ماري باركر فوليت: قدَّمت فكرة عن القيادة.
  • إلتون مايو وزملاؤه: بدؤوا في دراسة السلوك التنظيمي، ولا تزال أعمالهم تؤثِّر على الدراسات المرتبطة بالتحفيز والتوتر والإجهاد والتصميم الوظيفي.
  • فيبر: فتح المجال لدراسة التصميم التنظيمي، وركَّز على أهمية السلطة.
Management-Thought-Development.jpg
(حقوق النشر محفوظة لجامعة رايس، OpenStax، مستخدمة تحت رخصة المشاع الإبداعي (CC-BY 4.0))

ترجمة -وبتصرف- للفصلين Human Relations Movement و Contingency and System Management من كتاب Principles of Management

اقرأ أيضًا


تفاعل الأعضاء

أفضل التعليقات

لا توجد أية تعليقات بعد



انضم إلى النقاش

يمكنك أن تنشر الآن وتسجل لاحقًا. إذا كان لديك حساب، فسجل الدخول الآن لتنشر باسم حسابك.

زائر
أضف تعليق

×   لقد أضفت محتوى بخط أو تنسيق مختلف.   Restore formatting

  Only 75 emoji are allowed.

×   Your link has been automatically embedded.   Display as a link instead

×   جرى استعادة المحتوى السابق..   امسح المحرر

×   You cannot paste images directly. Upload or insert images from URL.


×
×
  • أضف...